الاثنين، 31 مايو 2021

الصمت الذاتي واسترداد العزلة: مقاربة في الأحلام

تتسم غالبية أحلامي بثلاث خصائص أساسية .. الأولى هي الصمت الذاتي حيث أنني لا أتكلم في الأحلام، وحتى إذا ما تفوّهت في أحيان نادرة بكلمات ما فإنني لا أبدو كأنما أنطقها بنفسي مثل الآخرين وإنما كأن طيفًا غير مرئي يتحدث بها نيابة عني .. طيف يتلصص على ما يجري داخل الحلم أكثر من كونه منتميًا إلى وقائعه.

الخاصية الثانية هي أنني لا أحلم بأماكن غير معلومة؛ إذ أن جميع الفضاءات المكانية التي تمر بها أحلامي سبق وأن خطوت داخلها أو رأيتها بشكل واقعي من قبل، ولكن تلك الأماكن لا تحضر بنفس ما كانت عليه في اليقظة، وإنما تبدو كأنها توجد في زمن ثابت وهو فترة طفولتي في الثمانينيات حتى لو كنت أحمل عمرًا أكبر داخل الحلم .. مع ذلك فهو ليس الزمن كما كان حقًا وإنما في تجسّده الأكثر نقاءً، أي الطفولية متخلصة من جروحها، مهما كانت تفاصيل الحلم أو طبيعة وجودي ضمن مساراته .. الغموض شفافًا كطيف لحدث بالغ الصفاء وليس الحدث نفسه، وكأن المشهد ليس إلا تمهيدًا لمشهد غائب أو وسيطًا غائمًا بين مشهدين لا يدركان أبدًا أو كأنه انقطاع مستقل أو انتزاع بحدود خاصة عن سر هائل صانعًا لعبته المجهولة التي توحي بذلك السر.

الخاصية الثالثة هي أنني لا أحلم أبدًا بأشخاص ليست لي دراية بهم وإنما كل من يعبر أحلامي سبق وأن عرفته واقعيًا على نحو ما، ولكن هؤلاء الأشخاص يبدون دائمًا كأنما يعيشون ثمانينيتهم الخاصة أو نقاءهم الطفولي الخالص بصرف النظر عن سنوات أعمارهم أو ما يقومون به داخل الحلم، وهذا ما يجعل أحلامي أشبه بذكريات حدثت فعليًا في ماض غير مدرك، وبالتالي فإن النشوة الناجمة عنها لا يمكن تعريفها وفقًا للمعايير المألوفة للبهجة.

يمكنني تفسير الصمت الذاتي بأنه استرداد للعزلة الطفولية .. الانطواء الكامن بين الكلمات التي كنت أتفوّه بها في سنواتي المبكرة .. الانكماش الجسدي المختلس بعيدًا عن حصار الأجسام الثمانينية .. الوحدة غير الناطقة وسط الحضور المتكلم المطبق للآخرين .. ذلك الصمت في الأحلام هو استعادة لتلك العزلة التي تمت إزاحتها بالتدريج لتختفي تمامًا في اللاشعور .. الانطواء المدفون في أكثر أغوار الروح عمقًا وعتمة .. الوحدة التي تجردت النفس منها في غفلة بطيئة، خاطفة، لتستقر داخل غياب محصّن لا يسمح سوى بإشارات واهية لوجودها في لحظات نادرة من النوم .. لذا فالصمت الذاتي ليس عنصرًا من عناصر الحلم وإنما هو خالقه.

العزلة الطفولية التي يمثلها ذلك الصمت تكشف عن نفسها داخل الأماكن القديمة التي كانت تتحرك بينها في الماضي .. يعلن الانطواء عن زمنه (الثمانينيات) الذي ظل حيًا في باطن تلك الأماكن بينما كان يتبدد خارجها لحظة بعد أخرى .. تعيد الوحدة إنتاج أماكنها كما لو أنها قد وصلت بها إلى حافة ما بين الماضي الطفولي وبين وعودها وهي على وشك التحرر من مراوغتها وتمنّعها .. كما لو أن الأماكن نفسها تستعيد ماضيها الأقدم من ذكرياتي أي طفولتها الخاصة .. هذا ما قد يفسر لماذا تظهر تلك الأماكن في أحلامي مشابهة لما تبدو عليه المدينة التي عاشت داخلها ذكريات طفولتي في صورها التاريخية، خاصة تلك التي بالأبيض والأسود .. هذا ما قد يفسر أيضًا لماذا تميل تلك الأماكن في أحلامي لأن تتجلى في حالة أقرب إلى الفراغ كأنها تحمي طفوليتها بالتخلص العفوي من كل ما يُحتمل أن يخدشها بإشارة ما إلى الزمن الراهن.

يتعلق الأمر نفسه بشخصيات الأحلام؛ فالصمت الذاتي يعيدهم إلى ما كانوا عليه في ذهنية الثمانينيات، أي كما في حالتهم الأليفة، المروّضة، الأقرب إلى شخصيات القصص المصوّرة في وعي الانطواء وقتئذ .. كأنما يستردون بالتالي طفولتهم المجهولة ولكن بالكيفية التي تجعلهم في حالة أشبه بالتواطؤ مع طبيعتي في الحلم .. تواطؤ مع الوحدة التي أستعيدها للوصول إلى واقع كان يفترض أن الماضي تمهيدًا له بصورة ما.

هذا لا يعني أن الاحلام وردية بالتعبير التقليدي أو كما تترسخ أنماطها المثالية في المتخيل العام، ولكنها أحلام منتشية بالمعنى المشوّق للانتشاء .. الابتهاج الطفولي بالغموض أو التلذذ بالسحر المُسكر للإبهام .. التوحد بالخفة الفاتنة لاكتشاف خفاء حميمي عبر أرواح اعتيادية .. سكينة منسّمة بعطر الشغف الخام حتى لو لم تتضمن الشروط الروتينية للسعادة .. كأن الماضي يعيد كتابة نفسه بمزاجه العجائبي الرائق بوصفه واقعًا أصليًا كان موعودًا بالإفصاح عن نفسه ولكنه ظل مرجئًا في عتمة ما وراء الذاكرة.

أراجيك ـ 31 مايو 2021

الخميس، 27 مايو 2021

الرواية السرية لأحمد عاكف

 

معالجة مونودرامية من فصل واحد لرواية "خان الخليلي" لنجيب محفوظ

تتركز الإضاءة على درجات سلم كبير في منتصف المسرح يحيط به ظلام حالك .. على الأرض، أمام الدرجة الأولى من السلم؛ قبران متقابلان فوق سجادة منزلية واسعة، بينهما صينية عليها "عدة القهوة"، وبجوار كل قبر فنجان يحوي بقايا البن فوق طبقه الصغير .. الدرجة الأولى تحمل مكتبًا متوسط الحجم، تتبعثر على سطحه كتب وأوراق كثيرة، ورائه كرسي يجلس عليه رجل في منتصف الأربعينيات، يرتدي قميصًا وبنطلونًا تقليديين .. فوق الدرجة الثانية سرير يتمدد عليه جسد رجل مكفّن .. فوق الدرجة الثالثة تظهر السماء في الليل: غيوم رمادية ونجوم متناثرة داخل امتداد من العتمة.

يبدأ الرجل الجالس وراء المكتب في الكتابة بينما يتردد صدى صوته وهو يقرأ ما يكتبه:

"أخي العزيز رشدي .. ها أنا أكتب إليك مجددًا، ولكن هذه المرة ستقرأ الكلمات التي لم أخاطبك بها من قبل .. قد يبدو أنه لا شيء مهم الآن خاصة لو كانت رسالة كهل بائس مثلي إلى أخيه الميت .. مع ذلك فأهمية الشيء ليست هي ما يتطلب حدوثه، وإنما ضرورته، وأعتقد أنك أدركت تمامًا أنه ليس هناك شيء يبرر وصف أمر في الماضي بأنه هام، لكن الأجدر اعتباره لازم الوجود فحسب .. إنه الوقت المناسب لكي أخبرك بما لم تعرفه أبدًا .. هي اللحظة الملائمة لكي أكشف لك عما فعله أخوك في غفلة من الجميع .. أخوك الذي كما تعلم أهدر الخوف والخجل عمره في التلصص على الدنيا عبر صفحات الكتب والشبابيك المواربة والخطوات المنطوية على رعشاتها .. كنت تظن مثل الآخرين أنني لن أكتب أبدًا ذلك الكتاب الذي طالما جعلت نية كتابته هوية وقائية لي .. كنتم تتصورون أنه مجرد قناع كلامي أختبئ وراءه من الحياة التي عجزت عن اقتحامها .. لكن ما حدث أنني كتبت هذا الكتاب فعلًا .. كتبت روايتي السرية يا أخي، ولم يكن من الممكن أن يعرف أحد قبلك بذلك.

تعرف يا رشدي؛ كنت أسترق السمع إلى أبوينا وهما جالسان على أرض حجرة المعيشة وبينهما صينية القهوة وسط متاعنا الخبيث وحقائبنا الخاوية دومًا مهما امتلأت .. في ذلك اليوم أيقنت أن التلصص على أقرب الناس وأكثرهم اعتيادًا بالنسبة لك قد يصيبك بما يفوق لأبعد مدى أثر التلصص على الغرباء .. كان أبواك يتحدثان عن أن المكان الذي أتيا بي إليه قد لا يعجبني .. مجرد كلمات عادية يا أخي ربما يسمعها أي ابن من أبويه دون أن تثير في نفسه شعورًا بغرابة استثنائية .. لكنني أحسست فجأة بغصة مسنونة تشتعل في حلقي وتخنق أنفاسي بينما أنصت إليهما .. غصّة عجيبة، لم أفهم سببها للوهلة الأولى، ولكنني أدركت أنها راجعة إلى أنني على نحو مباغت ومبهم لم أعد أعرف أي مكان يتحدثان عنه .. لم أعد أفهم ما هو ذلك المكان الذي يقصدانه في حوارهما عن عدم إعجابي به .. كنت أتساءل ببكائي المكتوم: هل يتكلمان عن حجرتي أم البيت أم الشارع أم المدينة أم الحياة نفسها .. هل كانا يتكلمان عن جسدي .. لكن ذلك لم يكن الأمر الأكثر غموضًا يا أخي .. لقد كنت أسترق السمع إلى أبويك وأنا واقف أمامهما، ومع ذلك كانا يتحدثان كأنني غير مرئي .. كأنني غائب عنهما في تلك اللحظة .. أنا كذلك لم يكن لدي شعور من يبصر أشخاصًا يجلسون أمامه بوضوح تام ولا تفصله عنهم إلا خطوات قليلة .. كنت أشعر بأنني أتلصص على أبوينا من وراء جدار غير ظاهر بالرغم من تجاورنا داخل مساحة ضئيلة لا يفرق بيننا داخلها أي حاجز .. في تلك اللحظة خُلقت الرواية داخلي .. في تلك اللحظة تُخلق جميع الروايات داخل كتّابها يا أخي .. حينما تتأكد من أن المأساة مهما كانت لا تكمن في تفاصيلها، وإنما في أن أي وصف لها لن يخطو على الإطلاق أبعد مما يمكن أن تصل إليه تلك الكلمات: إن المكان الذي أتى بك أبواك إليه قد لا يعجبك.

أتعرف يا رشدي لماذا لم يكن من الممكن أن يعرف أحد قبلك بروايتي السرية .. لأنك أنت روايتي السرية يا أخي .. كل ما حدث بعد تلك اللحظة التي أنصت فيها إلى أبوينا أنا الذي صنعته .. كل ما جرى لك لم يكن إلا تجسيدًا لما كتبته في أوراقي المخبوءة عن عيونكم .. أنا الذي جعلت الحب يستهدف قلبيكما أنت ونوال .. نوال التي لم تكن لي أبدًا حتى لو لم توجد أنت .. أنا الذي شكّلت إيقاع خطواتكما في طريق المقابر، وجعلتكما تحفران بالزهور قبرًا لأحلامكما بينها .. أنا الذي قتلت الحياة التي لم أستطع امتلاك لذتها بسعالك الدامي، بمرضك القاهر، باحتضارك المتبلد .. خدعتكم يا رشدي، وانتقمت من عالمك الجامح بموتك المحتوم .. الموت الذي طالما لم يكن ممكنًا أن أنقذك منه؛ كان عليّ أن أكتبه بيدي من قبل أن يحدث، بل وأن أحوّل نوال بكل رومانسيتها الفاتنة إلى ملاك ذلك الموت .. جعلت الحب والموت شيئًا واحدًا .. جعلتك ترى جنازتك في وجوه الملتفين حول سرير مرضك، كأن كلًا منهم كان مكتمل الحياة حقًا، ولا يُخفي احتضارًا مشابهًا لذلك اليأس الذي ظل يمحو الوعود تدريجيًا من روحك بعفوية صلبة، لا تخضع لتفاوض أو تفسير .. استعملت هلاكك المضمون في محاولة إنقاذ نفسي يا أخي .. كانت روايتي السرية حيلة متوارية لرد المرح إلى الدنيا التي أبقتني خارجها .. كانت أيضًا طريقتي الوحيدة في إنقاذك من الفناء يا رشدي .. في إنقاذ أبوينا من المصير ذاته .. كأنها دوي مشترك لأصواتنا أطلقته في صمت من ظلام حجرتي كي يبقى عالقًا في الفراغ السماوي مراقبًا تبدده المتواصل مثلما تتأمل الحروب الشكلية التي لا تنتهي الضياع المستمر لأصواتها .. أدركت نشوة أن يوقن الناس بعجزك عن فعل أمر ما بينما تؤديه في الخفاء متتبعًا آثاره التي يحفرها في وجه العالم عبر الملامح الساهية لكائناته .. أرأيت يا نقيضي الذي كان منذورًا للموت المبكر ما الذي يمكن أن يفعله الحكيم بالمجنون .. الحكيم الذي كان يهرب من الموت في المخابئ العارية، والمجنون الذي كان يطارد الموت في أجساد النساء، وكؤوس الخمر، وأوراق اللعب .. كان الأسهل والأفضل لنا أن نحب الموت يا أخي بدلًا من أن ندفع ذلك الثمن في محبة الحياة .. كانت روايتي السرية أشبه برحلة صعود نحو ما قبل موت والديك، وما بعد موتك .. نحو ما قبل وما بعد كل شيء .. كانت محاولة لكي لا تنتهي جنازتي داخل قبر .. هل تعرف يا رشدي ما الذي قادتني إليه الرواية في رحلة الصعود تلك إلى ما بعد موتك...".

ينهض الرجل من فوق كرسيه بينما يستمر صدى العبارة الأخيرة في التردد كما لو أن الصوت يغيب تدريجيًا بارتجاف متزايد: "هل تعرف يا رشدي ما الذي قادتني إليه الرواية في رحلة الصعود تلك إلى ما بعد موتك" .. يتحرك نحو الدرجة الأعلى حيث السرير الذي يتمدد فوقه جسد رجل مكفّن ثم يواصل الصعود إلى الدرجة الثالثة وما أن يبلغها حتى تختفي السماء في الليل بغيومها الرمادية والنجوم المتناثرة داخل امتداد من العتمة ويحل بدلًا منها مكتب آخر مطابق لذلك الذي تحمله الدرجة الأولى، عليه كتب كثيرة أيضًا وأوراق مبعثرة، وورائه كرسي فارغ .. يتأمل الرجل ذلك المكتب قليلًا ثم يتحرك ليجلس على الكرسي ويبدأ في الكتابة ثانية بينما تظهر فوقه درجة أخرى للسلم تُظهر من جديد السماء في الليل: غيوم رمادية ونجوم متناثرة داخل امتداد من العتمة مع الغياب التام لصدى صوته.

(ظلام)

ممدوح رزق: مجموعة «كتمثال يحدّق في حائط» تتأمل أحلام الذاكرة

قال الشاعر ممدوح رزق، إن دار عرب للنشر والتوزيع، ستصدر له قريبا المجموعة الشعرية "كتمثال يحدّق في حائط" والتي  تضم 17 قصيدة نشرت في مطبوعات ثقافية مختلفة.  

وأضاف في تصريحاته لـ«الدستور»: « تتأمل نصوص المجموعة أحلام الذاكرة وخيالاتها بعين الموت، كخالق يكمن في براءتها البدائية.. تتحول اللغة إلى اكتشاف للمحو في مقابل الصمت المستقر وراء أطيافها المخادعة».

وتابع : «ثمة لعب  بتحولات العمى الناجمة عن هذا التقويض اللغوي لحواس الماضي، مقتفيا أثر التجرد من الوعود والغايات، كأنما يشكل عمرا كابوسيا للجمود الذاتي، يتتبع من خلاله أثر البلادة الغيبية بوصفها حصارا أزليا صلبا من الشرور الغامضة».

ويختم رزق  كل لحظة في المجموعة هي مصير من هلاك ماكر ومختلف حيث لا تتعاقب اللحظات وإنما تتزامن بين الجسد المحدق في غيابه، والعالم كأنقاض لم تتكون لذلك الجسد، تعكس ظلاله العدمية المنطوية على نفسها.

 

من نصوص المجموعة الجديدة:

"شرفات الذاكرة"

أثناء المطر الليلي

شرفات بعيدة تُضاء

ليس بفعل أحد

النور الأصفر القديم

ينبعث من تلقاء نفسه

لعيني العجوز فقط

الذي يقف في الجهة الأخرى

داخل شرفته التي لا تُضاء على الإطلاق.

نور أصفر قديم

يعذّب عيني العجوز

الذي يتذكر الآن

أنه لم يستمتع بشيء خارج طفولته

لم يستمتع بشيء أبدًا

ولو مجرد الجلوس داخل شرفة

يضيئها ذلك النور الأصفر القديم.

الشرفات البعيدة

لم ترغب في هذا الليل

سوى أن تخبر العجوز

أنها مثل عينيه

تحدّق هناك بحكم العادة

لكنها لا تستطيع رؤية المطر.

يذكر ان  ممدوح  رزق كاتب وناقد مصري. ،حصل على المركز الأول لجائزة ملتقى مدد في الشعر 2007، وترجمت قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية، كما أصدر مجموعة شعرية بعنوان "بعد صراع طويل مع المرض" 2015.صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة. حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي. صدر له: كتب: ـ مطاردة الغياب / قراءات نقدية ـ دار ميتا للنشر والتوزيع 2021 ـ مقتل نجمك المفضّل / نوڨيلا ـ دار عرب للنشر والتوزيع 2021 ـ ولقلبي سواده الفاتن / قصص قصيرة ـ مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع بالعراق 2021 ـ نقد استجابة القارئ العربي / مقدمة في جينالوجيا التأويل ـ دار ميتا للنشر والتوزيع 2019 ـ المطر في كارمينا بورانا / قصص قصيرة ـ دار ميتا للنشر والتوزيع 2019 ـ تشارلز بوكوفسكي .. ما وراء اللعنة.

خالد حماد

جريدة "الدستور" ـ 24 مايو 2021

الثلاثاء، 18 مايو 2021

سيرة الاختباء (26)

من التجليات الوضيعة للسلطة الثقافية المركزية أن يشير إليك أحد كتّاب أو نقاد أو "مثقفي" العاصمة بأنك "واحد من أدباء مدينتك" .. يختصر وجودك في تلك الهوية المختلقة عن وعي أو جهل بمدلولها المجحف والمخادع .. هو لا يحاول فقط طمس تميزك أو محو اختلافك أو إبطال تفرّدك الذي كرّس لسنوات ضوئية بينك وبين "أدباء مدينتك"، وإنما يحاول أيضًا التعتيم على المكانة التي حققتها بالرغم من بقائك خارج المركز .. أحيانًا تكون هذه الإشارة سعيًا للتغلّب على وجع لا يُحتمل.

حتمًا لن تستطيع أن تمنع ذلك الهراء الغافل أو الحاقد من التدفق حيث يتحتم على كائن العاصمة المشكّل من خراء الأكاذيب والأوهام أن يستغل إقامتك في مدينة "إقليمية"، وأن ينتهز محاولاتك لاكتشاف ما يُسمى بـ "الصداقة بين الكتّاب" في البقعة الجغرافية التي تسكنها، وأن يستثمر مشاركاتك ـ التنقيبية ـ في الندوات والنقاشات والفعاليات الأدبية لاختزالك قسرًا كفرد من هؤلاء الذين تظهر بينهم مبتسمًا في الصور الاحتفائية والتوثيقية .. لجعل منزلتك ـ مهما استمر الواقع في إثبات العكس ـ محكومة بحدود ذلك المكان "الهامشي"، البعيد عن "المدينة الأم" التي ـ بحسب التعريص العام ـ لا تُخلق المنزلة الحقيقية إلا داخلها.

تتخذ المهزلة الفجة بُعدًا أكثر سخافة وإضحاكًا حينما يعتبرك "أدباء مدينتك" مركزيًا وفقًا للمكانة نفسها التي يحاول كتّاب العاصمة التعتيم عليها حمقًا أو قصدًا .. يعتبرونك كذلك بالرغم من يقينهم بأنك لا تغادر حتى منزلك في تلك المدينة "الإقليمية" التي يعيشون فيها .. لكنهم يتماثلون مع أبناء المركز في ذلك الاعتقاد الملفّق بأن التميز الفعلي لا يتحقق إلا إذا تحوّلت إلى مواطن قاهري بشكل أو بآخر، أما إذا أدركت منزلة كهذه دون ذلك التحوّل؛ فإنك تستحق أن تُنسب إلى العاصمة لا أن تبقى منفصلًا عن ألقها.

ثمة فرق ساطع بين الإشارة إلى الكاتب القاهري الذي يستعمل أدوات السلطة الثقافية المركزية عند مقاربته "للواقع الأدبي والنقدي" المصري والعربي مثلًا، بوصفه واحدًا من الجماعة الأدبية المداومة على ذلك النوع من الاستعمال اللغوي، وبين الإشارة على جانب آخر إلى كاتب ما، تتحدد كتابته باستسهال بليد في كونها ناجمة عن "حراك أدبي" داخل مدينته، وليس بوصفها كتابة لا يمكن أن يرتقي إليها أي سياق أو "نشاط ثقافي".      

يبدو الأمر أشبه بحكمة مريرة: إذا كان لزامًا عليك ـ لأسباب قهرية عديدة ـ أن تغادر عزلتك، وممارسة هذا اللعب التأملي مع البشر والنصوص فإن هناك ثمنًا لابد أن تدفعه .. أن تنتمي شكليًا رغمًا عنك لأولئك الذين تلعب بحيواتهم .. أن يُنظر لكتاباتك أحيانًا بوصفها جزءً من النطاق الذهني الذي يشمل كتاباتهم .. لن تستطيع أن تمنع هذا الزيف، لكن بمقدورك أن تفضحه وتسخر منه، وتذكّر كل من يصدّقه أو يدّعي صوابه متعمّدًا بأنك تراه جيدًا كثقب في رأسه.

الأربعاء، 12 مايو 2021

الأبوة الصالحة

هو محبة! .. حسنًا، طالما لن تتمكن من قتله، فلتواصل محاولاتك لقتل المحبة .. تبصر شيطانًا صغيرًا، أرسله أبواه للعب، يتراقص متباهيًا في جسد طفلتك، ببنما تتقدم نحوك لتحتضنك وتخبرك أنها تحبك جدًا .. بكل الدموع التي خبأتها في قلبك طوال حياتك، بشهوتك الجارفة لدخول السماء من الخلف، وبيديك التي قطعتهما ملائكة الماضي حين مددتهما طالبًا منها أن تعطيك السر؛ تحتضن طفلتك وتخبرها بأنك تحبها جدًا أيضًا .. لكنك تقولها بنبرة دعابة خبيرة، لا تدفع طفلتك للشك في صدقها، وفي الوقت نفسه تبصق بها داخل القبر الذي ينفتح في تلك اللحظة تحت قدميك قبل أن تسقط داخله كأعمى يعرف طريقه جيدًا .. ستعرف طفلتك ذات يوم أنك استعملتها لإثبات أنه ما عاد شيء ينطلي عليك .. أن ما لم تخلقه ذاكرتك عدم .. ستعرف أنك استعملتها لإثبات مهارتك في إحراق المشاهد الرومانسية فور تكوينها، مثلما يحرق الغيب أرواح العالم بمجرد أن يتخيلها.

أنا ملعون بعجزي عن الكذب على نفسي .. ليست لدي القدرة على توهم مفترق طرق، أو مساحات بديلة، أو عمر محتمل للأمنيات .. بقائي حيًا عقاب متجدد .. ما أصدقه مضطرًا فقط أن الجنون أكثر رحمة من الموت .. أنا أكبر تهديد لنفسي، وذلك سر افتتاني بذاتي.

لكي تكون أبًا صالحًا؛ عليك أن تهدم الفردوس والجحيم من قبل أن تتخيّل طفلتك نفسها عند عتبة أي منهما .. لكنك حين تفعل فكأنك تقدمها قربانًا أكثر إمتاعًا للألوهة التي أردت أن تنقذها من أوهامها .. لن تكون طفلتك مجرد كأس دماء أخرى يرتشفها ببطء حفار القبور المختبئ فحسب، بل ستكون دماءً مُحلاة بالعدم أيضًا.

هو محبة! .. حسنًا، طالما لن تتمكن من قتله فلتواصل محاولاتك الفاشلة للكذب على نفسك .. فلتكن أبًا صالحًا يحفر قبر ابنته بلغة ليست سوى خليطًا من دماء المحبين عوضًا عن دماء الألوهة التي لا تريد سوى أن ترتشف ولو قطرة واحدة منها .. قطرة واحدة فقط وإن كان ذلك في لحظتك الأخيرة.

 أنطولوجيا السرد العربي ـ 9 مايو 2021

اللوحة لـ Edvard Munch

الخميس، 6 مايو 2021

الروائي الاستثنائي وشجاعة الكتابة

يعتقد بعض الكتّاب أن تناول الروائي لشخصيات مختلفة عنه هو أمر أكثر مشقة وأقوى تأثيرًا من الكتابة عن شخصيات تشبهه .. بصرف النظر عن أن "المشابهة" و"الاختلاف" بين الكاتب وشخصياته لا يخضعان أبدًا للحسم أو الاستقرار وإنما يتم اكتشافهما ورصد تحولاتهما المراوغة طوال حياة الكتابة سواء في وعي الروائي أو بالنسبة لقارئه، وبصرف النظر أيضًا عن "التأثير" باعتباره نسبيًا، تتغيّر ملامحه عبر الزمن سواء على مستوى القارئ نفسه أو من قارئ لآخر، أو من جماعة قرائية لأخرى؛ بصرف النظر عن ذلك فإن بإمكاني القول أن أسهل ما يمكن على الروائي أن يفعله هو تناول شخصيات "مختلفة" عنه .. أن يحدد في لحظة معينة قائمة من اليقينيات والخصائص التي يعتقد أنها تكوّن شخصيته ثم يحدد في المقابل ما يناقضها من يقينيات وخصائص أخرى ليخلق من خلالها شخصيته الروائية وينسج بشكل منظّم حياة كاملة لها .. يمكنه أن يختار ببساطة من الواقع شخصية جاهزة يحكم بضديتها له، ومن ثمّ يمرر نفسه داخل عالمها عبر ظواهرها المعلنة؛ يفكر بطريقتها ويشعر باستجاباتها ويرسم لخطواتها مسارات سردية قائمة على تلك المعطيات الواضحة .. بإمكاني القول أن أقل كتّاب الدراما كفاءة من اليسير عليهم فعل ذلك .. يمكن لأي منهم أن يستبطن تحت أي مستوى شخصية مغايرة له، وأن يراجع مسودته جيدًا بحثًا عما يمكن أن يعتبره فضحًا لصوته الخاص أو انفلاتًا لحكمه الشخصي المعارض لتلك الشخصية الروائية حتى يعيده إلى الخفاء .. نصائح وإرشادات الكتابة في كل مكان توصيك بهذا النوع من الانتباه، وتعيّن لك طرقًا عديدة قد تساعدك على معالجة الأمر.

لكن الأصعب حقًا هو أن تكتب ما تعلم جيدًا أنه أنت وتخشى أن يعرفه الآخرون .. أسرارك التي تدرك أن كشفها قد يحوّل أقرب البشر منك إلى أعداء .. أن تكتب ما قد يُعرّض حياتك كلها للتهديد .. الأصعب حقًا ألا تختبئ في شخصية روائية متخيلة وأنت تفعل ذلك وإنما أن تتعمّد ترك الدلائل اللازمة داخل النص التي تؤكد على أن الكاتب والسارد شخص واحد .. أن تكون أنت النص الذي تكتبه دون مواراة أي مُجسّدًا تلك العتمة الكامنة في داخلك مثلما لا يراها غيرك، والتي تعرف أن صورتك في الخارج لن تبقى بعد الإفصاح عنها كما هي .. المتمرسون في الكتابة يدركون بالطبع الفرق البديهي بين انحياز جمالي كهذا على مستوى المضمون، وبين المباشرة والتقريرية كأسلوب لمعالجته .. تتطلب هذه الكتابة خاصة في المجتمع العربي الإسلامي البوليسي شجاعة لا يقوى عليها إلا كاتبًا استثنائيًا، بالرغم من أنه حين يفعل ذلك لا يفكر في كونه شجاعًا بقدر ما يشعر بأنه يؤدي فقط ما يجب عليه فعله، وأنه لا ينبغي أن يمنعه أي شيء من تنفيذه.

قد يحتاج المهادنون دائمًا إلى التنظير لمقارنات أليفة، يحاولون من خلالها إثبات أن المسالمة التي تحكم كتاباتهم هي "الأصعب والأعمق تأثيرًا" .. ليس تغافلًا عن النصوص الانتهاكية بحق التي لا يقدرون حتى على مجرد التفكير في كتابة ما يماثلها، وإنما محاولة بائسة لتعويض هذا العجز؛ فإذا كنت لا تستطيع أن تقوم بشيء ما فليس عليك ببساطة سوى أن تكرّس لضعفك بوصفه بطولة .. كان يمكن لأي منهم أن يكون كاتبًا مهادنًا فقط، ولكنه اختار بمثل تلك التنظيرات أن يكون مهادنًا وبائسًا أيضًا.

موقع "الكتابة" ـ 6 مايو 2021

 

السبت، 1 مايو 2021

كيف تختفين / راي أرمانتروت ـ ترجمة: ممدوح رزق


 (1)

كنتِ ممسوسة بالتأرجح

بين العفوية

ومظهر التفكير الجاد.

كنتِ تغيّرين مساراتك

بعد نظرة خاطفة

في المرآة التي تميل بصدق

إلى تشويهِك.

ما الذي تملكينه الآن؟

ربما يكون مُريًحا

أن تراقبي خصلات الدخان

من مدخنة قريبة

تختفي

واحدة تلو الأخرى.

(2)

هل تحبين النبضات الخافتة

الحواف، والموجات الصغيرة

تمتد نحو العتمة؟

هل تفضلين الوميض

عن الضوء الثابت؟

ثمة كائن يتلعثم قليلًا

متردد

كما لو كان قادرًا

أن يُبقي على شيء ما

في سرِّه.

الجمعة، 30 أبريل 2021

هامش الرجل الذي ربما يكون طبيباً نفسياً، أو طفلاً في إعلان لافاش كيري

ينام على الكنبة .. بعد قليل سأنام بجواره، وأبكي مثل (عبد المنعم مدبولي)، و(فؤاد المهندس) في (مطاردة غرامية) .. يقرأ أمامي فقرة قصيرة عن العلاقة بين روما القديمة، والقوط الغربيين في إسبانيا .. أستمع إليه، متأكداً من أن الـ (هو) لديه قد بلغ أقصى درجات الرغبة في قتل (الأنا)، و(الأنا العليا)، وتحنيطهما، وتعليقهما أمام عينيه، ثم البكاء عليهما.

أعرف أنه بارع في رد اللعبة إليّ؛ فأجد نفسي مستسلماً للتداعي الحر، متيقظاً في نفس الوقت لقدرته على رصد التكرارات اللفظية التي أستخدمها في سرد الذكريات .. لكنني أيضاً بارع في إفساد اللعبة كلها .. أتعمّد إبراز سلوك معين، أو ألم مختزن بالكيفية التي تدفعه لتركيز انتقائي، يُربك (الانتباه العائم المتساوي)، حيث يعثر في ذلك السلوك، أو الألم على ما له علاقة بسلطة تخصه حتماً .. النتيجة دائماً تكون مضحكة بالطبع؛ فنماذج الصراعات التي ينبغي تحليلها معاً يجب أن تُعطي قبل أن نصدّق استقرارها أسباباً مُرضية لتبرير جدارتها كموضوع للنقاش، والحسم دون غيرها .. الجملة الوحيدة التي تمكّنت من قولها في هذا اليوم له: (الوسواس القهري مريض بك).

(لو كنت أعيش في العصور الوسطى؛ لفشلت أيضاً في النوم مع المرأة التي تجمع الزهور بجوار بحيرة ما، كنت ستعرف ذلك من اللوحات) هكذا رد عليّ.

لماذا لم يجعلني العالم أتكلم كثيراً، وأتحرك كثيراً، وأفاجيء من حولي بانفعالات لحظية غير متوقعة أبدو من خلالها ذكياً، ومجنوناً، ومتفلسفاً، وساخراً، وعصبياً، وطفولياً، ومهموماً، وقيادياً، وحسّاساً بغرابة متناهية كـ (نور الشريف)، أو (يوسف شاهين) في (حدوتة مصرية) .. لكن ربما ما نفع (يوسف شاهين) فقط أنه كان مخرجاً، ولاشك أن ذلك حرمه من أن يكون مثلي .. أنا مقتنع للغاية بأنني مثلما خسرت بسبب عدم وجودي في الحياة كشخصٍ ما؛ فإن ذلك الشخص ـ مهما كان ـ قد خسر بالضرورة أن يتخذ وجودي .. لهذا أنا أرفض، وبشدة مصطلح (الفن المسيحي) في القرون الوسطى .. فيه من التضليل ما يفوق الإهمال الذي لاقاه تحليل (هيجل) عن الديالكتيك في القبلة: (اختلاط الأفكار، والرغبات المتناقضة في التقاء شفاه الرجل بشفاه المرأة، حيث لديهما فرصة التحوّل إلى شيء أفضل) .. يتذكر؛ فيقاطعني (لا أحب "هيجل" لكنني لا أنسى: " احتفل بهذا المزيج بقبلة، وسوف تكون قد طبّقت الديالكتيك بطريقة تجعل "ماركس"، و"انجلز" يغاران منك").

ينتقل من الكنبة إلى الكرسي .. يضع رِجلاً على رِجل كأنه جالس على مقهى .. أنظر إليه، وأتخيله ميتاً في هذه الوضعية، مستعيداً إفّيه (أمين الهنيدي) في (عبود عبده عبود): (أظن ده يوم القيامة يصقف، ويقول " الحساب ").

يُعد التعالي على النوستالجيا من أهم سمات صاحب الشخصية القوية، ومن أنجح أدوات اكتساب الهيبة .. لكن ذلك التعالي ليس بالفعل السهل كما يتخيل البعض، بل إنه يستلزم في الواقع التضحية بثلاث ميزات: استيعاب إمكانية قدرة أي حالة حنين على الكشف عما لم يكن ظاهراً فيها بوضوح بناءاً على ما تقترحه من خلخلة للذاكرة .. فهم أن النوستالجيا ارتكابات لتكاثر الدال، وليست صلاة تأليهية لمدلول مهما بدا أن الخدعة ـ العاطفية ـ التي تدعي العكس متفوقة في عملها .. الاعتراف بأن التعالي في صورته الأعنف ربما يكون تعبيراً عن الانحياز للحنين الشخصي، كراهية، وإنكار الضعف تجاهه، وذلك بواسطة الاعتداء على حنين الآخرين، والانتقام منه .. ربما يكون تعبيراً عن الغيرة الناجمة عن النسيان، والعجز عن التذكر .. لكن في النهاية لا عليك من هذه الميزات، حتى لو كانت التضحية بها تجعلك مستحقاً لأن توضَع على حمار بالعكس حتى يزفّك الأطفال .. كن متعالياً فحسب.

يأخذ سيجارة من علبتي التي على المكتب .. بعد أن يشعلها، يخبرني أنه توصّل إلى حل رائع لإنهاء مشكلة الشك في الذين يقولون، أو يكتبون عنه كلاماً جميلاً .. (على الأقل لم تصل بشاعتي للدرجة التي لا يقدرون معها على الكذب) .. يمكن لهذه القاعدة أن تنجح أيضاً مع من يعذبه التفكير في ممارسة الجنس مقابل المال (على الأقل لم تصل بشاعتك للدرجة التي ترفض معها امرأة فتح فخذيها من أجلك ، ولو بمقابل) .. هذا ما تضطر إليه مع فقدان قوارب النجاة، وكلما خطوت داخل إعصار كالذي صادفت فيه (جوزيف كونراد) ذات مرة.

من رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” ـ دار الحضارة 2014

 

الثلاثاء، 27 أبريل 2021

اللعب بخرافة الإثم

أي غرض كان يستهدفه الأداء الراقص لسعاد حسني في أغنية "بانوا بانوا" من فيلم "شفيقة ومتولي"؟ .. أتحدث عن الرقص في حد ذاته على ألحان كمال الطويل معزولًا عن كلمات صلاح جاهين وإن كان مستعملًا لموضوعها .. لم تكن تلك الرقصة دعمًا للعقاب الهازئ الذي تمارسه شفيقة تجاه "الوجوه الغادرة" بواسطة الغناء، أو رثاءً حركيًا للذات استغلالًا لذلك العقاب المنغّم، أو محاكمة توسلية ضمنية للقدر باستعراض الجسد المنتهك في صورة ما أصبح وظيفة روتينية له .. كانت الرقصة احتفالًا سريًا لسعاد حسني بجسدها خارج مثاله الأبوي .. بما يتجاوز هذا الجسد ويجعله الجسد الأنثوي في ذاته .. المثال الذي لا يتراجع عن موضعة جسدها وتعيين حدوده .. بالضرورة لم يكن تجهم ملامحها أثناء الرقص تعبيرًا عن الألم التراجيدي المتعلّق بالفيلم نفسه، وإنما بالغضب الوجودي من مطاردة خرافة الإثم لجسدها .. كانت سعاد حسني تلعب في رقصتها بتلك الخرافة كطقس يخص عمق علاقتها بهذا الجسد .. طقس تؤكده عيناها الشاردتين في تأمل مستقل لتفاصيلها الحسية المجرّدة من الوصايا حيث يغيب الجسد اللاعب عن الفضاء المتعيّن من حوله، ولكنه لا يتوقف برقصاته عن الإشارة إليه.

في مقالي "الحياة كوباء عند عبد الهادي الجزار وسرن كيركجور" تناولت اللعب الجدلي مع القدر، الإثم، الخلاص، أو ذلك الاندماج السحري في لوحات عبد الهادي الجزار الذي يعادل ما كان لدى كيركيجور بين الأوهام المتنافرة للطمأنينة والخلود .. يمكن لنا الآن أن نقارن رقصة سعاد حسني في "بانوا بانوا" بالرقصات المضمرة للنساء في لوحات عبد الهادي الجزار كـ "الكورس الشعبي" مثلًا، لكن جسد سعاد حسني في تلك الرقصة كان ينثر أيضًا غبار العقاب والتطهر عن ذاكرته .. يثبّت نوعًا من اللامبالاة الشبقبة التي تنبئ بعدم انشغاله بالمحظور سواء كان تماديًا مقصودًا في انتهاكه أو كفاحًا مُعطلًا للخضوع إليه .. كانت رقصة غير معنيّة بالشر المطلق حيث جسد سعاد حسني لا يحدّق إلا في نفسه.

إن الأمر لا يتعلق بمساءلة الإبهام المرتبط بالخطيئة بقدر استعمال الرقص للعودة إلى ما يسبق سلطة الاعتراف .. ما يسبق مطالبة الجسد ـ كموضوع للذنب ـ بالتناغم مع شروط المقدس .. ليس سعيًا نحو استرداد بدائية غيبية وإنما كتقويض لما يحتجز البراءة الشهوانية للجسد في صياغاته الانتهازية .. لذا كان من المنطقي ألا تكون نهاية المسار الراقص لخطوات سعاد حسني في تلك الأغنية هي اللحظات الأخيرة من فيلم "شفيقة ومتولي"، وإنما جثتها الممددة فوق أرض الشارع أسفل شرفة عالية.

أراجيك ـ 27 إبريل 2021

الجمعة، 23 أبريل 2021

الجالس أمام النهر ... (مسرحية قصيرة في فصل واحد)

المكان: طريق فارغ بمحاذاة نهر .. رجل في منتصف العمر يجلس صامتًا على أريكة تقابل النهر معطيًا ظهره طوال الوقت للمتفرجين بحيث لا يُكشف وجهه أبدًا.

الوقت مساءً

يدخل إلى المسرح رجل في عُمر مماثل لذلك الجالس على الأريكة .. يقترب منه ويحدّثه متحرّكًا من حوله دون أن يجلس بجواره على الإطلاق.   

"مساء الخير .. كنت أعرف أنني سأجدك هنا .. جالسًا على تلك الأريكة .. أمام النهر .. وحيدًا .. تحدّق بنظرة ثابتة نحو الضفة الأخرى، كأنك لا ترى أي شيء، أو لا تبصر سوى درجات مموهة من الظلال .. أمر مؤسف حقًا ألا يكون لديك ابنة صغيرة تشاركها اللعب الآن، أو تصطحبها للتنزه في حديقة ما، أو تقرأ لها حكاية مشوّقة بينما تنعمان بالدفء الحميمي لغرفة المعيشة .. صدقني، ربما لحظات كتلك هي الأمر الوحيد الذي يستحق أن تتزوج من أجله يا صديقي .. اللحظات التي حرمت نفسك منها .. حسنًا .. مازلت تعتقد أن البقاء هنا، أمام النهر، هو الحياة التي لا يعادلها منزل تسكنه مع زوجة وأبناء .. أنظر .. إنها آخر صورة التقطها لابنتي الصغيرة .. هل ترى ذلك السحر المُسكر الذي ينبعث من عينيها الودودتين، وابتسامتها الرائقة .. أرجو ألا تظن أنني أفعل ذلك كي أسبب لك شعورًا بالحسرة .. أنا لست عدوك كما تعرف .. ولو أني لن أستغرب أبدًا لو اعتبرتني كذلك .. لطالما اعتقدت أنني لم أفعل شيئًا في حياتي غير خيانتك .. لكنك تعلم أيضًا أن ذلك كان رغمًا عني .. هل مازلت تتصوّر حقًا أنني لم أتوقف أبدًا عن محاولة قتلك؟ .. أنا لم أقصد ذلك على الإطلاق .. أدرك جيدًا أنه لا شيء يستطيع أن يمحو ذلك اليقين من روحك .. أنظر لهذا الوجه .. أنظر إليه جيدًا .. هل تعرف لماذا كانت ابنتي الصغيرة تبتسم في تلك اللحظة؟ .. لقد كنت أحدثها عنك .. نعم .. كنت مجبرًا أن أحدثها عنك، وكان ذلك يمنحها السعادة .. كنت أتعذب بينما ظلت هي تبتسم كدمية مصنوعة من تلك الغفلة الناعمة التي ترتسم على وجهها الآن .. الغفلة الخبيثة القاتلة .. كنت أحكي لها عن حياتك، وذلك ما كان يجعلها ممتنة لي .. معك حق .. ليس هناك ما هو أكثر جدارة بالضحك من تلك المهزلة الوحشية .. لكنها على الأقل ابنتي .. نعم .. عندي ابنة صغيرة ليس لديك مثلها .. سخريتك مني لن تغيّر شيئًا في تلك الحقيقة .. لكن لا بأس لو كانت ابنتك أيضًا من حين لآخر .. أنت تعرف أنك مُرحب بك في منزلنا طوال الوقت .. سنظل أصدقاءً دائمًا كما تعلم .. حتى لو كنت سر آلامي كلها .. كان يمكن لحياتي أن تكون أقل شقاءً لو أنني نجحت في التخلّص منك .. رغم كل ما يدعيه وجودك من أنك الجانب الأفضل من ذلك العمر الذي لا أصدق حقًا أنني عشته .. كيف تحوّلت من كاتم أسراري إلى الشبح الذي يطاردني في كل وقت ومكان .. ما الذي جعل صداقتي بك هي الإرغام الأشد قساوة على نفسي .. ذلك لأنك تمتلك من الحرية والأمان ما لا يمكنني حتى تخيّله .. تستطيع أن تتسلل فجأة من خلالي وتتودد إلى زوجتي وطفلتي أو إلى أي شخص آخر أعرفه دون تهديد .. دون خوف من العقاب .. حتى أنك تضمن المكافأة التي يمنحوك إياها مقابل حضورك المباغت والمؤقت .. حضورك الذي يبهج قلوبهم، ويحطم قلبي .. لأنك مخادع .. لأن خداعك هو الأكثر روعة وسط كل زيف العالم .. لم أتمكن من قتلك، فأصبحت قاتلي المتنقل عبر الوجوه التي تحاصرني دائمًا .. قاتلي الذي لا أقدر على فراقه حتى لا تتبدد تلك الوجوه من حولي .. حتى لا يتبدد وجهي .. تفعل كل هذا في صمت محكم .. صمت يساوي غيابك .. من يصدّق؟ .. شيء يتظاهر بالتجسّد مثلك يمكنه أن يرتكب أفظع الشرور .. إنك لا تكتفي بذلك فحسب بل وتدفعني دائمًا للاعتراف أمامك كما لو كنت أنا المذنب .. تجعلني أتوسل إليك في كل لحظة حتى لا تتخلى عني .. أحكي قصصك لمن حولي، وأريهم صورك، وأطلعهم على أشيائك التي مازلت أحتفظ بها .. كأنها قصصي وصوري وأشيائي .. كأنك لست الشيطان الذي يسكن جسدي ويلتهمه ببطء سادي منذ أربع وأربعين سنة .. كل هذه السنوات قضيتها في تجربة تعاويذ فاشلة للتحرر منك، بينما لم تكن تحتاج أكثر من الجلوس صامتًا على هذه الأريكة أمام النهر دون أن يعنيك أي شيء .. لا تكترث لأي تعاسة سببتها لي وللآخرين كقدر لا مهرب منه أو كلعنة أبدية أنت وحدك متوّج على عرشها .. تجلس على هذه الأريكة كملاك موت يستطيع أن يقبض أرواح المحتضرين في كل مكان وزمان دونما احتياج حتى لتحريك رأسه ..  لكن لأذكرك مجددًا .. كل ما فعلته بي جعلني أحتفظ بما لا تمتلكه أنت .. جعلني أحتفظ بطفلتي .. أما أنت ـ رغم كل شيء ـ ليس لديك سوى التحديق إلى الضفة الأخرى بتلك النظرة الثابتة .. النظرة التي لا تستطيع أن تمنحك طفلة صغيرة كابنتي .. لمرة أخيرة: هل ستظل صامتًا هكذا؟ .. حسنًا .. إن الصمت هو ما يلاءم كائنًا وحيدًا مثلك .. أما أنا فسأعود إلى ابنتي الصغيرة التي جعلتها أنت تحبني أكثر مما لو لم يكن لك وجود في العالم".

(ظلام)

اللوحة: Joan Miró. The Birth of the World

الاثنين، 19 أبريل 2021

مارادونا وأوليفر تويست: المراوغة المضادة

كان العالم هو الكرة التي أعطتها إليه السماء في طفولته، ولكي يحميها من كل قطاع الطرق الذين أرادوا أخذها منه؛ كان يجب عليه ألا يهرب أو يختبئ بل أن يجري نحوهم ويراقصهم ثم يتخطاهم، غير مكتف بالحفاظ على كرته فحسب وإنما بأن ينتزع منهم أيضًا ما لا يقدرون على رؤيته أو فهمه؛ فما كان بحوذتهم ليس إلا أرواحًا متناثرة لتلك الكرة التي بين قدميه، وهو بذلك الاختطاف لم يكن يعيد إلى قطاع الطرق ما كانوا يفقدونه دون أن يشعروا بأنه كان لديهم فقط، بل كان يسخر من السماء كذلك؛ فالعالم كان كرته من قبل أن تمنحها له، ولم يكن يحرز الهدف إلا بالطريقة التي تجعله حقًا نجاة مؤقتة من هلاكه المستقر داخلها.

* * *

كان كأس العالم 1982 بإسبانيا هو أول مونديال أشاهده في تليفزيون الطفولة .. لكن تلك المشاهدة اقتصرت على لقطات عابرة في أيام منفصلة لمبارايات كان المنتخب البرازيلي طرفًا في جميعها .. أشعر دائمًا بأن تلك الصدف كانت إثباتًا بطريقة ما للمقولة الشهيرة عن ذلك الجيل من السيليساو بأنه كان البطل غير المتوّج لتلك البطولة .. قبل كأس العالم 1986 في المكسيك كنت قد قرأت نسخة مبسطة من رواية "أوليفر تويست" لتشارلز ديكنز .. أحببت وقتئذ انسجامها مع يقينيات طفولتي: ولد صغير يعيش منذ لحظته الأولى سلسلة من المآسي العنيدة تنتهي بحصوله على حياة جديدة تحمل وعدًا بالسعادة .. كانت تشبه في جوهرها القصص المصورة التي تمثل المكوّن الأساسي لقراءاتي الطفولية، وإن كانت بأشخاص وأحداث وتفاصيل أكثر، وبحبكة أقل بساطة .. كان يمكنني اعتمادًا على اللقطات العابرة قبل أربع سنوات أن أشجع البرازيل، لكن شيئًا ما في داخلي جعلني أنتظر .. شيئًا ما كان يقول لي: فلتشاهد الجميع أولًا .. سألت أخي الأكبر عن منتخبه المفضل كتوصية لن أطلبها إلا منه فأخبرني بتلقائية: ألمانيا .. مرت أيام البطولة أو لياليها بمعنى أصح، وحينما جاء موعد المباراة النهائية كنت أجلس أمام التليفزيون بجوار أخي أشجع ألمانيا من أجله والأرجنتين من أجل مارادونا .. صدفة أخرى ولكن دلالتها كانت أكثر أهمية هذه المرة .. نعم؛ ذلك القصير الممتلئ صاحب القدم اليسرى لم يكن يشبه أي لاعب اخر .. لم يكن حتى مجرد لاعب أسطوري .. بالنسبة لي كان اكتشافًا لمفترق طرق ليست كرة القدم إلا علامة له، وحينما تجد نفسك أمامه فجأة سيصبح لزامًا عليك أن تعيد التفكير في كل شيء.

* * *

يمكن لليُتم أن يكون شيئًا آخر .. أن يُطلب منك المذاكرة .. ألا يُسمح لك بالخروج للعب .. ألا تجد الكرة حين تبحث عنها .. يمكن للملجأ أن يكون ظلام شارع لا تركض داخله .. ولكن حينما تكون الكرة بين قدميك فأنت تعرف جيدًا ما عليك فعله .. ستراوغ الجميع وتمرر الكرة من بين أقدامهم ومن فوق رؤوسهم وتسجل أهدافًا لا يحرزها غيرك .. ستفعل هذا نيابة عن رفاق اليُتم كلهم .. عن الأطفال في سجن رئيس عصابة النشالين، أو في سجن ديكتاتور البلاد .. نيابة عن الأطفال المطرودين من الحفلات الراقصة .. كأنه وعد أبدي لن يمنعك شيء من تنفيذه ولو بيدٍ محنطة كالمومياء، مزينة بالغرز .. ولو أحرزت أهدافًا بتلك اليد؛ فأنت الوحيد الذي تمكنت من إثبات أنها "يد الرب" فعلًا .. ليس الرب الذي يصرخون شكرًا له على وجودك، ولكنه ذلك الذي يعبدونه في الكنيسة التي تحمل اسمك، ويحسبون زمنه وفقًا ليوم ميلادك، ويعرفون أن بإمكانه التجسّد ولو في ملعب طيني مرتديًا الرقم 10 كي ينقذ حياة شخص ما .. إنه حق القلوب عليك بألا تتوقف عن العبث بقساوتها .. رغم البكاء .. البكاء أحد شروط اللعبة كما تعلم .. هو جوهرها الحميم إن شئت القول .. القرين الشاحب والمنهك، الذي يحتضن رأسك داخل صدره عند اللحظات الفارقة، وبينما تنصت لدقات قلبه المرتعدة سيتلفت حوله بشعره الأشيب وتجاعيده الثقيلة وعينيه الغائمتين مستكشفًا المتاهة الجائعة التي تحاصركما .. لكنها ليست اللعبة التي لابد أن تهرب خلالها من اللصوص وإنما أن تطاردهم .. أن تندفع صوبهم ثم تبتسم في وجوههم الذاهلة بكامل طفوليتك وأنت تسرقهم .. ما رأته بصيرتك من قبل أن تراه أبصارهم .. ما كان ماضيًا بالنسبة لك، وأصبح مستقبلًا بالنسبة لهم .. تسترد ما كان لك أصلًا .. تعطيهم في الوقت نفسه خلاصًا خياليًا ما كانوا يدركون أنهم قادرون على بلوغه .. المقايضة الحتمية: يلاحقونك بمجازر الضرب والشتائم، وتعلمهم في المقابل كيف يحلمون بأنفسهم داخل قبعة سوداء .. هذا ليس ركضًا أو مراقصة أو تسجيل هدف في الخارج كما يبدو .. إن الأمر يحدث كليًا في داخلك .. حول السر الغامض في نفسك .. السر الذي يُمتعك ويبكيك .. السر الذي يمتد عبر أجساد الآخرين ويعود إليك كشبح مفتون، توقن أن في مخاتلته يكمن مصيرك.

* * *

سألتني طفلتي من هو "مارادونا" الذي أطلقت اسمه على القط الصغير الذي أصبح عضوًا جديدًا في عائلتنا .. جعلتها تشاهد فيلمًا وثائقيًا قصيرًا يتضمن مسيرته منذ البداية وحتى الاعتزال .. كان هذا فقط من أجل الإجابة على سؤالها المتعلق بالقط الصغير، ولكن إذا أردت أن تعرف مارادونا حقًا فلا تكتفي بمقاطع الأهداف والمراوغات والتمريرات الحاسمة .. شاهد مباراياته كاملة منذ لحظة دخوله الملعب وحتى مغادرته .. تمريناته الإحمائية .. نظراته لعدسات المصورين .. الرسائل التي يمررها بحركات شفتيه أثناء عزف السلام الوطني .. طريقته في تحفيز زملائه .. إشاراته للجماهير .. أفعاله تجاه المنافسين .. سعادته الراقصة وهو يركض نحو الراية الركنية قبل أن يقفز ملوّحًا بقبضته كلما سجل هدفًا .. بكاءه .. راقب جيدًا كيف كان شبحًا يطوي الزمن داخل الملعب: يتسلم الكرة في بقعة ما ثم يمررها لزميله وبعد لحظات خاطفة تجده يتسلمها مجددًا في بقعة بعيدة تمامًا عن الأولى .. كأنه ليس لاعبًا واحدًا وإنما كل لاعبي فريقه، وللدرجة التي تجعلك تتخيّل أنك لو التفت فجأة ستجده بجوارك أمام التليفزيون يتفرج على نفسه .. كانت خطوط الملعب بالنسبة له أشبه بخيوط حرير لا يتوقف عن تمزيقها من جميع الاتجاهات كفراشة بدينة لها زمنها الخاص .. أتذكر جيدًا المشهد الكوميدي بينه ومساعد الحكم في مباراة انجلترا الشهيرة حينما سقطت الراية وهو على وشك تنفيذ ضربة ركنية فأمره المساعد بأن يلتقطها من على الأرض ويعيد تثبيتها، وحينما فعل مارادونا ذلك متعجلًا ليتمكن من لعب الكرة؛ عاد مساعد الحكم من جديد وأمره أن يثبّت الراية بإحكام فابتسم مارادونا فاردًا ذراعيه بنفاذ صبر طفولي، وبدا كأنه يقول للمساعد مستغربًا: "هل أنا عامل صيانة أيضًا؟" .. إذا أردت أن تعرف مارادونا داخل الملعب حقًا فعليك أن تشاهده خارج الملعب .. داخل مصحة التهذيب الهائلة التي حوّلها إلى حديقة كارتونية .. ظل مارادونا منذ اللحظة الأولى التي شاهدته فيها عام 1986 يواصل تجسيد أوليفر تويست في خيالي ولكن بشكل مناقض .. منذ أدركت ذلك الشغف المستحيل المتجذّر في روحه بما ليس بإمكان الكرة التي بين قدميه أن تصل إليه .. بما ليس في متناوله حين يركض ويراوغ ويسجل هدفًا .. أي شيء ذلك الذي ليس في متناوله؟ .. إنه خام الوجود الذي لا ينجو منه حتى الأنبياء والرسل والقديسون .. كينونة العالم .. زهرة الزهرة الكونية من قبل أن تتحوّل إلى دخان متناثر داخل الحياة والموت.

* * *

كلما حصلت على عائلة جديدة يجذبك الجموح خارجها .. عائلة من الهتافات اللامعة والتمجيدات المحمومة .. لا أحد يفعل هذا مثلك .. لست ابنًا لحقيقة إلا مزاجيتك .. أن يعتني بك فحسب ذلك الخليط الجنوني من الغضب والعاطفة .. أن تعيش كل المتنافرات إلى أقصاها .. أن تصل بأي مقامرة إلى حدها الأخير .. لكن الموت ليس حدها الأخير بل الثمالة .. التذكير الأبدي الهازئ بالحكمة المضادة التي لا تُدفن في قبر .. ليس هناك حياة جديدة سعيدة .. هناك طيش ذاتي فقط يناقض كل خرافة .. انفلات شره خارج الأحلام المثالية لعقيدة جعلك الآخرون سيدها .. إنه السلام الذي حصلت عليه روحك قبل رقادها .. التي لم تكن روح إله أو مخلّص أو بطل خارق أو مثال نمطي لسلطة الكاريزما .. إنما كانت روح ذلك الطفل الذي يطارد قطّاع الطرق بنقاء قلب شيطاني حيث تكمن البراعة القاتلة.

* * *

بدأت كتابة رواية "الفشل في النوم مع السيدة نون" في منتصف عام 2013 .. كان أخي الأكبر قد مات فجأة منذ شهور قليلة، واكتسب غضبي الغريزي الذي أتنفسه منذ ولادتي مزيدًا من المضاعفات المستعرة .. كنت أريد أن أصعد إلى السماء وأحرقها فعليًا .. أن أضع شيطاني المنتعظ في ممر الخراء الكوني .. كنت ألهث حرفيًا أثناء الكتابة .. أركض صباحًا ومساءً فوق الصفحات البيضاء كقط مرتعش، مراوغًا القيم والمحاذير .. أتخطى حواجز المقدس بعفوية لا تلتفت وراءها، كأنني لا أبصرها، أو لم يكن لها وجود من الأساس .. كانت اندفاعاتي المحمومة تتأرجح في ذاكرة الأجساد والأزمنة والكلمات والأماكن والأشياء والأفكار والشهوات .. في أسرار وهواجس ومكائد كل مشهد ولحظة وحلم .. في خيال كل ذاكرة .. كان انتقامًا من الطمأنينة وقفت في نهايته غير مصدق: ما الذي فعلته بأسرتي؟ .. كنت منتشيًا بغرابة، كأنها لحظات ما بعد أورجازم لغوي أطلقت خلاله العفاريت ـ كما كتبت في الرواية ـ داخل ميدان مزدحم كي أعذبها للحظات قبل أن ترتد إلى داخلي ثانية .. لكن الذنب التقليدي كان يغرز شوكته المسمومة في روحي .. كيف ترتكب كل هذه الآثام في حق أمك وأبيك وإخوتك وجدتك دون يردّك شيء؟ .. لكنني لست آثمًا .. أردت فقط الاحتفاظ بكرتي .. إما أن أفعل ذلك وإلا سأموت .. أردت أن أعيد إليهم أرواحهم ولكن داخل الحياة التي لم يفطنوا إليها .. أن أسترد بكائي الطفولي لا أن أبكي نهايتي .. إذا كانت كل الرهانات خاسرة فليكن احتفالًا بالسخرية من فكرة الرهان نفسها .. سأضع صورتي طفلًا مع أمي على غلاف الرواية إمعانًا في الإثم، وليتذكر قاطع الطرق الأعظم أنني لم أكن عبدًا له.

أراجيك ـ 19 إبريل 2021

 

الخميس، 15 أبريل 2021

هاملت

بوجهه الحليق الذي لا ينطق بالتشرد، وملابسه المهندمة التي لا تشير إلى خبل، وباتزان خطواته الذي لا يدل على ثمالة؛ يسير في الشوارع منذ زمن طويل مناديًا على أسماء عديدة .. لا أحد يعرف إلى أي أشخاص تنتمي تلك الأسماء: إخوته .. أبناؤه .. أصدقاؤه .. لا أحد يعرف السبب الذي يدفعه للنداء عليهم بهذه الطريقة .. زمن طويل وهو يسير في الشوارع مناديًا على أسماء مفردة، لا تتغير، دون ألقاب أو تفسير، وبصوت يبدو كأنما صرخات قديمة قد تحجرت في حلقه .. بدا كأنه يعيد رسم ملامح المدينة بواسطة تلك النداءات على أسماء لا أحد يعرف أين اختفت أجساد حامليها، أو كأنه يستخدم غيابهم في محو تلك الملامح دون تعويض.

لم يُسبب ذلك ضررًا لأحد؛ فخطواته اليومية السريعة لا يتخللها لحظات توقف تسمح بتحوّل نداءاته إلى مصدر للإزعاج .. يعبر فحسب كأنما يدرك أن أصحاب تلك الأسماء يتواجدون في كل مكان يمر به، وأن الاستجابة لندائه لا تتطلب أن ينتظر بين حين وآخر، أو كأنما يدرك أن استجابتهم له لا تشترط وجودهم في المكان الذي يمر به .. لكن لا أحد يستجيب له، حتى ولو بسوء الفهم، كأن الأسماء التي يناديها لم تُمنح إلا لأصحابها بالرغم من عاديتها وتداولها .. لم يسبب مروره الدائم سوى التعوّد المتأرجح بين السخرية أحيانًا، والشفقة أحيانًا أخرى.

شخص ما سمعه ذات يوم .. كانت المرة الأولى التي يسمعه فيها أو ربما وصل إليه صوته من قبل، ولكن شيئًا ما جعل هذه المرة تكون الأولى حقًا .. حينما وصل صوته إلى ذلك الشخص خرج إلى شرفته ونظر إليه .. أشياء بديهية منعته من أن ينزل إلى الشارع ويلحق به كي يحقق أكثر ما كان يتمناه في تلك اللحظة .. أن يقتل صاحب النداء .. لم تكن بينهما أي معرفة سابقة، ولم يكن حتى وجه أحدهما مألوفًا بصورة ما لدى الآخر، ولكن الواقف في الشرفة كان يعرف أصحاب تلك الأسماء التي ينادي عليها ذلك الرجل جيدًا.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 14 إبريل 2021

السبت، 10 أبريل 2021

يدكِ التي ما زالت صغيرة

أحب يدكِ حين ترفعينها للإشارة إلى شيء ما

يدكِ التي ما زالت صغيرة

كقبضة طفل

ترسم نعومتها في الهواء

ما يشبه سهمًا ضئيلًا ...

يدكِ العمياء

التي كانت تشير دائمًا

إلى ذلك القارب الذي ينتظرنا خارج الزمن.

أحب يدكِ حين ترفعينها أمامي الآن

لأنها تذكّرني بروحي العمياء

التي لم تتوقف لحظة واحدة

عن رؤية ذلك القارب الذي كنتِ تشيرين إليه ...

يدكِ التي ما زالت صغيرة

كقبضة طفل

تنحت نعومتها المرتعشة في الهواء

شاهد قبرٍ أكبر بكثير من حجمها

يحوم حوله صمت السنوات الطويلة

الذي لم ينجح في اجتياز الزمن

العابر بين روحينا

كأن الزمن نفسه

لم يكن إلا حطام القارب

الذي لم يتكوّن أبدًا.

اللوحة : Ludvig Munthe