الاثنين، 31 أغسطس 2020

ملاحظات حول إيروسية جورج باطاي

أقدم في هذه المقالة ملاحظات مبدئية حول كتاب "الإيروسية" لجورج باطاي، ترجمة محمد عادل مطيمط، بوصفه أحد فضاءات اللعب أو "متون التفكيك" المستعملة في مشروعي النقدي ـ قيد الكتابة: "النقد الإيروسي .. نحو اكتشاف شبقية التناص"، والذي يُعد مدخلًا تطبيقيًا لمنهج جديد مثلما أشرت في الجزء المنشور منه، ويتناول ـ حتى الآن ـ نصوص وصور مها الجويني، آن لويس جيرمين نيكر أو "مدام دو ستايل" في القرن 18، فوتوغرافيا نادية عبد الواحد في ستوديو فان ليو 1959، فيكتورين موران موديل إدوار مانيه في لوحة "غداء على العشب"، بيث بطلة مسرحية "منظر طبيعي" لهارولد بنتر، ميريل ستريب في أغنية The Winner Takes It All، وPam Grier في فيلم Foxy Brown.

يمكن التفكير في الصمت كطموح التوحد مع لاشعور اللغة من قبل أن تتحقق، أو البدائية المعتمة التي تسبق حدوثها، أي "ما قبل"، و"ما حول" اللغة كفكرة لا ترتبط بغير نفسها، ولا يقع شيء خارجها .. لا وجود لـ "الصمت" حيث لا يتوقف الخطاب ـ كخالق ـ عن العمل داخل أجساده التي تدعي "صمتها" أحيانًا، أو أنها تطارد "الصمت" الذي يحث عليه "فيتجنشتاين"، في حين أنها مطاردة ـ بفعل الخطاب نفسه ـ من ذلك الصمت .. بهذا ليس الصمت المتداول هو الصمت الأوّلي نفسه أو "ما وراء" الكلام الذي يتم الإصغاء إليه بل هو استمرارية متنكرة للكلام تتوهم الصمت، عماء يحاول أن يكون ظلًا لأصله.

يتكلم "الماركيس دو ساد" عن تجارب أبطاله ، وعن نفسه من خلال تلك التجارب كي يثبّت "كلامه" في دائرة العزلة المطلقة، وفي الوقت نفسه يمنح هذا الكلام انتماءً ضمنيًا مراوغًا لأطر التاريخ المعقول والأخلاقي .. أتحدث عن انتماء مضاد، مفارق، يمحو ما يجابهه، ومع ذلك يٌبقيه عالقًا في إبهام مغاير .. إنها محاولة تكييف أثر الجريمة "الخارجي" ليصبح مكوّنًا لمتعة الآثام المتراكمة في الداخل، حين يكون ذلك الأثر موضوع عمل، أو "أسلوبًا" لتخطي ذاته.

يمثل الانفصال Disontinuite الإرادة الجوهرية للصمت البدائي مقترنة بخديعته القهرية أي "الاتصال" حيث يكتشف الكائن نهايته .. حصيلة مغامرات الاتصال الفاشلة في الإيروسية الجنسية والانفعالية والمقدسة .. لكن اللامبالاة المطلقة Apathie ليست نفيًا حرًا أو اجتنابًا لعنف الوهم الاتصالي، ذلك لأنه يكمن أساسًا في اللغة، أو بالأحرى في لاشعورها كـ "صمت" قبلي، وبذلك لا مجال لتسكين "إيروسية اللغة" أي التمزق الخيالي للكينونة .. هي ليست طبيعة مجاورة في قائمة الوجوه الإيروسية: الأجساد والمشاعر والمقدس، وإنما يمكن القول إنها غريزة تلك الوجوه محتوية أقنعتها .. المشيئة المتجذرة، التي لا يستند حضورها على تجسداتها المؤقتة .. لذا كل خطوة في اتجاه "العزلة" هو تماد "لغوي" نحو المستحيل أو "الاتصال المطلق"، وليس تحررًا حيث لا يتوقف "الكلام" / مغامرات "الاتصال" مطلقًا مع الغياب الظاهري للآخر، ولا يتحقق "الصمت" بما أنه لن يكون أبدًا ذلك الصمت الأوّلي، أو ما وراء الكلام حقًا.

بذلك فالإيروسية "عنف الاتصال" تختبئ في الصمت، أو عتمة ما قبل اللغة المنطوية على الفردية / الانفصال كطيف "خامة" ينتج جسدًا / لغة .. تمثلات حسية تعلن الإيروسية بواسطتها عن نفسها، ولكنها لا تتجلى فيها .. تمرر وجودها ليس كحقيقة، وإنما كغموض غيبي .. كروح لا ممارسة، تُخفي سرها التدميري الممتلئ كاملًا بنقائه المتوعّد، والفائض بخيالاته غير المحكومة فيما قبل تمظهراته الجنسية والانفعالية والمقدسة.

ما يؤديه النقد الإيروسي هو تحويل التناص إلى استراتيجية كاشفة لعنف الاتصال اللانهائي بين النصوص المختلفة حيث يتداخل ما هو فني وشخصي وتاريخي، تصبح خلاله اللغة / الجسد في حالة تقويض متواصل لنفسها .. تجاوز مستمر لذاكرتها المعرفية .. بذلك لا تخلق اللغة "وهم الصمت" بما أن هذا الصمت / الكلام المتنكر ليس ناجمًا عن الرغبة في "استقرار لغوي"، وإنما تناوش "بدائية الصمت" بفعل سعيها المرتجل والمتلاحق لتغييب سلطتها .. الكفاح الشبقي المدوّخ لمراوغة هيمنتها الإدراكية أو سيطرة المعنى.

موقع "الكتابة" ـ 30 أغسطس 2020

الأحد، 23 أغسطس 2020

خبرة اللعب

 كان غريبًا ألا ينسحب بالرغم من أنه لم يكن لديه أي فرصة للفوز .. معظم فيشاته كانت "محبوسة"، وإعلان مكسبي مسألة وقت لا أكثر، لكنه واصل اللعب دون إبطاء كأنه لا يعرف أنه لا أمل له .. كانت طريقة لعبه تدل على كونه مبتدئًا، وهو ما بدا متوافقًا مع النقاط القليلة التي جمعها من أدواره السابقة .. فكرت في أنه تعلّم اللعبة منذ مدة قصيرة، ولهذا فإن عدم انسحابه ليس راجعًا إلى عناد أخرق بل إلى واجب يدرك أن عليه الالتزام به .. إلى ضرورة لا يجادلها عادة غير البارعين في اللعب بأن يستسلم للانتظار حتى النهاية .. كان يبدو كأنه مكلف باستكمال الدور طالما بدأه حتى لو لم تكن خسارته محل شك.

تخيلته رجلًا في منتصف العمر، يعمل موظفًا بمؤسسة حكومية، ويجلس الآن ممسكًا بهاتفه المحمول داخل حجرة المعيشة بمنزله، وفي وضعية توحي بصورة ما بأنه ضيف على المكان، بالرغم من البيچاما التي يرتديها، وزوجته التي تجلس بالقرب منه تتابع دراما تليفزيونية، وأطفاله المنهمكين حولهما في مشاغل مختلفة بين المذاكرة واللعب .. ربما كان له صديقان، أو ثلاثة على الأكثر، يعتبرهم كذلك فقط احترامًا للذكريات، ولا يلتقي بهم إلا في مواعيد متباعدة، مثلما يفعل مع أقاربه القليلين، وفي الأغلب لا يخرج من البيت مساءً إلا لقضاء غرض منزلي، حينئذ يحقق أمنيته في "التمشية"، دون أن تستفرد به أشباحها كمقامرة خالصة .. ربما يختزن هاتفه صورًا لنساء جميلات لا يعرف أسماءهن، ومشاهد ساحرة لا يميّز أي مدن تنتمي إليها، وأغان قديمة يسمعها حين يكون بمفرده كي لا يرى أحد عينيه وقتها .. ربما أراد طوال عمره اقتناء قطة، لكن خوفه من موتها وهو لا يزال حيًا حرمه من ذلك .. ربما لا يزال يراقب الطيور في السماء، ويمد كفيه لاحتواء قطرات المطر، ويعيد قراءة القصص المصوّرة الكلاسيكية التي يحتفظ بها منذ زمن طويل .. ربما يخبّئ عن زوجته وأطفاله سيجارة واحدة يستعيرها كل فترة وأخرى من أحد زملائه في العمل حتى يدخنها عندما يتركونه وحده مؤقتًا بالبيت .. ربما زرع بعض النباتات ـ من بينها الريحان مثلًا ـ أملًا في استنساخ شرفة طفولته .. ربما لا يزال يتأمل وجهه في المرآة، ويحلم في نومه الشاحب بأماكنه المهجورة وقد استردت الماضي في ألفته الأشد وطأة، كما يتلصص على الظلال المنكمشة التي تتبدد سريعًا في شقوق الفراغ .. تخيلت طبيعة ذاهلة لنظرته، كأنما يتطلع دائمًا إلى كل شيء رآه مرارًا من قبل للمرة الأولى.

في اليوم التالي بحثت عنه حتى وجدته وبدأنا اللعب .. لم يتبدّل مسار الدور عن الأمس، لكنني قررت اختبار رد فعله تجاه مضايقة تقليدية .. تعمدت التأخّر في رمي النرد كل مرة إلى الثانية الأخيرة من الزمن المحدد .. يفترض أن يفتت هذا تماسك أكثر اللاعبين قدرة على الصبر، خاصة لو كانت هزيمتهم مؤكدة .. مع ذلك استمر في الدور، بل ولم يرد عدائيتي في اللعب بتأخّر مماثل، وظل محتفظًا بإيقاعه السريع حتى الحركة الختامية.

لهذا تغيّر الأمر .. أصبحت لا أدخل اللعبة إلا من أجله .. لكي أرمي النرد دون تأخّر، وأحرّك الفيشات بطريقة سيئة حتى يفوز .. أصبحت أفعل هذا كل يوم حتى يكون سعيدًا للحظات .. حتى أطلب لروحي السلام من داخل قبري.

موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 22 أغسطس 2020

الأربعاء، 19 أغسطس 2020

سيرة الاختباء (19)

 تتقاطع كلمات سوزان سونتاج ـ التي كانت تريد جميع أنواع الحياة ـ في حوار باريس ريڨيو عن حياة الكاتب كأحوى الأنواع مع الأرق المتجذّر فيما يسبق الميلاد ربما، والمتفاقم لحظة بعد أخرى كلعنة، والذي كانت إشارتي الأولى له في رواية "سوبر ماريو" حين كتبت عن أنني لست "أخطبوطًا كونيًا": "لم أعش كل الحيوات، وأمت كل الميتات" .. أي حياة كاتب تقصدها سونتاج عندما نجرّد عبارات كتلك من رومانسيتها المألوفة؟ .. يمكنني الإجابة باستعارة أخرى، ولكن هذه المرة من إحدى "محاضراتي الصغيرة": "كانت الكتابة بالنسبة لي هي (الطبيعة الحقيقية) حينما كانت سلاحًا لتغيير العالم، وحينما أصبحت تعويذة سحرية تمكنني من تبادل ذاتي مع عناصر الوجود في غفلة مثالية، وحينما جعلتني موقنًا بأنني لم أعش حقا الحياة التي طالما استحضرت صورها الذهنية" .. ما الذي يعنيه هذا؟ .. حينما تشتمل حياة الكاتب على جميع الحيوات، فإنها في الوقت نفسه تؤكد وجودها كتذكير مزمن، ومتصاعد بأن هذا الكاتب لم يعش تلك الحيوات فعليًا.

لكن ثمة إجابة أخرى تتعلّق بأشكال الحياة التي يختبرها الكاتب .. أن تخوض المغامرة بقناع تؤمن مؤقتًا أنه وجهك الأصلي .. بتصديق ظاهري مطمئن إلى أن ما يحرّك خطواتك ليس إلا ذلك الشبح الانتهاكي الكامن في داخلك وراء كل يقين عليك ادعائه .. وفقًا لهذا فأنت لم تكن صديقًا أو رفيقًا لكتّاب وفناني المدينة التي تسكنها، وإنما كنت ذلك الشخص الذي يجرّب ما الذي يكون عليه المرء حين يصبح صديقًا أو رفيقًا لكتّاب وفناني المدينة التي يسكنها .. ما الذي يكون عليه حين يصبح عضوًا في "مختبر سرديات" .. ما الذي يكون عليه حين يصبح فاعلًا في "وسط ثقافي".

هل هناك ما يربط بين حياة الكاتب التي تتضمن كل الحيوات ولا يعيشها، والقناع الذي يتنقل به من وجود لآخر؟ .. يمكن تحديد هذه العلاقة على نحو مختزل في أن جميع صور "الحياة" ـ بالنسبة لي ـ لا يتم استهدافها بغرض الإقامة، وإنما الاختراق .. لا أريد جميع أنواع الحياة كي أستقر داخلها، بل من أجل تدميرها .. لتحريض عناصرها المتشابكة ضد نفسها .. يشبه الأمر غريزة خفية تنمو تدريجيًا على مدار العمر كجحيم ذاتي، لا تنفلت من لذته أكثر المشاهد الطفولية براءة وحميمية .. لهذا فالماضي ليس موضوع الحنين بشكل مطلق، وإنما الوعود المجهولة لهذا الماضي قبل تقويضه .. الوعود التي بالرغم من انفصالها عن الذكريات؛ كان يجب لغموضها أن يُخلق عبر كل واقع قديم .. إنها الغريزة التي لا تعلن عن مشيئتها إلا من خلال الكتابة .. الجحيم الذي لا يكشف عن إرادته الثابتة إلا بواسطة القصص القصيرة، خاصة تلك التي عن المطاردين دومًا من سخرية الأقنعة.

موقع "الكتابة" ـ 18 أغسطس 2020

الخميس، 13 أغسطس 2020

نجمة واحدة وريڨيو بلا قلب

صديقنا العزيز
نرجو منك أن تقوم بنشر المقالات النقدية التي كتبتها عن أعمالنا الأخيرة على موقع جودريدز .. نعرف جيدًا أنك توقفت منذ زمن طويل عن زيارة "قوّاد الكتب" هذا ـ كما تسميه ـ خاصة بعدما أشرت في سياق الحديث عن "نقد استجابة القارئ العربي"* إلى استنفاذ غرضك البحثي من استخدامه، لكننا في الوقت نفسه لا نعتقد أن إعادة نشر تلك المقالات من أجلنا سيمثل مشكلة كبيرة بالنسبة لك .. نرجو أيضًا ألا تتوقف كثيرًا أمام الخدوش الصغيرة التي عادة ما تتسلل إلى حفلات التمجيد، ونعني بذلك الريڨيوهات المهينة والساخرة التي دوّنها بعض القراء وسط المراجعات الاحتفائية لكتبنا .. أنت تعلم أنه أمر عادي جدًا، ويمكن لأي أحد أن يطالع ما كتبه بعضهم عن أعمال كافكا وساراماجو وموراكامي مثلًا حتي يتأكد من هذا .. وبالرغم من أن تهكم هؤلاء يمتد أحيانًا إلى الجوائز التي حصلنا عليها سواء كانت جائزة الدولة، أو جائزة ساويرس، أو حتى الوصول إلى قوائم البوكر، وبالرغم أيضًا من أن تدويناتهم تُظهر معرفة بالنكات الشهيرة في الوسط الأدبي كالتي تدور حول "لص ماركيز"، أو "بكّاء الجوائز"، أو "روائي الهابي إندينج"؛ فإننا لن نفقد أبدًا إيماننا بأن القراء هم الذين يمنحون أعمالنا قيمتها حتى لو كان بينهم تافه أو حاقد أو ابن لبوة لا تساوي حياته أكثر من نجمة واحدة وريڨيو بلا قلب.

خالص تحياتنا.     

*"نقد استجابة القارئ العربي ـ مقدمة في جينالوجيا التأويل" كتاب لممدوح رزق، صدر عن دار ميتا 2019

موقع "الكتابة" ـ 11 أغسطس 2020