الثلاثاء، 26 ديسمبر 2023

محفوظ ونوبل وكامب ديفيد... عن موقف صاحب "الثلاثية" من الصراع


الأحد 17 ديسمبر 202311:29 ص

سخَّر أديب نوبل نجيب محفوظ، سنوات حياته الطويلة (1911- 2006)، لشيء واحد أكثر من أي شيء آخر، وهو مشروعه الأدبي، وكان عليه أن يزيح من طريقه كل العقبات التي تقف في سبيل تحقيق هذا الطموح، لكن الإزاحة، ربما تبدو فعلاً عنيفاً وصدامياً، تتنافى مع الطبيعة المسالمة لصاحب الثلاثية. كما أنها تنطوي أيضاً على أشكالٍ من الأنانية والانتهازية وكان محفوظ نظيفاً منهما. من هنا كان عليه أن يلجأ إلى طرقٍ أخرى في مواجهة العقبات؛ أن يتجنبها ويتخطاها، عبر أسلوبين مصريين صميمين، هما "المراوغة"، و"التحايل".

المراوغة كان ينتهجها في المسائل السياسية، فمن غير الوارد أن نحصل على رأي أو موقف سياسي صريح لمحفوظ إزاء قضية ما، لأنه كان يعلم خطورة ذلك على إبداعه أولاً، كما أنه كان يُمرّر كل ما يُريد قوله، في الشكل الفني الذي اختاره، وهو "الرواية" التي تُوفر لكاتبها مساحة من الحرية، لتتخفى آراؤه وسط الألاعيب السردية، فلا أحد يستطيع أن يُمسك عليه شيئاً.

أما التحايل فهو الذي أعانه على العيش وفقاً للثنائية المتضادة "الموظف والأديب"، دون أن يكتسب شيئاً من طبائع الموظفين، أو تتعفر روحه بغبار المؤسسات الحكومية التي عمل فيها 37 عاماً. لكن هذين الأسلوبين تحولا على يد منتقدي محفوظ، إلى صفات نُعت بها صاحب "ثرثرة فوق النيل"؛ صفات من قبيل السلبية، والجُبن، ومهادنة السلطة. وكان محفوظ لا يُلقي بالاً لهذه الانتقادات، قاطعاً طريقه نحو تحقيق مشروعه.

عندما أُعلن خبر فوز نجيب محفوظ، بدأ يوسف إدريس حملته الهجومية عليه، فظل يُردد عبر تصريحات أدلى بها للصحافة المصرية والعربية، أن حصول نجيب محفوظ على نوبل إنما هو مكافأة له من جانب الصهيونية العالمية على تأييده للسلام مع إسرائيل، ولمعاهدة كامب ديفيد عام 1979

غير أن هذه الانتقادات تبدو ناعمة وهزيلة إزاء سهام الاتهامات التي انطلقت إلى صدر نجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب (تشرين الاول/أكتوبر عام 1988)، فثمة حرائق اشتعلت إثر فوز أول أديب عربي بنوبل، بجانب أجواء الفرح العارم التي سادت في جميع البلدان العربية، وافتتح القاص والكاتب المصري يوسف إدريس ماراثون الاتهامات هذا، بالأحرى ماراثون "التخوين".

كان يوسف إدريس يُمني نفسه بالحصول على الجائزة المرموقة، خاصة بعد أن أوهمه بعض المثقفين والنقاد بأنه تم تزكيته للحصول على نوبل، وأن اسمه مطروح بقوة، وعندما أُعلن خبر فوز نجيب محفوظ، بدأ إدريس حملته الهجومية والتخوينية، فظل يُردد عبر تصريحات أدلى بها للصحافة المصرية والعربية، أن حصول نجيب محفوظ على نوبل إنما هو مكافأة له من جانب الصهيونية العالمية على تأييده للسلام مع إسرائيل، ولمعاهدة كامب ديفيد عام 1979، وكذلك نتيجة لتجنب محفوظ الحديث عن القضية الفلسطينية، أو التنديد بالاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وبعد هذه التصريحات، انطلقت حملة هجومية شعواء من جانب بعض الكتاب العرب ضد أديب نوبل تتهمه بالتطبيع مع الكيان الصهيوني الذي كافأه بأهم جائزة عالمية حسب زعمهم.

في كتاب "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" للكاتب والناقد رجاء النقاش، يردّ محفوظ على الاتهامات التي وجهها له يوسف إدريس، حيث قال نصاً: "أتصور أن الصهيونية العالمية التي تحدث عنها إدريس ضحكت في سرّها على كلامه. هل بلغت السذاجة بالصهيونية العالمية أن تسعى إلى منح أديب عربي جائزةً كبرى بهذا الحجم لترفع من شأن العرب، وتلفت أنظار العالم إليهم وإلى أدبهم، في حين أن العرب هُم العدو الأول لإسرائيل؟! ثم ما معنى أن الصهيونية أرادت أن تكافئني على موقفي المؤيد لمعاهدة السلام. إن الصهيونية لو أرادت أن تكافئ كاتباً على موقف تُشجعه هي، فقد تضع في يده أو في حسابه البنكي مبلغاً من المال على سبيل الرشوة، لا أن تسعى إلى حصوله على جائزة أدبية هي الأولى في مجالها في العالم".

ربما لم يتخلَّ نجيب محفوظ عن أسلوبه المراوغ في التعبير عن رأيه إزاء أي قضية سياسية، سوى أخطر القضايا العربية وهي "الصراع العربي الإسرائيلي"، فلم يكن رأي محفوظ واضحاً فقط كالشمس، بل كان متهوراً وغير مدروس.

قبل عدة سنوات من توقيع معاهدة كامب ديفيد، وبالتحديد في أوائل عام 1973، وقّع نجيب محفوظ مع عدد من الكتاب والمثقفين، على بيان يُطالب فيه الرئيس أنور السادات بضرورة إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، عبر الاتجاه إلى التفاوض مع إسرائيل، وقبل هذا البيان، كما يحكي الكاتب محمد سلماوي في كتابه "في حضرة نجيب محفوظ"، كان الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي في ندوة بجريدة "الأهرام"، وحوله عدد هائل من الكتاب والأدباء، وإذا بنجيب محفوظ يسأله: هل من الممكن أن نحارب إسرائيل وننتصر عليها ونُحرّر أراضينا؟ فرد عليه القذافي: مستحيل. فقال محفوظ: إذاً التفاوض والسلام هما الحل.

وفي عام 1976، انفتحت نيران الاتهامات والتخوين في وجه نجيب محفوظ، بعد حوار أجراه في السابع من كانون الثاني/يناير من العام المذكور، بجريدة "القبس"، وكانت الإصدارات الصحافية في سباق محموم حول صياغة العناوين النارية التي تلتهم صورة محفوظ ومكانته الأدبية والثقافية، ففي سياق الحديث عن حرب تشرين الأول/أكتوبر والمسار السياسي الذي اتبعته مصر بعدها، قال محفوظ نصاً: "إنني أريد السلام وأقبله، حتى لو اقتضانا هذا التنازل عن جزءٍ من الأرض، فالأرض لا قيمة لها في ذاتها، الأهم هو الهدف، ويجب أن يكون هدفنا هو بناء الحضارة، نحن نضحي بالإنسان وندفعه إلى الحروب ليُقتل من أجل الهدف، فلماذا لا نضحي بالأرض إذا كانت هذه التضحية ضرورية لتحقيق الهدف الأكبر وهو السلام من أجل بناء الحضارة".

في عام 1976، انفتحت نيران الاتهامات والتخوين في وجه نجيب محفوظ، بعد قوله: "إنني أريد السلام وأقبله، حتى لو اقتضانا هذا التنازل عن جزءٍ من الأرض، فالأرض لا قيمة لها في ذاتها، الأهم هو الهدف، ويجب أن يكون هدفنا هو بناء الحضارة".

هذا كلام خطير لا شك، وهو منافٍ تماماً لطبيعة محفوظ الكتومة المراوغة، وكان من الطبيعي أن يُدان ويُهاجم، لكن البعض قد تمادى في هذا الهجوم إلى حد التجريح والتخوين، واتهمه بعض الكتاب العرب بأنه يعمل ضد الحقوق الفلسطينية، بل أنه لا يرى الشعب الفلسطيني على الإطلاق، مدللين على ذلك بأنه لم يكتب أيّ عمل روائي أو أدبي عن القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب المركزية.

وبرغم أن معاناة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة على وجه التحديد كانت جزءاً أساسياً في خطاب نوبل الذي ألقاه نيابة عنه في الأكاديمية السويدية الكاتبُ المصري محمد سلماوي، إلا أن هذا لم يُغير من الأمر شيئاً، وظل محفوظ بالنسبة لبعض الكتاب العرب في خانة "المُطبعين مع الكيان الصهيوني"، برغم أن ياسر عرفات، كان قد هنأه بحصوله على نوبل وكذلك الشاعر محمود درويش، وغيرهم من رموز النضال الفلسطيني.

ما يحدث الآن من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، وكذلك الضفة الغربية، يُظهر كلمة "السلام" ملطخةً هي الأخرى بدماء القتلى الفلسطينيين، ولأن نجيب محفوظ، القامة الأدبية الكبيرة، هو واحد من أول الداعين إلى إقامة السلام مع إسرائيل، لإنهاء قضية الصراع العربي الإسرائيلي، رأينا أنه من الضروري، مراجعة هذا الموقف لأهم أديب عربي، في ضوء الاعتداءات الصهيونية على الشعب الفلسطيني.

في حواره مع رصيف22 رأى الدكتور وليد الخشاب أستاذ الدراسات العربية بجامعة يورك بكندا، أن موقف نجيب محفوظ المؤيد للسلام مع دولة الاحتلال كان متسقاً مع قيمه، ومنطلقاً من موقف أخلاقي محبذ للسلام العالمي وليس فقط على الحدود بين مصر وجيرانها، مشيراً إلى أن أديب نوبل كان أكثر ميلاً للحس المصري القُطري، والذي عبره تتحلل مصر أو تتحرر من التزامات عربية -تجاه فلسطين مثلاً- ، وتوفر نفقات الصراع والتعبئة المتواصلة في إطار صراع سلمي أو حربي إلى التنمية الاقتصادية، ليعيش المجتمع المصري في حالة من الاسترخاء.

هذا هو تحليل الدكتور الخشاب لموقف نجيب محفوظ الذي يراه لا غبار عليه من حيث المبدأ، لكنه يواصل: "الإبادة العرقية التي يتعرض لها إخواننا في غزة تضعنا أمام حقيقة مؤلمة، وهي أن اليمين المتطرف في دولة الاحتلال قد استمر في الصعود منذ بدء عملية السلام مع مصر منذ نصف قرن، وقد ازداد ذلك اليمين في تطرفه، وبالتالي من السذاجة أن نتصور أن قواعد اللعبة وموازين العلاقات بين مصر وجيرانها إلى الشرق لم تتغير. ومن السذاجة أن نتصور أن النظام المهيمن على إسرائيل يحافظ على السلام مع جيرانه العرب من باب احترامهم، لا من باب تقديره لخسارته لو ناصبهم العداء عسكرياً".

ويضيف الخشاب أن ما تفعله إسرائيل بغزة هو بمثابة رسالة إلى مصر والأردن وسوريا ولبنان، وإلى الدولة الفلسطينية في الضفة، مفادها: التزموا بهيمنتنا عليكم وإلا أصابكم ما يصيب الغزيين.

وفي مسألة العلاقة بين حصول نجيب محفوظ على نوبل وتأييده للسلام مع إسرائيل، يرى أستاذ الدراسات العربية، أنه من الظلم تصور أن نوبل ذهبت لمحفوظ بفضل تأييده للسلام مع إسرائيل، "فنجيب محفوظ عملاق أدبي بصرف النظر عن مواقفه السياسية. ومع ذلك فبالتأكيد أن نوبل لم تكن لتمنح لمحفوظ لو كانت له مواقف حادة في مناهضة إسرائيل. ولهذا فلم يكن ممكناً أبداً أن يحصل محمود درويش على نوبل برغم أنه أهل لها، فهو يمتلك كل مقومات الحصول على الجائزة إلا في ما يتعلق بالدفاع عن الحق الفلسطيني".

وفي حين يرى صاحب "مهندس البهجة" وليد الخشاب، أن انتقاد بعض المثقفين لموقف محفوظ منذ ما يقرب من خمسين عاماً أمر مقبول، بسبب تسيد الموقف المناهض للسلام مع إسرائيل في ذلك الزمن، إلا أن الروائي والناقد ممدوح رزق له رأي آخر، حيث يقول لنا: "هؤلاء الكتّاب الذين هاجموا محفوظ لا يريدون مؤيدين ومساندين لـ'ملائكيتهم' في 'حروبهم الانتقائية' وحسب، وإنما قبل كل شيء يريدون الصامتين عن ما يقوّض 'المبادئ' التي ترتكز عليها آلياتهم الرقابية والترهيبية والعقابية... يريدون من لا يفضح انتهازيتهم المعروفة لـ'القضايا الكبرى' من أجل ممارسة العنف والتنكيل تجاه الآخر، اكتساباً للقيمة المجانية، تعويضاً عن الهزائم والآلام الشخصية، وتضليلاً للعجز عن 'الفعل المُغيّر والحاسم' بـ'الكلام' حول 'موضوع عام' لا يكلفهم بأي 'فعل'، بل على العكس، يكافئهم على 'الخزي' أو 'العار' الذي لا يتحملون مسؤوليته، ولا دخل لهم في استمراريته، ولكنهم يجيدون الصراخ والنحيب والقتل البلاغي من حوله".

وبرغم أن الروائي الشاب لا يؤيد فكرة السلام مع إسرائيل ويراها ساذجة ومستحيلة، إلا أنه لا يسخر من الدوافع التي جعلت نجيب محفوظ مؤيداً لفكرة السلام لأنه بحسب تعبيره"لست نجيب محفوظ؛ لم أعش حياته، ولم أجرّب ما مرّ به طوال وجوده على الأرض، ولم يكن جسدي هو الجثة التي خلّفها موته... يمكنني -بل وأفعل ذلك بشغف- السخرية من سلطةِ اسمه الأدبي المتوالدة عبر الزمن، لكنني لست في عداء مع ما يعتقده أو ما يتفوّه به".

ويذهب ممدوح رزق إلى نقطة مغايرة في هذه القضية، حيث يرى أن الهجوم على محفوظ كان نابعاً في الأساس من موقفه المختلف عن الأغلبية، وليس بسبب الموقف في حد ذاته، مشيراً إلى ديكتاتورية الأغلبية، وما تقوم به من أساليب عقابية وترهيبية، "كان هناك احتياج إلى أن يكون أديب نوبل مثل الجميع أو الأغلبية التي ترفض السلام مع إسرائيل، أي أن يفكر ويتحدث بنفس الطريقة التي يفكر ويتحدث بها كل الذين يؤمنون بتحرير الأرض الفلسطينية كاملة، وإلا فالجزاء 'الأخلاقي' لن يتعلق بنجيب محفوظ فحسب، وإنما بتاريخه الأدبي أيضاً... ستكون القضية الفلسطينية 'سلاحاً نقدياً' لاستهداف أعماله، ومطاردتها بالمعاني والدلالات 'التخوينية' أو 'التغييبية' في أفضل الأحوال".

برغم أن معاناة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة على وجه التحديد كانت جزءاً أساسياً في خطاب نوبل الذي ألقاه الكاتب محمد سلماوي نيابة عن محفوظ في الأكاديمية السويدية، إلا أن هذا لم يُغير من الأمر شيئاً، وظل محفوظ بالنسبة لبعض الكتاب العرب في خانة "المُطبعين مع الكيان الصهيوني"

وأوضح رزق أن موقف نجيب محفوظ يُذكرنا بشيء من العسير جداً الانتباه إليه فضلاً عن تبنّيه والإيمان به، وهو "كيف تكون 'الحرية' التي تقف وراء أي موقف مختلف 'غير تحريضي' سبباً في 'الإبقاء على حياة صاحبه'، لا قتله؟… الحرية التي تكوّنت على أساس ماض شخصي لم يختبره 'الآخر'؛ وذلك كافٍ وبديهي لأن يكون انحيازك -مهما كان جماعياً- شأن خاصاً بك، وليس سلطة مطلقة".

ويأخذنا أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة القاهرة الدكتور خيري دومة إلى زاوية أخرى في قراءته لموقف نجيب محفوظ من الصراع العربي الإسرائيلي، حيث يقول إن نجيب محفوظ اتخذ في هذه القضية وفي غيرها من القضايا التي طرحها عليه عصره، موقفاً فلسفياً عقلانياً، مشيراً إلى أنه كان مؤمناً بالعقل والعلم في إدارة أمور الحياة الواقعية. ولم يعبر محفوظ عن موقفه هذا في رواياته أو قصصه، وإنما عبّر عن موقفه في الحوارات الصحافية، أي أنه اعتمد على مقاصده الواعية. أما في رواياته، فالأمر مختلف، ويخضع لمنطق داخلي خاص. حتى في رواياته –خصوصاً "اللص والكلاب" مثلاً- يعرف محفوظ أن الانفعال والعواطف والانتقام أمر بشري وطبيعي في أبطال رواياته الخيرين، لكنه ينتهي بهم إلى مصائر مظلمة ما لم يأخذوا العقل والحكمة في اعتبارهم.

ويوضح أستاذ الأدب الحديث أن موقف أديب نوبل لم يكن نابعاً من ثقة في إسرائيل بقدر ما هو نابع من رؤية تقول إن الحضارة وليس القوة هي التي تنتصر في النهاية، وأن من الأفضل أن نتخذ هذا مدخلاً للقضية. ويضيف: "في كل ما جاء بعد عملية السلام الطويلة، وصولاً إلى ما نراه من مذابح مرعبة في غزة الآن، خيبت أفعالُ إسرائيل في كل مرةٍ توقعاتِ محفوظ الذي كان بالفعل حذراً في تعبيره من البداية. ومع أننا في غمرة الانفعال والبكاء لأطفال غزة نكاد نصل إلى رفض قاطع لرأي محفوظ في طبيعة العلاقة بيننا وبين إسرائيل، فإن صوته العاقل يمثل جزءاً أصيلاً من رؤية المصريين غير المعلنة: 'يجب أن نستعد، لكن يجب في النهاية أن نجد طريقاً غير الحرب لأن نتائجها كارثية حتى ونحن نحقق انتصارات تكتيكية'".

الخميس، 14 ديسمبر 2023

عن "الفشل في النوم مع السيدة نون"

 

إغماءة الكحول

كانت أنفاسك بالغة الوهن، ومع ذلك كانت رائحة الكحول التي تفوح منها ثقيلة وعاصفة، كأنها سر روحك .. ارتميت مغمض العينين، منفرج الفم على أرض حجرتك في نهاية الصالة بعدما قطعت المسافة بينها وباب الشقة الذي فتحته لك أمي آخر الليل مترنحًا، تقاوم سقوطًا محتومًا ..  أمي التي صرخت فأسرعتُ إلى هناك بين أبي وشقيقتي ووجدتك في تلك الحالة فلم أعتبرها سوى فرصة سانحة لا ينبغي على طفل مثلي أن يفوّتها .. جلست فورًا على ركبتي بجوار جسدك الهامد وبدأت منتشيًا في تدليك صدغيك مع تربيت متلاحق على خديك .. هكذا يعيدون الوعي إلى فاقديه على شاشة التليفزيون وكان عليّ أن أثبت براعتي في تقليدهم .. لم أفكر في الأمر إلا من ذلك المنظور .. ثلاثون سنة، لم أر في تلك الليلة أكثر من نجاحي في إفاقتك والتي أعلنتها شهقة خافتة مقترنة برعشة جفنيك، بينما أخذت عيناك تُفتحان تدريجيًا .. أين كنت؟ .. برفقة من؟ .. ما الذي حدث؟ .. كان من اليسير الإجابة على تلك الاستفهامات من قبل أن تتجسد في الذهن استنادًا إلى معرفتنا بك .. كنت مع رفاق السوء في شقة أحدهم وأفرطت في الشرب .. لكنها لم تكن الإجابات الصحيحة .. كانت الإجابات السهلة فقط .. كان الوصف المختصر للأمر وليس حقيقته .. الاستفهامات نفسها لا يجب أن تصاغ بهذه الطريقة ولا حتى أن توجه إليك .. كان السؤال المنطقي في تلك الليلة: من هذا الذي ساعدته على الإفاقة من إغماءة الكحول؟ .. كان يجدر بي التوصل إلى رد حاسم قبل موتك ولكنني انتظرت .. انتظرت طويلًا جدًا دون أن أشعر بضياع الوقت .. دون أن أشعر بأنني مطالب بالرد أصلًا، كأن تلك الليلة ـ كسائر الليالي ـ تخصني وحدي .. انتظرت حتى أصبح العالم خاويًا تمامًا .. جسدك ليس هنا، ماضيك مدفون داخل قبور أصدقائك وأسفل حطام أماكنكم القديمة، أما التذكر فليس إلا توطيدًا خبيثًا لجسامة الفراغ .. لا شيء يمكنني أن أحاول إعادة الوعي إليه .. لا شيء يمكنه أن يفيق جسدي الهامد، المتناثرة أشلاؤه بين القبور والحطام .. الأشلاء التي تفوح منها رائحة كحول الثمانينيات، الذي مررته أنفاسك إلى روحي وأنا أدلك صدغيك وأربت على خديك بيدين كارتونيتين.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة. 

الخميس، 7 ديسمبر 2023

سمكة زينة في صحن الخلود: الفناء مغامرة شعرية

في المجموعة الشعرية "سمكة زينة في صحن الخلود" لرضا أحمد، والصادرة عن سلسلة "الفائزون" بالهيئة العامة لقصور الثقافة؛ ثمة لغة تتشكل وفقًا لامتزاج متعدد بين الحدة والتمزق، تكشف بواسطته الذات عن استعارتها لخطاب الفناء كي تتكلم نيابة عنه بينما تتحدث عن نفسها. ذلك يبدو كأنه محاولة ضمنية، مراوغة، ولا تخلو من هزل بالطبع لاستنطاق هذا الفناء على نحو فعلي. كأن الذات تستخدم شعريتها في دفع الفناء لتعرية جوهره بدرجة النقاء القصوى أي بخالص فداحته، ولكن من الجانب المقابل لسطوته. لا من موضع غيبيته المعتم وإنما عبر بصمته المقهورة في العالم الممثلة في الذات، التي تقدم نفسها ظاهريًا ككائن يحكي سيرته وحسب. كائن يحفر صورة الخراب والقمع والتنكيل في مظاهره الرقابية والاستجوابية والعقابية المهيمنة، باعتبار ذلك الكائن مجرد فكرة استعراضية، عاجزة ومسجونة في ذهن المطلق. تحمي المطلق بفقدها المتواصل لكل ما تتوهم امتلاكه؛ حيث كل حلم بالنجاة ليس إلا تعميقًا عفويًا خبيثًا لعلة الوجود المبهمة، الغائرة في جسد الكائن. فكرة مؤقتة تختبر الألم والبؤس والتيه دون أن يكون بوسعها أن تصبح شيئًا مناقضًا لا يُقتل، متحرر ومحصن وخالد، أي ليس ناجمًا عن لغة. فكرة تأخذ دور الدوبلير في لعبة الإثم، تخضع لكل جلاد بوصفها انتهاكًا كونيًا. مصدرًا للذنب كبديل لذنب القداسة. نقرأ في قصيدة "سمكة زينة في صحن الخلود":

سأقول أنني غنيت

وأنني أعرف الصهيل والهدير والآلام الأخرى؛

لسنا في حال أفضل

لكننا على الأقل

لا نغمس لقمتنا في الطين

ولا نضيق على أولياء الله

زوايا الأضرحة،

لا نعاتب الرب خفية

ونطمئن ذئاب الزمن على خرافنا الهادئة؛

أوباش وحفنة من العجزة

نحن

حين نخرج لندافع عن الوطن في الظل

نترك دقيقنا المالح يعج بالديدان

وسواقينا تعيد طلاء الماء بالصدأ،

نهرب إلى الإسفلت؛

سيارات أهدرت المسافات كلها

ولم تجد في الطريق

دارا واحدة.      

إن الذات حينما تتحدث إلى نفسها / الآخر بالكيفية التي تجعلها تبدو كأنما الفناء يعرض جسامته من خلال صوتها؛ فإن ذلك يسعى لإكساب ذلك الفناء الشعرية اللازمة لجعله مفككًا لنفسه، مؤوّلًا لشره، كاشفًا عن سره. ليس مجرد مصير مرعب يتحدث بلسان العابر الخاضع لهذا المصير كمفارقة إيحائية. لأن الفناء ليس ناتجًا عن حياة حقيقية وإنما هو الحياة التي التهمها الخلود استباقيًا. الحياة التي تدعي أنها ليست الموت، أنها ليست النهاية، وكأن النهاية لا تسبق دائمًا الحياة المفترضة، وكأن "الحياة" ليست نتيجة النهاية الأزلية التي تتقدم على كل وعد بـ "الخلود". الفناء هو المشيئة التي قدّرت تفاصيل الزمن أكثر من كونه يقينًا يعقب تبدده.

الطريق بين عينين

هوة سحيقة

جرح عميق بين ضمادتين،

فلا تعش كذبتك طويلا؛

ليس للزمن وجوه يألفها

ولا للمكان سماء لا تتنازع فيها البنادق

ولا أنت بالكبش الثمين

ليهاتفك الوحي

إن لم يقتلك التدافع في طوابير الخبز

ستقتلك خطواتك

في الطرق المعبدة بشعائر الرب.

"كل ما تقوله سيستخدم ضدك"

فلا تظن أنك في مأمن

الأتقياء سيمتطون ظلك

ويصرخون:

أين كنت حين تجعدت بشرة الشمس

ونمت على ذراع القمر الخفافيش

والليل قادم؛

سيقشرون رأسك كتفاحة معطوبة

بحثا عن خطيئة آدم.

صوت الفناء إذن في الباطن الخفي لصوت الذات. يتحدث بضمير الأنا في صمت الشعرية. في أغوار لغة رضا أحمد. يقول عن نفسه ـ من وراء جحيم الذات المتكلمة ـ بأن سره لا ينكشف إلا بقدر ما تحصده الشعرية من غموض مضاعف وأكثر تعذّرًا. الشعرية التي تعيّن "المشهد" كمجابهة. المشهد المنسوج من الحدة والتمزق. المرئي في مقابل الغيبي. لكي يرى الغيبي نفسه ـ حين يمتلك صوتًا بشريًا مضمرًا ـ فيمكن للذات أن تبصره في إذعانها المرئي له. أن تتقمص غموضه. تؤجل كابوسيته في زمنها الداخلي. تتفاوض مع الأمان باعتباره شبحًا. تنفلت من بلاغة الحكمة، أو تلامس حافتها الغائمة. تحرّض المجهول على الصدق حين يتفاخر بأكاذيبه. وكأنه مجاز التبادل بين الذات والغيب. بين الجحيم والفناء. المجاز الذي يكافح لتضليل اللغة. الذي يبقى عالقًا في اللغة. مشروطًا بإكراهاتها. وكأن الشعرية هي الكفاح في حد ذاته لجعل اللغة تقاوم نفسها. تتفتت ذاتيًا كما يليق بأشلاء "مخلوق" لم تتوحد على الإطلاق وإنما تم استبدالها بسراب التكوّن . الشعرية التي تمثل الخلود المضاد. التي تحوّل الفناء إلى مغامرة تراهن خلالها الذات على دمائها لكي تصبح أبديتها الخاصة. أثر سمكة الزينة في فراغ الصحن.

بيده الخضراء

كان الحب يقظًا

لم يدع لقاءنا للصدف؛

أريد ليلة بطول نجمة بيضاء

أكتب عليها طالع رجل لا يفارقني

أريد حديقة انتظار لا تذبل فيها عيناي،

مَن يدير هذه الضجة في الخارج؟

مَن علق النجمة في سماء نائية؟

المسافة ليل،

قدمي حائرة،

رأسي نائم في أصيصه

وجرادة تبحث بين أشواكه

عن وجبة عشاء.

تفصح الذات عن هذه الأبدية بشكل واضح في قصيدة "في قلبي أبدية معك". الفناء يتكلم عن نفسه بينما تتحدث الذات عن الفراق، الذبول، النأي. هكذا تعرّف كلمات كالحب، الليل، النجمة، السماء. تعرّف بواسطة دراما البتر والتناثر التي تشيّدها رضا أحمد في قصيدتها. البتر والتناثر كفعلين متلازمين، متزامنين، يشكلان حدثًا واحدًا، قديمًا، ملغزًا، يسبق الكلمات ويخلقها، ليختبئ الزوال في صدوعها العمياء. "من يدير هذه الضجة في الخارج؟"، سؤال يبدو ساخرًا لو نظرنا إليه من وعي الفكرة الاستعراضية التي يجسدها الكائن، لو أنصتنا إليه بنبرة "سمكة الزينة". ذلك لأن العرض هو الفناء الذي تحوّل خطابه المستتر شعريًا إلى ذات "يأكل الجراد من رأسها". نقرأ في قصيدة "وحوش في وردية ليلية":

أفكر أننا منذ ساعة وجدنا علاجًا للخوف

بوضع  الألم على طاولة

تحفها القفازات الدامية وصلاة طبيب،

فركنا الحزن في منديل

يخلصنا من النداء الأسير للوداع

وارتعاش القلب،

أنت وحيد

وأنا أنتظرك كل ليلة

كي لا تفقد أحلامك

وأفقد لعبتي المفضلة.

في هذه المقاربة تبدو رضا أحمد وكأنها تعيد تصوير الزوال خياليًا منذ البداية، أي منذ أن كانت قصة العالم خامة متوارية في الظلام الغيبي؛ فتشكل عناصر بدئها ومسارات حكاياتها عبر الذاكرة الشخصية للأنا الشاعرة، بواسطة قصصها، دموعها، الكوابيس التي تحتل موضع حضورها. لكن هذا التصوير يبدو وكأنه يرتب هذه الذاكرة الشخصية بينما "يحكي قصة العالم" بأثر رجعي. ينقّب عن جذر الخوف، الذي يمكن أن يتحوّل ـ بهذه الطريقة ـ إلى لعبة لا تعوّض الذات عن عدم اقتلاعه، ولكنها تناوشه، تخاتل ترصده، لا تسمح له بأن يبقى مجردًا من الخدوش. يبدو أيضًا ترتيب الذاكرة كأنه هو ما يقود الفناء لتفكيك نفسه، ذلك لأن الفناء ليس نهاية الخوف وإنما أصله وطبيعته. الخوف الذي يستعمله الخلود حيث لا حياة تغاير الموت. حيث لا شيء سوى الموت. الموت الذي يوهم بالحياة عبر جمود قاتم ولئيم يدعي الحركة والتبدل ويُسمى "الزمن". نقرأ في قصيدة " سأنتظر الموت في شرياني التاجي":

الوحدة

أزيز متقطع لشريطك الجيني

يباعد بينك وبين مرآة

تأكل بنهم أرواحك السبع،

لو قلت إنني تفرجت على حياتي من الدور الرابع

ستصدقني عضة البرد

والبومة التي تتسكع الآن على نافذتي،

أنا رأيت نفسي يا عالم

وعرفتها...

بعد عشرين عامًا من الآن؛

عجوزا تهذي في جنازة

تحمل في حضنها راديو كقلب حبيب يخفق

راديو مازال بشوكه ودمه

ووظيفته القديمة،

تحتفظ بالأمل في برطمان أزرق بجوار الكمون

واليأس منشور مع الفلفل الأحمر في البلكونة،

ببعض الحبوب تطعم يمامة جريحة

وباليمامة تنقذ غرابًا أعرج،

تنزوي ذاكرتها في كل رائحة مألوفة

وتصلي على كسرة ضوء،

يقول طبيبها أن الأبدية دودة عملاقة تأكل كبدها

فتضحك،

تلك القهقهات تتدلى فوق رأسها كل ليلة

فتقطف منها واحدة

تبتلعها مع حبة مسكن

وتنام.

يرتب المشهد الذاكرة الشخصية كمجابهة تعيد تمثيل الفناء، ليكون هذا الأداء استشرافًا لا للذات فحسب، وإنما لما سيصير إليه الفناء بالضرورة في ادعائه "الحياة". ما ستكون عليه الوحدة، المرآة التي يمضغ الزمن الملامح والأجساد بداخلها، البرد. الفناء يستشرف نفسه كبومة تتسكع على النافذة بواسطة البصر البشري الذي يشاركها / يتوحد معها في تفحص لحظة الرؤية الممتدة في الوقت. هذيان الموت، ثرثرة العالم كونس معذّب، الأمل الصدئ، اليأس الناضج دومًا، الجروح التي يلتهم كل منها الآخر، الانطواء في ومضات وشظايا الحنين، التوسل في ظل الظلام. ما تتغذى عليه "دودة الأبدية". ما يصنع "الأبدية الخاصة" التي تتلصص على الفناء بضحكات وجع مزمن، ما يؤلف عزفًا منفردًا كما في قصيدة "عزف منفرد":

إنه جسدي أو خرابي

لائحة أمراض تمشي على قدمين

طرحها أوراق تهذي بألم وقيح

ثمارها أقراص أسبرين

فلا تسألني عن بيت تقصده

ظلي توابيتك التي لا تعد،

في الجُرح أسمع دبيب حواسي

وهي تغلق على خوفكَ الباب.

تعزز هذه القصيدة حالة "العراء" أو "الوحشة" التي تنسجم مع التسلط القدري للنبذ، الإقصاء، الجسد المطرود من الخلود، من حصانة الخلود، بكل ما يعنيه ذلك وينتجه. العراء الذي يجعل الخوف ملاذًا حين تراهن الذات على شعريتها في مواجهة زوالها المحتوم. الوحشة التي تجعل الألم سكنًا حين تبني الذات مشهدًا وعرًا ومتهدمًا  لغيابها الأبدي في مواجهة "الأبدية" نفسها. صوت الخراب الشاحب والمتقطع من وراء باب أو غطاء تابوت.

أخبار الأدب

3 ديسمبر 2023

تحميل كتاب "وهم الحضور"