الأحد، 17 مارس 2024

كيف يخلق الخيال النقدي نصًا شبحيًا؟ (1 ـ 2)

لنعزل الأمر ـ مؤقتًا ـ عن الأقاويل حول الكتّاب في الوسط الأدبي وحيواتهم الخاصة وعلاقاتهم السيبرية والواقعية، ونتأمل الفكرة في ضوء الاستفهام المطروح بمقالي “الممارسات الرقمية والنص المُرجأ” والذي يعد مدخلًا لهذه الدراسة:

“هل يمكن للفكر النقدي أن يتخيّل “يوثّق” نصًا “سرديًا مثلًا” لم يُكتب بعد، ويستند في “افتراضه” على “ممارسات رقمية” تبدو ظاهريًا “غير نصّية بالمعنى الأدبي” أي تستعمل الوسيط المعلوماتي، أو الأداة التي تعتمد عليها هذه الممارسات ليس في نقلها بصورة مرئية وحسب وإنما في تكوينها وتحوّلها أيضًا؟”. “1”

إن الخيال النقدي في تشريحه لهذه الممارسات من أجل أن يخلق “نصًا شبحيًا”؛ يطارد شكًلا غير تقليدي من الأصالة الفنية التي كان يبحث عنها السرياليون في أعمالهم .. يكشف عن جذور وأساسيات الصراع المحتملة لهذا النص من قبل أن تتشكل بصماتها كبنية “أدبية” .. يحرر الإلهامات والتوترات المفترضة من “الممارسة” نفسها دون استبعادها لكي تتحوّل إلى إشارات وبراهين على نص يناوش “كتابته” .. ذلك لا يخاتل ما هو قيمي أو أخلاقي فقط، وإنما ما هو لغوي بالضرورة؛ فالتحديات التي تبناها السرياليون في أعمالهم اعتمدت على تقويض الأعراف وخصوصًا معايير وقواعد اللغة، وما ينقب عنه الفكر النقدي على هذا النحو هو لذة “استباق” تلك الخلخلة .. الهدم المتقدم على التكوين النصي للحقائق والمعتقدات .. انتزاع الخيال كـ “خامة” تعبيرية مغوية من قلب الاشتباك الرقمي أو الواقعي لتعيينه كمدى كتابي منفلت من الصياغة، ويحوم حولها في الوقت ذاته .. التلصص على اقترافات اللاوعي الممكن استعمالها كطيش فني ينتهك الأطر الاجتماعية والمحظور الثقافي:

“ومثلما كُتب في أدبياتهم “فيما يتعلق بتحرير اللغة، سعت السريالية إلى هدفها. تكتسب اللغة معاني خاصة في هذا النشاط الذي لا يقتصر على مراعاة الـ ‘كلام’ فحسب، بل يشمل أيضًا الإملاء الحر لللاوعي. في قاع كل تطور، نلمس الرغبة مرة أخرى ودائمًا منذ حركتها الأولى. إنها الهدف النهائي لكل بحث وسعي وتجربة، كنقطة انطلاق بين الخيال والواقع، حيث تظهر في النشاط الإبداعي حدود متنوعة. أي السعي والمحاولة التي يمكنها الوصول إلى القيم المطرودة بشدة من قبل الرقابة الصارمة للعقل والنظم، وتجعلها قابلة للفهم”. “2”

يتجاوز الخيال النقدي بهذه الكيفية التوقعات الجمالية المرتبطة بأنماط الذاكرة النصية لدى أفراد الممارسة، أي تخطي ما يمكن النظر إليه كتصورات اعتيادية ناجمة عن كتاباتهم وتأثيراتهم القرائية، وكأن هذا الخيال يقتفي أثر “سيرة ذاتية” مخبوءة لذلك الكاتب الذي ربما لم يراود ذهنه أي احتمال لوجودها بينما يبدّل من أماكن حضوره الجسدي حول الشاشة .. يقوده نحو الرؤى المستترة في صدوع رغباته، وخارج الحكم العقلاني والمنضبط لكلماته الخاصة .. يرشده إلى العثور على كوابيسه التي لم يحلم بها قط .. ذلك ما ينجزه نص لم يُكتب بعد .. نص شبحي.

إن ذلك يمثل فك أسر المعنى من قبل حدوث “الكتابة” .. ما يعادل تفحص التفكير غير المقيّد الذي يسبق إحدى لحظات الكتابة التلقائية عند السرياليين كما كانت تستهدف ألعابهم اللغوية الابتكارية .. ما يتيحه الخيال النقدي كأفق لا محكوم للتشارك النصي حينما يجعل “الممارسة” نوعًا من “تبادل الكتابة” بين أفرادها ـ وهو غرض سريالي جوهري ـ فضلًا عن انفتاح ذلك الأفق دون حد لمن خارج تلك الممارسة كي يصبح عنصرًا لها، أي “يكتبها” استنادًا إلى الهواجس والتجليات النقدية التي وثقتها .. بهذا يمكن تأمل العلاقة بين دور الوسيط المعلوماتي في تكوين وتحوّل النص “الشبحي” الذي خُلق نقديًا، وبين الانحياز التفكيكي الذي يقف وراء الكتابة الأوتوماتيكية عند السرياليين، ولعل تناول د. سعيد يقطين للنص الإلكتروني في كتابه “من النص إلى النص المترابط” يشير إلى هذه العلاقة:

“ينطلق لاندو من اجتهادات رولان بارث وديريدا وفوكو وباختين، ويرى وكأنهم كانوا يتحدثون عن النص الإلكتروني في تنظيراتهم للنص: فبارث على سبيل المثال تحدث عن النص المثالي، وعن الشذرات وبين أن النص شبكة متعددة، وأنه نسق بلا نهاية ولا مركز، ونفس الشيء يراه بالنسبة للقارئ الذي صار منتجًا للنص، ولم يبق مستهلكًا فقط. كما أن ديريدا تحدث كثيرًا في أعماله عن الشبكة، والروابط، والنسيج وانفتاح النص،،، وكل هذه المميزات، وسواها مما نجدها في كتاباتهم، سمات مركزية في النص الإلكتروني”. “3”

وكما كتبت في مقالي “الممارسات الرقمية والنص المرجأ ” إن اندماج القارئ مع الممارسات الرقمية للنص الخيالي الذي يقدمه الفكر النقدي فضلًا عن استعمال الوسائط ذاتها في كتابته لهذا النص يعني تجاوزًا للحظة تصوّر الكيفية التي خُلق بها .. يعني التورط في شخوص هذا النص، حيواتهم وأجسادهم ولغتهم وصمتهم وتواريخهم وعلاقاتهم وأسرارهم .. يعني كتابة نصوصهم السابقة كما لو كانوا طوال الوقت غافلين عن أنفسهم .. كما لو كان الواقع طوال الوقت غافلًا عن نفسه”.

وهذا ما تؤكده أيضًا د. أماني أبو رحمة في دراستها “النص والوسائط التشعبية: التحقيق الفعلي للنظرية النقدية ما بعد البنيوية”:

“عندما يعرّف ديفيد بولتر النص التشعبي على أنه كتابة تفكيك ذاتي تعارض المعيارية والتوحيد بالإضافة إلى التسلسل الهرمي فهو يربط بطريقة ما النص التشعبي مع “النص المثالي” وفكرة التفكيكية. يعتبر النص التشعبي نصًا مثاليًا لأنه ليس له بداية ونهاية، ويمكن عكسه، كما أن لديه العديد من الروابط والمداخل وهو مفكك ذاتيًا. بالنسبة لبولتر فإن النص التشعبي وسيط جديد يمنح الحرية الكاملة للقراء الموضوعيين والمحايدين حيث لا يمكنهم فقط اختيار تسلسل النص ولكن يمكنهم أيضًا إجراء إضافات وتعديلات عليه. ويرى أن النص التشعبي لا يقدم المزاعم الإمبريالية على فهم القارئ مثل النص المطبوع الأكثر صلابة. تسمح غرابة وجدة واختلاف النص التشعبي بإلغاء مركز العديد من افتراضات ثقافتنا حول القراءة والكتابة والتأليف والإبداع”. “4”

وكما أشرت أيضًا في المقال التمهيدي لهذه الدراسة “الممارسات الرقمية والنص المرجأ” فإنني مثلما “أتحدث عن “الميديا” الشخصية، العفوية، الارتجالية التي يتم إنتاجها وتبادلها كـ “كتابة”، “صوت”، “صورة” بين “كاتب” و”آخر” في إطار ما يبدو أنه محض استعمال ذاتي، اتصال حسي تقليدي بين شخصين في مكانين متباعدين “؛ فإنني أتحدث أيضًا عن ما يمتد بالضرورة إلى الواقع “خارج الشاشة”، وما لا يشترط أن يكون “نصًا إلكترونيًا”؛ ذلك لأن “النص الشبحي” كـ “عمل أدبي” غير متجسد، “لا يزال خيالًا نقديًا في صورة رؤى، أحلام، إيماءات، استفهامات، شذرات متأرجحة من الاحتمالات والفرضيات” هو “أشبه بخام نص كل قارئ، يُكتب بشكل مستمر، لا نهاية للتدخل في بنائه وتعديله، ولا حد لمساهمة الآخرين في تكوينه، أي أنه سيبقى مُرجئًا دائمًا”، يحوّل “القراءة الثقافية التناصية” التي تناولها الناقد معجب العدواني في كتابه “القراءة التناصية الثقافية” “5”، والتي تهدف إلى “بناء سياقات واسعة للدراسة الأدبية، والتركيز على الأبعاد التاريخية والثقافية للنصوص والقضايا مثل العنصرية، والجندر، والإثنية، والطبقة، في علاقتها بالمنتج الثقافي”؛ يحوّلها إلى قراءة “إبداعية” بالمعنى الحرفي / التوثيقي، “خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة” كما يجيب بول ريكور على سؤال “ما هو النص؟ ” “6” أي تُظهر وتوظف “الكتابة المضمرة” في “الخطاب”؛ ذلك لأن عملها “التناصي” يبدأ كعتبة مراوغة لـ “الكتابة”، تجهيز أوّلي من “المساحات الثقافية المتقاطعة والمتحاورة” لنص لا يفرض طريقة محددة لكتابته، غير أنه يُبدي ـ بحكم شبحيته ـ طبيعة غامضة، شاحبة، ومتشظية، تميل ـ خاصة في ارتكازها على الممارسات الرقمية ـ إلى التمثل بواسطة النص الإلكتروني الذي يتسق مع حضورها الإبهامي والمتناثر، دون التغاضي عن الأشكال النصية الأخرى التي بمقدورها اللعب بتلك الأشلاء وفقًا لأدواتها وتكنيكاتها الخاصة.

“في هذه الحالة يعمل الفكر النقدي كـ “موَلِّد” استباقي، خفي، غير حاضر إلا بما ينتجه من فائض غير محكوم لتصورات (النص، الصوت، الصورة) المقترحة للقراءة. التمثلات دائمة التغير والتبدل، ليس بناءً على “الخيال” الذي أسس لها فحسب، وإنما على الوسائط التي استخدمها في تغييب حدودها أيضًا. كأن الفكر النقدي يتخذ موضع “التفاعلية المتقدمة” أي أنه يبدأ في صنع تأثير للنص السردي من قبل أن يكون لهذا النص وجود أصلي، وبالتالي تصبح “إعادة الكتابة” التي يؤديها القارئ هي لحظة كتابة أصلية بالمعني الفعلي لا المجازي”.”7″

يعيد الفكر النقدي بذلك تعريف “التداولية” بدفعها لأن تسبق ما يتم تصنيفه كـ “نص أدبي” بخطوة؛ فإذا كانت الدراسات النقدية الحديثة كما تشير راضية خفيف بو بكري في بحثها “التداولية وتحليل الخطاب الأدبي” “8”؛ “تجعل من اللغة الأدبية نظامًا معقدًا للاتصال، يجاوز مستويات الصياغة اللفظية والنصية إلى دراسة الحدث الأدبي انطلاقًا من دائرة الاتصال الاجتماعي، أي الانتقال باللغة الأدبية من مستوى النص كنظام إلى مستوى التواصل”؛ فإن النص الشبحي يرسم ملامح الاتصال مسبقًا حينما يجعل ما هو تداولي بالأصل (لغة الممارسة التي لم تستوعب أدبيتها بعد) هو الفاعل التحريضي لكتابة في سبيلها للتحقق كـ (حدث أدبي)، أي أن “اللغة الأدبية” لم تعد نتيجة تواصلية وحسب وإنما أصبح “التواصل” نفسه نظامًا أدبيًا مبدئيًا للنص أيضًا.

يجيب كذلك مقالي “الممارسات الرقمية والنص المرجأ” على سؤال: “على أي شيء يرتكز الفكر النقدي في تخيّل وتوثيق هذا النص “المحتمل”؟:

“صورة الكاتب وتاريخها: النصوص المنشورة ـ ما كُتب عن أعماله السابقة ـ حياته الخاصة (مشتملة الماضي) كما يُظهرها بنفسه وكما يشير إليها الآخرون أو يتناولونها أو يكشفون عن صلاتهم بها عبر الوسائل المختلفة ـ ما يتداول عنه من “أسرار” إما في شكل “معلومات” أو “أكاذيب” أو “أقاويل”.

توظيف الوسائط: استخدام معطيات انتقائية من صورة الكاتب وتاريخها عبر العالم الافتراضي في خلق تصوّر لماهية “الآخر” الذي يشارك الكاتب في هذه الممارسة الرقمية ـ نسج علاقات متعددة بين هذه المعطيات لتشكيل طبيعة التفاعل بين الكاتب وشريك أو شركاء الممارسة الرقمية ـ تعيين الأدوات الملائمة لكل تمثل خيالي ناجم عن هذا التواصل / الصراع المفترض بحسب خصائص كل أداة وكيفية تفاعلها مع الأدوات الأخرى”.

إن النص الشبحي بهذه الطريقة يتعدى “الصدق والكذب” في “الأقاويل”؛ حيث يشيّد احتمالًا مستقلًا، فنيًا، يستند بصورة كاشفة إلى “طبيعة الكلام” التي تجعل بُعد الصدق أشد أساسية من بُعد الكذب كما تذكر الفيلسوفة والمحللة النفسية السلوفينية ألينكا زوبانجج في دراستها “الكذب على أريكة التحليل النفسي”، وبالتالي فإن لهذا الاحتمال “الفني” الذي يخلقه الخيال النقدي “صدقه الخاص”، باعتباره ـ أي الاحتمال ـ أرضية الصدق الملهمة التي يحتاج أي “كذب مفترض” ليقوم عليها، وذلك تحديدًا ما يجعل النص الشبحي يتجاوز التوقعات الجمالية المرتبطة بأنماط الذاكرة النصية لدى أفراد الممارسة:

“الصدق والكذب ليسا متكافئين لأن بُعد الصدق أشد أساسية من بُعد الكذب: لا لسبب لاهوتي أو أخلاقي وإنما بسبب طبيعة الكلام نفسها. فلا يمكن أن يوجد كلام (سواء كان حقًا أو باطلًا) غير مموضع في بُعد الصدق. دعوني أستشهد بجاك ألان ملير الذي عبّر عن المقصود هنا بأوجز ما يكون: يوجد بلا شك صدق ليس سوى نقيضًا للكذب، لكن يوجد صدق يحفظ الاثنين، الصدق والكذب، ويحملهما، مرتبط بالتكلم نفسه؛ لأنه لا يمكن للمرء أن يقول أي شيء من دون أن يطرحه كصدق، كحق. وحتى عندما أقول: “أنا أكذب،” فإن ما أقوله حينها في واقع الأمر هو: “الحق أقول لكم، أنا أكذب” ـ ولهذا، الصدق ليس نقيض الكذب. أو يمكننا أن نقول، مرة أخرى، إنه يوجد صدقان: الأول وهو نقيض الكذب، والثاني هو ما يحمل الصدق والكذب كليهما على حد السواء”.”9″

حينما يخلق الخيال النقدي “نصًا شبحيًا” فإنه يجمع هكذا بين الحلين اللذين اقترحهما د. محمد مشبال في مقاله “كيف ننقذ دراسة الأدب؟”:

“ـ الحل الأول هو ممارسة نقد إبداعي؛ حيث يعمد الناقد المبدع إلى خلق خطابه “النقدي” بناءً على تفاعله مع الأعمال الأدبية التي قرأها وأوحت له بفكرة يعمل على نسجها بناء على استدعاء ذخيرته من النصوص المخزنة في ذاكرته. وبناءً أيضًا على تنشيط خياله. هذا الضرب من النقد تجده في كتابات طه حسين وعبد الفتاح كيليطو عن الأدب القديم. وهما الناقدان العربيان اللذان أثبتا حضورهما عند القارئ العام غير المتخصص.

ـ الحل الثاني هو ممارسة نقد متعدد الاختصاصات أو عابر للحقول المعرفية؛ فغير مجد في عصرنا هذا ممارسة نقد شكلاني أو بنيوي أو أسلوبي أو بلاغي خالص. لا يروم سوى إعادة إنتاج النظرية أو المفاهيم التي تهم فئة ضيقة من المتخصصين. وتنطوي هذه الدعوة إلى نقد منفتح على فكرة خروج الممارسة النقدية الأدبية من دائرة التخصص الضيق الذي فرضته نظرية الأدب بمناهجها المختلفة، إلى الأفق الرحب لنقد يحاور الأعمال الأدبية من منظور القضايا التي تهم الإنسان في وجوده بهذا العالم”.”10″

في العدد القادم من مجلة “الناقد” أتناول نموذجًا تطبيقيًا لهذا البحث.

الهوامش:

1ـ الممارسات الرقمية والنص المُرجأ / ممدوح رزق ـ منصة “مقال كلاود”، 26 سبتمبر 2023.

2ـ السرياليون ومفهوم الشعر: “يجب أن يُكتب من قبل الجميع” / حميد عقبي ـ ضفة ثالثة، 30 أغسطس 2023.

3ـ من النص إلى النص المترابط / د. سعيد يقطين ـ المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2005.

4ـ ما بعد الانترنت: الفن في عصور بعد ما بعد الحداثية / د. أماني أبو رحمة ـ مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر 2022.

5 ـ القراءة التناصية الثقافية / معجب العدواني ـ المركز الثقافي للكتاب 2019.

6 ـ الممارسات الرقمية والنص المُرجأ / ممدوح رزق ـ مصدر سابق.

7ـ النص والتأويل / بول ريكور، ترجمة: منصف عبد الحق ـ مجلة العرب والفكر العالمي، مركز الإنماء القومي، بيروت، العدد الثالث، 1988.

8ـ التداولية وتحليل الخطاب الأدبي “مقاربة نظرية” / راضية خفيف بو بكري ـ مجلة “الموقف الأدبي”، العدد 399، يوليو 2004.

9ـ الكذب على أريكة التحليل النفسي / ألينكا زوبانجج، ترجمة: طارق عثمان

https://www.academia.edu/105919599/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B0%D8%A8_%D8%B9%D9%84%D9%89_%D8%A3%D8%B1%D9%8A%D9%83%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84_%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%8A

10ـ كيف ننقذ دراسة الأدب؟ / د. محمد مشبال ـ مجلة “الثقافة الجديدة”، العدد 396، سبتمبر 2023.

“الصورة المرفقة: Mamdouh Rizk

تحميل العدد الأول من مجلة “الناقد”

https://drive.google.com/file/d/1y19vVww-tL4TR70yO8RHYxsadi4Kr962/view?fbclid=IwAR0b2nL6x6RtjbBiOOkfHzdpY0fQIwSAL4cz6u_MaRkKRz9fLAunZWtcZXg


ملكة القاهرة


لم يرني أحد أبكي إلا معه .. هو الوحيد الذي جعل لبوات ومخنثي وقوّادي وسط البلد يشاهدون دموعي .. “ملكة القاهرة” كما يطلقون عليّ تحولت على يديه إلى جارية .. لكنها ـ رغم كل شيء ـ جارية سعيدة .. لم يتعمّد أن يجعلني كذلك على الإطلاق ولكن ما أصبحت عليه بعد لقائنا الأول كان حتميًا .. ما كنت على استعداد له وفي انتظاره من قبل أن نلتقي .. كان حتميًا أن تتحوّل الجميلة الخبيثة الساخرة العدائية بذيئة اللسان إلى ذلك الخليط الخاضع من الحنان والرقة والضعف .. سعيدة لأنه فعل بي ذلك .. لأنني أصبحت هكذا من أجله حتى لو لم يقصد .. لأنني أصبحت أكثر حزنًا بسببه .. ربما لا أفهم الكثير من الأشياء .. ربما لا أفهم معظم الأمور التي حدثت وتواصل الحدوث .. لكنني متأكدة من شيء واحد .. شيء واحد يُغني عن كل الأمور التي لا أفهمها .. لو عاد الزمن إلى الوراء سوف أرضخ ثانية لذلك الانهيار المفاجئ، ومجددًا سأعتبره تكرّمًا استثنائيًا من العالم .. سأعاود قبول ذلك الألم الأشد وطأة طالما أنه ناجم عن وجوده في حياتي .. طالما ظل هذا الألم شرط بقائه في حياتي .. يا مرآتي العزيزة التي حينما أحتضن جسدي العاري بين أطرك المتآكلة بكل هذا اليأس الشهواني المرتعش فكأنما أحتضن غيابه .. كأنما أتوسل لهذا الغياب وأثبّته .. كأنما أنتقم من نفسي ومن حضوره السابق حول هذا الجسد بالطريقة الوحيدة اللائقة به.

من رواية “البصق في البئر” ـ قيد الكتابة

اللوحة: Charlotte Bracegirdle

السبت، 9 مارس 2024

النقد السينمائي و”الجنون” وما يعنيه “الميديوكر” حقًا

كيف ساهم النقد السينمائي في تنميط “الجنون” بالأفلام العربية؟

لماذا ينحاز “النقاد” غالبًا إلى “الخرافات الشعبوية العدائية” التي تحكم طبيعة تناول “الأمراض النفسية والعقلية” في الأفلام العربية إما بالتغاضي أو بالدعم والإشادة؟

كيف شارك هذا الانحياز في التكريس التاريخي لبديهيات معرفية وجمالية زائفة تتسم بالجهل والسذاجة، وتمنح شرعية “أخلاقية وقيمية” لأشكال العنف المتعددة تجاه الشخصية الموصومة بـ “الجنون” في السينما العربية؟

كيف يُنظر إلى هذا الانحياز من خلال ميكانزمات الدفاع اللاشعورية لـ “الناقد” السينمائي؟

هل يُعد هذا الانحياز نوعًا من التطهر وتجديد الولاء وإثبات الانتماء إلى “العقائد الحاكمة” للوعي العام؟

كيف يعتبر هذا الانحياز تواطؤًا مروّضًا مع سلطة المجتمع كشبح مترصد، رادع وعقابي، باستغلال الطرائد السهلة، غير المكلفة، ليضمن “الناقد” مكانته كـ “فاعل ثقافي” غير مُهدِد، أو كابن بار ضمن علاقات القوة التي تفرضها هذه السلطة؟

هل تشير هذه المساهمة النقدية في تنميط “الجنون” بالأفلام العربية إلى طبيعة “الفكر” لدى “النقاد” العرب التي تهيمن على مقارباتهم وتحليلاتهم للفن السينمائي بشكل عام؟

حينما حددت هذه الاستفهامات لتكوّن مدخلًا للكتابة عن “النقد السينمائي و”الجنون” في الأفلام العربية” كان ثمة مصطلح سلطوي شائع ـ بكل ما يعنيه وينتجه التسلط من جهل وزيف وعنف ـ يناوش ذهني وهو “الميديوكر”.

في كتابه “العناصر النمطية في السينما المصرية” وتحديدًا في فصل “العُقد النفسية وفقد الذاكرة والجنون”؛ كتب د. نبيل راغب:

“وبرغم هذا التكرار فإن الأفلام التي اعتمدت في علاجها لهذه العناصر والتيمات على أسس علمية وطبية وسيكلوجية كانت قلة ملحوظة، إذ أن معظمها اعتمد على الأفكار الشائعة والدارجة بين عامة الناس، وهي أفكار غالبًا ما تكون غير علمية أو مغلوطة أو خاطئة، فقد كان هدفهم الاستراتيجي هو استغلال العناصر الميلودرامية  والمثيرة التي يمكن أن تترتب على المفاجآت غير المتوقعة الناتجة عن العُقد النفسية وفقد الذاكرة والجنون، بصرف النظر عن مصداقيتها العلمية”.

المؤرخ زياد عساف أيضًا في مقاله “نزيل مستشفى الأمراض العقلية .. صور سينمائية” بصحيفة “الرأي” الأردنية يكتب:

“وهذا ما يحدث في الحقيقة إذ أن غالبية الناس ينظرون لمثل هذه الحالات باستخفاف وإهمال ونظرة دونية شكلتها مفاهيم اجتماعية ودينية مغلوطة، ما يساهم في تأزيم هذه الحالات وكان للسينما العربية الدور الأكبر في تشكيل هذه الثقافة السلبية مما لا يعفيها من المساءلة القانونية والأخلاقية. ففي كثير من الأعمال السينمائية المتعلقة بهذا الخصوص لجأت السينما لتقديم المرضى النفسيين بصورة فكاهية ساخرة والهدف مادي بحت دون استدراك أن السينما بهذه الخطوة أحدثت حالة من الشرخ الاجتماعي بحق هذه الفئة من الناس وبالتالي التعامل معهم بسخرية لا تخلو من الغمز واللمز، والنفور منهم لدرجة أن تشكل في وعي الأغلبية ضرورة تجنب المصاهرة والنسب مع كل من يمت للمريض النفسي والعقلي بأي صلة، ما أوقع الظلم على كثيرين دون وجه حق”.

كذلك في الملف الذي أعده الصحفي “رامي الجزيري” في جريدة “الوطن” بعنوان “أنا مش قصير أوزعة .. كيف عالجت السينما المصرية الصحة النفسية”؛ ذكر الدكتور أحمد هلال الطبيب النفسي: “إن السينما المصرية أساءت إلى الطب النفسي وإلى المرضى النفسيين وقللت من شأنهم”.

كلمات د. نبيل راغب والمؤرخ زياد عساف والطبيب النفسي أحمد هلال بقدر ما تصف وتحلل “طبيعة سينمائية تقليدية” فإنها بالضرورة أيضًا تحفّز على التفكير في دور النقد السينمائي إزاء هذا “التنميط” التاريخي للجنون في الأفلام العربية .. إن انحياز “النقاد” في الغالب لـ “الخرافات الشعبوية العدائية” التي تحكم طبيعة تناول “الأمراض النفسية والعقلية” كما كتبت في مقدمة المقال لا يعكس فقط غياب الوعي والمعرفة أو القدرة على بذل الجهد “النقدي” بشكل عام لدى “العاملين تحت لافتة النقد السينمائي”، وإنما يشير كذلك إلى “المكاسب المهنية” التي يحصل عليها هؤلاء “النقاد” مقابل اللامبالاة تجاه هذه الطبيعة السينمائية ـ كمثال ـ أو مساندتها والترويج لها .. المكاسب التي وإن كانت منفصلة عن “السينما” و”النقد”؛ فإنها ليست منفصلة حتمًا عن المساهمة في “أشكال العنف المتعددة تجاه الشخصية الموصومة بـ “الجنون” في السينما العربية” من خلال التوطيد المتواصل لإكراهات “تغييبية” لم تنج منها ـ بالطبع ـ الأعمال المقتبسة .. إكراهات ينتجها الحمق والغفلة، وتحرّض على “العداء” وتبرره بوصفه “فضيلة” نحو المصنّف كـ “مجنون” سواء على الشاشة أو خارجها .. إنه التواطؤ الذي يحصل “الناقد السينمائي” دائمًا على مكافأة أو ثمن بقائه عنصرًا فعالًا من تدابيره داخل ما يُسمى بـ “المجتمع”.

أتذكر الآن قصة قصيرة للكاتب والممثل الأمريكي جيسي آيزينبيرغ بعنوان “مراجعة أمينة لفيلم بقلم ناقد سينمائي” وقدّم من خلالها صورة ملهمة لـ “الناقد” الذي نتحدث عنه:

“الخلاصة، ها هي المشاكل الأساسية التي يعاني منها فيلم Paintings of Cole: أنه عُرض في أقصى المدينة وهو الشيء غير المريح، ألَّفه رجل أحسده، عرضته موظَّفة جميلة لم أستطع تذكُّر اسمها المحيِّر، وقائم على فكرة نفَّذتها برداءة أثناء دراستي العُليا، وتلقَّى الإطراء من الـTimes  التي رفضَت أن أعمل فيها”.

كيف يمكنك مقاومة ذلك الإغراء العفوي شديد الإلحاح، والذي يبدو في لحظات كهذه أكثر منطقية وعدلًا من أي فكرة أخرى بأن “تحكم” على “الكائن” الذي ينتمي إلى الأغلبية من “العاملين تحت لافتة النقد السينمائي” بأنه “ميديوكر”؟ .. كيف يمكنك مقاومة ذلك بكل ما لديك من احتقار للمصطلح، وسخرية من تعريفاته، ودأب على تقويض حضوره بينما تراقب أحدهم يلقب بـ “الناقد السينمائي” استنادًا وحسب إلى علاقاته الشخصية والعائلية التي تمنحه الأدوار والمناصب في المهرجانات والمؤسسات الإعلامية وجمعيات النقاد فضلًا عن الورش التي “يُعلِّم” من خلالها “النقد الفني”، وكذلك استثماراته في شركات الإنتاج وتسويق الأفلام إلخ؟ .. كيف يمكنك مقاومة وصف هذا الشخص ـ بأقصى ما تقدر على استدعائه من تهذيب ـ بأنه “محدود الموهبة ـ مدعي ـ غير مميز ” كما يفعل دائمًا “أنطاع القيمة”؟

إن الأمر لا يحتاج سوى إلى التفكير في أن “الميديوكر” ليس “الفرد” الذي يعيد تدوير المستهلك والمعتاد والمسالم ليراكم المقالات والكتب والفيديوهات عن “السينما”، ولكنه “النسق” الذي يستعمل “ميكانزمات الدفاع اللاشعورية” لـ “الناقد السينمائي” وهو ما يستهدفه النقد الثقافي كما تشير د. صورية جغبوب في مقالها المنشور بالعدد الأول من مجلة كلية الآداب واللغات، جامعة خنشلة:

“ينبني النقد الثقافي على نظرية الأنساق المضمرة، وهي أنساق ثقافية وتاريخية تتكون عبر البيئة الثقافية والحضارية، وتتقن الاختفاء تحت عباءة النصوص، ويكون لها دور في توجيه عقلية الثقافة وذائقتها، ورسم سيرتها الذهنية والجمالية، لأن النقد الثقافي مشروع في نقد الأنساق، والنسق مرتبط بكل ما هو مضمر”.

“الميديوكر” ليس الشخص المنحاز إلى “الخرافات الشعبوية العدائية” وإلى القوالب اللغوية الجاهزة في تحليل الأفلام أي ما يضمن إنتاج وتوطيد “الإقصاء” عبر “الوسائط المعرفية” كما ذهب “ميشيل فوكو” في محاضراته عن “المجتمع العقابي”، ولكنه “الانحياز” نفسه الذي يلبي احتياج “الفرد” إلى التطهر وتجديد الولاء وإثبات الانتماء إلى “العقائد الحاكمة” للوعي العام .. “الميديوكر” ليس كائنًا حيًا خاضعًا لـ “التقييم” وفقًا لمعايير “كائن آخر” يؤمن بها كـ “مبادئ شمولية محصنّة”، ولكنه التواطؤ المروّض مع سلطة المجتمع كشبح مترصد، رادع وعقابي، باستغلال الطرائد السهلة، غير المكلّفة، ليضمن “الناقد” مكانته كـ “فاعل ثقافي” غير مُهدِد، أو كابن بار ضمن علاقات القوة التي تفرضها هذه السلطة.

“يُعد استعمال “المعاق ذهنيًا” في تكريس الإيمان بالأنساق المألوفة للحياة بمثابة جائزة كبرى لهذه الأنساق؛ فالأشخاص العاديين الذين يتم توظيف حكاياتهم لتوطيد اليقين بخرافات العالم لا مساءلتها ومحاكمتها؛ هؤلاء يؤدون أدوارًا طبيعية وشائعة، لكن “المعاق ذهنيًا” حين يتم استعباده من خلال السلطة البديهية لهذا اليقين بحيث يتحدد رجاؤه الدنيوي في أن يصبح إنسانًا عاديًا، خاضعًا لأنساق الحياة فإن خرافات العالم تكتسب بفضل ذلك الدعم الاستثنائي مزيدًا من القوة والتأثير كحقائق حاسمة، في إنكارها أو التجرد منها مجابهة لغربة مضنية وهلاك محتوم”.

تلك كانت السطور الختامية من مقالي عن فيلم The other sister الذي أنتج عام 1999من إخراج غاري مارشال وبطولة جولييت لويس وجيوفاني ريبيسي، وكأنها تتحدث عن “الميديوكر” باعتباره “الفكر” وليس الذين يصنعون الأفلام في حمايته، مثلما هو “النمط” وليس الذين ينتجون المقاربات والتحليلات الراضخة لهيمنته .. وكأنها تشير إلى الفرق ـ العسير ملاحظته ربما ـ بين إدراك الفرد بأن ثمة تمثيلًا لذاته يتسم بالصدق والصواب في لحظة معينة، وبين الدوافع والمبررات القهرية التي قادته إلى هذا الإدراك.

الهوامش:

ـ  العناصر النمطية في السينما المصرية / د. نبيل راغب ـ المركز القومي للسينما 2013

ـ نزيل مستشفى الأمراض العقلية .. صور سينمائية / زياد عساف ـ صحيفة “الرأي” الأردنية، 7 يوليو 2020

ـ “أنا مش قصير أوزعة” .. كيف عالجت السينما المصرية الصحة النفسية؟ / رامي الجزيري ـ جريدة “الوطن” المصرية، 10 أكتوبر 2018

ـ مراجعة أمينة لفيلم بقلم ناقد سينمائي / جيسي آيزينبيرغ، ترجمة: هشام فهمي ـ صفحة “المترجم” 2016

ـ النقد الثقافي: مفهومه، حدوده، وأهم رواده / د. صورية جغبوب ـ مجلة كلية الآداب واللغات / جامعة خنشلة ـ العدد الأول، يناير 2015

ـ المجتمع العقابي ـ دروس ألقيت في الكوليج دو فرانس (1972 ـ 1973) / ميشيل فوكو، ترجمة: نصير مروّة ـ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022

ـ The other sister: السينما كتجميل للأنقاض الخالدة / ممدوح رزق ـ أراجيك، 1 يناير 2022

تحميل العدد الأول من مجلة “الناقد”

https://drive.google.com/file/d/1y19vVww-tL4TR70yO8RHYxsadi4Kr962/view?fbclid=IwAR0b2nL6x6RtjbBiOOkfHzdpY0fQIwSAL4cz6u_MaRkKRz9fLAunZWtcZXg

الجمعة، 8 مارس 2024

مقامات الغضب: خارج الدعابة الطوباوية

لا يتطلب "سرد الغضب" انعزالًا مقصودًا فحسب، وإنما يستدعي التفكير في طبيعة هذه "العزلة" أيضًا. إنها ليست صوتًا ما زال يُعرّف نفسه بموقع المشاركة الذي يتخذه بين الأصوات الأخرى، وإنما الصوت المأخوذ بانفلاته، الذي يطارد فرديته المبهمة، المتناثرة خارج التجارب الجماعية والتواريخ الشاملة. الصوت المؤرق باستثنائيته العسيرة حين يقوده "الغضب" لاكتشاف إغواءات "اللعب" المخبوءة في "حكايته". "السيرة" المناقضة التي تعرض مقاومتها للتجزّء والطمس داخل سياقات الصراع في اللحظة التي يرويها ذلك الغضب. تتوقف الذات عن أن تكون أداة في ورطتها الوجودية "غرض صغير يُستخدم مؤقتًا في المأساة الكلية"، لتكون حينئذ لاعبًا بالدور الذي تعوّد أن يستعملها. تحوّله إلى "شيء" يمكن استراق النظر إليه، التسلل عبر صدوعه الغامضة، وتفكيك بداهته.

"مثل كثيرين أفعل كل يوم أشياء عديدة، لكني في الحقيقة لا أفعل شيئًا .. أبدد طاقتي في كل الأفعال؛ أصحو، أذهب للعمل، أحب، أكره، لكن لا أثر، لا نتيجة. كل ما أفعله صاخب، مشتعل، منفجر؛ بوم .. بوم، ثم لا شيء .. هدم .. هدم .. معول يسقط على كتلة، بناية، علاقة، رابطة، فتطير أجزاء الكل دون اعتبار لأي قانون أو قاعدة، ينهار المتماسك، يفتت الصلب. تتطاير شظايا، أجزاء مشوهة، منبعجة، لا يمكن تجميعها تلقائيًا، قد يتمكن الضغط، أو التحوير من تجميع المتشظي، حيث تتوالد المخلوقات الخربة، الرعب المجسد لعدم الانسجام، عدم التوازن".

في رواية "مقامات الغضب" للكاتبة صفاء النجار، والصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية؛ تلاحق كل شخصية في حكيها "المنعزل" المدى الغائم لغضبها، بتوظيف حضورها القهري أو خبرتها الخاضعة كخيط "ممزق" في نسيج علاقات متعددة ومتشابكة، أو كأثر "ملتبس"، متبدد، لماض تحتله شخصيات أخرى. كأن هذه الملاحقة السردية بمثابة كفاح لرؤية مضادة، لإزاحة العمى الذي يمثل شرطًا جوهريًا للعبور في المسارات القدرية، أو كأنه بحث عن نوع من العمى المجازي الذي بقدر ما يغمض العينين بقدر ما يحفز البصيرة على استنطاق غيبيتها.

"ما الذي يقضي على الغضب؟ يفرغه من طاقته، يحوله لشيء أبله بلا معنى؟ لا شيء يعادي الغضب كالملل والتكرار، الغضب دائمًا طازج، في كل مرة تفور الدماء، تتسع الشرايين وتعمل مضخات القلب بأقصى قوتها وتدفعك الهرمونات لحافة الهاوية، ويتحول العالم لحفرة، هوة، صراخ من السقوط المفاجئ، الذي لم يحدث بعد، أو ربما يحدث في خيالك، لعبة المحاكاة".

المونولوج الكتابي إذن يحاول تعديل ظواهر الواقع أو إعادة ترتيبها وفقًا لأساليب متباينة، ولكنه يراوغ في الوقت نفسه كل ما يطمع أن يكون مثالًا أو نموذجًا بديلًا. هنا يكمن اللعب؛ حيث لا يتيح سرد الغضب ملاذًا ترويضيًا على نحو فعلي، وإنما يجعله الحكي، بكل فرضيات المرح اللغوي غير المحكومة، المتوالدة في طيات "التدوين"؛ يجعله يخاتل الاحتمالات التقويضية لذلك الواقع، يدفعه لتجاوز حدوده المتعينة ليصبح أقرب إلى الخيال المترصد وراء كل تفسير. السرد يحوّل الغضب من خطاب مستقر، يحاصره الضجر، ويمتلك من المبررات والتأثيرات المباشرة ما يجعله متجانسًا مع "الأحكام المسبقة" إلى طيف تخريبي، يتخطى الدوافع الملموسة والبصمات المتوقعة، يفسد المعاني الجاهزة التي تحاول أن تبقيه آمنًا.

"الفضاء يكاد ينفجر من الكلام، فيس بوك المقهى العالمي الكبير، يتحول الصراخ إلى غضب دائم مكتوم .. وهذا البيت مصدر كبير للغضب، نوافذه الزجاجية التي تجعل الشمس تسكن في غرفتي، أشعتها تهاجم وجهي، فأنهض من السرير غاضبة لأغلق الستائر الـ "بلاك أوت"، وأحاول العودة للنوم، ومع تقلبي في السرير وهروب النوم مني ومطاردتي له .. يزداد تدفق الغضب، الحمم البركانية تتناثر وتسيل وتحفر أخاديدها في رأسي، النوم الغاضب يقذفني في أحلام فلاشية، غير مترابطة، تتداخل الأصوات التي تخترق أدوارًا عدة وتتسلق أشجارًا عتيدة".

ذلك تحديدًا ما يجعل المونولوج كذلك "حوارًا" بين الذات والشخصيات الأخرى، "جدلًا" بين خفاء الذات وأسرار تلك الشخصيات، حيث لم تعد الذات ـ حين تسرد غضبها ـ شخصًا يتكلم، وإنما أصبحت "غضبًا يروي حلمًا اغترابيًا" .. الغضب يفتش ـ كسارد متعدد الأصوات ـ عن جذر مجهول، ومن ثمّ فإن الذات تعيد صياغة الشخصيات العالقة في متاهاتها فتشكّلها كأحلام مماثلة، أو بالأحرى تنتزع اغتراب كل منها وتخلق بواسطته حلمًا موازيًا لها، سعيًا وراء الجذر "الاستعبادي" نفسه، والذي يمكن الحدس بمشيئته في أبسط التفاصيل وأكثر المشاهد اعتيادًا.

"هذه العائلة كل من فيها عانى إما من تمرده وعصيانه وثورته وغضبه وإما من خضوعه وخنوعه واستسلامه، عائلة أفرادها لا يعرفون الاعتدال، على طرفي النقيض يقفون، وكل يدفع الثمن ولا فائدة من النصائح سوى مزيد من التوتر والعناد، هذه العائلة تخاف من الفشل، تهرب منه، لكنه الفخ الذي يقع فيه كل أفرادها".

ثمة ذاكرة ضبابية، مناوئة للماضي ـ كما يتصوّر حدوثه ـ يسعى كل راوٍ لخلقها، لا استنادًا إلى الغضب فحسب، وإنما إلى ما ينبغي أن يحصده هذا الغضب بالضرورة. ربما تكون ذاكرة انتقامية عوضًا عن الذاكرة الحصينة التي لم يمتلكها السارد مطلقًا. ذاكرة عقابية تجاه الحرمان من امتلاك هذه الذاكرة. كأن كل حكاية أشبه بكرسي اعتراف للحياة والموت لا للشخصية الساردة نفسها، وكأن كل اعتراف ضمني للوجود، يُفضح في ثنيات وأغوار المونولوج الذاتي هو ما ينتج تلك "الرسائل" غير المقروءة بين الغرباء. الرسائل التي تتجاوز ما يعتقد كل منهم أنه السياج الواقعي الذي يطوّق عالمه. ذلك الاعتراف "الغيبي" الذي يتم الحدس به أو استبطانه أو إدراكه عبر صمت "الرسائل" هو ما يوثق السعي، العفوي، المضمر للغة الحكي من أجل هدم الأسس التي يبدو أن هذه الرسائل ناجمة عنها. من أجل خلخلة ما يدعي الثبات في كل "إحالة" إلى يقين أو مبدأ ما.

"أقرب الناس إليك وفي لحظة ما عند مفترق طرق، عند اتخاذ قرار تأييد أو رفض، سيبتعد عنك الغرباء .. ويتهمونك بما ليسوا فيك وسيفسرون كل ما قمت به من محبة واحتواء تفسيرًا ليس خاطئًا فحسب ولكن مؤامرتيًا، وسيستغلون كل ثغرات حياتك، كل نوافذك، جلدك الذي عريته أمامهم، ولن تستطيع أن تكسب ابنة خنت ثقتها وتخليت عنها في أدق لحظات حياتها بالتجاهل، بالتعامي .. لم تؤازرها كما ينبغي، وحتى هذه اللحظة لا تستطيع أن تقدم لها نصيحة نافعة".

نلاحظ هذا التداخل بين "الذكريات" التي يتم استدعاؤها عبر الأصوات الحكائية المتعددة، وهذا ما يتسق مع فكرة "الغضب" كسارد، لا الشخصية التي تنتج "المونولوج" أو "الرسالة" أو "الكتابة" في حد ذاتها، ذلك لأن الغضب يخاطب ما لا يُرى في الماضي، ما لا يكشفه الجسد ضمن حدوده، ولهذا فإن كل ذكرى تشير إلى عتمة ذكرى أخرى لا إلى نفسها فحسب. الكتابة هنا قرينة الثأر، حتى لو لم يستوعب السارد ما وراء "ارتكابه" حين قرر أن يتوحد بغضبه سرديًا. الثأر الذي "يحوّل العالم إلى نص هائل يُصاغ من التدوينات اللانهائية الشبقية الغاضبة" كما ذكرت في كتابي "الغفلة والإدراك" / مدخل تفكيكي لفلسفة شوبنهاور. الغضب يحكي باعتباره اللحظة القصوى للانفصال، ليس عن الآخرين وإنما عن الأزلية التي لم تُخدش. الانفصال الذي هو تذكير وحفر في جرح الانتزاع عن الأمان الأبدي.

"علاقتي بالله غائمة، هو في ملكوته وكلياته وسموه، وأنا في غضبي وحيرتي، لم يحدث أن سألته أو احتجته، لم يكن لدي حاجة لشيء، لا أتذكر أني دعوت الله بعمق، لكني أراه دائمًا بعيدًا، أشعر به متمركزًا خلف حجب كثيفة تفصل بيني وبينه".

 لذا؛ ما يُعد "انتقامًا" حكائيًا، بمستويات انتهاكه في حدتها وخفوتها الظاهري، يستهدف ما تعتبره الذات أصلًا لكل بناء معرفي لا يمكنه تبرير نفسه، مهما تنكر في حكمة أو تقمص فضيلة، أو تحصن في وهم جمالي. الغضب هو إعطاب لدلالات ما يسرده "الغاضب"، أي ما تحاول الذات الساردة الاحتماء به تلقائيًا حتى عند ذروة رغبتها في التخلي أو المقاومة، لأن الغضب نفسه هو ما يحفز التوترات والتناقضات التي تفكك المرجع "القيمي" أو الغاية "المتعالية"، فيصبح ما تحكيه الذات أقرب إلى تمرين مستتر على العدم. التمرين القائم على تشريح "الزيف" الذي تشير إليه كلمات "مارتن هيدجر":

"بالقطع، يمكن لأي كائن كان أن يبدو على غير ما هو عليه في حد ذاته".

"أشعر بعطب في مراكز الطاقة، وبالحاجة إلى شحن جديد والرغبة في امتصاص طاقة الآخرين، لتزويدي بالسخط والغضب اللازمين لروحي. "فيس بوك" واحد من وسائطي العديدة للحصول على الطاقة، لي على الفيس بوك أكثر من حساب لا أتذكر عددهم، واحد فقط يحمل وجهي الحقيقي، البقية بأسماء وصور تعبيرية مختلفة، أجرب واقعًا غير واقعي، ذاتًا غير ذاتي، أتبنى آراء مناقضة لآرائي، ألف وجه أرتدي وأنا أراقب الآخرين، كأنهم فئران في تجربة".

أستعيد الآن ما كتبته في مقالي ("كوكسال بابا” طفولتي: الكوميديا غضب .. الغضب ليس كوميديًا):

فكرت في هذا لأنني كنت طفلًا يربي منذ لحظاته المبكرة خبرة انعزالية للغضب .. الخبرة التي لا تعتمد على الإحساس التقليدي والتنامي المتدرّج للمعرفة به فحسب وإنما على تأمل أغواره واكتشاف الآثار المتعددة والمتغيّرة لتحريره وكتمانه .. كانت خبرة قائمة على التلصص للكيفية الملغزة التي لا تُبقي تلك المراقبة من خلالها الغضب محكومًا بالشروط المباشرة للواقع وإنما تضاعفه وتحفّزه على التمادي خارج نفسه ليتمثل حتى في أكثر الانحيازات براءة للذات .. كان التأمل يجعل الغضب في أطواره البدائية أشبه بالإلهام الشهواني الذي يحرّضه على التناثر بين الأجساد كافة، وعلى اجتياح المسافات والحدود والنفاذ عبر الحياة والموت".

في كل سرد للغضب ثمة من يرى كائنًا يطير عبر شرفة مفتوحة. هذا الكائن ليس أحدًا بعينه حتى لو كان مجسدًا في شخص ينتمي إلى السارد. هذا الكائن لا ينتمي في حقيقته إلا لنفسه، لغيابه، للندبة التي تركها في روح من يحكي. كائن لا يُعرّف إلا برماد المحترقين حول القطارات المنفجرة. هذا الكائن هو الانتظار، التأرجح بين النقائض، الذي يجعل من المغامرة والحيرة والترقب والترحال هواجس متغيرة عن المغامرة والحيرة والترقب والترحال. الذي يجعل الشوق المتوطد في كل ألم ليس أكثر من دعابة طوباوية، لا يقتنصها إلا الغضب حين يتمعن في عزلته، في الثأر من ذلك الذي يعتلي دائمًا مفترق الطرق.

أخبار الأدب

3 مارس 2024