الأربعاء، 29 يوليو 2020

المقطوعة الأخيرة

يموت الآن .. يعرف ذلك جيدًا، لكنه ليس إلا الإدراك النشوان الذي تعوّده حينما يوشك على الانتهاء من مقطوعة موسيقية، وقد بلغ ذروته الخالصة .. كان ما يختبره هو المقطوعة الختامية التي تحتوي عمره كاملًا بينما تنهيه .. لذا فهي نشوة تتجسّد في بدنه المفتت بصورة أكثر سحرًا، وكأن رعبه الدائم من الموت الذي تغذّى على حياته كلها كان تمهيدًا طويلًا خاطفًا لتلك الطمأنينة الخارقة التي تُخرجه من الحياة.
لم يكن تعمّده إصابة نفسه بكورونا انتحارًا خفيًا، بل انسجامًا مع الإبادة كحقيقة ماورائية للعالم .. حينما ظهر الفيروس لم يفكر في مؤامرة من أي نوع، وإنما على العكس كان يؤمن أن لخالقه هدفًا محددًا وواضحًا .. أن يتألم ويحتضر ويموت بشر كثيرون جدًا في كل مكان بأداة من صنعه .. أن يستمتع خالق الفيروس بمشاهدة هذا لحظة بعد أخرى، كمن يتجوّل بين أشلاء الأسباب المتنكرة للحروب، والدوافع الملفقة للقتل .. كمن يحلّق في نقاء الإرادة الكونية، حيث يتحقق التناغم معها بقدر الاستجابة لمقصدها المتجذّر داخلك .. أن تعذِّب وتميت فحسب، لاسيّما من خلف ستار محصّن، بصرف النظر عن علة ذلك .. كان كورونا هو الاستجابة القصوى.
لم تكن النشوة فقط هي الناجمة عن الموسيقى التي يؤلفها، وإنما الحسرة كذلك .. كان دائمًا يعتبر مقطوعاته ـ رغم كل وحشيتها ـ أشبه بترويض قهري لما تستحقه الدنيا، وما يلائم وعيه بالوجود .. أشبه بإخضاع محتوم لذاكرته .. لم يكن قادرًا رغم محاولاته المستمرة أن يجعل تلك الموسيقى لائقة بأفكاره ومشاعره تجاه كل شيء، كأنها لعنة منذورة لمغافلته مهما فعل .. وصل به الأمر إلى نوبات من عدم التصديق: بعد كل ما حدث؛ كيف يكتفي بتأليف الموسيقى أصلًا؟! .. كان هذا العجز المتصاعد هو الجرح المستقر في عمق كل نشوة.
موته الآن ليس تقليديًا، بل هو الموت الجمالي المنشود الذي طالما انتظره .. المقطوعة التي قضى ماضيه بأكمله يحلم بها، ويعرف في هذه اللحظات أنه كان يتجهّز لتحقيقها: الصداع الفائر .. السعال الذي يمزق الرئتين .. الأنفاس اللاهثة .. دقات القلب المتلاحقة .. العرق الغزيز .. الرعشات القوية .. الضباب الثقيل في العينين .. الألم الذي يطحن العظام .. الانتفاضات الحارقة في الأمعاء .. جميعها ليست علامات الاحتضار بقدر ما هي نغمات وإيقاعات المقطوعة الأخيرة التي ينظّمها في عقله، ولا يسمعها أحد غيره .. لا يستوعبها إلا غيابه الموشك على الاكتمال .. لكنه ينتبه فجأة إلى أن هذه المقطوعة ستتبدد معه .. لن تبقى بعد موته بالرغم من رجائه أن تكون هي التذكير الوحيد به .. كان في احتضاره مكان صغير لضحكة بالغة الخفوت، وكأنها كانت النغمة الضرورية الناقصة قبل النهاية.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 28 يوليو 2020
اللوحة لـ (بابلو بيكاسو).

الأحد، 26 يوليو 2020

نصفي حجر

قد يكون هو الموت الأسوء على الإطلاق .. لا أحد يتمنى أن يموت أثناء زيارة أصدقاء شبابه المبكر له بعد انقطاع طويل .. لا أحد يتمنى ذلك، خاصة لو كان يرقد مشلولًا منذ سنوات عدة في حجرة الصالون التي تحوّلت إلى موضع انعزالي لنومه ومعيشته قبل مدة كبيرة ثم إلى سكن صغير لمرضه الذي فقد خلاله خطيبته ووظيفته وشقته التي كان ينوي الزواج فيها .. لكن هذا ما حدث ببساطة عصر يوم الجمعة 14 إبريل 1995؛ توقفت عن الكلام فجأة، وأُغمِضَت عيناك، ومال رأسك فوق الوسادة التي كان يستند ظهرك إليها، بينما استقرت ابتسامة خفيفة فوق شفتيك المطبقتين .. أسرع أصدقاؤك بمناداة أمك التي هرعت إلى الحجرة، وصعدت فوق السرير ثم جلست على ركبتيها بجوارك، وراحت تربت على خديك محاولة إفاقتك وهي تتوسل باكية إليك أن ترد عليها بالرغم من الحلم الذي رأته في منامها قبل أسبوع، واستيقظت منه على نحيبها، بعد أن أكد لها قرب موتك .. الحلم الذي لم يكن بمقدورها أن تحكيه لأحد .. أخذتك أمك في حضنها، وراحت تصرخ لربها كي يعيدك إليها حتى لو ظللت عاجزًا طول عمرك، وحتى لو بقي مرضك يعذبها حتى نهاية حياتها.
لم يوجّه أي شخص سؤالًا لأصدقائك حول ما كنت تقوله قبل أن تتوقف عن الكلام فجأة .. لم يسألهم أحد إذا كانوا سيستمرون في تذكر كلماتك الأخيرة التي سبقت إغماض عينيك، والتي ضاعفت حتمًا الابتسامة الخفيفة المستقرة فوق شفتيك من صعوبة استنتاجها .. لكن أبوك الذي بدأ الزهايمر منذ أعوام في التهام رأسه ظل يردد بعينين تسيل الدموع من شرودهما، وبصوت مختنق وخافت خلال الجنازة، وفي سرادق العزاء، وطوال الساعات التالية بأن هؤلاء الأصدقاء هم الذين قتلوك بطريقة خفية أثناء تلك الزيارة .. وكما انبعث هذا الإلحاح بشكل مباغت من توهانه الثقيل؛ تبدد فجأة أيضًا، ليستبدله بقراءة الفاتحة كل ليلة قبل النوم أمام صورتك المعلقة في الصالون، والتي كانت أمك قد أسرعت بتكبيرها ووضعها داخل برواز أمام سريرك بعد أيام قليلة من دفنك، كأنما تنتظر انتقال روحك إليها.
لم يكن أخوك الأصغر في البيت حينئذ، وعندما رجع فورًا بعد أن علم بالأمر؛ دخل إلى حجرة الصالون متمنيًا أن يكون وقت كاف قد مر لتغطية وجهك .. بالفعل وجد هزالك متواريًا بالكامل تحت الكوفرتة نفسها التي كنت تغطي بها جسدك كليًا أثناء النوم على النحو ذاته، كأنما كنت تتمرّن على وضعية الموت .. وجد أيضًا أخاك الصغير يجلس على الكرسي بجوار سريرك، وقد وضع رأسه بين كفيه منتفضًا بنهنهات متقطّعة، وحينما طلب منه التماسك والخروج من الحجرة؛ رفض مترجيًا أن يتركه معك لمزيد من الوقت .. خرج أخوك الأصغر إلى الصالة متفاديًا التطلع إلى وجوه الأقارب والجيران وبعض أهل الشارع الذين ازدحم بهم المنزل سريعًا، كأنما كانوا مختبئين دائمًا في فراغه حتى وصل إلى المطبخ حيث كانت شقيقتك الكبرى تقف هناك وحدها بملامح ذاهلة، أشبه بكدمات مرتعشة، منحوتة بدموع بكائها المتواصل.  
لكل بكاء ذاكرة .. تاريخ غائم أو ماض أكثر وضوحًا مما يمكن احتماله .. ربما استعادت أمك وهي تحتضن رأسك تلك اللحظة التي قدمت فيها بلاغًا ضدك ثم عادت ومعها شرطي إلى البيت كي يقبض عليك قبل أن يتدخل أبوك بإيقاف مؤقت وزائف لذلك الفصل الجديد من الكابوس، أو تلك اللحظة التي دعت ربها فيها أن يصيبك بالشلل، ثم بدأت تشعر بعدها بتنميل في ذراعك كإشارة دامغة للتطوّر الذي سيحوّل جحيمك الأزلي إلى مصير محتوم .. ربما استعاد أخوك الأصغر وهو يتأمل جسدك المغطى بالكوفرتة تلك اللحظة التي جذبك فيها وأنت عاجز عن الحركة من فوق المقعد الذي كنت تجلس عليه بجوار باب الشقة ليسقطك أرضًا ثم يجثم فوقك، ويضرب رأسك بلكمات متتابعة لم يوقفها سوى صرخات أمك .. ربما استعاد شقيقك الصغير وهو جالس بجانب جثتك تلك اللحظة التي أمسك فيها بجسدك ليرتفع به فوق سرير حجرتك القديمة، ويحاصرك في زاوية الحائط الملاصق له، ثم ينهال على وجهك بالصفعات القوية المتلاحقة، التي أجبرك الصداع الناجم عنها على لف رأسك بمنديل كبير طوال ما تبقى من اليوم .. ربما استعادت شقيقتك وهي تقف في المطبخ تلك اللحظة التي طلبت فيها من أمك بحدة حاسمة أن تدعو عليك بالشلل، متساءلة عما تنتظره حتى تفعل ذلك.
كان هذا أقصى ما بوسعهم القيام به في مواجهة شتائمك العاتية طوال الوقت، ومطواتك المشهرة دائمًا في وجوههم، وولاعتك المجاورة لجركن الجاز وراء باب حجرتك المغلق، وحطام أشياء المنزل التي ظلت تتناثر أسفل يديك وقدميك، ومهانتهم التي لم تتوقف عن توزيعها بين الناس.
لكن هذا ليس كل ما بقي منك .. تركت أيضًا صورًا فوتوغرافية كثيرة لحياتك مع أصدقائك في سنوات الثمانينيات، تخلصت أمك وشقيقتك بعد موتك من معظمها كي لا تتسبب "الآثام" التي تجسّدها في عذابك داخل العالم الآخر .. بدا كأنهما بهذا التواطؤ تستغلان ذكرياتك للتطهر من "ذنوبهما" التي لا تتعلّق بك وحدك .. تركت كذلك دفترًا يضم كتاباتك في تلك السنوات، عرف شقيقك الأصغر من أخويه بعد موتك أنك قد أوصيت به إليه خلال الفترة التي سبقت رحيلك حيث لم يكن هناك كلام بينكما .. أخذ شقيقك الدفتر بالإضافة إلى مجموعة من الصور الناجية من الإبادة، وظلت تلك الحصيلة كامنة في بيته زمنًا طويلًا جدًا .. في نهاية هذا الزمن، وبعد قراءة الدفتر والتمعن في الصور مرة بعد أخرى؛ أدرك شقيقك أن أباك كان محقًا حينما اعتقد أن أصدقاءك هم الذين قتلوك بطريقة خفية أثناء زيارتهم لك في ذلك اليوم .. ما هي تلك الطريقة؟.
جزء من رواية "نصفي حجر" ـ قيد الكتابة.
موقع "الكتابة" ـ 24 يوليو 2020

الاثنين، 20 يوليو 2020

سيرة الاختباء (18)

لم يكن هناك صراع، وإنما كان الأمر ـ كأي خدعة أخرى ـ منتهيًا قبل بدايته .. بالأحرى كان يستمر في مساره الحتمي بواسطة أجساد مؤقتة تؤدي رغمًا عنها استعراضًا شكليًا للصراع .. خرق متناثرة، تتطوّح بين طاولات المقاهي، ومقاعد الندوات، وشقق القرويين المؤجرة في مدينة لا تصنع "أبطالًا أدبيين" بل تجهّزهم لذلك فحسب بقدر استعدادهم للخروج منها في لحظة وشيكة .. أدوار نمطية، تستعمل ـ كالعادة ـ مؤدين غافلين، ليس بمقدروهم الخروج عن النص القدري المبتذل، وقد حان موعدهم المنتظر مع تجسيد مشهد قديم يتنقل عبر الزمن، ويتظاهر بكونه جديدًا أو مختلفًا، لكنه في حقيقته مجرد إعادة منتشية، تكرار محموم لهزل سخيف، تواصل الحياة من خلاله بداهتها الغامضة .. فقط على المؤدين أن يصدقوا أنها معارك حقيقية، وأن ثمة حربًا كبيرة ستُحسم على إثرها في النهاية .. تصديق لا يتطلب جهدًا؛ فهو يتصاعد بشكل تلقائي من جذوره المتشابكة في الذات، فقط يستلزم العناية المقدّرة بطبيعة الاختيارات الضرورية مما يتوهم أنه متاح بالفعل.
بالنسبة لي كانت أطراف المجابهة في زيف تلك "المعارك" واضحة ومحددة: البارعون في استغلال الحصانة الأخلاقية للشعر الأبيض، والتجاعيد المرتعشة، و"المنجز الإبداعي" الواجب تقديره، أو على الأقل التغاضي عن مساءلة صورته المتعالية، لمجرد انتمائه إلى "التاريخ"، ولكونه يعيش ما يشبه انقطاعًا نبيلًا أو رومانسيًا بالضرورة عن "حاضر فاسد" .. النائمون على بطونهم في حضّانات الهامش، ويحلمون بثقوبهم كمعجزات مضادة، يمهّد خيالها طريقًا انتقاميًا، أشبه بزفاف أسطوري نحو المتن، يمر عبر انتهازية التصعلك، ومكائد "الصداقة"، وجروح العالقين ضد إرادتهم في عقيدة "الشلة الأدبية" .. النزاع المتنامي في داخلي بين الاستمرار في الكفاح لتحويلهم إلى رفاق جدد لمغامرة طفولية قديمة لم تكتمل، أو إخضاعهم ـ منطقيًا ـ كمريدين لي، أو الانعزال التام عما يمثّله وجودهم في واقع ليسوا أكثر من امتدادات عفوية للكوابيس المستقرة التي خلقته .. كان مرور الوقت بحثًا مضنيًا عن التماسك .. تفاوضًا عسيرًا مع الارتباك المزمن .. لم يكن هناك معنى وسط كل هذه الفوضى غير أنه لا شيء قابل للتسوية، خاصة مع الإلحاح العقلي للتوصل إلى حل عاجل .. إلى سكينة حاسمة، تهيمن على الأسرار كافة، وتتلاعب بالأرواح كيفما تشاء، وتستطيع حماية نفسها من التشوش المتفاقم.
ظللت سنوات كثيرة متأرجحًا داخل حصار ما اعتدت تسميته بـ "الحواف المائعة"، أو "العتبات الضبابية" .. مفترق الطرق في التعريف الكلاسيكي للقصة القصيرة كثمن قهري لكتابتها .. لكن القصة حينما تُكتب كل مرة لن تكون فقط الجائزة التعويضية التي تستدرك بها هزيمة مستيقظة في الذاكرة، متجاوزًا ما تتصوّره حدودها المباشرة؛ وإنما ستكون أيضًا حفرًا جديدًا في الجروح المتداخلة لتلك الهزيمة، اكتشافًا آخر لعمق مستعر في أغوارها المبهمة، يتخطى الملامح الملموسة للواقع الذي ترتجف خطواتك في وعورته .. ستكون القصة تماديًا ماكرًا في التورط.
حتى بعدما تظن أنك أغلقت على نفسك أبواب ونوافذ تلك العزلة المنشودة لزمن طويل بما يشبه حصنًا اكتمل متأخرًا لدرجة تعجز عن تصديقها؛ لن يتوقف ذلك المرض عن إبقائك تحت رحمته: هل ينبغي أن تدرك من مكانك البعيد آثار تلك القصص التي كتبتها في حياة كل منهم، بحيث تتأكد من اقتران موتهم بالألم الناجم عن أن الكلمة الأخيرة كانت لك، وأنك أنت الذي ضحكت في النهاية، أم أن عليك مواصلة الكتابة فحسب؟!.
موقع "الكتابة" ـ 19 يوليو 2020
اللوحة لـ Edvard Munch

الثلاثاء، 14 يوليو 2020

زوجة جميلة تقرأ لكاتب رومانسي

هو ليس أفضل منك أو أقل براعة
قراءتي له ليست نكاية بائسة
لامرأة لم تعرف مطلقًا إلا كلمات زوجها
هو مجرد نقيض لك
ناعم .. مراع .. مُرض للتوقعات
أما أنت فتدرك نفسك جيدًا
تتباهى دومًا بالحدة .. المراوغة .. تلغيم الإشباع
حسنًا ...
ربما كان في الأمر انتقام شاحب من الماضي
ثأر منتظر لزوجة تجاوزت الأربعين
من رجل كذب عليها حينما كانا طفلين
بشأن الطريق الذي ستصل من خلاله إلى هذا العُمر
لكن ذلك ليس مهمًا الآن
أنا أحتاج فقط، وأكثر من أي وقت مضى لما يمتلكه
لن أتوقف عن قراءتك
أريدكما معًا
ليس بالتبادل، وإنما في اللحظة نفسها
كإلهين متنافرين
يخلقان تصالحهما الخاص في داخلي
لا أريد سوى أن أجسّد بدقة تامة
القصة التي كتبتها أنت منذ سنوات عن ثلاثتنا
وكنت تظن أنني سأتخيلها فحسب.
ممدوح رزق
اللوحة لـ Cagnaccio di San Pietro

السبت، 11 يوليو 2020

الحياة كوباء عند عبد الهادي الجزار وسرن كيركجور

اكتشفت في زمن الكورونا أنني لا أميل للعودة إلى اللوحات التي تجسّد الأوبئة القديمة بل إلى تلك التي تصوّر الحياة نفسها باعتبارها وباءً ممتدًا .. قد يبدو هذا مناورة ترويضية للتهديد المباشر للوباء، أو ما يشبه تخففًا من الوعيد المتنامي لوحشيته .. لوحات "عبد الهادي الجزار" تمثل ذلك بصورة حادة وناصعة من خلال قرائن محددة: العقاب الغيبي .. طقوس التطهر، خاصة في تجلياتها الأسطورية الشعبية .. التمادي في انتهاك المحظور كتناغم مع الشر المطلق الذي يسبق العقاب، وكجزء من التطهر ذاته.
انتهيت مؤخرًا من قصة قصيرة عن شخص يؤمن بأن ما يقف وراء وباء كورونا مجرّد رغبة في الاستمتاع الخالص بتعذيب البشر وقتلهم على نحو شامل، بنقاء تام من المقاصد الأخرى، وهو ما يدفع ذلك الشخص لتعمّد إصابة نفسه بالمرض، بوصفه انسجامًا جماليًا، قبل أن يكون واقعيًا، مع الحقيقة الماورائية للعالم التي تمثلها هذه الرغبة المنتشية في تدبير إبادة جماعية لا يمكن تعطيلها مبكرًا.
يحيلنا هذا إلى الامتزاج الوجودي عند "سرن كيركجور" بين "التصرف كما لو قد جيء بك إلى العالم من عند تاجر رقيق"، وبين "أن تترك نفسك للشيطان ليطهّرك من كل رجس، حيث ذلك هو المذاق الكامن في غموض الخطيئة"، وبين "الاستسلام اللامتناهي كمرحلة أخيرة تسبق الإيمان".
الوباء في لوحات "عبد الهادي الجزار" هو إرادة كونية تتقدم على الحياة، يجدر مسايرتها عن طريق التناثر الشهواني بين متناقضاتها: لاحظ العيون التي يسكنها الاحتضار، ومع ذلك يبدو كأنها تراقب سرًا خارج ذاكرتها .. الملامح المنهرسة، التي تظهر كما لو أنه تم ترميم أجزائها غير المتناسقة بعد تحطمها في الأزل، الأمر الذي يجعلها بعد تلاحم باهت أقرب إلى خلفيات خشبية لمرايا مخبوءة .. الأجساد المتواطئة في احتفال كابوسي للفناء، كأنما كل لوحة قناع ماكر لقبر مفتوح، تتزاحم داخله المصائر .. بهذه الكيفية يمكن أن تتخطى قراءة لوحة كـ "الكورس الشعبي" مثلًا التأويل الشائع المتعلّق بـ "مأساة المقهورين" .. كذلك لوحات "العائلة"، و"تحضير الأرواح"، و"المجنون الأخضر" كنماذج؛ فالتعاويذ والطلاسم والتشكيلات الطوطمية والسراديب والمجاذيب والأضرحة والأوشام ليست علامات ميتافيزيقية للدجل والخرافة، أو مجرد توظيفات رمزية للميثولوجيا الشعبية، وإنما لعب جدلي مع القدر، الإثم، الخلاص، اندماج سحري يعادل ذلك الذي كان لدى "كيركجور" بين الأوهام المتنافرة للطمأنينة والخلود. 
تفضح العيون في لوحات "عبد الهادي الجزار" الإبهام المتجذر في فكرة العقاب، وبذلك يكون التطهر تمجيدًا ملغزًا للخطيئة، حيث التوحد مع "الوباء الممتد" أو فكرته البدائية "الخالقة" والمقدسة التي يتم الخضوع لها.
منتدى الكتاب العربي ـ 8 يوليو 2020

الأربعاء، 1 يوليو 2020

قصص قصيرة جدا للكاتب الأميركي شون هيل

نسيان
احتضنت “دارلا” “ريك ” في الطائرة.. كانا متجهين لقضاء شهر عسلهما الثاني.. 
تغيرت الأمور منذ الغيبوبة التي أصابتها.. منذ أن نسيت كل شيء عنه.
انتظار
فقط تقبع “جوان” هناك؛ منتظرة “بيرت” حتى ينتهي.. لكن يبدو أنه أخذ وقتا طويلا.. 
كم من الوقت يمكن أن يعيشه مليونير عجوز في الخامسة والثمانين.
وداع
قضى “جاك” حياته يعمل في الخشب.. لا وقت للعائلة.. 
الآن، وعلى فراش الموت؛ تتجمع التماثيل حوله كي تودعه.
شهر العسل
وصلت البطاقة البريدية في مايو؛ (آسفة) كانت كل ما قالته..
على الأقل أعرف الآن أن “بريدجيت” ما زالت على قيد الحياة.. ليتها تظهر الآن حتى نقضي شهر عسلنا.
ابن
فتحت الباب، وجدت طفلا يحمل ملاحظة “هذا منك”..
حاولت أن أتذكر من تلك التي نمت معها.. كان ينبغي عليّ فورا الإقلاع عن الشرب.
حياة تالية
كان “ديريك” محاصرا عند حافة هاوية عميقة جدا، والروس يصوبون سكاكينهم إليه..
تردد قليلا ثم قفز مراهنا على تناسخ الأرواح.
حانة الشعراء ـ 30 يونيو 2020