السبت، 29 فبراير 2020

الدرويشة: لعبة التلصص

كيف يمكن للذات أن تتلصص على وجودها؟ .. هل يتخذ هذا التلصص طبيعة مستقرة، أم تتعدد أشكاله؟ .. ما الذي يكوّن الوجود حين تمارس الذات تلصصها عليه؟ ...
"انبهرت عندما سمعت كلمة "شغف"، انبهرت حتى إن نوبة من الضحك المتواصل المصحوب بدموع قد باغتتني. لم أستطع أن أجرح رومانسيتها وأصدمها بمعنى الشغف عند من يقتربون الخمسين: الشغف يا ابنتي يتسرسب منا طوال الثلاثينيات، وعندما نأخذ مقاعدنا ونتسلطن في الأربعينيات تصبح هذه الكلمة بلا معنى".
ربما تلازم هذه الاستفهامات قارئ المجموعة القصصية "الدرويشة" لصفاء النجار، الصادرة عن منشورات بتانة .. لكن ثمة تساؤل آخر قد يكون من الضروري أن يسبق تلك الاستفهامات، كأنما تنجم عن بداهته: هل يخلق فقدان الشغف الحاجة إلى التلصص؟ .. أفكر في أن الفوضى العارمة التي تكابدها الذات، وعدم قدرتها على الانفصال عن العالم المحيط بها هي نفس الكلمات التي يُمكن أن تدفعنا لتصوّر ما يعنيه "فقدان الشغف"، ومن ثمّ ما تقصده "الحاجة إلى التلصص".
"في أحد الاختبارات الشخصية .. كان هناك سؤال: هل تود الطيران أم أن تكون لديك طاقية الاختفاء؟ لا أريد الطيران، أنا ثقيلة جدًا، ولا أريد أن أقترب من الشمس الحارقة .. ربما أطير في يوم غائم، سأختار أن أكون مخفية .. لا أريد أن أتلصص على أحد .. سأغمض عينيّ وأجلس، ولن يقاطع اعتكافي أحد".
لا تريد الذات أن تتلصص على أحد، ولكنها تريد توظيف اختفائها في التلصص على نفسها .. التلصص الذي لا يكشفه أكثر من "إغماض العينين" دون أن يخدش وحدتها أحد .. إذن تريد الذات أن تختفي عن وجودها أيضًا، وليس عن عيون الآخرين فحسب .. ألا تكون مرئية بالنسبة لهذا الوجود حتى تتمكن من التلصص عليه .. لكن بما أن الاختفاء رجاء لا يتحقق؛ كيف يمكن تعويضه؟ .. هذا يستدعي تدبير نوع من التواطؤ بين الذات ووجودها .. الذات المتلصصة، والوجود الذي يدعي عدم الانتباه لها، كأنه اتفاق على ما يشبه لعبة غميضة يعرف كل من طرفيها مكان الآخر.
"فجأة ظهرت شجرة في وسط الطريق، وقد وقفنا، أو تجمّد كادر الحلم قبل أن نصطدم بالشجرة التي انبثقت قبل سنتيمتر واحد من مقدمة السيارة، لم يكن زوجي غاضبًا، لكنه لم يكن راضيًا، وشعرت في الحلم بأن وجودي لا فائدة منه، بالعكس بدا وكأن إمساكي بالمقود هو الذي استدعى الشجرة كأنني ضغطت على زر النداء الآلي لها، أو أنني أستدعي كل المعوقات في طريق زوجي".
مع هذا التواطؤ لن تبصر الذات وجودًا قائمًا بالفعل، يواصل مساره منعزلًا عن مراقبتها الخفية له، وإنما ستبصر وجودًا يتشكّل وفقًا لهذا التلصص: الأشباح الكامنة داخل الواقع .. المشاعر السرية تجاه الآخرين .. الفقد .. التورط مع شركاء الحياة .. حصار الذكريات .. ندبات التجارب غير المتوقعة .. انتهاك الجسد .. الهروب من الكوابيس .. الهوية المرتعشة .. الجنازات المتشابكة .. هلاوس الفناء.
"رأيتهم يتحركون في طابور، بين كل واحد منهم مسافة قصيرة، يرتدون ملابس تشبه ملابس الرهبان الفرنسيسكان، وظهورهم محنية، يسيرون في طريق نصف دائري في صمت ومهابة، وعلامات لشواهد قبور على يسارهم، ويبدو أن الطريق نصف الدائري الذي يسيرون فيه كانت نهايته تخلو من تأثير الجاذبية الأرضية، إذ كانوا يسقطون من فوق سطح الأرض ويتوهون في فضاء الكون".
سيكون وجودًا غير كاشف، ولكنه يتسم بالحدة الرمزية الناصعة، التي ترسم ما يشبه صورة مجسّمة للظلام المهيمن وراء ظواهره المألوفة .. كأنه حلم متسلل خارج الماضي والفهم والتنبؤ، ومع ذلك يجسّد مشاهد نقية للغموض القابض على الزمن والوعي والحدس .. ينتج التلصص وجودًا في حالة اختباء مجازي من العالم، يماثل اختفاء الذات التي تراقبه، ولكنه اختباء يستحضر العالم نفسه كخلاصة من الظلال القاتمة لحقيقته المحتملة.
"ومن الأصل لا تتذكرها صديقة، أو حتى زميلة، أو معرفة تحمل اسم "ريهام محمد حسن" .. ترسل لها أسماء صديقاتها المقربات تقسمهن لرفيقات الابتدائية .. والإعدادية .. والثانوية .. علّها تعلّق على اسم واحدة، فتركز جهودها للتذكر في مرحلة ما، مجرد مثير يدفع بالذاكرة النائمة في سبات عميق من الاستغناء، وعدم الحاجة .. من هذه "الريهام" التي لا تبعث في داخلي فرحًا أو حزنًا أو أسى أو ندمًا .. وتسخر من حيلي بردود محايدة؟".
هل هذا ما يحدث حقًا، أم أنه من الوارد أن يكون الأمر مختلفًا، وربما مناقضًا لما يبدو عليه؟ .. إن الدافع وراء أمنية اختفاء الذات قد لا يكون الرغبة في التلصص على وجودها، بل أن يؤدي الوجود هذا التلصص على الذات .. أن يكتشف إبهامه تلك الذات التي لا تستطيع أن تبصر ملامحها .. أن يتمكن أصله الغيبي المعتم من إعادة تشكيلها خارج التيه وفقًا لنواياه العارية، وبالتالي يمكن لهذه الذات ـ على الأقل ـ حين تخاطب نفسها أن تدرك من الذي تتحدث معه.
موقع "الكتابة" ـ 28 فبراير 2020

الاثنين، 24 فبراير 2020

سيرة الاختباء (11)

بدا كأن النجار النحيل، شاعر العامية الذي يسكن في تلك البقعة الضئيلة، وسط متاهة مجهولة، شبه مظلمة، لم نجرّب غرابة سكونها من قبل؛ بدا كأنه يعرف أننا قادمون إليه .. كأنه كان بانتظارنا، ولو كنا قد تأخرنا في الوصول لبيته، كان سيخرج إلينا من الحارة ثم إلى ناصية الشارع الطويل الضيق كي يأتي بنا إلى حجرة السطح .. لم تمر دقائق حتى أضيفت لمحمد عمار صفات جديدة في وعينا المشترك أنا وصديقي: البساطة .. الطيبة .. المراعاة الأبوية المهذبة .. فضلًا عن خفة الروح المتهكمة، التي أدركتها دون أن أتحدث معه في منتدى عروس النيل الأدبي.
ـ أنا مابفتكرش الوشوش، لأني تايه أغلب الوقت (يضحك) .. بس برافو عليكو إنكو عرفتوا توصلوا .. نشرب الشاي وبعدين أسمع قصصكو.
أخبرنا أنه يذهب ـ أحيانًا ـ إلى المنتدى ليضحك، أو ليعثر على أفكار للقصائد، أو ليوزّع أعداد "صهيل" التي يُشاركه تحريرها مجموعة من الكتّاب والنقاد الذين يجتمعون معه في مواعيد غير منتظمة داخل هذه الحجرة.
أصبح "محمد عمار" أشبه بالملاذ الأساسي في حياتي أنا ومحمد صابر .. لم يكن مجرد أب، أو أخ أكبر، أو صديق مقرّب، ولم تكن مشاعره تجاهنا تقتصر على الحب والاحترام والحرص على شؤوننا .. يكفي أن أتذكر كيف كنت أذهب إليه متلهفًا كي أقرأ له القصة الجديدة التي كتبتها، فتقابلني زوجته عند مدخل البيت، وتخبرني أنه مريض ونائم ثم أسمع صوته المتعب يناديني من حجرة السطح: "ممدوح .. إطلع .. أنا صاحي" .. حينئذ أصعد إليه متفاديًا النظر إلى الملامح الغاضبة لزوجته، الخائفة من تفاقم مرضه .. لم يتوقف عن استقبالنا والاستماع إلى قصصنا ومناقشتنا، والتحدث معنا في كل ما يخص الكتابة والحياة بالرغم من صحته المعتلة .. كان يأمر أهل بيته أن يوقظوه إذا أتيت، وكثيرًا ما كان يجبره التعب على البقاء ممددًا على السرير بينما يصغي لقصصي القصيرة، ويخبرني برأيه فيها.
خلال الفترة الطويلة التي كانت حجرة السطح لبيت محمد عمار مقصدنا المفضل؛ تعرفت أنا ومحمد صابر على أعضاء "صهيل"، الذين لا أعتقد أنهم ينسون الطقس الشهير لطلب الشاي عند محمد عمار؛ إذ كان يقوم بعد الزائرين؛ فإذا كانوا سبعة مثلا، يضرب أرض الحجرة بعصا غليظة كان يمتلكها سبع دقات قوية؛ فتعرف زوجته في الطابق السفلي أن عليها إعداد سبعة أكواب من الشاي.
لم تكن لدى محمد عمار دراية واسعة بفنيات القصة القصيرة، أو بجماليات الكتابة السردية، أو حتى بقواعد اللغة؛ ولكنه كان يمتلك من الحساسية الداعمة، والحدس المتفهّم، والاستدلال الحكائي ما كان يمنح طاقة سرية لوجودي، ليس فقط ككاتب يخوض بداياته، وإنما أيضًا كولد صغير يريد أن ينتزع استقلالًا حقيقيًا لعالمه الخاص خارج شرور الحياة التي تحاصره .. كان يمكن تعريفه بالعجوز النادر، الذي يعتبر أن عدم الإصغاء للصبية الصغار ـ خاصة لو كانوا يكتبون ـ والتحدث معهم في أي وقت يحتاجون فيه لذلك جريمة ليس بوسع أي شيء تبريرها.
موقع "الكتابة" ـ 23 فبراير 2020

الاثنين، 17 فبراير 2020

الاحتجاز

ظلوا يحتجزونه سنوات طويلة جدًا داخل هذه الحجرة .. كان يمكن لتلك السنوات أن تكون أقصر في وعيه من زمنها الفعلي، لولا أنهم بدهاء عفوي جعلوا النافذة الصغيرة الوحيدة موجّهة فقط نحو السماء، بحيث يتعذر عليه رؤية أي شيء آخر في الخارج .. لم يكتفوا بذلك، وإنما تركوا له أيضًا مخزونًا من الأوراق والأقلام لكي يكتب ما يريد طوال مدة احتجازه .. كانوا يدركون تمامًا أثر ما يدبرونه، وهكذا صارت السنوات أطول بكثير من زمنها الفعلي.
كان تعذيبهم له رهيبًا .. على فترات متفاوتة التقارب كان يُفتح باب الحجرة ثم يدخل إليه شخص جديد .. كل مرة شخص مختلف عمّن سبقه .. أحيانًا يكون رجلًا، وأحيانًا يكون امرأة .. أعمارهم وملابسهم وحركات أجسادهم مغايرة لبعضها أيضًا .. يتقدم نحوه ذلك الشخص ثم يقف أمامه وينظر في عينيه، ويضحك .. ضحكاتهم كذلك غير متشابهة .. للحظات قليلة لا يفعل أكثر من الضحك ثم يغادر الحجرة ويغلق الباب ثانية .. سنوات طويلة جدًا قضاها عاجزًا عن مقاومة هذا التنكيل المتكرر .. يفقد في تلك اللحظات قدرته على الحركة والنطق وحتى على إغماض عينيه، ولا يستردها إلا بعد أن يصبح بمفرده مرة أخرى.
كان قادرًا على سماعهم بوضوح من وراء باب الحجرة، ولم تكن أصواتهم تؤكد سوى أنهم يعيشون حياة عادية، تماثل حياته المألوفة التي يقضيها في الأحلام كأنها الواقع .. لهذا كانت أقرب إلى حلم واحد ممتد بعدد أيامه المتعاقبة، يعيشه كما لو أنه يشارك البشر دنياهم الحقيقية منذ الطفولة وحتى العُمر الذي صار إليه، ولا يحتاج بعد الاستيقاظ منه يومًا بعد آخر داخل الحجرة ذاتها إلى ما يحتاجه الشخص العادي .. لا يحتاج أن يأكل أو يشرب أو يضاجع أو يقضي حاجته أو يتحدث مع الآخرين أو يمشي في الشوارع أو يجلس في المقاهي .. كل هذا كان يؤديه داخل العالم التقليدي الذي يدخله بمجرد البدء في النوم، أما اليقظة فلم تكن تعني سوى الجدران والنافذة الصغيرة، والباب المغلق .. لكنه مثلما حُرم من معرفة الماضي الذي سبق احتجازه الغامض، والدوافع التي جعلته حتميًا طوال تلك السنوات، وموعد النهاية التي يعجز عن توقعها؛ لم يفهم كذلك لماذا كان عليهم تعذيبه بتلك الكيفية الثابتة التي لا تتغير .. كان بديهيًا أن يمضي عمره في تدوين أشكال الانتقام التي عزم على تنفيذها عندما يستطيع الخروج .. حدد لكل شخص أسلوبًا خاصًا في الثأر، يعتمد على طريقة الضحك التي يُعذبه بها، ولا تتطابق مع طريقة شخص آخر .. لهذا أيضًا بالضرورة؛ لم يكن من الممكن أبدًا أن ينسى وجوههم.
سنوات طويلة جدًا لم يفعل سوى النوم كي يحلم بالواقع، والتحديق في غيوم النهار والليل عبر النافذة الصغيرة، وكتابة خطط الانتقام من الضاحكين، والتلصص على أصواتهم من وراء باب الحجرة .. الأصوات التي بدأت ذات يوم في التناقص بتدرّج بطيء، ومعه تباعدت مرات دخول كل منهم إليه .. لكن هذا لم يخفف من آلامه، بل على العكس؛ كان هذا التناقص التدريجي في أصواتهم، والمقترن بتباعد نوبات التعذيب سببًا في تضاعف الضحكات القديمة داخل ذاكرته.
حينما اختفت أصواتهم تمامًا، ومرت فترة كبيرة دون أن يدخل إليه أحد، وبعد أن امتلأت كل الأوراق التي لم يهتموا من قبل بالاطلاع على ما دوّنه بها؛ جرّب أن يفتح باب الحجرة .. كانت هذه هي المرة الأولى التي يحاول فيها ذلك .. وجد الباب مستجيبًا لحركة يده التي جذبته للخلف .. كأنه لم يكن موصدًا في أي وقت سابق .. تحرّك إلى الخارج حاملًا أوراقه الكثيرة .. لم يجد السماء والأرض اللتين اعتاد رؤيتهما في الحلم؛ بل السماء كما كان يتخيّلها حين يحدّق في الغيوم عبر النافذة الصغيرة، والأرض كما كان يتخيّلها في وحدته الطويلة كظل هائل لتلك السماء .. فوق هذه الأرض تناثرت جثثهم التي يعرف وجوهها جيدًا .. لم يكن هناك غير هذه الجثث التي تجمدت ملامحها على الضحكات التي عذّبته طوال السنوات الطويلة جدًا .. السنوات التي صارت الآن أقصر بكثير من زمنها الفعلي .. مترنحًا بحسرته الثقيلة؛ راح يمر على كل جثة، ويضع بيديه الشائختين في فمها المفتوح والمتحجّر ورقة الثأر التي تخص صاحبها قبل أن يعود إلى داخل الحجرة ويغلق بابها بإحكام.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 16 فبراير 2020

الجمعة، 14 فبراير 2020

الشبكة السردية للقضيب

لم أرها قبل ذلك سوى مرتين، أو ثلاثة .. إحدى هذه المرات كانت في منتصف التسعينيات بمجلة (أدب ونقد) .. كنت مازلت طالباً في ثانوي، وكانت جريدة (المساء) قد قدمتني منذ فترة قصيرة إلى الساحة الأدبية .. لم تكن الزيارة الأولى للمجلة بل سبقتها ـ ربما بأسبوعين فقط ـ زيارة أخرى تركت فيها قصصي القصيرة للنشر مع سكرتير التحرير (مجدي حسنين) .. في المرة الثانية قابلت (حلمي سالم) الذي صافحني بسعادة، وأخبرني أنه قرأ قصصي، وأنه كان يتصور أنني أكبر سناً بكثير .. يومها أهداني كتاباً صغيراً اسمه (الشبكة السردية للقضيب) للكاتب، والناقد الانجليزي (توماس باري)، ترجمة (مرسال عبد الواحد) .. كتاب رائع، وممتع يتناول التقنيات الكتابية، والتجارب الواقعية التي استخدمها القصاصون الميتون من الخجل لاصطياد النساء .. الذين تنقصهم القدرة، والشجاعة على اتخاذ الخطوة الأولى باتجاه علاقة جسدية مع امرأة .. تحدث (توماس باري) عن أن نَسب النصوص الأدبية إلى الحياة الشخصية للكاتب، والإصرار على انتماء تفاصيلها إلى عالم خفي لخالقها سيظل إجراءاً روتينياً، وممارسة خالدة، لن تتمكن النظريات، والدراسات النقدية المتعاقبة من تعطيلها ـ بل يظهر في حقيقة الأمر أن تلك النظريات، والدراسات المتراكمة تزيد عبر الزمن من قوة الحاجة الغريزية لإلصاق السرديات بما يمكن وصفه الحقائق السرية لأصحابها .. إذا كان الأمر كذلك فيمكن لنوعٍ من الكتّاب الاستفادة من حتمية تلك الهيمنة .. يمكن لقاصٍ مثلاً أن يتعمّد في قصصٍ له أن يتكلم بضمير الأنا داخل حالات مشيدة على دعائم مأخوذة من حياته الشخصية، ليسرد من خلالها الملامح التي يرغب لها أن تكوّن صورة راسخة لجبروته الجنسي .. يمكنه استغلال القص بهذا الشكل في تمرير الصفات، والسمات الخارقة لقضيبه عبر مناخ يبدو للوهلة الأولى بريئاً، ومحايداً .. حلل الكاتب كثيراً من النماذج التي أعطى فيها القص الدعائي للقضيب نتائج باهرة لأصحابها .. أولئك القصاصون، المهووسون بالأثداء، الذين يعانون من عقدة أوديب مثلاً، وكانوا يقضون حياتهم بين الكتابة، والاستمناء، والرعب من تخيل الاقتراب من النساء .. الذين انهالت عليهم هدايا القارئات بعد نشر قصصهم الترويجية مثلما تنهمر دائماً المغازلات، والدعوات الصريحة من الرجال على كاتبات النصوص الإيروتيكية .. لا أتذكر الآن هل  أشار (توماس باري) إلى نجاح هؤلاء القصاصين في استغلال تلك الهدايا أم لا.
عمري ما شعرت وأنا في الابتدائي، ولا حتى بعد ذلك أن أبي، وأمي قد ناما مع بعضهما .. لم يكن هناك أثر لتلك الخرافة المستبعدة .. حينما كنت صغيراً لم أفكر في العلاقة الجنسية بينهما، لكن عندما كبرت ظللت أسأل نفسي متى، وكيف كانا يفعلان ذلك في شقة ليست واسعة، حجراتها متلاصقة، وفي وجود أربع أبناء، ثلاث منهم شباب! .. خاصة لو عرفت يا دكتور أن حجرة والديّ كانت محاصرة بين حجرتي أنا، وأخي، وأختي، وحجرة أصغر تخص أخي الأكبر، والتي بينها، وبين حجرة أبي، وأمي شباك واسع جداً .. إذن كيف؟! .. إذا كان في مرة ذات صباح يا دكتور، وبعدما استيقظ أخي الأكبر من النوم زعق في أبي لأنه لم يتمكن من النوم بسبب صوت جيصه القوي الذي لم يتوقف طوال الليل .. أبي ظل يضحك، وقال لأخي أنه هو أيضاً لم يتمكن من النوم لنفس السبب .. قوة صوت جيص أبي كانت تُقلق منامه شخصياً! .. إذاً عبور الصوت كان سهلاً للغاية يا دكتور؛ فهل كان أخي الأكبر يسمع تأوهات أمي الصارخة، وزمجرة أبي الوحشية طوال سنوات طويلة، وأن هذا قد يكون من أحد الأسباب التي ربما تُفسر وفاته شاباً؟!.

الاثنين، 10 فبراير 2020

سيرة الاختباء (10)

"محمد عمار" .. شاعر عامية في نهاية الخمسينيات من العمر .. واحد من الذين تواجدوا في المرة الوحيدة التي ذهبت خلالها إلى منتدى عروس النيل الأدبي .. لكنني لم أعتبره من ضمن الحاضرين .. لماذا؟ .. لأنه كان طوال الوقت جالسًا بمفرده عند باب القاعة، بعيدًا عن الطاولة الكبيرة التي تُدار الندوة فوقها، ولا يتكلم أبدًا .. لأنه الوحيد الذي كان يرتدي جلبابًا، بدا كعلامة سخرية من المكان وشخوصه، ليتناغم مع الابتسامة الصغيرة الهازئة التي كان يتطلع بها من حين لآخر نحو الوجوه المحيطة بطاولة الندوة .. لأن الضجر الذي كان يرتسم على ملامحه السمراء الشاحبة بوضوح، وينبعث من عينيه الغائرتين وراء زجاج نظارته السميك كان يدفعه على فترات متقاربة للنهوض من فوق كرسيه ثم الوقوف خارج عتبة الباب لإشعال سيجارة، والاستمتاع لحين الانتهاء من تدخينها بنسيم المساء الصيفي داخل حديقة قصر الثقافة .. لأنه صنع الذكرى الجميلة الوحيدة في هذه الليلة بالنسبة لي حينما تحرك بشعره الأشيب، وقامته الطويلة والنحيفة بعد انتهاء الندوة، ودون أن يتخلى عن صمته أو ابتسامته الصغيرة الهازئة، ليوزّع على الحاضرين نسخًا من نشرة أدبية مطبوعة بطريقة الماستر اسمها "صهيل".
"محمد صابر" .. صاحبي في قصر ثقافة الطفل .. شريك القراءة واللعب والتجوّل وأبحاث الفضاء ومغامرات فريق "م  "2 x.. رفيق التنقل من "المكتبة الخضراء"، و"قصص بوليسية للأولاد"، و"السلاسل التعليمية" إلى "روايات مصرية للجيب" ثم إلى "إشراقات أدبية"، ومجلة "القصة"، والمطبوعات القصصية العربية والمترجمة في المكتبات والمعارض وأكشاك الصحافة .. صديق الكتابة الأول.
ذهبت أنا ومحمد صابر إلى بيت محمد عمار .. لم نكن نعرف أنه بيته، بل كنا نعتقد أن العنوان المدوّن بنشرة "صهيل" يقود إلى مقر مستقل للجماعة الأدبية التي تحمل النشرة اسمها .. اكتشفنا بعد وقت طويل من البحث وتمرير السؤال بين الناس والتوهان في أماكن خاطئة بميدان (الشيخ حسنين) أن ما نبحث عنه هو منزل الرجل ذي الجلباب الأبيض، الذي قام بتوزيع النشرة في منتدى عروس النيل الأدبي .. ذهبت أنا ومحمد صابر إلى هناك لأننا كنا نمتلك ما يكفي من إصرار على اتخاذ كل ما يتاح لنا من خطوات في "عالم الأدب" .. وصلنا إلى بيت قديم متهالك داخل حارة منكمشة، عالقة بين شوارع جانبية غاية في الضيق .. وبالرغم من كوننا في المرحلة الثانوية إلا أن إدراكنا بعدم معرفة الأهل لوجودنا في هذا المكان كان يمثل مخاطرة زاد من عبء التفكير فيها تلك السلالم المتهدمة التي صعدناها وراء محمد عمار إلى حجرة صغيرة فوق السطح .. رفوف كتب وسرير وكنبتان عتيقتان وراديو وتليفزيون قديم وكرسي خشبي وطاولة تحمل أوراقًا وأقلامًا، ومصباح يتدلى من السقف، يُخفي ضوؤه الأصفر الشاحب أشياء الحجرة أكثر مما يُظهرها .. يسمح لها بالاختباء وراء أفكار بصرية مشوشة عن طبيعة وجودها الباهت .. فخذان فخمتان فوق الحائط لراقصة باليه روسية لم أعد أتذكر اسمها، وقد يكون هذا أفضل؛ فربما كان هذا النسيان من ضمن الأسباب التي جعلتها تواصل الرقص فوق نفس الحائط داخل ذاكرتي حتى الآن .. فخذان ساحرتان في حجرة كهذه يجب أن تكونا خيالًا أكثر من كونهما صورة منتزعة من مجلة قديمة .. تحوّل المشهد إلى حلم منعزل بقدر من الارتباك، غير متسق على نحو ما مع العالم الذي أتينا منه أنا وصديقي، رغم الدفء الريفي الغامض الذي يسكن الحجرة .. كان هناك قليل من الخوف يناوش هذا العبور المبهم، الذي يمتلك هدوءه الخاص، نحو معرفة مغايرة لحياة "أديب".
موقع "الكتابة" ـ 9 فبراير 2020
اللوحة: Rene Magritte

الخميس، 6 فبراير 2020

تراب سميك

أنهيت تناول الغذاء ثم توجهت إلى الحمام فيما كانت طفلتي داخل الشرفة، وزوجتي تقف عند باب الشقة، على وشك ارتداء حذاء الخروج .. أطفأت ضوء الحجرة وأغلقت بابها بعد خروجي من الحمام ثم توجهت إلى السرير للحصول على قيلولتي اليومية .. من تحت الغطاء الثقيل سمعت صوت باب الشرفة يُفتح ثم يُغلق، فاستنتجت أن طفلتي قد غادرتها حيث ستخرج مع أمها بعد لحظات للذهاب إلى بيت جدتها كالمعتاد .. سمعت طفلتي تسأل أمها: أين بابا؟.
لم أسمع رد زوجتي عليها، ومع ذلك لم يكن عندي سبب للشك في  أنها ستخبرها بأنني نائم، أو على الأقل ستشير لها نحو حجرة النوم .. فجأة سمعت طفلتي تسأل زوجتي مرة أخرى، وبصوت أعلى: أين بابا؟ .. إذا كانت زوجتي قد تجاهلت الرد عليها، ربما لأنها غاضبة منها لسبب ما؛ فإنه من السهل على طفلتي تخمين أنني في السرير الآن مثل كل يوم في هذا الوقت .. لكن طفلتي كررت سؤالها للمرة الثالثة وبنبرة أقوى تقارب الجزع .. حسنًا، إذا كانت زوجتي قد قررت الاستمرار في عدم الرد عليها؛ لماذا لا تقطع طفلتي هذه الخطوات القليلة من الصالة إلى حجرة النوم كي تراني وتتأكد بنفسها من أنني نائم؟ .. فكرت أن أناديها وأخبرها بأنني في السرير لكن شيئًا مبهمًا كان يمنعني من ذلك .. سمعت صوت باب الشقة يُفتح، بيد زوجتي حتمًا، وأقدام تتحرك إلى خارجه، ثم سمعت طفلتي تبكي وتسأل أمها مجددًا بنحيب متوسل: "أين بابا؟" قبل أن يٌغلق باب الشقة ويسود الصمت.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 5 فبراير 2020
الصورة لـ joel peter witkin

الثلاثاء، 4 فبراير 2020

زيارة أخيرة لأم كلثوم: أسطورة اليُتم

في رواية "زيارة أخيرة لأم كلثوم" لعلي عطا، والصاردة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية؛ يخلق الراوي بواسطة محاولاته المنهكة للتذكر إلهه الخاص .. التذكر الذي لا يستعيد الماضي، أو يسترجع أطيافه، وإنما التائه بين الافتراضات الشاحبة عن حقيقة حدوثه .. لهذا فالإله الذي يخلقه التذكر سيكون إلهًا مضادًا، مرسومًا على صورة الراوي المترنّح بين المشاهد الغائمة .. سيكون إلهًا متعجبًا، ضجرًا، منهكًا، متجهمًا، هائمًا على وجهه، ولا ينطق .. لكن الراوي سيمنحه كذلك أصلًا واقعيًا يليق بألوهته المضادة .. سيكسبه شخصية مالك الأرض التي يكافح الراوي لاكتشاف بدايات وجوده فوق امتدادها المكوّن للمدينة، وما يسبق هذا الوجود .. صاحب المكان، الذي يحمل اسمه، كأنه موضع سقوط الإنسان الأول من السماء أو خروجه من العدم، حيث سيظل بالرغم من كل اختبره "عاريًا، بلا سبب، وكأنه مرغم على ذلك" مثلما يرى الراوي نفسه في الحلم .. موطن الجماعة البشرية التي بدأ التاريخ وفقًا لسيرتها .. كأن هذا المكان هو المكوّن الأساسي لقاطنيه، محرّك أقدارهم، ومُحدِد مصائرهم .. روح مالكه التي سكنت أجسادهم منذ الميلاد المتعيّن بلحظة حضورهم الأولى داخل ذلك الفضاء القديم، وحتى الموت غير المشروط بمغادرته.
"بعد أيام، ستفقد خالتي النطق وسترفض تناول أي طعام، ثم سيحملونها فاقدة الوعي إلى العناية المركزة في مستشفى المنصورة الدولي. ثم ستتصل أختي أمل لتعلمني بالخبر المتوقع .. جرى ذلك صباح 3 سبتمبر 2018".
يتفحص الراوي هذه الجذور الوجودية الغامضة، مقارنًا بين لحظتين مركزيتين في حياته: بلوغه سن الثامنة عشرة عام 1981، ووصول الابن للعمر ذاته عام 2018 .. بين العالم في عام 1981 (زيارة السادات إلى المنصورة ـ اغتيال السادات ـ مصرع يحيى الطاهر عبد الله في حادث سيارة)، وفي عام 2018 (تصديق دونالد ترامب على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس) .. أول احتفال بعيد ميلاد في حياة الراوي، حيث "اعتقد أنه أفلح أخيرًا في الإمساك ببذرة أمل في حياة أفضل، في ظل تشجيع صادق من الأم والأب والخالة أم كلثوم" .. هل سيتحتم على الابن الخضوع للمسار المُهلك ذاته، ولو تحت وطأة تفاصيل وملابسات تبدو مختلفة ظاهريًا، ومتطابقة في جوهرها؟ .. يحاول الراوي توقع الإجابة بواسطة التذكر .. يحاول اختراق ذكريات الابن قبل حدوثها باعتبارها ماضٍ شخصي قبل أن تكون مستقبلًا محتملًا.
"أنا نفسي الآن أختلف عما كنته .. كلانا تغيّر، ولا أقول تبدّل. أنا ودعاء نتبادل القسوة، ولا يبدو أن ذلك يمكن أن ينتهي. نتبادلها حتى في الأحلام، أحلامي، فأنا لا أعرف بمَ تحلم هي، بما أن كلامنا النادر لا يتطرق إلى هذا الأمر. بدأ 2018 وانتهى، وكلانا ينام وحده. حدث ذلك بعد 28 عامًا من زواجنا. ثلاثة عقود لم ينم كل منا لحاله في سرير؛ إلا اضطرارًا. فهل كان على أبي الذي كان متحمسًا لارتباطي بابنة شقيقته؛ أن يترك لي يا صديقي شيئًا مكتوبًا. إجابات عن أسئلة لم يتسن لي طرحها عليه وهو حي .. لكن كيف كان يمكن أن يحدث ذلك، حتى ولو كان يعرف الكتابة؟".
يمزج الراوي بين ما يحاول تذكره، وأحداث ومشاهد يومية متباينة، أو وقائع تبدو للوهلة الأولى منفصلة عن صور الماضي التي يتم استكشافها، وهو لا يسعى بذلك إلى التعرّف على حدود الهيمنة لتلك العناصر المختلفة، أو موضع البداية والنهاية لأثرها الغيبي، وبالضرورة المكامن الأزلية لأشباحها فحسب؛ بل يريد كذلك أن يدفعها حتى تضيء كل جزئية منها الأخرى بصورة غير متوقعة، رجاءًا في فهم شامل للسياق الزمني الذي يتضمنها .. الفهم الذي لا يجرّد العالم من الفناء، وإنما ـ على الأقل ـ من الصمت الملازم له.
"قبل زيارة السادات للمنصورة، أتذكر أنه قال بنفاد صبر: "اعلموا أن للديموقراطية أنيابًا" وفي تلك الأثناء ذاعت حكاية "عاشور". امرأة في نحو الثلاثين من عمرها، طويلة وتميل إلى البدانة. فجأة كستها علامات البلاهة، وصار الشباب (من الذكور فحسب) ينادونها "عاشور"، فتقذفهم بما تطوله يداها وتكيل لهم السباب. قيل إنها حبلت من أبيها الكهل الضرير، وكانت ثمرة ذلك طفلًا جرى إيداعه في دار لرعاية الأيتام في طلخا".
لا يتعلق الأمر بالحنين فقط، وإنما بالرؤية الاستثنائية المتعذّرة للماضي أيضًا .. بامتلاك بصيرة كاشفة لما وراء هذا الماضي .. باستيعابه خارج الإطار الذاتي، كلطشة ضئيلة باهتة في لوحة بالغة العدائية والغموض .. كأنها تحفيز للذكريات على الوصول إلى الأورجازم المعطّل بوصفها أحلامًا، ليست ملعونة بغياب التفسير، وإنما لأن هذا الغياب يُرجئ طوال الوقت خلاصًا مبهمًا أو استدراكًا ملغزًا للأمر .. هذا ما يجعل الماضي دائمًا محل شك، وحينما يسأل الراوي أيًا من الذين يخاطبهم إن كان يتذكر حدثًا ما، فكأنما يريد التيقن من أن هذا الحدث قد وقع بالفعل، وبالكيفية التي يعتقدها الراوي .. لهذا أيضًا تبدو هذه المراجعة للتاريخ العائلي كأنها تشريح للسيرة البشرية في نطاق البحث عن ثغرة لتحريرها من الضجيج والفوضى، ويبدو الراوي كحصيلة مرتعشة من الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية، أو كخليط متطوّح من الجروح المتراكمة التي سبقت وجوده الشخصي .. يتمثل هذا في الصوت الذي يوقظه مفزوعًا فجأة لشخص يعتقد بأنه يعرفه، ولكنه لا يتمكن من تحديد صاحبه .. "مرة يكون الصوت لرجل، ومرة يكون لامرأة، وثالثة لطفل أو طفلة، وأحيانًا يكون لأكثر من شخص" .. الصوت الذي يأتي من داخله وليس من الخارج كما يتصوّر .. الذي ينتمي إلى جميع من عرفهم ويعيشون في باطنه المتصدّع .. الذين لم يعرفهم ولكنهم يشبهونه، وقد استعاروا صوتًا مألوفًا له .. صوته الموزّع بين كل هؤلاء باعتباره متناثرًا في حيواتهم .. لا يقصد النداء ذلك النائم وحده في غرفة مستقلة، بل الكائن المفقود الذي أضاعه من قبل أن يبدأ في الزحف داخل المتاهة.
"قيل إن عاملًا في ورشة دوكو سيارات هو من قتلها حرقًا لأنها تصدت لمحاولته النوم معها ومع بناتها، وقيل إنه ارتكب فعلته انتقامًا من المرأة نفسها؛ لأنها تلكأت في دفع مبلغ كان يحتفظ به لديها على سبيل الأمانة. فاكر يا ماهر الحادثة دي؟ قال: أيوه فاكر".
ثمة أحداث يسردها الراوي كوقائع حقيقية، أي تنتمي دون إشارت ريبة إلى واقع الرواية، وليس المقصود هنا واقع كاتبها وإنما حياة الراوي في متنها، لكنها بالنسبة لي أقرب إلى التوهمات .. مشاهد نقية تمامًا من علامات الشك، لم يترك الراوي دليلًا لعدم الثقة في وجودها، وأراها في المقابل غير حاضرة إلا في ذهن الراوي .. لكنها ليست توهمات طائشة بل اختلاقات مقصودة من اللاوعي، كأنما يدبر الراوي لعبة سرية، لا يدركها بوضوح، حيث تتأمل الذات نفسها على نحو مغاير، غير منطقي، ككابوس لعينين مفتوحتين، أو عبر ما يمكن تسميته بفانتازيا الاكتئاب .. اللعبة التي تُبطل خصوصية الفانتازيا ذاتها، وتخرّب استقلالها عن المعتاد .. لنقرأ مثلًا هذا الحدث الذي اعتبره متوهمًا من الراوي:
"قبل بلوغ نفق العباسية تباطأت حركة السير. كانت على يساري سيارة "سكودا" يجلس إلى جوار سائقها طفل في نحو الثامنة من عمره. نظر السائق نحوي وسألني: "أنت مصري؟" قلت له: "أيوه" .. قال: "لو بتتعذب في البلد دي مش هتسيبها؟". قلت له: "لو فيه فرصة هسيبها طالما الحكاية كده". قال: "أنا عمري 47 سنة وبيعذبوني بقالهم سبع سنين، وعشان كده هسيب البلد". قلت له: "طيب راجع نفسك عشان خاطر الطفل ده" .. هنا أمسك بمصحف وقال لي: "والمصحف هعدي الحدود دلوقتي ومش هرجع تاني أبدًا. أنا لازم أنفذ كلام ربنا". ثم انطلق بمجرد اشتعال الضوء الأخضر، في اتجاه شارع الجيش، فيما توجهت أنا يمينًا لأجد أخي ماهر في انتظاري".
ما الذي يمكن أن يُعد دليلًا على كون هذه الواقعة ليست حقيقية، أي لا تنتمي إلى واقع الرواية كما يبدو؟ .. قد تكون مقارنتها بهذا المقطع هي البرهان على أن الراوي كان يتوهم حواره مع سائق السيارة التي يجلس طفل في الثامنة بجواره:
"لا شك أن حاجتي، بعد أن تخطيت الخامسة والخمسين من عمري إلى المودة والسكن هي أكبر من أي وقت مضى. ومع ذلك أجد أن بلوغ تلك الحاجة ليس أمرًا مضمونًا، بما أن سلمى لم تنته بعد من أداء دور الأم والأب في رعاية أولادها الثلاثة. لن يتاح في الوقت الراهن أن نقيم معًا طوال الوقت؛ فليس مستساغًا أن يجمعنا بيت تقيم فيه مع ابنتيها وابنها. وأنا أيضًا لست مستعدًا للابتعاد عن باهر، وهو في ذروة مراهقته، التي لا تخلو من الرعونة الشديدة أحيانًا والتهرّب دائمًا من تحمل المسؤولية".
مشهد آخر، أو بشكل أدق هذه الكلمات تحديدًا أراها لم توجد إلا في ذهن الراوي:
"أما أعجب ما حدث مع ابراهيم السمكري، فهو أنه قال لي فجأة، وأنا أهم بمغادرة ورشته: "أنا ليا عندك طلب، عاوزك تشوفلي واسطة عشان أشتري كارنيه نقابة الصحفيين!".
وما قد يُعد دليلًا على أنها كلمات لم تصدر من السمكري، وإنما تصورها الراوي كذلك هو مقارنتها بهذا المقطع:
"ثم إن مدخراتي صفر: تلك حصيلة ثلاثين عامًا من العمل في الصحافة .. عمل متصل في مكانين؛ "عرب اليوم" ووكالة "مصر المحروسة". بالكاد حققت الستر. والآن يكاد الستر يذهب بلا رجعة، وأنا على أبواب التقاعد الذي سينزل بدخلي إلى أقل من ألفي جنيه شهريًا".
ما تُظهره "زيارة أخيرة لأم كلثوم" كتداخل مستمر ومتعمّد بين الخاص والعام هو محاولة الراوي للقبض على توحّد قائم بالفعل، وغير مرئي بينهما .. التوحّد الذي شيّد تاريخًا أصليًا للعالم في غفلة من العابرين نحو الموت .. لذا فعماء الراوي هو ما يجاهد للعثور على هذا التوحد الخفي بين الخاص والعام، أي بين الأماكن والأزمنة والكائنات كافة حيث لا تؤدي جميع الأشياء المتمايزة والمتنافرة إلى بعضها، بل إن جميعها أشياء واحدة، يشكّل فورانها المتأجج ظلامًا راسخًا في روح الراوي .. لنلاحظ على سبيل المثال كيف ينتقل من وصف الأزمة التي تعانيها "عرب اليوم" إلى شهادة مبارك ضد مرسي ثم إلى الحكم الذي صدر بسجن امرأة لثلاث سنوات بعد تحرشها جنسيًا بقرد محبوس في قفص بأحد محلات بيع الحيوانات الأليفة في المنصورة .. كيف يبدأ السرد بالتحاقه بالصف الثالث الثانوي عام 1981 بمدرسة الملك الكامل، في حي توريل غرب المنصورة، ثم يتحدث عن الخواجة "توريل" نفسه، والأرض التي تبرّع بها لحديقة الحيوان، قبل أن يعود إلى كلمات أبيه "لو اضطريت أبيع هدومي عشان تكمل تعليمك هعمل كده" .. كيف يرسم لقاء جسده اليافع بجسد سهام التي في مثل عمره فوق سطح بيت عزبة عقل ثم ينتقل إلى عمل سهام في بوفيه كلية الآداب، وفتور علاقتهما، وتجدد تفكيره في ابنة عمته كزوجة محتملة، ثم يتحدث عن مبنى كلية الآداب، وشارع جيهان الذي يقع به، وعن اسمه الأصلي "شارع عبد الرحمن الخميسي" .. العماء الذي يطارد المطلق الضامن لأي ذكرى أن تمر دون وعي منها عبر كل جسد وحيّز وفي كل لحظة، كأن الحكايات المختلفة في حقيقتها مرآة ثابتة، لا تتغير، لهذيان جحيم واحد، لا يتبدل بالضرورة، وما يقوم به الراوي في "زيارة أخيرة لأم كلثوم" هو نوع من المسايرة لهذا الهذيان .. المسايرة التي تجسدها الانتقالات المفاجئة، غير المحكومة شكليًا، بين الماضي واليومي، والخاص والعام، ويقودها الخيال، كمحاولة للانتصار على شرط الحياة المحكوم بالزوال مثلما كتبت إيزابيل الليندي في خاتمة رواية "صورة عتيقة"، والملحة على الراوي في سرده للذكريات.
"بطلة رواية "صورة عتيقة"، ستتمكن يا طاهر في النهاية من لمّ شتات ماضيها، منذ أن ولدت وستلم حتى بملابسات ارتباط أمها، التي ماتت وهي تلدها بأبيها الذي رفض الاعتراف بها، وتغاضى عن حملها اسم شخص آخر. لكن ماذا عني أنا يا صديقي؟ الشتات الذي لفظته الذاكرة لا يزال يبدو أصعب من أن تتمكن من استعادته على نحو مماثل، على الأقل الآن".  
أن تخلق محاولاتك المنهكة للتذكر إلهًا مضادًا (عقل)، مرسومًا على صورتك (الضجر)، ويحمل اسمه المكان الذي عاشت فيه أسرتك (عزبة عقل)؛ فهذا يعني أنك خلقت مجازًا للماضي، للانطواء العاجز داخل هامش العنف العائلي، للاكتئاب، لقسوة الزوجة، للرغبة المزدوجة في استردادها والانفلات من سخفها .. المجاز الذي تحلم به قادرًا في لحظة مباغتة وخارقة أن يحوّل يُتمك إلى أسطورة فعلية تتجاوز تلك التي حاولت إيزابيل الليندي أن تخلقها في "صورة عتيقة" .. المجاز الذي تصير إليه استنادًا إلى الإله الذي خلقته بنفسك .. حينئذ يمكن للأسطورة أن تصير واقعًا بديلًا، يبدأ بعد نسيان كامل.
موقع "الكتابة" ـ 3 فبراير 2020

سيرة الاختباء (9)

اكتشفت بالصدفة خلال الأسبوع الماضي أنه في يناير عام 2016 وقع واحد من أغرب الأحداث وأكثرها كوميدية بالنسبة لي .. أثناء بحث اعتيادي في ذاكرة فيسبوك فوجئت بأن الكاتبة الفلسطينية سحر أبو ليل قد اختارت جزءًا من روايتي "الفشل في النوم مع السيدة نون" التي أصدرتها دار الحضارة عام 2014، والمنشور في العدد 152 بمجلة أوكسجين، لقراءته في برنامجها الإذاعي على ساوند كلاود .. تكمن الغرابة في أن رواية "الفشل في النوم مع السيدة نون" ليست من الأعمال الأدبية التي يسهل عرض مقاطع منها في الراديو، خاصة الجزء الذي اختارته سحر أبو ليل، أما الكوميديا فتتجسّد في أوضح صورة عند سماعها وهي تقرأ مثلًا بصوتها الرقيق، وأدائها الشاعري على نغمات الموسيقى الناعمة: "كان بإمكاني حل مشكلتي مع الموت نفسه، ولم أكن اضطررت للمجيء إلى حضرتك كي أجلس على كرسي الاعتراف هذا يا عرص".
على أي حال، إذا كنت اعتبر هذا الحدث الذي لم أعرف عنه شيئًا إلا بعد أربع سنوات من وقوعه غريبًا وكوميديًا بشكل عام فإنني أعلم أنه ليس كذلك بالنسبة لكاتبة جريئة وشجاعة مثل سحر أبو ليل .. لها كل الامتنان والتقدير.
"الفشل في النوم مع السيدة نون" من الروايات التي قد تدعم الصورة الواقعية لكاتبها عند القرّاء الذين يظنون أنهم يعرفونه على المستوى الشخصي .. الذين رأوه متعيّنًا في الحياة، وجلسوا وتحدثوا معه ذات يوم أو في كثير من الأيام .. الذين حينما ينتهون من قراءة رواية كهذه سوف يبتسمون بالثقة اللازمة لطمأنتهم على سلامة وعيهم بالموت، وهم يرددون في أذهانهم، وبين بعضهم البعض: ليس هناك شك في أنه هو، ويدرك نفسه جيدًا مثلما ندركه.
كان إعطاء نسخ من "الفشل في النوم مع السيدة نون" في الأيام التالية من صدورها لـ "أصدقائي" هو اللحظة الأخيرة في علاقتي بهم، حيث قمت بحظر كل واحد منهم على جميع وسائل التواصل في نفس اليوم الذي حصل خلاله على نسخة الرواية مقترنة بابتسامتي المألوفة واتفاق بديهي على موعد اللقاء القادم الذي لم يحدث حتى الآن بعد ستة سنوات .. هذه القطيعة كانت حتمية بالنسبة لي، وكان اختيار توزيع "الفشل في النوم مع السيدة نون" كتوقيت لها يرجع إلى أن قراءتهم للرواية ستكون من ضمن الأسباب الجوهرية للإقدام عليها .. كنت أعلم تمامًا بأنه لن يكون بمقدوري الصمت أمام استجاباتهم القاصرة لـ "الفشل في النوم مع السيدة نون"، والتي يسهل تخمينها، كما أن كل ما يمكنني "قوله" في مواجهة هذه الاستجابات سيمعن ـ ضد إرادتي ـ في تثبيتها.
لأننا رأيناك، وتحدثنا معك، وكنا "أصدقاءًا"؛ فإن الاحتمالات تتضاءل للالتفات إلى غير ما نعتقد أننا نعرفه حقًا عنك .. لن نبصر في صفحات الرواية ما يتجاوز التأكيدات على حقيقتك المتداولة في الواقع، ربما بعكس لو لم نصادفك أبدًا من قبل .. لن نفكر في وجوهك الأخرى المغايرة أو المناقضة لذلك الوجه الذي اعتدناه، ولمسنا تطابقه مع ما رسمته أنت نفسك بالكتابة .. لن نتساءل عما وراء غياب الخجل والحذر والانضباط في "الفشل في النوم مع السيدة نون" مقابل حضور العدائية والطيش والمبالغة، كالتي تناولت بها شخصية تلك "الشاعرة" مثلًا.
ربما كان هذا من دوافع ما يشبه plot twist تشكلها هذه الكلمات بالرواية، كأنها جرس تنبيه للتمعّن في "الوجوه المتعددة":
"لي صديق كاتب قصص قصيرة اسمه (ممدوح رزق)، حينما أخبرته بالأمر أعد لي هدية فرحت بها كثيراً يا دكتور .. كانت عبارة عن مزاوجة بين القصة الأولى في اليوم السابع من (الديكاميرون) لـ (جيوفاني بوكاشيو)، وقصة (المدرسة الداخلية) لـ (أناييس نن) من مجموعة (دلتا فينوس)".
موقع "الكتابة" ـ 2 فبراير 2020