الأربعاء، 28 أكتوبر 2020

المكان: غرفة معيشة قديمة (سقف متصدّع يسكن العنكبوت أحد أركانه .. حوائط متهالكة .. سرير صغير .. مكتب .. مقعد .. كتب وأوراق تتناثر في فوضى متربة .. أصيص فارغ).

يدخل إلى المسرح رجل في منتصف العمر، يرتدي ملابس منزلية كما لو أنه لم يبدّلها منذ فترة كبيرة .. شعره أشيب قليلًا، غير مصفف، ويبدو أنه مر عليه وقت طويل دون تشذيب .. عيناه منطفئتان على نحو ذاهل، وتحاوطهما دائرتان من الدكنة الغائرة .. وجه نحيف .. لحية صغيرة، مهملة دون تحديد، ويغلبها البياض الباهت .. جسده هزيل بصورة توحي أنه مصاب بمرض ما، فضلًا عن قدر من الانحناء المرتعش الذي لا يكاد ملحوظًا.

يخاطب المتفرجين بابتسامة يحاول أن يُخفي رجفتها، وأن يُبقيها محايدة بشكل ماكر، وبصوت يستقر الإنهاك المرتعب في عمق صلابته الظاهرية:

هل فكر أحدكم من قبل في أن المسرح مكان خطر؟ .. أعني أن يذهب شخص لمشاهدة عرض ما فيحدث شيء غير متوقع يُنهي حياته؟ .. لا أقصد بالشيء غير المتوقع تلك الحوادث التقليدية التي يمكن أن تقع بشكل مفاجئ كانهيار سقف، أو اندلاع حريق مثلًا، وإنما أقصد أن يصعد ممثل إلى خشبة المسرح ليؤدي دوره، وفي أثناء ذلك يخرج مسدسًا من ملابسه ويطلق النار على المتفرجين .. إنه أمر يمكن أن يحدث في أي مكان: في شارع .. في مقهى .. في محطة قطارات .. هل سبق لأحدكم أن فكّر في إمكانية حدوث هذا داخل المسرح؟ ...

عمومًا، أريدكم أن تعرفوا أنني عشت أجمل حياة يمكن أن يحظى بها أي رجل في هذا العالم .. تجوّلت في أنحاء الدنيا .. رافقت نساءً من كل نوع .. كوّنت صداقات مع مختلف البشر .. جرّبت جميع أشكال المتعة في كافة الأماكن .. حتى ذكريات طفولتي لا أستعيدها مثلما يسترجع أي شخص ماضيه بمزيج من التشوّق والحسرة، وإنما امتلكت القدرة على الانفصال الكامل عن الواقع، وأن أعيش في أي وقت ذلك الماضي من جديد كما حدث تمامًا للمرة الأولى، ولهذا فإنني في حماية دائمة من آلام التذكّر ...

عذرًا؛ لم أعرفكم بعد بصديقي القديم .. صديقي الذي لم يفارقني أبدًا منذ ولادتي .. الذي لم تمر لحظة في حياتي إلا وكان هو روحها الأصلية .. أنا مثلكم لا يمكنني رؤيته، أو لمسه، ولكنني قادر على سماع صوته، وكي أسهّل الأمر عليكم سأكون وسيطًا بينه وبينكم كلما أراد أن يتحدث .. سأرتدي هذا القناع (يأخذ قناع بطوط من فوق المكتب)، وسأتكلم بما يطابق صوته كلما أراد ذلك ...

يخاطب صديقه القديم: حسنًا .. تقول إنني كاذب؟

يضع القناع على وجهه، ويتحوّل صوته إلى نبرة "بطوط" المميزة:

"نعم أنت كاذب .. أنت لم تغادر بيت العائلة إلا لمرات قليلة، وخلال ذلك لم تفعل أكثر من الدوران المترنّح داخل المدارات المنكمشة من حوله .. لم تفعل أكثر من التعثّر والوقوع وتخزين الصفعات والركلات والضحكات الساخرة التي لاحقت غفلتك أثناء ذلك الدوران .. كنت في كل مرة تعود سريعًا إلى بيت العائلة حيث تراقب من شرفتك تلك الوجوه التي دهستك، وتتخيّل أسرارًا لها، كأن ملامحها ليست سوى ظلالًا مخادعة لموتك، قبل أن تضطر للخروج ثانية ويتكرر الأمر نفسه .. أنت كاذب .. أنت تهرب من استعادة ذكرياتك الطفولية بقدر محاولاتك الفاشلة لاستردادها .. تفكر في الماضي، وتدوّنه، وتنقّب عن أشيائه المفقودة، ليس كمن يسترجع أحلامًا قديمة، وإنما كمن يُحضّر أرواحًا شريرة داخل عزلته ثم يكافح للاختباء من مطاردتها لبكائه".

يخلع قناع "بطوط"، ويتكلم بصوته الطبيعي:

في لحظة ما من طفولتي المبكرة أدركت أن الدنيا ـ لسبب مجهول ـ قد خُلقت خصيصًا من أجلي، وأن كافة البشر: أسرتي .. عائلتي .. الجيران .. الناس الكثيرون جدًا الذين يسكنون البيوت والمدن الأخرى، ويسيرون في الشوارع ويتحركون داخل التليفزيون، وأسمع أصواتهم في الراديو، وتظهر صورهم في الصحف والمجلات، ويتظاهرون بأنهم لا يعرفونني؛ هم في حقيقة الأمر ينفذون مهمة سرية تجاهي، تم تكليفهم بها من الغيب لغرض خفي .. كل زملائي وأصدقائي، وكل الشخصيات في جميع الحكايات والقصص والأساطير، وكل الموتى الذين عاشوا قبل ميلادي؛ جميعهم كان لهم دور في تلك المهمة .. أدركت كذلك أن لهذه المهمة وقت محدد حينما ينتهي سأتمكن من فهم الحكمة الغامضة التي تكمن وراءها .. أنا أيضًا ظللت أتظاهر بأني لا أعرف .. عشت حياتي متنكرًا مثل الآخرين باعتباري عنصرًا من تلك اللعبة الهائلة .. باعتباري جزءً من شفرة ممتدة منذ بداية العالم لم يحن موعد فك رموزها .. لكن الزمن مر، وتعاقبت السنوات، وأصبحت في نهاية العمر ولم أعرف بعد طبيعة هذه المهمة السرية .. مازال كل البشر في كل مكان يؤدون أدوارهم لحظة بعد أخرى، ومازالوا قادرين بمنتهى البراعة على عدم إبداء أي إشارة مهما كانت واهية على معرفتهم بي أو على ما ينفذونه تجاهي .. لم يقرر أحد طوال تلك السنوات أن يخالف التعليمات ويخبرني بالحقيقة .. ولأن عائلتي ماتت كلها، ولأنني أوشكت كذلك على الموت؛ كان يجب أن أفعل شيئًا في أسرع وقت ممكن .. قررت أن أكتب رسائل لغرباء أخبرهم فيها بمعرفتي بتلك المهمة التي يؤدون أدوارًا فيها، وأنه لم يعد هناك مبرر لإخفاء الأمر .. أتعلمون لماذا قررت استخدام الرسائل؟ .. لأنني لم أكن أضمن ما سيحدث لو توجهت باستفهاماتي المتوسلة إليهم على نحو مباشر .. رغم كل ما حدث أردت أن أحمي تلك المهمة حتى النهاية من أي ضرر يمكن أن يسببه رجائي المعلن لإدراك ماهيتها .. حتي لو لم تكن تلك المهمة سوى ما يخجل الجحيم من تخيّله .. قررت أن أرسل إلى أناس لا أعرفهم تلك الرسائل طالبًا منهم الكشف عن ذلك السر بعد أن أهدرت عمري كله في الانتظار .. كتبت تلك الرسائل بأساليب مختلفة طمعًا في أن ينجح أي منها في انتزاع الإجابة من أحدهم ثم قمت بترك كل رسالة داخل ما يشبه الشق الصغير في جدار كل شخص بحيث لا يعثر عليها إلا هو .. كنت أدور وحدي على البيوت في صمت الليل وأترك الرسالة، ومع ذلك لم أحصل على أي رد .. مر وقت طويل للغاية ولم أحصل على أي رد .. حتى أنني لم أعد أتذكر منذ متى وأنا أشعر بأنني مختطف من جميع الأحياء والأموات داخل هذه الحجرة الأشبه بقبر أزلي دون أن أعلم متي وكيف سيطلقون سراحي.

يرتدي قناع "بطوط" مجددًا، ويتكلم بصوته ذي النبرة العصبية المعروفة:

"كل رسائلك خاطئة تمامًا .. لم تكتب سطرًا منها على الأقل بطريقة تنطوي على الحد الأدنى من الصواب .. جميع عباراتك مبهمة على نحو بالغ السوء حتى أكثرها تجرّدًا ووضوحًا .. أهدرت كل الوقت الذي قضيته في كتابتها مثلما أهدرت حياتك كلها .. لن يدرك أحد شيئًا مما كتبته، وحينما ينتهي كل منهم من قراءة رسالتك فستتحوّل في ذاكرته إلى عدم تام كما لو أنه لم يستقبلها على الإطلاق .. كما لو لم يكن هناك أحد يسكن تلك البيوت التي ظللت تدور بينها .. لهذا لا تتعجب من غياب الرد .. لن يجيب أي شخص على رسائلك ولو عشت ألف عام .. ولو صرت أبديًا ككل الأفكار والمشاعر التي لم تختبرها .. عليك ألا تنتظر .. ألا تتوقع معجزة قد يحدث ببساطة ما هو أكثر استحالة منها .. أما لو بقيت ملعونًا بهذا العشم الخاسر في كلماتك الميتة فلن يكون في ذلك غرابة أبدًا .. كنت طوال عمرك مسخًا مضحكًا، وستنتهي كأنك لم تمر في العالم".

ينزع قناع "بطوط" عن وجهه، ويعاود التحدث بصوته العادي:

أعرف أنه بينكم من تلقّى رسائلي .. نعم، يجلس أمامي الآن من لم يمنحني الرد الذي توسلت الحصول عليه .. أعرف أنه بينكم من لن يجيبني مطلقًا .. هذا ما يعيدني لسؤال البداية: هل فكر أحدكم من قبل في أن المسرح مكان خطر؟ .. أعني أن يذهب شخص لمشاهدة عرض ما فيحدث شيء غير متوقع يُنهي حياته؟ .. لا أقصد بالشيء غير المتوقع تلك الحوادث التقليدية التي يمكن أن تقع بشكل مفاجئ كانهيار سقف، أو اندلاع حريق مثلًا، وإنما أقصد أن يصعد ممثل إلى خشبة المسرح ليؤدي دوره، وفي أثناء ذلك يخرج مسدسًا من ملابسه (يُخرج المسدس بالفعل في هذه اللحظة ويصوّبه نحو المتفرجين) ثم يطلق النار على المتفرجين .. إنه أمر يمكن أن يحدث في أي مكان: في شارع .. في مقهى .. في محطة قطارات .. هل سبق لأحدكم أن فكّر في إمكانية حدوث هذا داخل المسرح؟" ...

يُظلم المسرح كاملًا فجأة: خشبة العرض وقاعة المشاهدة ثم يُسمع دوي إطلاق رصاص مروّع .. تُضاء خشبة العرض فقط، أما قاعة المشاهدين فتظل مظلمة كما هي .. الإضاءة مسلّطة فقط على الممثل المُمدد دون حركة على المسرح وفي يده المسدس .. قناع "بطوط" يحوم في الفراغ بارتفاع بسيط فوق جثة الممثل مع تصاعد ضحكات متتابعة بصوت "بطوط".

السبت، 24 أكتوبر 2020

مسألة عائلية

داخل حجرة معيشة تقليدية تجلس امرأة ترتدي جلبابًا، وروبًا منزليًا مغلقًا فوق أريكة، وتنسج الكروشيه .. رجل1  يرتدي بيچاما كلاسيكية، يجلس وراء مكتب، منهمكًا في الكتابة، وبجانبه كومة كبيرة من الأوراق التي انتهى من كتابتها .. رجل 2 يرتدي فانلة وشورت رياضيين، ويمارس تمرينات رياضية خفيفة .. رجل 3 يرتدي جلبابًا أبيض وفوقه عباءة بُنيّة، ويأكل من أطباق عدة فوق طاولة طعام .. رجل 4 يرتدي فانلة حمالات داخلية بيضاء، وبنطلون بيچاما، ويحلق ذقنه أمام مرآة معلّقة على الحائط .. رجل 5 يرتدي سلوبيت، وجورب صوف بلا حذاء، ويدور ببزازة صغيرة في فمه دون توقف، ساندًا رأسه على يده كما لو أنه في حالة تفكير عميق.

يكتب رجل1  بحماس ما يبدو أنها الجملة الأخيرة ثم يضع الورقة التي انتهى منها أسفل كومة الأوراق على المكتب .. يقف وعلى وجهه ابتسامة واسعة ثم يقول للمرأة بسعادة:

ـ خلصت الرواية.

المرأة بنبرة عفوية، تخلو ـ مثل ملامحها ـ من انطباع محدد، ودون أن ترفع عينيها عن الكروشيه الذي تنسجه:

ـ هاتها انشرهالك.

يخرج رجل 5 البزازة من فمه ويصرخ:

ـ أنا إله السرد.

ثم يعيدها ثانية، ويواصل الدوران بنفس وضعية التفكير العميق...

يتحرك رجل 1 بالأوراق إلى المرأة التي تترك الكروشيه فوق الأريكة، وتأخذ الأوراق منه ثم تنهض لتخرج بها من الغرفة.

يعود رجل 1 إلى المكتب ويفتح لابتوب، ثم يبدأ في الكتابة وهو يقرأ ما يدوّنه، كأنما يخاطب الموجودين في الحجرة:

ـ "أصدقائي الفيسبوكيين .. بصراحة ومن غير زعل .. فيه فرق كبير جدًا في المستوى بينا ككتّاب عرب، وبين كتّاب الغرب .. هو نفس الفرق بالظبط بين الأهلي والزمالك، وبرشلونة وريال مدريد".

تدخل المرأة إلى الحجرة وهي تحمل نسخ الرواية .. تعطي نسخة إلى رجل 2 فيتوقف عن ممارسة التمرينات الرياضية ويبدأ في القراءة .. تعطي نسخة إلى رجل 3 فيتوقف عن تناول الطعام ويبدأ في القراءة .. تعطي نسخة إلى رجل 4 فيتوقف عن حلاقة ذقنه ويبدأ في القراءة .. تعطي نسخة الرواية إلى رجل 5 فيتوقف عن الدوران ويبدأ في القراءة .. تعود المرأة للجلوس على الأريكة وتواصل نسج الكروشيه.

رجل 1 يستمر في الكتابة على اللابتوب وقراءة ما يدوّنه:

ـ "إحنا بس مش فالحين غير في التهليل للجوايز إللي كلها فساد .. مجاملات وتربيطات وتوازنات .. حاجة تقرف فعلًا".

رجل 2 مخاطبًا المرأة، ونسخة الرواية لا تزال في يده:

ـ أنا هروح أنشر الخبر في الجرنان.

ثم يغادر الغرفة...

يُلقي رجل 5 بالرواية بعيدًا ثم يُخرج البزازة من فمه ويصرخ:

ـ أنا ظاهرة قد لا تتكرر.

ثم يعيدها ثانية، ويواصل الدوران بنفس وضعية التفكير العميق...

رجل 4 وبينما الرواية مفتوحة بين يديه؛ يشير برأسه إلى رجل 1 كي يقترب منه، قائلًا بجدية تامة:

ـ تعال ...

 ينهض رجل 1 من وراء المكتب ثم يتحرك ليقف بجوار رجل 4 .. في الوقت نفسه يتحرك رجل 3 ليقف بينهما بفضول لمعرفة ما سيدور بينهما .. رجل 4 يشير لرجل 1 بإصبعه إلى صفحة في الرواية ويقول له:

ـ ركّز معايا .. بصفتي قارئ محترف أحب اعرفك إن الفقرة دي مش مناسبة للمتلقي العربي .. لازم تاخد بالك من الحاجات إللي زي كدا في أعمالك الجاية.

رجل 1 يهز رأسه بقوة قائلًا لـ رجل 4 بنبرة احترام:

ـ تمام .. حاضر.

رجل 4: عمومًا أنا هدّي الرواية دي 3 نجوم على جودريدز.

رجل 1 (بنفس نبرة الاحترام): متشكر جدًا.

رجل 4: ولا أقولك .. نجمتين كفاية.

رجل 1 (بالنبرة ذاتها وإن كانت مجروحة بخيبة أمل): متشكر.

رجل 4: ولا أقولك .. أنا ممكن أديها 3 نجوم على جودريدز، ونجمتين على "أبجد".

رجل 1 (وقد تخلّص صوته من خيبة الأمل): ألف شكر.

رجل 3 يجذب رجل 1 من ذراعه بعيدًا عن رجل 4 ويخاطبه بانفعال:

ـ تمام إيه، وحاضر إيه، وألف شكر على إيه! .. متسمعش كلامه، ده مابيفهمش أي حاجة.

ثم يفتح نسخته ويشير لرجل 1 بإصبعه إلى صفحة في الرواية ويقول له:

ـ ركّز معايا .. أنا كناقد أكاديمي أحب اعرفك إن الفقرة دي مش مناسبة للمتلقي العربي .. لازم تاخد بالك من الحاجات إللي زي كدا في أعمالك الجاية، وافتكر إللي قاله "رينيه ويليك": "إن العمل الأدبي لا يكتمل نجاحه إلا بتجاوب قارئه".

رجل 1 مندهشًا:

ـ لكن حضرتك قلت نفس إللي قاله القارئ المحترف بالظبط على نفس الفقرة.

رجل 3 :

 ـ أيوه بس هو ما اقتبسش من "رينيه ويليك".

يخرج رجل 5 البزازة من فمه ويصرخ:

ـ أنا أمير الرواية الذهنية.

ثم يعيدها ثانية، ويواصل الدوران بنفس وضعية التفكير العميق...

يدخل رجل 2 إلى الحجرة وفي يده صحيفة، ليتوجه إلى المرأة الجالسة .. يرفع الصحيفة أمام عينيها ويقول:

ـ الخبر نزل.

المرأة بعفويتها الثابتة، دون أن تلتفت له، ومواصلة انهماكها في الكروشيه:

ـ إقراه.

رجل 2 (يقرأ من الصحيفة):

ـ عن دار "عين الخان" صدرت رواية "اعطني الجائزة يا سيد" للكاتب "ظريف العيّاط"، والتي تمزج بين الأبعاد التاريخية والواقعية والاجتماعية والخيالية والسياسية والرومانسية والصوفية، كما تجمع بين الأساليب الكلاسيكية والتجريبية، وكذلك بين تقنيات التداعي الحر وما وراء السرد وتعدد الأصوات، ولاشك أنها رواية مختلفة لكاتب مختلف عن الكتّاب المختلفين الذي يكتبون روايات مختلفة. 

المرأة دون أن تبعد عينيها عن الكروشيه الذي تنسجه، وبنفس العفوية السابقة:

ـ كويس .. اديله الجايزة يا سيد.

يترك رجل 2 الصحيفة ، ويمد يده وراء ظهره ليُخرج درعًا ذهبيًا صغيرًا من داخل الشورت الذي يرتديه، ثم يشير لرجل 1 بالاقتراب ويقدم إليه الدرع لحظة مصافحته في الوقت الذي يُسرع فيه كل من رجل 3 ورجل 4 بهاتفيهما لالتقاط صور هذا المشهد من زوايا مختلفة بينما يُطلق فم المرأة صفيرًا احتفاليًا وهي لا تزال منهمكة بملامحها الخالية من انطباع محدد في نسج الكروشيه .. تستقر وضعية رجل 2 وهو يمنح الدرع إلى رجل 1 أثناء المصافحة، وعلى وجهيهما ابتسامة واسعة، وعيونهما في اتجاه كاميرتي الهاتفين في يدي رجل 3 ورجل 4، اللذين يقومان كذلك بالتصوير "سلفي" مع رجل 1 ورجل 2 الثابتين على الوضعية ذاتها.

بعد انتهاء التصوير يعود كل شخص إلى ما كان يفعله: رجل 2 يمارس تمرينات رياضية خفيفة .. رجل 3 يأكل من أطباق عدة فوق طاولة الطعام .. رجل 4 يحلق ذقنه أمام المرآة .. رجل 5 يواصل الدوران بالبزازة الصغيرة في أرجاء الغرفة دون توقف، ساندًا رأسه على يده كما لو أنه في حالة تفكير عميق .. رجل1  يرجع للجلوس على المكتب حاملًا الجائزة .. يفتح اللابتوب، ويبدأ في الكتابة، وقراءة ما يدوّنه:

"أصدقائي الفيسبوكيين .. احنا عندنا في الوطن العربي كتّاب موهوبين جدًا، وكتابتهم على أعلى مستوى، ولاشك إن الجوائز العربية المرموقة أصبحت حاجة أساسية ومهمة بالفعل لتقدير الكتّاب المتميزين".

موقع "الكتابة" ـ 23 أكتوبر 2020

اللوحة:Max Ernst , La Vierge corrigeant l’enfant Jésus devant trois témoins, Breton, Eluard et le peintre, 1926.

 


الثلاثاء، 20 أكتوبر 2020

تفكيك شوبنهاور

تأمّل "المُثل"! .. حسنًا؛ ذلك ربما يفترض عند شوبنهاور أيضًا ألا نغفل ـ كحد أدنى للانتباه ـ عن من نعتقد أنهم يتمتعون بالحنكة في تحقيق رغباتهم .. إنه جانب أصيل من التفكير في الألم كحالة إيجابية مقابل سلبية اللذة لدى أولئك الذين لا يتوقفون عن تعريف أنفسهم بالسمة المناقضة: السذاجة .. الذين لم يكن بوسعهم الالتزام بقواعد شوبنهاور عن السلوك البشري، والتي تضمنتها رواية "علاج شوبنهاور" لـ "إرفين د. يالوم"، ترجمة: خالد الجبيلي .. النادمون على محاولاتهم الخاسرة والمهينة طوال الماضي لإقامة العلاقات مع الآخرين، وتبادل الأحاديث والضحكات الودودة مع الغرباء .. الذين يُعذّبهم تذكّر الثرثرة الطائشة التي تلاحقت طوال أعمارهم أمام "الأصدقاء"، الفاضحة للضعف، وللأسرار الشخصية التي لا يجب أن يعرفها أعدائهم .. المتورطون دائمًا في الإبداء الشكلي ـ على الأقل ـ وبمبالغة مذلة في كثير من الأحيان لمشاعر الحب والاحترام، حتى لو لم يكن لتلك المشاعر وجود بداخلهم، أو يخفون نقيضًا لها .. المرغمون من أغوراهم الغامضة على الاستعراض الكلامي لما لا يريدون قوله، والاحتفال المظهري بتصديق ما قد لا يقيمون له وزنًا على الإطلاق .. الذين لم يتوقف حسن الظن عن الارتحال بعمائهم من هاوية لأخرى، وأهدروا كرامتهم في كل وقت بحثًا عن الألفة داخل الأرواح الخاطئة، وفي منح الساخرين من غفلتهم إحساسًا متواصلًا بأنهم في أشد الاحتياج إلى البقاء برفقتهم .. الذين تتضاعف مآثرهم المضحكة كلما أرادوا إثبات أنهم في غنى عمّن أساء إليهم، وأنهم يمتلكون القدرة على تجاهله.

لكنه التفكير الذي يفكك ما تصوّره شوبنهاور عن المُثل الأفلاطونية كحقائق مرجعية ثابتة ومستقلة للعالم الحسي المتبدّل .. بذلك نستطيع الالتفات إلى كيف يمكن لتأمل الإرادة (حين تكون مُثلًا) ألا يكون محكومًا بل اندفاعيًا كالإرادة ذاتها.

لا يوطد هذا التأمل المثال الذي يُسلّم بأن ثمة أصلًا متعاليًا لكل من "الحنكة"، و"السذاجة"، وإنما يقوّض ذلك الأصل المفترض للمعاني الملتصقة بكلٍ منهما .. لن يكون التفكير في ذلك النوع من الألم قائمًا على الحقيقة المترفّعة في تعريف الذات لنفسها أو للآخرين .. سيكون التأمل ـ حتى دون وعي منه بذلك ـ مخلخلًا للسلطة التي خلقتها ميتافيزيقا الإرادة.

ليس للحنكة مرادف سوى ما يحدده الوعي في لحظة معينة داخل موضوع "الإدراك" .. أما الإدراك نفسه فيمكن أن يعني بصورة بديهية: العلم بالمهارات، ومعرفة الإمكانات الذكية، وامتلاك القدرات الماكرة، والنجاح الكامل في توظيفها للحصول على المتعة .. بوسعنا أن نعتبر الإدراك بهذه الكيفية هو "فطنة الإرادة"، أي البراعة الخبيثة في البقاء، وليس مجرد البقاء في حد ذاته .. إجادة دفاع المرء عن قضيته ـ مهما كانت ـ والانتصار على الآخر غير الخبير بـ "فن أن يكون دائمًا على صواب" كما يشير شوبنهاور في كتابه .. مرة أخرى؛ هذا ما يُشكّل ملامحه ذلك الذي يرى وجوده يقع في الجهة المقابلة، أي الفرد الذي يعد نفسه مفتقرًا تمامًا لتلك الصفات، وهو ما يمثل إلحاحًا جوهريًا في تشريحه لكابوس الحياة "كموت آجل"، أو سجن القدر، الذي يمارسه بإيعاز من شوبنهاور .. لكنه تشريح هادم "للعالم الحقيقي والصحيح" المزعم عدم خضوعه لمؤثرات الواقع الذي تخوضه الحواس.

أما ما يحدده الوعي كمرادف للحنكة ونقيضها فهو ليس مشروطًا بالتجلي أمام ذاته، بل يمكن لهذا التحديد أن يتخذ مسارات ضمنية .. كذلك "الإدراك"، و"المتعة"؛ لا يُصارحان الذهن طوال الوقت بالمعنى والتوصيف المباشرين لهما، بل من الممكن أن ينشطا في خفائه، وبالتالي تصبح "فطنة الإرادة" محرّكًا سريًا للوعي .. لكن التشريح المرتكز على ثنائية "البقاء"، و"البراعة الخبيثة في البقاء" ينزع "القيمة" ولو على نحو غير معلن عن الخطاب الذي يشتمل على معطيات التأمل ونتائجه، أي يمنعه من السيطرة ومن البقاء كمطلق .. يحفر عطبًا في هيمنته بحيث تفقد لغة الإرادة القدرة على الإحالة إلى يقين خارجها .. لذا لن يكون لهذا التشريح حينئذ ـ ولو بغير استيعاب لما يقوم به ـ مرجعًا قهريًا، يحدد بشمولية أخلاقية متبجحة وهزلية في آن واحد ـ كما اعتاد شوبنهاور أن يفعل ـ ما هو الصواب والخطأ، والحقيقة والضلال، والنزاهة والوضاعة، والصدق والكذب، والجلالة والحقارة، والسمو والانحطاط، والعبقرية والتفاهة.

لا ينطوي تأمل "الساذج" ـ كما يُعرّف نفسه ـ لما يظن أنه فرد "حائز للنباهة" على تلهف لأن يصير مماثلًا له، وإنما يتفحص اللهفة ذاتها التي تسبق التأمل .. يحدّق في استفهاماتها المحتملة كما يليق بكائن تعطّلت "إرادته" أو بالأحرى اتخذت رداء العطالة، أمام التفكير في "الإرادة" .. هو ليس خاسرًا الآن على النحو الذي اعتاد عليه، وإنما يتساءل عن طبيعة ما يخسره .. لا يرجو الحصول على "الإدراك" الذي يتصوّر أن الآخر يتمتع به، بل يراوغ هذا الإدراك كي يراقب ما يطلق عليه "النضوج" في التعامل مع الواقع، وكذلك المعاناة الناجمة عن غيابه .. المراوغة التي لا تتعلّق بالإدراك فحسب، بل بتذويب ارتباطه بـ "الفكر الخالص" أو بـ "الأشياء في ذاتها"؛ فالنضوج ـ بالتضاد مع شوبنهاور ـ لن يستند إلى موضوع أو نموذج أصلي فيما وراء العالم.

يمكننا القول أن التأمل بالأساس هو ممارسة لإفساد الانسجام مع اللغة التي تدعي معرفتها بالمقصود دون شك بالسذاجة .. لمهاجمة المفردات التي تحاول أن تقرر معنى مضمونًا للنباهة .. هذا ما يجعل "الإدراك" سؤالًا يخص موضوع العالم كحاجة عفوية، أو كاجتياز مسافة مخالفة للعدم .. أن تتفحص الطريقة التي يشيّد الموت بواسطة الكلمات ذلك "النضوج"، أو لن تكون "موجودًا".

كأنما "الساذج" يرسم لوحة مؤقتة لسذاجته دون نقمة مألوفة .. كأنما يرسم لوحة للذكاء المتمنّع بلا حسرة اعتيادية  .. ذلك ما يسميه شوبنهاور بالتحرر العابر من عنف الإرادة العمياء والجائعة دومًا بلا دافع والتي تستعمل الفرد كشر خالص دون غاية .. بالخلاص الزائل من المرارة والضجر اللذين يجسدانه .. حينما تتحرك السذاجة خارج الظواهر التي تثبتها ستتوقف عن أن تكون كذلك .. القدرة الماكرة أيضًا لن تبقى كما هي بمعزل عن الأفعال التي تعبّر عنها .. ستتعدى تلك اللوحة الثنائية الأفلاطونية الرئيسية: "الدال والمدلول"؛ فالسذاجة والقدرة الماكرة لن تشيرا إلى مفاهيم جوهرية داخل عالم مثالي محتجب بل إلى تناثرهما المتواصل، وتحوّلهما دائمًا إلى غير ما كانا عليه .. الخضوع من ناحية، والتمعّن في ما تخضع له من ناحية أخرى.

كأن هذه اللوحة تتحدث عن أن اللغة ليست ممرًا بين الساذج والتحديق في سذاجته، أو بين الذكاء وافتقاده، وإنما هي التي تؤسس الفرد الذي يتم استعماله .. تقرر بمفرداتها وقواعدها  الظواهر والأفعال التي تمثل الواقع .. كأن اللوحة تكشف عن أن المراقبة في حقيقتها تتوجّه إلى اللغة التي لا يمكن مغادرتها .. المراقبة التي لا تحوّل ـ بعكس ما يعتقد شوبنهاور ـ المدركين للخواء والسخف والحمق وافتقار المعنى والتعاسة والشقاء والشرور "جوته وشكسبير بالنسبة لشوبنهاور على سبيل المثال"؛ لا تحوّلهم إلى قديسين أو حكماء ذلك لأن اللغة لن تجعلهم تعويضًا عن العدم أو بديلًا له، لذا فإن تحررهم أو "خلاصهم" هو "كلمات تفكر في نفسها"، وهو جانب من غريزة (التطاحن في سبيل الحياة) وليس شفاءً منها؛ فإما الكلمات أو الفناء.

يمكن للساذج أيضًا أن يُكسب موسيقى ما نيّة تمثيل "فطنة الإرادة"، أي يجعلها ـ بصرف النظر عن قصد مؤلفها ـ تتناول شعوره بافتقار "البراعة الخبيثة في البقاء"، لا كشيء شخصي، وإنما كحالة كونية منتشية، تنطلق فيها الذات من جرحها الخاص إلى "مسألة الجرح" باعتبارها وجودًا غيبيًا .. من أثر الإرادة، إلى الإرادة نفسها .. يراود الساذج إحساسًا حينئذ بالموسيقى الصامتة التي تكوّنها النباهة وانعدامها .. موسيقى الألم غير المسموعة مع هزائم الواقع .. التي تعلن عن نفسها حين تتحوّل إلى نغمات وإيقاعات، تخاتل الإدراك أو "مصدر المعاناة" كي تجسّده مجردًا من الكيانات والأشياء التي يتمظهر من خلالها .. الموسيقى التي تمحو ما يمكن تصوّره قانونًا كونيًا للكمال، أو بصمات أوّلية للعالم المادي.

ما تتناوله هذه الموسيقى يتجاوز ما تكدس من توظيفات في ذاكرة "فطنة الإرادة"، أي يتخطى قوالب "البراعة الخبيثة في البقاء" كما تتجذر في الماضي .. هي تعيد تعيين الجرح متحررًا من أنماطه .. من السياقات الرمزية التي تحتكر المعاناة الناتجة عنه.

من كتاب “مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور ـ مقاربات نقدية لشكسبير .. تولستوي .. فاغنر” … يُنشر قريبًا.

أراجيك ـ 18 أكتوبر 2020

الثلاثاء، 13 أكتوبر 2020

الموت المدّخر في التفاصيل

بالنسبة لي؛ تحفّز قراءة رواية "فصول من سيرة التراب والنمل" لـ "حسين عبد العليم"، الصادرة عن دار "ميريت" 2003 على التفكير في "التفاصيل" أكثر من "الحكاية" نفسها، ليس فقط لأنه بالإمكان وضع الرواية في سياق من الحكايات المشابهة سواء معرفيًا أو أسلوبيًا؛ وإنما لأن التفاصيل تمثّل فاعلًا جوهريًا في بنية الرواية للدرجة التي من الممكن القول معها أنها قادرة على أن تحل جماليًا كبديل، أو تعويض للموضوع الحكائي ذاته.

"أخذ يبحث عن المقص الصغير وسط الأشياء المبعثرة الغارقة في التراب على منضدة السفرة: شرائط كاسيت .. عُلب أدوية منتهية الصلاحية .. سرنجات .. جهاز قياس الضغط .. عُلب سجائر بعضها فارغ والبعض الآخر ممتلئ والبعض الثالث بين بين .. عملات نقدية معدنية .. أجندات شركة ساندوز ذات الكعب الزمبركي الأبيض .. ترمومترين .. نموذج تعليمي لقلب آدمي يمكن فكه وتركيبه .. كتب وجرائد .. نتائج تقويم من شركات الأدوية وشركات التأمين والبنوك ـ فلم يجده".

ما يُقصد بالتفاصيل في هذه المقاربة هو "أشياء الواقع" التي تكوّن ما يشبه سجلًا توثيقيًا للأزمنة المختلفة: الأغراض الشخصية المتعلقة بحقبة معينة .. أنواع المأكولات والمشروبات .. الشوارع والميادين والحدائق .. الكازينوهات والمقاهي والمطاعم .. قاعات العرض .. الكتب والأفلام والمسرحيات والأغاني والمقطوعات الموسيقية .. أنواع السجائر والعطور والملابس ... إلخ.

"عرضت عليه صور الأميرات فوزية وفايزة وفايقة شقيقات الملك فاروق المقصوصة من مجلة ملونة ـ بانبهار وحرص شديد كأنهن مثلها الأعلى. أرته ألبومًا آخر خاصًا بمقالات وصور الزواج الملكي وعلقت: إن هوايتها هكذا بالمصادفة مثل الملكة فريدة ـ العزف على البيانو والرسم. في عام 1951 سوف يكتشف الدكتور عزيز أن زوجته عايدة عادت لهوايتها القديمة وجمعت صورًا ومقالات بمناسبة عيد الجلوس الملكي والزواج الملكي الثاني من ناريمان".

لكن في نفس الوقت يجدر بنا تأمل كيف تتغيّر التفاصيل الثابتة بتعدد الرواة، أي الطريقة التي تخلق بواسطتها وجوهًا متباينة لوجودها داخل كل حكاية جديدة .. هذا ليس تأثيرًا في اتجاه واحد، أي انطلاقًا من الشخصية نحو الشيء المستقل في جموده الخاص بل هو نوع من التبادل القائم دائمًا، والأقرب للامتزاج الغائم، الذي يعطي التفاصيل حتى في عدم تبدّلها القدرة على إنتاج كائنات متعددة، وبالضرورة تواريخ مغايرة لأشباحها .. يكمن السر في الكيفية، أي في الشكل الذي يتم من خلالها تحديد علاقات الخلق المتبادل بين الحكايات والأشياء، أو ما يمكن أن نطلق عليه صِيغ التوحّد المراوغة بين عمائها.

"حكى لها عن تسكعاته في شارع الملكة نازلي وشارع الملكة فريدة، الأزبكية وشارع ابراهيم باشا وميدان اسماعيل باشا، كانت عايدة تشرد وتطلب منه وعودًا بأن يأخذها إلى كازينو صفية حلمي والأوبرا الملكية وكازينو بديعة وأن يعبرا سويًا كوبري عباس مشيًا. انفجر الدكتور عزيز في الضحك. (يا ستي .. وسان سوسي قدّام شقتي في ميدان الجيزة .. دا غير اسكندرية التريانون وديليس واتنينيوس وهلّم جرّا .. وكل ده بقى كوم وأوربا لوحدها كوم تاني)".

لماذا يبدو للمرء "القارئ" أحيانًا أن تفاصيل أحدهم "الكاتب" في رواية ما أكثر رونقًا وثراءً من كل الأشياء التي تُشكّل حياته، حتى مع إدراكه أن هذه التفاصيل تصلح كمخزون مثالي لكتابة رواية مماثلة؟ .. هل لمجرد أنها أشياء شخص آخر، وبالتالي تنتمي إلى أماكن وأزمنة منفصلة عن تلك التي مرت حياة المرء داخلها؟ .. هل لأن أي عالم شخصي مختلف وفقًا لهذا المنطق سوف تتسبب تفاصيله بعفوية خالصة عند أي مقارنة في إخماد أشياء ذلك المرء مهما بدت "تفاصيل الرواية" هزيلة أو عادية مع مزيد من التمعّن؟ .. هل لأن تلك الأشياء هي المرء نفسه الذي لا يتأمل ذاته إلا كجثة لم تختبر الحياة على الإطلاق في مقابل ذلك الذي جرّب العالم حقًا، أي الشخص الذي أوجدته فحسب تفاصيل أخرى؟.

"عندما عاد في الثالثة عصرًا دخل إلى حجرة الدكتور عزيز مباشرة، فوجئ به مستلق على ظهره في السرير، صغير الحجم كطفل، منكمشًا، شاهد فؤاد بنفسه مئات من أسراب النمل تدخل وتخرج من فتحتي أنف الرجل وتغطي عينيه وتدخل وتخرج من أذنيه وفمه ـ فأدرك أنها النهاية وأجهش باكيًا".

لهذا فأسراب النمل لا تأتي من الخارج بل من التفاصيل نفسها .. من أشياء الواقع التي يمنحها الوعي قيمة مقدسة، خاصة حينما تتحوّل إلى ماض مفقود .. أسراب النمل تختبئ داخل أغوار التفاصيل مهما تعددت أو تباينت الحكايات، أو اختلفت طرق تكوينها واندماجها .. مهما تجلت الحياة كوفرة براقة أو انطواء شاحب؛ لا يمكن لهذه الحتمية أن تُنتهك، حيث الجسد المتحسّر لم تخلقه في جميع الأحوال تلك الأشياء التي كان يجب عليها فقط التواطؤ قهرًا مع "المتغيرات القاتلة للواقع"، وإنما الأشياء الحميمية التي تضمر الموت وتمرره بأكثر الأشكال غموضًا، وبقدر رسوخها الظاهري كأيقونات ملائكية يهددها المحو.

موقع "الكتابة" ـ 11 أكتوبر 2020

السبت، 10 أكتوبر 2020

هامش الرجل الذي ربما يكون طبيباً نفسياً، أو صائغاً من البصرة

كأن الجلسة تحدث على هامش المعركة الكبرى التي دارت بين (الأثينيين)، والنساء المحاربات (الأمازون)، ذلك لأنني اضطررت لمناقشته في آراء (إريك فروم) حول التأمل الفكري، والشعور، ووظيفة المجتمع في زرع الوهم داخل الذهن لحجب الحقيقة .. لكن يبدو أنه لم يكن مرتاحاً للفصل بين الذات، والموضوع هذه المرة الأمر الذي جعل وجهه يتخذ ملامح الشيطان الساخرة، المخفية منذ القرون الوسطى في ثنايا سحابة جدارية للفنان الإيطالي (جيوتو) بكنيسة القديس (فرنسيس).

كان السؤال الذي يشغله كثيراً، ويعيد ترديده لي، ولنفسه طوال الوقت عن ما الذي كان يتحدث فيه الذين يمرون في الشوارع أمام المباني، والبيوت التي كانت تُعقد فيها لقاءات، واجتماعات المجموعات الماركسية في السبعينيات .. هل كان منهم من يقف قليلاً تحت أحد الشبابيك العالية، ليأخذ درساً أخلاقياً، ومحاضرة نضالية عن رداءة الزمن، وفساد البشر، وخيانة الرفاق .. لكنه كان يطلب مني العودة إلى العصور الوسطى، وتخيّل الرموز الدينية التي كان يمكن لفناني الكنائس استخدامها في رسم (نادية سليمان)، وأطفالها الـ 14 أثناء تصوير فيلمها الجنسي .. على فكرة هو لا تعجبه حلمتي (نادية).

رأي مجموعة محددة في عملك .. الرأي يتحول إلى تقييم، وترتيب فتخرج نتيجة مسابقة .. هل هناك في العالم ما يستطيع إجبارنا على الاقتناع بأن تلك المجموعة أهم، وأفضل، وأعظم من مجموعة أخرى! .. مجموعة محددة .. مجرد فئة من البشر، وشكراً .. لكن على جانب آخر يمكن للواحد منا أن تكون له حسابات خاصة، أو معايير، أو دلائل ـ هل لاحظت أنني أستخدم عادة ثلاثة مرادفات ـ يمكنه بواسطتها أن يُفضل جائزة على جائزة أخرى .. أن يحمل أغلب المحكّمين مثلاً جنسية أخرى غير جنسيتك .. لم يسبق أن تشرفوا بتبادل كلمة واحدة معك، ولا يعرفون عنك، أكثر من نصوصك، ولو رآك أحدهم في الشارع لما تعرّف عليك .. ليس هناك أي استفادة مالية لدور النشر من الموضوع .. لا يشير تاريخ المسابقة إلى ميل لمجاملة المشاركين، المشتغلين في الصحافة الأدبية، خاصة محرري المطبوعات الثقافية الشهيرة .. لم يسبق أن أثارت نتائجها من قبل تناحراً، وتقطيعاً، ونشراً للغسيل الوسخ مثلما حدث مؤخراً على صفحات (المدن) .. لهذا أنا أعتز بالجوائز التي حصلت عليها جداً .. هذه الكلمات البسيطة، المؤقتة من وحي لقاء بمقهى (أندريا) بالمنصورة مع ضيف قاهري، وكاتب معروف، أسعدنا بحكاياته عن كواليس إحدى المسابقات الأدبية الكبيرة ـ مادياً ـ وهي الحكايات التي تظاهرنا ـ إكراماً له ـ أننا نسمعها للمرة الأولى في حين أننا سبق، وحفظناها عن ظهر قلب من آخرين كثيرين.

يقول فجأة أن (كافكا) لخص طريقة عمله في جملة (كل كلمة تنظر أولاً حولها في كل اتجاه، قبل أن تدعني أكتبها)، وأن (كافكا) لو كان مكانه كان سيفعل ما فعله: سيجمع المعارك بين كتّاب وسط البلد القاهريين على صفحات الانترنت داخل فولدر، ويسميه (غرام الخولات).

هل لديه مشكلة مع أسماء شخصيات (ديستوفيسكي)؛ ذلك لأنه بدأ اليوم في قراءة (الشياطين)، وراح يناديني بـ (نيقولاي فسيفولودوفتش) مجرداً دون (دكتور).

من رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” ـ دار الحضارة 2014

السبت، 3 أكتوبر 2020

العلامات المميزة

ثمة علامات مميزة تتواجد في قصصي القصيرة: صوت ذكوري، بالغ القوة والعمق والثقل، يبدو كأنما يتلو طوال الوقت كلمات غامضة لطلسم لانهائي عبر مكبر صوت كوني يحلّق خارج الأرض مُكسبًا حروفه أصداءً مروّعة .. امرأة في منتصف العمر، متوسطة الطول، وذات شعر طويل يموّج نعومته أسود قاتم، يرسم عينيها الأموميتين كحل حاد، ويورّد بياض وجهها مكياج خفيف، وترتدي دائمًا ما يغطي كامل جسدها عدا التوهج اللامع لثدييها الكبيرين في حين تتبدل مواضع جلوسها المتشوّق بين مختلف الأماكن غير المتوقعة .. جثة مشوهة ترقص على نغمات وإيقاعات موسيقى لا يسمعها إلا هي، تتساقط أشلاؤها دون توقف أثناء الرقص بينما تتلفت حولها بنظرة ثابتة، ليس فيها سوى رجاء بأن ينجح أحد في تحديد ماهية تلك الموسيقى عبر أداءاتها الخرساء، ومن ثمّ يكشف هو الآخر عن الجثة المشوّهة الكامنة وراء جلده حتى يشاركها الرقص.

ربما لن تعثر على تلك العلامات بوضوح تقليدي لكنها ستتسلل في خفاء تام عبر هذا الصمت المنعزل الذي تقرأ القصة من خلاله فيتحوّل إلى ذاكرتك الأصلية بحيث لن يكون في آخر عمرك صمتًا وداعيًا مقترنًا فحسب بالعلة التي تُنهي حياتك، وإنما ستدرك في لحظتك الأخيرة أن ذلك الصمت وحده هو سبب موتك.

اللوحة: John Atkinson Grimshaw