الثلاثاء، 31 يوليو 2018

أسوأ طريقة لإنهاء الحياة


لماذا لا أدخل هذا الشارع الجانبي الآن؟ .. أفكر في أن ثلاثين عامًا قد مرت دون أن تتحرك خطواتي في هذا الاتجاه .. هل لا يزال البيت القديم ذو الفناء الصغير غير المسقوف، المغلق ببوابة حديدية خضراء كما هو؟ .. نعم، لا يزال كما هو .. أقف لثوان قليلة داخل  المساحة الترابية بين بوابة البيت القديم والجامع المجاور له ثم أبتعد ثانية .. كأن الاستمرار في الوقوف هناك سيكون له ثمن أكثر فداحة مما يمكنني دفعه .. حسنًا .. لقد رأيت ما جئت من أجله .. علبة ثقاب فارغة موضوع الرهان مع صاحبي: أي منا يستطيع أن يركلها فوق قدميه أكبر عدد من المرات دون أن تسقط؟ .. أعد محاولاتي الناجحة تحت البصر المترقب لصاحبي الذي ينتظر خطأي: واحد .. اثنان .. ثلاث ... فجأة يظهر أبي عند العتبة الداخلية للجامع .. لهذه الدرجة كان صوتي عاليًا أثناء العد فوصل إليه وهو جالس في منتصف الجامع قبل رفع آذان الجمعة .. لهذه الدرجة يستطيع أبي تمييز صوتي .. يقف عند العتبة وينظر لي .. تسقط علبة الثقاب الفارغة على الأرض، ولا ينتبه صاحبي إلى خطأي عندما يري هاتين العينين المحتقنتين وهما تجذباني كالمعتاد من قلبي المرتجف نحو باب الجامع في صمت .. أخلع حذائي وأعبر العتبة ثم أتبع جسده القصير السمين الغاضب نحو العامود الذي حدده كمكان ثابت لصلاته .. يصافحني ونحن راكعين بعد التسليم بملامح متجهمة، مُصوّبًا اللوم القاتل في عينيّ .. أخرج من الجامع وراءه بروحٍ تنتفض مع تخيّل العقاب المنزلي المألوف الذي تم التمهيد له أثناء الصلاة .. لم أكن أعرف أن الأمر قد انتهى بشكل غير متوقع عند هذا الحد .. دون صفعات .. أنظر إلى الأرض فأُدرك أن صاحبي قد أخذ علبة الثقاب الفارغة قبل أن يرحل .. ربما كان الاستمرار في الوقوف أكثر من تلك الثواني سيجعل ما رأيته يتلاشى .. ربما سيتمادى المشهد في الوضوح فيبتلعني نحو الموت .. أبتعد بيقين أنه لا أحد من العابرين ينظر إلى وجهي الآن .. لو التفت أحدهم إليّ في هذه اللحظة فلن يتمكن من إبعاد بصره عن دموعي التي لم أستطع كتمانها .. ربما أريدكم أن تروا هذه الدموع فتعرفوا ما أنا فيه، وسيكون ذلك خطوة أولى لإنقاذ العالم .. كانت هناك حياة تتجهز .. كان كل شيء يؤكد أن هذه الحياة لابد أن توجد .. لكنني أبتعد الآن بخطوات سريعة عن هذا الجزء الضئيل من الجثة الحقيرة المختفية لذلك الوعد البديهي .. لا أصدق أن قلبي تحمّل ثلاثين عامًا من هذا التعريف للماضي .. هذه الدموع ليست ناجمة عن الوعد البديهي الذي أصبح منذ زمن طويل جثة حقيرة مختفية فحسب، وإنما عن التأكد أيضًا بأن ثلاثين عامًا لو تبددت الآن، فلن يكون هناك سبيل لجعلها تحدث على نحو مضاد .. ندم يسير في الشوارع فرحًا بالبكاء، وخائفًا منه، وراجيًا ثغرة ما لإيلامه .. ما الذي كان يلزم أن نفعله كي لا نصل هذه الحسرة؟ .. هل كان هناك ما يمكن أن نقوم به حقًا؟ .. كل ما حولي من بشر وبيوت يذكرني بأن جثة الوعد مختفية في دمائي، وأنني أحتضر بهذا السم المضمون ببطء خاطف.
أنظر إلى العابرين فأجد كل واحد منهم قد أصبح بيتًا متحركًا على وشك السقوط .. بيت له شعر رأس كنباتات سوداء وبيضاء فوق أسطح تعلو جسدًا عاريًا تتناثر فيه النوافذ المتآكلة، المغلقة على فراغات مهجورة .. أنظر إلى البيوت فأجد كل بيت قد أصبح هيكلًا عظميًا مرتعشًا لم يتزحزح من مكانه منذ دهور .. هيكل عظمي كبير ممتلئ بالثقوب السوداء الواسعة كأنها فجوات عملاقة عبرت منها طلقات الغيب في مجزرة تنتمي إلى زمن سحيق، لم يشاهدها أحد .. تنظر البيوت المتحركة لملامحي وهي تعبر حولي، بينما لا أتوقف عن التطلع إلى الهياكل العظمية المتراصة على جانبي كل طريق .. أسمع صرخات عاتية من جميع الاتجاهات، لكنني أفسرها كإيقاعات لحفلات عُرس مخيفة.
فتحت كاميرا الهاتف قبل تثبيته فوق المكتب باتجاه زاوية التصوير الصحيحة .. جلست أمام اللابتوب وبدأت في كتابة السطور الأولى من روايتي الجديدة التي تبدأ بلحظة سقوطي من فوق كرسي الاستوديو الذي ذهبت إليه في عُمر الثانية مع شقيقتي الكبرى لالتقاط صورة سيتم إرسالها لأبي الذي سافر إلى السعودية .. هذه هي المرة الأولى، وأعرف جيدًا الأسباب التي لم تجعل من تصوير نفسي أثناء الكتابة فكرة مغرية، وأعرف أيضًا لماذا قررت أن أقوم بذلك مع هذه الرواية تحديدًا .. أكتب كلمة وراء الكلمة، سطرًا بعد الآخر كأنه لا توجد كاميرا؛ فقد استيقظت صباح اليوم بذهن أشبه بالكتاب المفتوح، يمكن لأصابعي أن تقرأ في صفحاته بوضوح تام تفاصيل بداية سردية طويلة تتمتع بترتيب منضبط، لا يتغافل حتى عن لحظات الصمت القصيرة اللازمة للتفكير في قرارات معينة .. أغلق صفحة الكتابة ثم أطفئ اللابتوب منتشيًا بأورجازم مثالي أنهى اليوم الأول من الكتابة .. أفتح الفيديو على الهاتف .. كل شيء في مكانه كما حددته زاوية التصوير الصحيحة: لوحات القاهرة في القرن التاسع عشر .. القشور البيضاء الصغيرة الملتصقة بالحائط هي بقايا حديقة ورقية كبيرة تم انتزاعها منذ سنوات .. المكتبة .. التليفزيون المغلق .. أصيص النبات البلاستيكي .. المكتب الذي يعلوه اللابتوب، وعلبة أقلام ملصق على جوانبها الأربعة صور من فيلم "كونغ فو باندا" .. الكنبة الخضراء وراء المكتب وفوقها ـ حيث كنت أجلس تمامًا ـ كوخ صغير، في الضوء الأزرق الناعم لآخر النهار الشتائي، يستند إلى حائط من الرصاصي الفاتح، جدرانه الخشبية القديمة لونها رمادي شديد الدكنة، كلون بابه المغلق الذي يتلاحق ارتفاعه وهبوطه كأنه صدر الكوخ الذي يتنفس بمشقة بالغة، بينما تنعكس على الجدران الرمادية من الخارج ظلال النار المشتعلة في داخله .. مع البرودة الصامتة تنعكس هذه الحركة الثابتة للظلال بدورها فوق مساحة العشب الضئيلة الباهتة، المحيطة بالكوخ .. فوق الباب نافذتان زجاجيتان، معتمتان بشكل تام، متجاورتان بالضبط مثلما توجد العين بجوار الأخرى في الوجه، ويكسوهما غبار متجمّد.
أعرف أن الأمر لم يعد مقبولًا .. أعرف أن حالتي قد وصلت إلى درجة من الخطورة لم تعد تسمح بالتمادي في الحياة دون وضع حد حاسم لها .. كل الذين يحاصرونني، ويمرون من خلالي يدركون هذه الحقيقة جيدًا، ولكن بوعي مناقض؛ إذ أنهم ـ بالطبع ـ لا يفكرون في هذه الحالة كمأساة مرعبة بل كهدية مجانية ثمينة، يمنحها العالم إلى كوابيسهم كلما قررت الخطو خارج هذا الباب المغلق .. أربعون عامًا ولم تتوقف مغادرة البيت عن أن تكون موعدًا جديدًا مع المهزلة القديمة .. أرتدي ملابسي وأمشّط شعري ثم أنظر في عينيّ داخل المرآة كأنني أحصل من شخص آخر على تأكيد أخير بأنه لن يغدر ثانية بالعهد الذي لم يتوقف عن خيانته طوال الماضي .. نعم .. يتم الأمر هكذا كل مرة بنفس الدقة على مدار العمر، كأنه خطوة أولى، فاقدة الذاكرة، تتكرر ذاتيًا، ولا يمكن تعطيلها مثل تعاقب الليل والنهار .. أغلق الباب، وأنزل السلالم، وأسير في الشارع كشبح ماكر قادم من بداية العالم، وعلى وشك أن يعقد صفقة رابحة مع نهايته .. لكن ذلك الشخص الذي اضطررت لإشاحة عينيّ عن ضحكته الباكية في المرآة سوف يخترق جلدي من الداخل ليطمس الملامح التي كنت أمتلكها أثناء بقائي وحدي في البيت، ويتحوّل إلى قناع كامل لجسدي بمجرد مصافحتي للغرباء .. هكذا يتم استئناف العرض بشوق جارف .. كأن هذا الشخص ليس له دورًا في الحياة أكثر من تربية الأحلام المازوخية مستترًا في ظلام العزلة، انتظارًا لموعد تحقيقها عند الخروج من بين هذه الحوائط الصامتة .. الثرثرة التي تُرد إلى أعصابي متعة مألوفة من اللطمات الحارقة لسياط الآخرين .. الدعابات التي يعيدها المصفوفون حولي صدوعًا وفجوات تملؤها النشوة إلى روحي .. السكوت المتوسّل الذي يتلذذ بمضغ النظرات والابتسامات لتوهانه بنهمٍ منطقي .. لكن هذا الشخص بالتأكيد يفعل شيئًا آخر .. هو يراقبني بينما أحاول تجميع الحطام الذي أعود به إلى هنا .. الحطام الذي يستجيب لما أظن أنه ترميم مؤقت بينما يتواصل تفتته بإصرار لن ينتهي إلا حينما يتحوّل إلى فراغ.
جميعهم كانوا يمتلكون نفس النظرة الثابتة .. كل الذين كانوا يشاركونك هذا البيت ثم وزعهم الأمل تباعًا على قبورهم .. نظرة المجبر على الاستمرار في أداء استعراض فاضح للمآسي المرعبة .. لا يمكنك نسيان هذه النظرة لأنها نظرتك الثابتة أيضًا .. تتأملها داخل المرآة بينما تحاول الحصول من شخص آخر على تأكيد أخير بأنه لن يغدر ثانية بالعهد الذي لم يتوقف عن خيانته طوال الماضي .. النظرة التي تراقب فيها سقوطك الشخصي من عتمة العائلة التي سقط منها الجميع .. لم يكن أي منهم يريد مثلك أن يخطو خارج هذا الباب المغلق، ولكن ذلك كان محتومًا على قدميه .. كان كل منهم يتمنى مثلك لو تمكن ـ على الأقل ـ من التنقل بعزلته من جحيم جماعي إلى آخر لكنه لم يقدر .. كان ينبغي أن تكون هذه النظرة هي العلامة النفيسة التي تكشف لك اللعنة فتجاهد للتحرر منها .. كان يجب أن تكون السر الذي تغتنمه لإنقاذك .. لكن منذ متى يمكن لإدراك هوية الموت أن يكون مفتاحًا لتفاديه؟ .. ربما الوصف الأكثر مثالية للواقع أن التعرّف على وجه القاتل هو أكثر ما يُسمّر قدميك أمامه .. أن استيعاب الطبيعة التي يكمن بها في داخلك هو أكثر ما يضمن لك أن تعيش وحدك العذاب السابق لكل دمية مذعورة كانت تشاركك هذا البيت.
ربما الأمر أسوأ مما أعتقد .. ربما تصدر عني كلمات وانفعالات أكثر مهانة مما أنتبه إليها .. ربما هناك معرفة سوداء بالنسبة لي، وردية في أدمغة الآخرين يحتفظون بها، يتبادلونها على المقاهي وفي المكالمات الهاتفية، وعبر محادثات فيسبوك، يرجعون بها إلى بيوتهم ويوزعونها على أفراد أسرهم، ويغلقون عيونهم عليها عند النوم ويحلمون بصورها، ويستيقظون في الصباحات التالية بسعادة ممتنة لوجودها في حيواتهم .. ربما تنتشر هذه المعرفة بواسطة الذين يشاهدونني نحو بقية الناس .. كل سكان المدينة ـ على الأقل ـ حينما يمرون بالصدفة أمام هذا البيت لابد أنهم يتذكرونني بشكل عفوي تمامًا .. ينظرون لأعلى حيث شرفة الطابق السادس، ويشعرون بالضيق لأنني لست واقفًا هناك في هذه اللحظة، دون أن يفارقهم الشعور بالحسد نحو الذين يسكنون في العمارات المحيطة ببيتي .. يبطئون من خطواتهم عسى أن أظهر فجأة ثم ينصرفون بحسرة مؤقتة .. أعتقد أنني يجب أن أكون مستعدًا بعد الآن لكل هذا .. يمكنني أن أعلن في صفحتي على فيسبوك مثلا أنني سأقف كل يوم في الخامسة عصرًا داخل هذه الشرفة .. وبما أنني في الطابق الأخير فسوف أرقص حينئذ كما يرقص الجميع في الأفلام والمسلسلات والأفراح الشعبية، ودون أي موسيقى أو إيقاع، متطلعًا لأعلى حيث لا يوجد ما يمكنني النظر إليه .. سيتساقط الجلد عن جسدي، وسيكون غزيرًا كمطر لا يمكن تصديقه، وسيكفي كل المتجمعين تحت الشرفة، الذين سيلتهمونه باستمتاع عظيم .. سأتحوّل بعد دقائق إلى هواء معلقًا عليه ملابسي، ويواصل الرقص، متطلعًا لأعلى، ولا ينظر لشيء .. لكن هذا لن يستمر طويلًا؛ فالهواء الذي سأصير إليه، وبمجرد العودة إلى الداخل وإغلاق الشرفة، سيكسوه جلد جديد، لينتظر سقوطه غدًا في الخامسة عصرًا داخل أفواه الجائعين، الذين لم يتوقفوا عن الرقص في خصيتيّ قبل عبورهم إلى ما أسفل الدنيا.
هل تعرفون أسوأ طريقة لإنهاء الحياة؟ .. أن تتصرف كما لو أنك موجة واهنة ممسوسة، لا تكف عن محاولة طمس آثار جريمة لا تُمحى، وقعت على رمال شاطئ ما، بينما السائرين بمحاذاة البحر، لا يدركون أن ثمة أحدًا قد قُتل في الأصل.
اللوحة: Oskar Kokoschka (1886-1980) Augustusbruecke in Dresden, 1923
أنطولوجيا السرد العربي ـ 30 يوليو 2018

الأحد، 29 يوليو 2018

عن "خوف" عبد الحكيم قاسم

لا يبدو الراوي في قصة "الخوف" لعبد الحكيم قاسم، وهي إحدى قصص مجموعة "الأشواق والأسى"؛ لا يبدو سكرانًا بالخمر مثلما يصرّح في بداية القصة بقدر ما هو سكران بالخوف .. الخوف المبهم الذي يسبق تناول الخمر الرخيص، ثم يتحوّل على إثره إلى حياة معلنة، جارفة كليًا، أي أنه لا ينشأ عن الثمالة فحسب .. لهذا يمكن التفكير في أن قرار الراوي باستخدام الصوت القوي حين يأمر سائق التاكسي بالتوقف ليس لمنع هذا السائق من ملاحظة أنه سكران، وإنما لمنعه من ملاحظة أنه خائف .. لهذا أيضًا يمكن تفسير الحرية اللغوية الكاشفة التي استعملها عبد الحكيم قاسم في السرد، والتي تخلت عن حذر المواراة الرمزية لصالح الفضح النفسي لمشاعر الخوف وتحولاته غير المتوقعة مستعملًا مفرداته وتعبيراته في نقائها الحاد، باعتبار هذه الحرية ناجمة عن السُكر بالخوف نفسه عند بلوغه ذروة كانت جديرة بالحدوث في تلك اللحظة، وليست راجعة إلى الخمر بحد ذاته.
كيف يمكن تأمل الخوف كـ "أصل" مهيمن، يسبق الظواهر المتغيرة ويتجاوز اعتيادها من خلال هذه القصة؟ .. يُظهر عبد الحكيم قاسم الخوف بوصفه استجابة ثابتة، "جذرية" لكل ما هو مألوف ونمطي: الحركة .. الأضواء وانعكاساتها .. التوقف .. الأرقام .. اللمس .. الصمت .. الصعود .. الأصوات .. الكلمات. وبالضرورة للتأويلات الشائعة عن الوجود والزمن والموت الكامنة في الأنساق التقليدية التي تكوّنها هذه العناصر: الطريق والعربة والسائق والأسفلت والسرعة وعدّاد التاكسي والوحشة والصمت والهروب .. سنلاحظ التشكيل البصري عند عبد الحكيم قاسم الذي يعمل أسلوبه في هذه القصة كرسّام للأشباح على المستويين البشري والمكاني: العين الخضراء في لوحة العدادات .. انعكاس ضوء لوحة العدادات على وجه السائق .. الباب الحديدي وصريره الشبيه بصوت كلب داس الراوي على ذيله .. المزج بين صوت محرك السيارة والنفير القوي واصطكاك المفتاح بحثًا عن ثقب الباب .. الظلام التام .. جثث الفئران الهائلة .. الأشكال المخيفة داخل المستطيلات المضاءة .. هذه الأشباح لا تمثل الملامح الخارجية للواقع في عيني الراوي بل تجسّد طبيعة حضورها داخله .. كأنه بهذا التشكيل يحاول التوصّل إلى صيغة ما للتفاهم مع تلك الأشباح، أو إخفائها داخل صور قابلة للتعديل والمحو.  
بذلك تتحوّل القصة إلى ما يشبه الكابوس الفاضح للقهر الذي تضمره الأشياء كافة، حتى تلك التي تبدو روتينية أو محايدة أو تتسم بخصائص مناقضة، ومن هنا يصبح خوف الراوي منطقيًا وفقًا لهذا الوعي، ولهذا، وبكيفية ما؛ فإن الاعتذار المتوسّل الذي قدمه الراوي للسائق عن عدم وجود "فكة" قد يذكرنا باعتذار تشرفياكوف إلى الجنرال بريزجالوف عن "العطسة" في قصة أنطون تشيخوف الشهيرة "موت موظف"؛ فالاعتذارين ـ خاصة مع تطورهما المتلاحق حيث يهرب الراوي من السائق الذي يريد إعطاءه باقي النقود كأنما يفر من دائن، ويلاحق تشرفياكوف الجنرال بشكل كاريكاتوري كي يحصل على غفرانه ـ قد يكونا غريبين للوهلة الأولى، وأقرب للهذيان، لكنهما ينسجمان مع الإدراك الفادح للشراسة التهديدية المتوعّدة التي ينطوي عليها كل ما ينتمي إلى العالم.
تؤكد السطور الأخيرة من القصة ذلك الخوف الذي يسبق تناول الخمر كما أشرت في البداية، كأنما يوثق عبد الحكيم قاسم هذا الجوهر الحاكم لطبيعة علاقة الراوي بالتفاصيل التي ستظل "مرعبة" لحياته حيث تكمن الثمالة الأساسية: المسوخ الشائهة التي تقف في فتحات أبواب الدكاكين المضاءة .. لكن دموع الراوي في النهاية تقودنا إلى ما يمكن أن نعتبره عمق هذا الخوف وهو الحسرة؛ فبكاء الراوي قد يكون تعبيرًا عن وصول الرعب في نفسه إلى هذه الدرجة المتطلبة لتدفق الدموع، ولكنها أيضًا قد تكون دليل الانغماس في الشعور بالفقد لكل البدائل الغامضة التي كان يجب أن توجد محل هذا الخوف.
* * * 
الخوف
عبد الحكيم قاسم
كنت مخمورًا أحاول جهدي أن أستجمع وعيي. سائق التاكسي رصين الكتفين. والعربة تمرق علي الأسفلت المبلول المضاء بمصابيح الطريق .
يبدو أنني مريض بالكبد. كمية الخمر الرخيص في معدتي تثقل علي وعيي مثل كلكل الجمل، لكنني يقظ وعارف، ومن طرف خفي أرقب تتابع الأرقام في عداد التاكسي. هذا السائق كتفاه تتساوقان في حركة رتيبة أكيدة. بعد لحظات سأقول له:
-
هنا ...
عندئذ يقف وأعطيه حسابه. سآمره بالوقوف في صوت خفيض, لكنه قوي وآمر حتى لا يلحظ أنني سكران, عيناي علي عداد السرعة.. تسعون كيلو في الساعة. يا ربي. العربة تستلبني بهذا المروق الخارق علي الأسفلت الناعم. أطرافي باردة بخوف مبهم.
هنا علي اليمين ..
بليونة وقفت العربة . تفتحت عين خضراء في لوحة العدادات, ضغطة هينة علي مقبض الباب. انفتح المعدن صقيل بارد. العربة جديدة متحفزة. بعينين ساجيتين متعاليتين ألقيت نظرة علي العداد. أنا أعرف ما فيه سلفًا لكنني حريص علي أن أبدو طبيعيًا. بأناة خلعت قفازي ودسست يدي في جيب معطفي، وأخرجت ورقة ذات خمسة جنيهات. عليه أن يرد لي ثلاث جنيهات .
بنفس النظرات السجية المتعالية تأملت كفه القابضة علي ورقة النقود، ووجهه الذي تنعكس عليه أضواء لوحة العدادات. سألني وأسنانه تبرق بيضاء لامعة: معاك جنيهين ..
ـ لا ..
ثم ترقرق في قلبي الأسى فأردفت:
-
أسف.
ثم قلت متوسلًا:
-
لا يهم...
لكنه أزاح رجائي بقبضته القوية ثم جذب محوّل السرعة وقفز بالعربة تاركَا في أذني أمرًا باترًا.
-
انتظرني هنا حتى أعود بالباقي ...
تسمرت في مكاني مرتبكًا وخائفًا قليلًا. تتعلق عيناي بالعربة التي تبتعد مسرعة. وجدتني وحيدًا. في مواجهتي علي الضفة الأخرى من الشارع صف طويل من أبواب الدكاكين عمياء صامتة، واقفة علي حافة امتداد إسفلتي لا متناه، مضاء بمصابيح الطريق .
صمت مريب، الوحشة تزحف علي من جميع الاتجاهات وأنا في بؤرة مخيفة, أنطلقت مسرعًا إلي بيتي. حذائي يضرب حصاة الطريق في ارتباك ولهفة. أسرع. أزيد سرعتي. أفر هاربًا. دفعت الباب الحديدي فصر صريرًا عاليًا ككلب دست علي ذيله. صعدت الدرجات القليلة قافزًا أتلفت ورائي كالمطارد. فجأة ملأ سمعي محرك السيارة. لقد عاد. بدأ يطلق نفيره بقوة. يدي تبحث عن ثقب المفتاح. النفير يدوي رهيبًا, المفتاح يصطك بكل مكان ماعدا ثقب المفتاح, بدأ السائق ينادي كحيوان مفترس:
ـ يا أستاذ لك ثلاث جنيهات باقية ..
صفقت الباب ورائي بقوة. في ثوان كنت قد خلعت ملابسي وطوحت بها وقفزت إلي سريري وأحكمت الغطاء حولي، ومازال السائق يزأر:
- يا أستاذ لك ثلاث جنيهات باقية ...
تشبثت بالغطاء وأنا أرتعد. أحاول لأن أهوى إلي قاع اللاوعي لأنجو.
هدر صوت العربة راحلًا. أحسست بالخلاص. لابد أن الشارع الآن ساكن تمامًا. عيناي مغمضتان. الحذر يضغط علي وعيي. يدوسني بأقدام ثقال. ذلك الامتداد الإسفلتي المضاء بمصابيح الطريق, فتحات أبواب الدكاكين. امتداد شاسع يوغل في البُعد حتى لا أحس بالدوار. مستطيلات واقفة متتابعة فيها مسوخ شائهة. ناس أو هي جثث فئران هائلة هائلة متآكلة. ظلال تام ما عدا هذا المستطيلات المضاء التي تقف فيها هذه الأشكال المخيفة. في داخلي تسح دموع دافقة.

الجمعة، 13 يوليو 2018

الأسماك الميتة

كان في الحوض سمكات كثيرة، لا أتذكر عددها بدقة، وكانت تموت بوتيرة متلاحقة .. لم يكن الفرق بين موت سمكة وأخرى يتجاوز أيامًا قليلة .. أحيانًا ثلاثة، وأحيانًا خمسة، وأحيانًا أسبوع كامل في أفضل الأحوال .. كان الأمر محزنًا بالتأكيد؛ فعلى الرغم من بذلنا للجهود الممكنة من أجل رعاية هذه الأسماك والحفاظ عليها، ودون تقصير في الالتزام بالتعليمات والنصائح كافة، إلا أننا ظللنا عاجزين عن إيقاف الموت داخل ذلك الصندوق الزجاجي .. لكن الحزن رغم قوته البديهية لم يمنعنا من اللعب بهذا الموت .. كنا نتراهن على أي سمكة سيأتي الدور على خروجها كجثة ضئيلة ملونة من الحوض كي تُدفن داخل الأصيص الذي أصبح مقبرة طينية مخصصة لذلك فوق سور البلكونة .. كان الدفن دليلًا متوقعًا على احترامنا لهذه الكائنات الصغيرة، وبالطبع على شعورنا بالأسى جرّاء فقدانهم؛ إذ لم نكن من نوعية البشر الذين يلقون بأسماكهم الميتة في بالوعة المرحاض أو سلة القمامة ..  كانت اللعبة مسلية حقًا نظرًا لصعوبتها البالغة؛ فالسمكة التي على وشك الموت لا تبدو عليها أية أعراض مرضية بل على العكس تظهر بصورة طبيعية ونشطة للغاية إلى أن تصيبها فجأة علامات الاحتضار المتسارعة قبل أن ترقد هامدة تمامًا في قاع الحوض، وكان هذا يضاعف استفزازنا، ويعزز متعتنا .. في النهاية تبقت سمكة واحدة .. سمكة واحدة ظلت تعوم وحدها في الحوض وتنظر إلينا .. تنظر إلينا كأنها تعرف .. كان في عينيها المحدقتين ما هو أكثر من توسل لأن نفعل شيئًا استثنائيًا مبهمًا لا يخرجها من الماء ويذهب بها إلى أصيص الطين .. كنا نظن أن اللعبة قد انتهت، ولكننا أدركنا أن ثمة ختامًا آخر لها .. أصبح كل منا يتسلل بعيدًا عن الآخرين كي يقف أمام السمكة ويتأملها وحده .. ذلك الاختلاس الفردي لمراقبة لحظات ما قبل الهلاك كان الجزء الأخير من اللعبة .. بعد موت السمكة ودفنها كان من المنطقي أن نقرر بشكل حاسم عدم التفكير في تربية الأسماك مرة أخرى .. لا شك أنه من المؤلم أن تتمسك طفلتي الحزينة ـ رغم استمرار نفينا القاطع ـ بتصديق احتمال أن ينبت من طين الأصيص زرع تثمر غصونه الأسماك الميتة، بنفس ألوانها، وقد استردت الحياة مرة أخرى، الأمر الذي يستوجب حينئذ انتزاعها فورًا لإعادتها إلى الحوض المهجور .. ربما الأكثر ألمًا أنني وزوجتي منذ موت السمكة الأخيرة نحرص على سقي الطين كل يوم.
موقع "قاب قوسين" ـ 10 يوليو 2018
الصورة لـ Roberto Pireddu

الخميس، 5 يوليو 2018

الشخص الذي ينظر إليك

بدءًا من الغد أريدك أن تستمع إلى الموسيقى منذ الصباح الباكر .. إن لم تكن موسيقى ناعمة فاستمع إلى موسيقى الجاز، وإن لم يكن من ذاكرة اللابتوب فمن إحدى محطات الإنترنت ولتكن Jazz Radio أو Jazz 24 أو 1.FM .. الموسيقى الكلاسيكية ستكون في نهاية الأسبوع، وسيشتمل الوقت المخصص لها على تنويعات مشبعة .. أريدك أن تتناول إفطارك فوق هذا العشب، بين هذه الزهور، وأمام هذا البحر .. بعد أن تنتهي طفلتك من اللعب مع الطيور والفراشات والغيوم؛ أريدك أن تجلس معها، وبرفقة قطتكما الصغيرة تحت هذه الشجرة كي تملأ بالونات الحوار للقصة المصورة التي رسمتها، وجعلتك أنت وهي والقطة تشاركون بطوط والأولاد وعم دهب في مغامرة بحرية تشبه تلك التي كانوا يخوضونها أيام الثمانينيات .. في المساء، وبعد أن تشاهد فيلمًا من الكلاسيكيات الملائكية؛ أريدك أن تستقل مع صديقيك هذه السيارة المماثلة لتلك التي كانت لدى لوريل وهاردي في مسلسلهما الكارتوني، وأن تتوجهوا لمراقبة البيت القديم الذي تعلمون أن أعضاء جماعة سرية يجتمعون فيه، ويمارسون طقوسًا سحرية مخيفة، وأنهم سلالة لأتباع عقيدة غامضة ظهرت منذ قرون، ويستعملون مخطوطات ووثائقًا عتيقة عن عوالم سرية مختبئة تحت بيوت وشوارع المدينة، تقود إلى خارج الزمن .. سيكون هناك مطر، وظلام، وإضاءة خافتة، وسيتمكن راديو السيارة من التقاط الموجات الأثيرية التي يتواصلون من خلالها مع أقرانهم في أماكن أخرى، وستنصتون إلى خططهم وتحركاتهم داخل المدينة، وسيكون لديكم في السيارة ما يُناسب هذه الرحلة من كتب، وأوراق، وصور، وخرائط، ودفاتر ملاحظات، ولابتوب متصل بالإنترنت، وهواتف محمولة، وطعام، وشراب .. أريدك أن تصدّق أن صديقيك لن يفعلا شيئًا يفسد الأمر .. أرجوك .. توقف عن تعريف البيت بأنه مجرد ممر إلى الشرفة .. أنت في الأربعين الآن، ولم يعد هناك وقت .. غادر هذه الشرفة التي قضيت كل حياتك فيها تراقب الناس، وتتقمص شخصياتهم التي تتخيلها، ثم تلوّح بالوداع لوجوههم بعفوية تزيد قوتها أو تنقص بحسب مستوى الألم الذي تتصوّر أنك قادر على استعماله .. سينتهي بك الأمر لأن تكون مثل جارك العجوز الذي يمضي معظم الوقت في الشرفة المقابلة .. لم يعد يراقب، ولم يعد يتقمص، وإنما أصبح يكتفي بتقليد مشي العابرين .. يردد كلماتهم وانفعالاتهم التي تصل إليه، ولكنه مازال يلوّح بالوداع لوجوههم فور وصولهم إلى نهاية الشارع تاركين ألمًا مضاعفًا غير صالح للاستخدام .. أعلم أن الموسيقى أصبحت من أكثر الأشياء التي تثقل يأسك مثلما تفعل الأفلام الملائكية، وأنه لا يوجد عشب أو زهور أو بحر أو طيور أو فراشات أو غيوم أو قطة أو شجرة، وأنك قتلت طفلتك قبل أن تحاول رسم القصة المصورة، وأنه ليس هناك صديقين ولا سيارة ولا جماعة سرية .. لكن ألا ترى؟ .. أصبح الناس هم الذين يراقبون العجوز الذي لم يعد يتذكر عن ابنته التي صارت شبحًا سوى أنها صاحبة اليدين اللتين تنتزعانه من الشرفة نحو الداخل لإنقاذه من ضحكاتهم.
صحيفة "المثقف" العراقية ـ 3 يوليو 2018
اللوحة: مرمم شباك الصيد / لؤي كيالي.