الجمعة، 29 أبريل 2022
ابتسامة الموت
الأحد، 24 أبريل 2022
الاحتياج
فكّر في الأمر
“فكّر بأن الحياة تسير في طريقها
لكنك غائب …
فكر بفصول الربيع، تأتي بنوافذ مشرعة
وأنت غائب …
أن تغيب ليس بالأمر الصعب
لكن، إن غبت عما أنت في حاجة إليه
سوف تبقى عالقًا إلى الأبد
بداخل تلك اللحظات التي فاتتك
وستبقى، جزءًا من العالم …
إلى الأبد!”.
ما الذي أنت بحاجة إليه؟ .. ليس ما هو محكوم بلعنتك البشرية ولكن بما تتطلبه ألوهتك الغائبة .. بما يخلصك من الاحتياج بشكل مطلق .. لهذا ستظل غائبًا بغياب ألوهتك، والحياة لا يمتلكها إلا نقيضك الكامل والمحصن .. الذي لم يجعلك “بحاجة لشيء” فحسب وإنما أجبرك على أن ترهن هذا “الشيء” بالشروط الحتمية لإنسانيتك .. بالآلام التي لم يجربها ولا يريد قطعًا أن يجربها .. لهذا لن تبقى نوافذ الربيع مشرعة إلا لمن يتسم بصفاتك المضادة .. الصفات التي يضمنها غيابك .. ستظل عالقًا في ألوهتك الغائبة لأن ما فاتك هو “كل شيء” .. الغياب الأبدي الذي يسبق وجودك “اللاإلهي” .. ما يعنيه حضورك القهري والمزيف في جحيم العالم.
لنفكر في أن يانيس ريتسوس قد جعل “اللحظات” في مواجهة “الأبد” .. كأن هذه “اللحظات التي فاتتك” بما أنه قد “فاتك كل شيء” – كما أقر غياب ألوهتك – كأنها لحظات يقظة استثنائية غاضبة .. انتباه انتقامي على الاحتياج كأصل بديهي .. كجوهر لا يمكن التحرر من شروره .. كأن هذه اللحظات هي ألوهتك الساخرة .. أبديتك التهكمية .. التي – في مقابل كونها سجنك الانفرادي – تصبح انفلاتك من العالم ولو تجسدت في مجرد نظرة استهزائية صامتة نحو السماء.
الأربعاء، 20 أبريل 2022
مخملية الجحيم
أنتج فيلم “عشرة على عشرة” عام 1985 ومنذ سنوات طويلة وأنا أعيد مشاهدته مرارًا باعتباره كاشفًا لاحتمالات الحياة التي كنت تعيشها مع أصدقائك في الثمانينيات .. الحياة التي لم أكن جزءًا منها حين حدثت وعجزت عن امتلاكها بعد أن نزَفَت كل دمائها .. كان عماد رشاد يحمل اسم (علاء) وهو اسم أحد أصدقائك الذي لم أعرف صاحبه إلا بعد موتك بخمسة وعشرين عامًا .. كان هذا الاسم مرتبطًا لدي ومنذ تكوّن وعيي الطفولي بالشاب المتحرر الذي يقبض رفقة أصدقائه وصديقاته على المتع الماجنة للمدينة وخارجها، ولابد أن تردد الاسم على لسانك في لحظات بالغة الاهتراء بوصفه صديقًا حميمًا ومقربًا، وبين أفواه أسرتي كواحد من الشياطين التي بعت روحك لها كان سببًا في تشكيل تلك الصورة .. ظل الحصول على صديق يحمل اسم “علاء” حلمًا سريًا لي بعد تجاوز مرحلة الصبا، وظل عدم النجاح في تحقيق ذلك بمثابة ملامسة خشنة لفراغ زهرة ناقصة داخل الحديقة السرابية لصداقاتي .. أتذكر أنه في مرحلة الجامعة تعرفت بواسطة صديقي لي على واحد من أصحابه يحمل اسم “علاء” .. لم يكن متناغمًا مع الصورة القديمة لاسمه في ذاكرتي وإن بدا في غاية القرب من إطارها .. لكن لأسباب قدرية تقليدية تواطأت مع إلزامات معينة في طباعي الشخصية لم يكن هناك ما يسمح لأن نصبح أصدقاءً بشكل فعلي فاكتفت علاقتنا بالترحيبات العابرة في مصادفات الشوارع والمقاهي .. مع ذلك كنت أؤدي تلك المصافحات الودودة ـ على بساطتها وندرتها ـ بامتنان هائل وسعادة خفية .. كنت حينما ألوّح له بتحية صامتة أو ألقي عليه سلامًا مقتضبًا إذا ما تقابلنا في مكان ما أشعر باعتزاز ذلك الذي أدرك غنيمة شاقة بعد زمن طويل من مطاردتها، حتى أنني كنت أردد متباهيًا بيني وبين نفسي حينئذ “لدي صديق اسمه علاء”، متمنيًا لو كان بمقدوري إخبار كل من يعرفني بهذه المعلومة.
أتذكر أنه كان على حائط غرفتك نفس بوسترات فريق ABBA والتي ظهرت في حجرة “علاء” بالفيلم .. صورة “آلان ديلون” أيضًا .. زينة الأسقف في حفل عيد ميلاد “نانا” لابد أنها تذكرك بفروع الزينة التي علقتها بنفسك في أحد أعياد ميلادي في الصالون والصالة .. الرقص على نغمات Je T’aime,…Moi Non Plus في حفل عيد الميلاد .. تصفيفة شعر وشارب وفتحة قميص “حاتم ذو الفقار” ومتعلقاته الذهبية: السلسلة والانسيال والخاتم والساعة أو ما يمثل نمطًا مظهريًا كلاسيكيًا للشبق الذكوري في تلك الحقبة والمتكرر لدى أكثر من صديق لك في صورك المتآكلة .. الموسيقى الراقصة لأغنية داليدا Laissez Moi Danseمع الضوء الأحمر الغائم في سهرة “الشلة” .. الثمانينيات التي تبكيني الآن كأنها تُسكِنني الروح الأكثر ضراوة للبكاء .. مخملية الجحيم الرائقة بالبريق المشؤوم .. بعطرها النفّاذ المُسكر، المتدفق من آماد وأغوار الليالي الكرنفالية المغامِرة في دفء الفناء .. بالصفاء الطفولي الغافل والمشرق لنهاراتها الوردية القاتلة .. أرأيت ما الذي تفعله الثمانينيات باللغة؟.
أخبرني أنها مجرد صدفة يا مجدي! .. أخرج من مركز طباعة بشارع المختلط ثم أستوقف تاكسيًا للتوجه إلى المؤسسة التي أعقد فيها ورشتي القصصية بشارع الجلاء .. سائق التاكسي بين نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، بشعر أبيض خفيف ولحية بيضاء كثيفة وملامح فيها شيء من الغلظة .. يبدأ حديثًا مملًا معتادًا لا أتذكره عن موقف تعرّض له منذ وقت قصير مع أحد الزبائن يكشف عن مدى “التدهور الأخلاقي” لشباب هذا الزمان .. أجيبه بكلمات التعاطف الروتينية المتحفظة محاولًا إغلاق الطريق الذي قام بفتحه .. لكنه يستمر في الكلام ليشرع ـ كما يحدث دائمًا ـ في تمرير شعوره الدائم بالاختناق والضجر من الهموم المتزايدة .. التي لا يحصل على هدنة بسيطة منها إلا عند زيارة أمه في “ميت حدر” .. هنا بدأت بالطبع في مساعدته على تمهيد طريق الحديث بيننا فأخبرته بأنني أيضًا من “ميت حدر” .. سألني بلهفة منهكة عن مكان بيت أسرتي وحينما أجبته طلب مني أن أخلع نظارتي الشمسية .. فعلت ما طلبه ليتملّى في ملامحي ثم رأيت رجفة خاطفة تسري بين تجاعيد وجهه وهو يسألني: إنت أخو مجدي؟ .. قلت بيني وبين نفسي بابتهاج غير مصدّق: “يا للشيطان” .. نعم أنا أخو مجدي .. أبعد بصره عن ملامحي وظل محدقًا في مسار عربته وسط الزحام بينما دموع صغيرة هشة تتقافز سريعًا من عينيه .. تفحصت ملامحه مجددًا بأقصى ما لدي من تركيز محاولًا رسم صورة ذهنية لهذا الوجه قبل أربعين سنة .. تسمرت نظرته نحو الأمام وهو يتمتم مرددًا بلوعة خافتة “يا حبيبي .. يا حبيبي” .. لم يكن لتلك الملامح أثر لا في صورك القديمة ولا في ذاكرتي .. طيبت خاطره بعبارات المواساة المألوفة وأنا أتجهز للتعامل معه كغنيمة .. كصيد وقع في شباكي بمحض إرادته .. أخبرني وهو يجفف دموعه بأنني أشبهك جدًا، وأنه كان صديقًا مقربًا لك فضلًا عن كونه جارًا كان يسكن نفس المنطقة .. تبادلنا رقمي هاتفينا وسيارة الأجرة على وشك الوصول إلى مقصدها .. وكأن سخاء لحظة لقائنا أراد أن يكتمل في نهايتها؛ إذ لم يكتف بحصول كل منا على رقم الآخر بل وأصر على تحديد موعد لمقابلة بيننا .. وفّر صديقك عليّ بهذا الكرم أن أنتظر اتصالًا حتميًا كنت سأتعمّد ترك مسافة زمنية معقولة بين هذا اليوم وبين إجرائه .. اخترت مكانًا منعزلًا مناسبًا يمكنني فيه انتزاع ذاكرته معك دون تطفل من أحد .. غدًا، الجمعة، الساعة السادسة مساءً، بمقهى “العبور” في السكة القديمة.
أخبرني أنها مجرد صدفة يا مجدي! .. قبل الموعد بربع ساعة كنت جالسًا في المقهى ومعي مجموعة من الصور الانتقائية التي تضم أكبر عدد من وجوه أصدقائك .. لم أكن في حاجة لمراجعة المخطط الذي سأسعى لإدارة الحوار بيننا من خلاله .. أعرف كيف أتحدث كأن ما يدور كلامنا حوله أمر عادي، ليس هامًا بقدر السعادة والشرف اللذين حصلت عليهما بالتعرّف على شخص مثله .. أعرف كيف أتكلم عن الماضي كموضوع عام من الأفكار والمشاعر المسالمة، دون الإصرار على اقتحام تفاصيل محددة، وأن أتركه يبوح بما يود هو أن يكشف عنه بلا مقاطعة أو لامبالاة أو تذمر .. أعرف كيف أتدخل في اللحظات المناسبة بسؤال، معلومة، إشارة كأنما أشارك بألفة بديهية في استعادة الذكريات، ولكن على النحو الذي يكون تحريضًا للآخر على “الاعتراف” ولو بشكل ضمني بما أريد أن أسمعه .. أعرف كيف أعرض الصور أمام عينيه، كأنها فقط عناصر وأدوات ضرورية لجلسة الحنين، ولكن بالطريقة التي تجعلها في باطنها مواجهة منتشية مع ما قد يجبرك أن تتعرى أمامه كفرصة أخيرة للنجاة من لعنته.
جلس صديقك أمامي يا مجدي .. شاهد الصور وبدا كأن ملامحه في عينيّ قد ازدادت غلظة .. لا كتحوّل عدائي في حد ذاته وإنما كإمعان في المواراة التي لا تستطيع أن تخدشها أي براعة كلامية لإجباره على الفضفضة .. كأن ملامحه ـ بكل ما تختزنه من كوابيس مجهولة ـ كان يجب مع تطلعه إلى الصور التي لا يظهر فيها وجهه أن تصبح غطاءً سميكًا، يخفي بمرارة متكلسة ركام المرايا التي تعكس المشاهد الأصلية لتلك الليالي البعيدة، الميتة بين الأطر .. كنت أتوسل في صمت لعينيه وهما تتأملان الوجوه وتبكيان من خلف نظرة منطفئة، جامدة، مذبوحة بالخذلان .. فعلت كل ما أعرفه لكي أستخرج الأحشاء التي تخصني من “الحسرة على الأيام الجميلة” .. “مجدي الشهم والطيب وأعز الأصدقاء” .. “كنا في الصيف نسافر أحيانًا جمصة أو رأس البر” .. “والداك كانا يحبانني ويعتبرانني أفضل أصدقاء مجدي” .. “قضينا الأيام كلها في المرح البريء الذي لم تعكره الهفوات البسيطة للبعض” .. دون جدوى يا أخي .. كأنني أنا الذي جئت للاعتراف أمامه بابتسامتي التي يتصاعد مزيج ارتباكها وخيبة أملها لحظة بعد أخرى .. كان يبدو بإصراره البارد على الاكتفاء بأن الماضي أفضل من الحاضر وحسب، وأنه كان نقيًا من المساوئ اللاأخلاقية عدا استثناءات غير مؤثرة لأصدقاء ليس من بينهم أنت ولا هو ولا أي أحد ممن يظهرون في الصور، وأن حياته الشخصية البائسة المضجرة تستحق أن يحكي قصتها بدلًا من أي سيرة أخرى؛ كان يبدو كأنما يتحدث عن ذكرياتي أنا يا مجدي .. كنت أمد له أطراف الخيوط فيعيدها إليّ مشانق بالغة الخشونة والمتانة .. ألهذا لم يظهر في صورك؟ .. هل ينبغي أن أصدّق أنه حقًا لا يعلم؟ .. كنت أرفض الإقرار بذلك، وكان يبدو أنه لن يتكلم صراحة حتى لو استمرت هذه الجلسة في المقهى ألف عام .. لن يمد ذراعيه لالتقاطي وهو يراني أسقط من السماء المعتمة لذكرياتك .. لكنني لم أخرج من هذا اللقاء دون انتصار .. أشار صديقك إلى “علاء” داخل إحدى الصور .. كان أثناء سرده لما أعرفه أصلًا، وبينما كان يُخبرني بأسماء بعض الشخصيات التي لم يكن لي علم بها في بعض الصور؛ وضع إصبعه بجانب وجه أحد أصدقائك وقال أن اسمه “علاء”، بل وأخبرني أيضًا بالمكان الذي لا يزال يعمل به حتى الآن .. كانت الصورة في مطعم “مارشال المحطة” حيث كنت تجلس أنت و”علاء” وصديق آخر وتشربون البيرة وتدخنون المارلبورو .. هذا هو “علاء” إذن .. لهذا لم تكن الابتسامة التي ودعت صديقك بها عند عتبة المقهى يائسة تمامًا.
لم يحتاج “علاء” أكثر من ثوان قليلة ليعرف أنني أخوك .. رآني أسأل عنه أحد الموظفين بالشركة التي يعمل بها عند بوابتها المطلة على شارع البحر .. تقدّم نحوي بأعوامه التي تقترب من الستين، ثم تمعّن في ملامحي بقوة، وبالرغم من أن النظارة الشمسية كانت لا تزال فوق وجهي إلا أنه قال نفس العبارة لكن هذه المرة كيقين لا كسؤال: “إنت أخو مجدي” ثم احتضنني .. سألته إذا كان وقته يسمح للجلوس بعض الوقت في مقهى “سوليتير” المجاور للشركة .. بعد لحظات كنا نجتاز باب المقهى في ظهيرة أصبحت بشكل متوقع أكثر بُعدًا بكثير من اليوم الثمانيني الذي التقطت فيه صورتكما داخل “مارشال المحطة” .. ومثلما فعلت مع صديقك الذي قابلته في مقهى “العبور”؛ رحت أتلصص على ملامحه كأنني أريد أن أعرف كيف كانت ستصير ملامحك لو امتدت بك الحياة إلى هذا العمر .. كأن ملامحك ليست إلا خليطًا من ملامح أصدقائك، أي أنها اعتمدت في تكوينها على ما فعلته وجوههم بوجهك الأصلي .. ليست وجوههم وحدها قطعًا ولكن ما أصبح يشكل صورتك أثبت ثماثلًا بين الوجوه كافة: أصدقائك .. عائلتك .. جيرانك .. حتى الغرباء الذين لا تعرف أسمائهم .. حتى الغرباء الذين لم ترهم قط .. وإذا كان من السهل استنتاج أنني شقيقك بمجرد النظر فذلك ليس راجعًا إلى تشابه الملامح بيننا وإنما إلى تشابه الملامح التي اجتاحتها.
تكرر السيناريو ذاته يا مجدي: نفس الطريقة في التطلع إلى الصور (حتى تلك التي يظهر فيها منذ أربعين سنة) .. نفس غلظة الملامح .. نفس المرارة المتحجرة في العينين التي تخفي أسرار الماضي باستماتة .. نفس الكلام الرومانسي اللعين المتكرر .. نفس الحكي لمواقف وأحداث يمكن أن يسردها كل الجالسين حولنا على الطاولات، وكل العابرين داخل ميدان الهابي لاند في تلك اللحظة، وكل سكان المنصورة الأحياء والأموات .. الشيء الوحيد المختلف أن “علاء” كان تعمّده للاختباء أكثر وضوحًا .. كانت رغبته في عدم البوح مفضوحة بصورة تفوق تلك التي أظهرها صديقك سائق التاكسي في مقهى “العبور” .. كان ذلك التحفظ متسمًا بمسحة خبث مكشوفة .. أثر معلن من الدهاء القديم الذي لا يمر في الكلمات وإنما في النبرة المائعة، في النظرة المتأرجحة، في الابتسامة الخفيفة التي تحتجز طوفانًا من الضحكات عند التحدث بجدية وحياد.
لكن ـ مرة أخرى ـ في مقابل أنني استمعت إلى ما أعرفه بالفعل؛ حصلت على أسماء ومعلومات جديدة، قليلة جدًا، وباهتة للغاية، لكن من يعرف؛ ربما تصلح مستقبلًا كقرابين في رحلتي إليك .. مستقبلًا! .. نعم، هي مجرد صدفة يا مجدي .. أن أستقل تاكسيًا يقوده أحد أصدقائك الذين أنقّب في كل مكان عنهم بعد خمسة وعشرين عامًا من موتك .. أن يرشدني هذا الصديق إلى مكان “علاء” فأعثر عليه وأتكلم معه عنك وعن الثمانينيات وبقية الرفاق: من لا يزال حيًا، ومن أصبح ميتًا، ومن هاجر، ومن اختفى، ومن تبدلت حياته من حال إلى حال .. هي مجرد صدفة لأنه ليس هناك فرق بين أن يحدث هذا أو لا يحدث .. لأن الماضي جعلهم نسخًا قد تختلف في كل شيء ولكنها تتفق على حرماني منك .. على منعي من الوصول إليك .. كنت أحّدق في عيونهما عسى أن أرى الذكريات تعيد نفسها كما جرت تمامًا .. أن أكتشف في هذه العيون كل الكلمات والأفعال والأصوات والروائح والإيماءات التي دُفنت داخل الصور .. لكن اليأس كان كاملًا منذ البداية يا مجدي .. فقط يدمغ نفسه .. لا يتوقف اليأس عن دمغ نفسه بواسطة ما كان يتحتم عليّ تصوّره بأنه ليس مجرد صدف.
جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.
السبت، 16 أبريل 2022
الشر عاريًا
نتيجة
“هذه النافذة وحيدة.
هذه النجمة وحيدة.
كسيجارة منسية على المنضدة …
تدخن، تدخن في الزرقة، وحيدة.
وأنا وحيد، قال.
أشعل سيجارتي، أدخن.
أدخن وأفكر. لست وحيدًا”.
ما ذلك الشيء (الوحيد) الذي يقدر على ترك النجمة وحيدة (كسيجارة منسية على المنضدة)؟ .. النجمة في حالة هجران، مُنكَل بها، لذا فهي تحمل بالضرورة البصمة الغامضة لهاجرها، تنبئ بالوجود المبهم لما يُنكِل بها .. بالضرورة أيضًا فذلك الذي كان بوسعه أن يتركها وحيدة ليس وحيدًا بالشكل ذاته .. إنه الوحدة نفسها .. مطلق (الوحدة) .. الوحدة الكلية محصنة من شرها دونما انتهاك لشموليتها الملغزة.
أن تشعل سيجارة في هذه اللحظة فكأنك تنقذ النجمة من وحدتها .. تنقذ نفسك من النسيان .. تصبح الهاجر والمهجور .. المُنكِل والمُنكَل به .. النجمة كينونتك .. المنضدة سماء .. أنت المُخلِّص.
لكن أي خلاص؟ .. ليس النجاة حتمًا، بل التجسيد المتحدي لما لا يمتلك شجاعة تجسيد نفسه .. تمثيل للشر عاريًا من الأوهام .. تنكيل مضاد انطلاقًا من النتيجة نحو السبب.
من أجل هذا التجرد يستخدم يانيس ريتسوس لغة تدمج بين الوضوح والدقة .. بين إعادة التعيين واكتشاف البداهة .. إشارات مباشرة، محددة، كأنها استذكار مدرسي يدعمه التكرار لطفل يتعلم الأسماء والصفات، يتعرّف على الأشياء ويلامس الأنساق الأولية لحضورها .. كأنه تثبيت لتفاصيل العالم في بدائيتها بما يعادل خلقها ثانية من العدم .. النقاء اللغوي الذي يتظاهر بالبراءة والحياد حيث السيجارة المشتعلة دليل ريتسوس على أن مشهد (الوحدة) – كما تم تجهيزه مسبقًا – لن ينطلي على بصيرته.
الخميس، 14 أبريل 2022
مُنزّهًا عن السماء
“الذي يستحق
وبعد أن عادت العجوز إلى بيتها، جلست صامتة .. بعد أن تلفتت كثيرًا حولها بدأت تضحك .. بالطبع؛ فهي لا تعرف لماذا فعلت ذلك .. لماذا خرجت مسرعة من البيت، في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لتذهب إلى الصيدلية المجاورة، وتطلب من الطبيب أن يقيس لها ضغط الدم .. لا تدري لماذا ظلت عيناها تتحركان في قلق بين درجات المؤشر وعيني الطبيب .. بالفعل، هي لا تدرى لماذا فعلت ذلك .. لهذا تضحك .. لكنها ستصمت حينما تنتبه إلى أن الرجل والمرأة، اللذين يسكنان في البيت المقابل لا يزالان مستيقظين، ويتبادلان الحديث .. العجوز ستقرر الآن، الوقوف قليلًا في شرفتها”.
منذ عشرين سنة تقريبًا وبالتحديد بعد منتصف الليل بقليل لأحد الأيام المتشابهة؛ لم أعبر من الشارع إلى داخل الصيدلية وإنما خرجت منك .. كنت تحلم بما ستصبح عليه الآن مجسدًا في امرأة عجوز .. لكنني – رغم كل شيء – كنت نبوءة مروضة للعتمة التي ستنتهي إليها حياتك .. لم يعد لديك بعد كل تلك السنوات ما يستحق حتى أن تقف في الشرفة من أجله أو الإنصات للأحاديث الهامسة للجيران حين يقفون في شرفاتهم، كما أن الذهاب إلى الصيدلية لقياس ضغط الدم – وهو السبب الوحيد الذي قد يدفعك للخروج من البيت والتحدث مع أحد – لا تمتلك الجرأة للقيام به .. كأنك لو فعلت ذلك ستخون شجاعتك الساخرة من الغيب التي ربيتها طوال عمرك وجعلتك إلهًا مُنزّهًا عن السماء.
الجمعة، 8 أبريل 2022
قيامة الجثث النقية
ليمكننا أن نسمع الأم وهي تغسل الأطباق في المطبخ
ليمكننا أن نسمع السكاكين والشوكات وهي تسقط في الدرج
ليمكننا أن نسمع حفيف ثوبها في الممر
وابتسامة السيدة العذراء تطوف بحاجز الأيقونات
في الغد لن نكون مرضى بعد. أنظر في الترمومتر
ما يزال دافئًا من إبطنا
أبانا الذي في السماء
فلتقل لابنة عمي الصغيرة أن تأتي غدًا
كي نستطيع أن نقوم بنزهة قصيرة في الغابة مع الأيل
سأجمع لوزًا طازجًا لها
أيل أزرق سيأتي يا أبانا
لنستطيع النوم
أيل أزرق أزرق
يا أبانا
الذي
في السماء”.
ليست استعادة متحسرة للذكريات فحسب، ولكنها استعادة ساخرة أيضًا .. محاولة – عبر الإنصات المرتكز على إغماض العينين – لاسترداد الماضي كما حدث للمرة الاولى (الأم والأطباق والسكاكين والشوكات والترمومتر والغابة والأيل الأزرق واللوز الطازج) بغرض الانتقام التهكمي من الوعود الغامضة التي كانت تنطوي عليها تلك اللحظات الطفولية القديمة .. الثأر من الأب الذي في السماوات أو ما يفترض أنه الاب الذي في السماوات .. من الألوهة التي يمثلها ذلك الأب وتتجاوز صورته المهيمنة في عقيدة ما .. الألوهة الغيبية المبهمة التي تمتلك الحياة والموت.
يقرن يانيس ريتسوس بين ضميري المتكلم للجمع والمخاطب للمفرد، حيث (نحن) ليسوا فقط أولئك الذين تخصهم تلك الذكريات وإنما كل الذين كانوا أطفالًا ذات يوم .. الذين جربوا الحياة والموت .. (نحن) هم الجميع .. يضعنا ريتسوس في تلك الوضعية الانتقامية الساخرة من الأب الذي يخاطبه بواسطة إنصات كل منا لأصوات الماضي وتأمل مشاهده المتبددة بعينين مغمضتين .. يجعلنا نواجهه بذلك الرجاء المتهكم بأن يعيد الحياة إلى إحدى جثثنا النقية (ابنة العم الميتة) من أجل مشاركتنا في نزهة أرضية (جنة واقعية) تزيح أرق الغياب في فردوس متوهم.
لننتبه إلى الوجهين المتلازمين لآلية التكرار عند ريتسوس في هذه القصيدة: يوثق تكرار (الأيل الأزرق) كونه متعينًا، مرئيًا وملموسًا، في مقابل تكرار (أبانا الذي في السماء) المتنكر في صيغة الدعاء والذي يلح على كونه متسمًا بالنقيض أي غير متجسد .. كأن ريتسوس بهذا التضاد الناجم عن التكرار يطالب غير المتعيّن بأن يثبت كينونته كما تقتضي الحواس البشرية .. أن يصير متجسدًا، غير مخفي، أو متجردًا من الحماية كمقدس.
لا يكمن التهكم في أن كلًا منا يؤكد لذلك الأب بأنه يعلم تمامًا باستحالة تلك الإعادة، وإنما في أننا نعلم بأن ذلك الاب في حاجة لحياتنا وموتنا لكي يكون إلهًا .. أن وجوده المفترض (الإعجازي) يتأسس على حكمة تدعي الخير الخالص لترعى الجحيم الأكثر وحشية على الإطلاق .. ريتسوس يجعل من أشياء البراءة المبكرة (الإيمانية) أدوات لتشييد قيامة غاضبة .. عقاب منطقي لمصدر الألم، وليس تعايشًا راضخًا مع الفقد أو تبريرًا استسلاميًا للعنة العالم .. كأن هذه القيامة هي النزهة الحقيقية التي ستخلّص جثثنا النقية من العتمة السماوية المخادعة .. كأن هذا العقاب هو الذي سيمنح الحياة مجددًا بالفعل لكل جسد طفولي، محصنًا من الأبوة المختبئة.
الاثنين، 4 أبريل 2022
بين السابعة والتاسعة مساءً
ذات يوم فرد أبي سجادة الصلاة داخل حجرته ووقف عليها .. لكنه بدلًا من أن يصلي ظل واقفًا في صمت .. انتبهت إليه أمي فسألته لماذا لا يصلي .. رد عليها بصوت خافت ونظرة تائهة بأنه لا يعرف كيف يفعل ذلك .. حينئذ أيقنت أمي أن الزهايمر قد أحكم قبضته الباردة على رأس أبي فأعادت طوي السجادة وأخذته من يده ثم أجلسته في حجرة المعيشة .. منذ تلك اللحظة لم يغادر أبي البيت إلا إلى قبره.
خلال السنوات القليلة السابقة لذلك اليوم كانت حالته تتدهور بشكل متسارع .. تجسّد ذلك في تصرفات غريبة تكفلت بحمايتها صرامته المألوفة وحدة الطباع التي اتسم بها طوال حياته، وإن لم يكن محصنًا بالطبع ضد السخرية خاصة من الغرباء .. كان يقطّع الجبن الأبيض إلى شذرات ضئيلة ويوزعها بترتيب خاص في عِلب الثلاجة ولا يسمح لأحد بالإخلال بنظامه في الانتهاء من محتويات علبة قبل الأخرى .. كذلك الخبز؛ كان يشتري كميات كبيرة من الأرغفة ويضعها في أكياس بلاستيكية داخل الثلاجة بأعداد متساوية لكل كيس، ويشرف بنفسه على منحها لنا وقت الوجبات كي يضمن ألا يتناول فرد منا خبزًا من الكيس الخاطئ .. حتمًا كان اكتشافه لنقص في أحد الأكياس التي لم يأت عليها الدور بعد عند مراجعته اليومية لها فور عودته إلى المنزل؛ كان ذلك يثير غضبه بشدة ويدفعه للصياح بالشتائم التوبيخية تجاه ذلك الذي أخذ رغيفًا أو أكثر في غيابه من كيس مكتمل قبل انتهاء الكيس ذي المحتويات الناقصة .. يفعل ذلك أثناء انهماكه في معالجة الخلل بإعادة توزيع الأرغفة ثانية لتعود الأكياس الممتلئة كما كانت، وإخراج الكيس الذي مازال متبقيًا فيه بعض الخبز للاستعمال لاحقًا .. كان يُخزّن أيضًا أطباق البيض وكراتين الصابون وعلب مسحوق الغسيل تحت سريره ويتولى تنظيمها وتمريرها إلى خارج ذلك الظلام السفلي بحسب الحاجة لاستخدامها وهو ما كان يقرره شخصيًا وبالقدر الذي يراه مناسبًا .. بدا كأنه بواسطة تلك الممارسات الانضباطية تجاه الأشياء البسيطة كان يريد ـ كفرصة أخيرة ـ أن يثبت لنفسه واقعيًا ما ظل يتضاعف في يقينه على مدار العمر كوهم: التحكم في قدَره الذاتي.
خلال تلك السنوات اقتصر مسار خطواته خارج المنزل تدريجيًا على المسافة الصغيرة التي كان يقطعها ذهابًا إلى المسجد والعودة منه في أوقات الصلاة حيث كان يشير بالتحيات الحارة للعابرين الذين لا يعرفهم ولا يعرفونه أو يستوقف ساكنًا في الشارع أو جارًا لنا في العمارة ويسأله عن أشياء غير مفهومة، أحيانًا بما يبدو صيغة مداعبة تُظهِر رجاءً حقيقيًا .. كانت هذه الصيغة تمعن في إرباك ذلك الشخص الذي كان يتخلص من الموقف بعبارات مجاملة روتينية ثم استئذان في المغادرة سريعًا بضحكات مكتومة .. بدا كأن تلك التساؤلات هي نفسها التي كان يلاحقنا بها طوال الوقت داخل البيت لكن بأساليب أخرى ولم نكن قادرين على استيعابها .. كان ذلك في بداية الأمر قبل أن يتحوّل أبي إلى بطل لفقرة كوميدية شهيرة تبدأ عند ظهوره في الشارع أو فوق سلالم العمارة .. كنت أحيانًا أشاهد تلك الفقرة بالصدفة وأسمع بعضًا من كلماتها بعد خروجي من المنزل أو أثناء عودتي له فأسرع بالهروب خجلًا وغضبًا وقبل أي تورط .. وصل الأمر إلى حد أنه كان هناك من هؤلاء الجيران مَن كان يستوقف أبي ويبادر معه بالحديث عن تلك الأشياء غير المفهومة التي تعوّد الاستفهام عنها فيخلق ذلك الشخص حوارًا استهزائيًا لا يفطن أبي طبعًا إلى أنه يستهدف التهكم على ما صار إليه.
في ذلك الوقت كان أبي قد بدأ يفقد الكلمات .. أسماءنا وأسماء الأشياء وأسماء المشاعر التي تتملكه .. ثم بدأ يفقد السياق؛ الصلات التي تربط بين ما تشير إليه الكلمات الضائعة والمعنى الناتج عن تجاورها في ترتيب معين .. ثم بدأ يفقد وعيه بالأشخاص والأشياء والمشاعر؛ إذ لم يعد قادرًا على تذكر هويات البشر الذين يراهم ووظائف الموجودات المحيطة به والأفكار التي تلائم أحاسيسه .. لذا أصبح أبي صامتًا .. صامتًا تمامًا لسنوات كثيرة .. توقف أبي عن أن يسأل أحدًا وأصبح يحدّق فيما حوله وحسب .. كأنه لا يرى أي شيء .. لم تعد في عينيه نظرة الذهن الشارد، وإنما نظرة الشارد في غياب ذهنه.
كانت أمي تخرجه من السرير في الثانية بعد الظهر حيث ربما يكون مستيقظًا قبل هذا الموعد بمدة طويلة .. كانت تأخذه إلى الحمام في طقس يومي لا يتعطل لتنظف جسده الثقيل المتيبس من البول والخراء وتبدّل ملابسه ثم تقود خطواته البطيئة المهتزة إلى حجرة المعيشة لتجلسه وتبدأ في إطعامه من طبق طُحنت محتوياته جيدًا في الخلاط فتحولت إلى ما يشبه سائل يقدر على بلعه دون مشقة وبلا احتياج لمساعدة كبيرة من فمه الفارغ تقريبًا من الأسنان .. تعطيه الدواء وتتركه جالسًا حتى التاسعة مساءً تقريبًا وأحيانًا كثيرة قبل ذلك ثم تعيده ثانية إلى سريره .. لا يعني دخوله الفراش أنه سينام .. ربما يواصل التحديق في ظلام الحجرة دون أن يعرف في ماذا يجب أن يفكر .. كيف يكسب شعوره لغة .. دون علم بكيفية الاستجابة لمشاهد وصور الماضي التي قد يتأرجح ظهورها واختفاؤها داخل رأسه … كأنه دمية رجل عجوز تحلق في ضباب كثيف، وتداعبها أشلاء أجساد وأماكن ولحظات، تطفو من حولها وتتبدد على نحو فوري قبل أن تبوح بأسرار انتمائها لها .. قبل أن تستدعي هذه الدمية الدافع القديم لبلوغ الأواصر التي تمتد بينها وبين تلك الأشلاء المخاتلة بما يتجاوز الشعور المجهول بالوحشة.
بالنسبة لإنسان آخر فإن التوجه للنوم في هذا التوقيت بين السابعة والتاسعة مساءً ربما يعني أنك في وضعية النبذ خارج الحفل الصاخب للعالم .. الحفل الذي لا يقام أو يبدأ إلا في هذا الحيز الزمني من الليل، ويشارك فيه كل الأحياء على الكوكب عدا أنت .. لو أن أبي كان يشعر بذلك وهو مستيقظ في سريره فإنه حتمًا لن يستطيع أن يصف الأمر بهذه الطريقة داخل عقله .. ليس هناك عالم أو حفل أو بشر في دماغ أبي .. لكنه يدرك نقصانه، عجزه، وحدته، بالضبط مثلما يدرك الطفل كل هذا قبل أن يتعلم اللغة .. الفرق أن البكاء هو التعبير التلقائي للطفل عن إحساسه الغامض بالنبذ .. كأنه يطالب الحياة دون قصد بأن تسمح لعمره البادئ التكوين بالمرور دون ألم .. لكن أبي تجرّد من تلك القدرة العفوية على تحويل جروحه المبهمة إلى دموع .. اُنتزعت من روحه الإرادة الغريزية لاكتشاف اللغز .. كأن جسده يعرف بأن ما تبقى له من عُمر لم يعد يستدعي ذلك.
خلال تلك السنوات أيضًا كنت شابًا في بداية العشرينيات يقوم بأشياء طبيعية: أدرس في الجامعة .. أجلس مع أصدقائي في المقهى .. أمارس الجنس مع حبيبتي .. أقرأ .. أكتب .. أحضر ندوات .. أسافر للعمل والتنزه .. أسأل كل من أعرفه بصيغ مختلفة: متى يخرج القناع من الصندوق الزجاجي؟ .. لماذا لا تظهر الأجنحة في المرآة؟ .. كيف يتلصص الرماد على البحر؟ .. ما الذي تخفيه الصرخة عن النعش؟ .. متى تشنق الغيوم نفسها؟ .. أين يختبئ الظلام؟ .. هل يمكن لقلب أن يحرق السماء؟ .. لم يكن هناك أحد يستطيع إجابتي .. كانوا جميعًا يردون بعدم المعرفة أو بالإجابات غير المقنعة أو بالتجاهل .. كانوا يسخرون من أسئلتي في كل الأحوال.
مات أبي في الرابعة والسبعين من عمره .. ذات يوم دخلت حجرته شقيقتي الكبرى ـ التي تولت رعايته بعد موت أمي ـ في تلك الفترة بين السابعة والتاسعة مساءً كالعادة لتطمئن عليه .. وجدته مستلقيًا في السرير على ظهره بعينين مفتوحتين، فارغًا من الحياة .. كان مستيقظًا ويحدق في الظلام حين وصل الموت إلى الأورجازم داخل قلبه .. اتصلت بي شقيقتي فحضرت سريعًا من بيتي وظللت جالسًا وراء باب حجرته أراوغ الذكريات التي تطارد ذهني .. كان الجميع يدخلون إليه لإلقاء النظرة الأخيرة، أما بالنسبة لي فقد كان ذلك أمرًا مستحيلًا .. كان النظر إلى وجه أبي الميت بمثابة تقديم تهنئة لمنتصر وضيع في حرب غير عادلة.
عمري الآن خمسة وأربعون عامًا .. ما زالت ذاكرتي جيدة، وربما أكثر مما يجب .. ما زلت أتعامل مع الجبن والخبز والبيض والصابون ومسحوق الغسيل كما يتعامل الشخص العادي .. لكنني توقفت عن الخروج من البيت منذ سنوات بإرادتي .. كان هذا منطقيًا أيضًا .. احتفظت بالأسئلة التي لم يستطع أحد الإجابة عنها لنفسي، وأصبحت راضخًا لمتعة تقليدية بأن أتوجه للسرير فيما بين السابعة والتاسعة مساءً.