الاثنين، 2 مارس 2020

سيرة الاختباء (12)

في حجرة السطح ببيت محمد عمار؛ لم أختبر فقط للمرة الأولى ما يُسمى بـ "المنافسة الأدبية"، أي الرغبة في الحصول على إقرار دائم من محمد عمار بتفوق قصصي القصيرة عن تلك التي يكتبها صديقي محمد صابر؛ بل اختبرت أيضًا الشعور بالكراهية تجاه هذه المنافسة .. الكراهية التي تتصاعد استفهاماتها بقدر التضاعف المستمر لتلك الحاجة إلى اعتراف متواصل بامتلاك القيمة الأعلى .. من أين تنبع تلك الرغبة؟ .. كيف تنشأ، وتنمو، وتتحوّل إلى أرق بالغ الثقل؟ .. لماذا توجد بهذه القدرة على الهيمنة والإخضاع والتجسّد في صور متواطئة مع ضرورات الواقع بحيث تصبح شرطًا للحياة نفسها؟.
يمكن القول أنه في تلك الحجرة القديمة بدأت على نحو غائم في تحسس جدران المصيدة التي يمكن لكلمات تشارلز بوكوفسكي في رواية "نساء" أن تصفها تمامًا: "أسوأ ما يمكن أن يفعله الكاتب هو أن يتعرّف على كاتب آخر، والأسوأ من هذا أن يتعرّف على عدد آخر من الكتّاب. كالذباب المتجمّع على قذارة واحدة".
لهذا لم تكن الإشادة التي تحظى بها قصة قصيرة لي سواء من محمد عمار أو من زوّار حجرته، لم تكن تكتمل إلا بالتأكد من كونها أكبر من تلك التي تحظى بها قصة محمد صابر، ولهذا أيضًا أدركت أنني حصلت على ما كنت أنتظره من انتصار نهائي مشبع حين خصّني محمد عمار قبل وفاته بأيام قليلة بهذه السطور:
"صدقني يا ممدوح
قلمك ذكي وواعي
وخيالك اللماح
تصويري وإذاعي
بكرة هايملى الكون
بكرة هايملى الكون
بكرة هايملى الكون".
في روايتي "خلق الموتى" / سلسلة إبداع الحرية 2012؛ كتبت عن أن العلاقة الشخصية ضد الكتابة، ذلك لأنها بطريقة ما قد تفسد المفاجأة التي تريد بواسطتها أن تقود القارئ إلى أرواحها الغامضة، فذلك القارئ حين يكون صديقًا لك على سبيل المثال، وبسبب الاعتقاد الناجم عن تلك الصداقة بأنك لست غريبًا عنه، أي أن لديكما تاريخ مشترك يحتمل الصراعات العادية؛ فإن جميع ممارساتك ـ ربما كتابة قصة قصيرة خاصة ـ لابد أن تمر عبر ما يتصوّر أنها يقينيات راكمتها تجاربه معك، حتى لو بدت إيجابية بشكل أو بآخر، وهذا ما لا ينبغي أن ترضخ له الكتابة:
"يبقى النص محتفظًا بوحشيته طالما ظل ممتلكًا للسلطة السحرية لغموض كاتبه وعماء قارئه عنه بصرف النظر عن المصير الذي ستنتهي إليه العلاقة بين النص والقارئ بعد القراءة .. الكاتب نفسه لا يعتبر القارئ داخل ورطة العلاقة الشخصية قارئًا حقيقيًا .. يعتبره بسبب الخبرة التي تجمعهما متلقيًا مستهلكًا، لا يتوقع جديد منه يكشف عن عمق محتمل داخل النص بنفس الحدة التي قد يؤدي بها وعي قارئ غريب ذلك .. يريد الكاتب ـ كتعبير وارد عن فهمه أو تعريفه للكتابة ـ أن يشعر ويرى أثر أظافره على جلد العالم الذي لم يسبق له ملامسته من قبل، والقارئ حين يكون صديقًا / عدوًا يصبح جزءًا من جلد الكاتب نفسه، وليس جلد العالم .. الكتابة تعيش وتزدهر وتحقق خلودها حينما لا ينتمي أحد للآخر .. حينما نتحول إلى مخلوقات فضائية تسكن كواكبًا متباعدة، وتتواصل فقط عن طريق تبادل الرسائل التي تحوي أفكارها عن الوجود، مع احتفاظ كل واحد منا بإدراكه عن الآخر بأنه شخص مثله يعيش نفس الحياة، وسيموت نفس الموت".
ماذا لو أن هذا القارئ الصديق كاتب أيضًا؟ .. تلك هي المسألة.
موقع "الكتابة" ـ 1 مارس 2020