الاثنين، 29 يونيو 2020

هامش الرجل الذي ربما يكون طبيباً نفسياً، أو طفلاً يلعب River Raid

قسوة قادة الفرق الجرمانية المأجورة في إيطاليا أقل بشاعة من تعامله معي أحياناً كأبيه، أو أمه، أو السيدة (نون)، أو أي شخصية أخرى، حيث يُبدع في خلق اللغة العدائية اللازمة للتعامل مع ذلك الواقع.
يمكن لنا تبادل الشخصيات باستمرار داخل لوحات (ادموند بلير ليتون) عن القرون الوسطى؛ لكنه ربما يصر على التمسّك بشخصية الموسيقي، والشاعر الحزين، المنكسر، خائب الأمل، ويعطيني شخصية الحبيبة، الجميلة، التي تضع يدها على كتفه، وتحاول بعينيها، وبصوتها أن تُعيد إليه الحياة .. الحالة الوحيدة التي قد يرضي حينها بأخذ شخصية الحبيبة هي تفكيره في الانتحار.
أثناء كلامه عن (الجاز) يتعمّد الهمس؛ فأضطر للاقتراب منه أكثر كي أسمع جيداً ما يقوله عن (نيو أورلينز)، والمهاجرين، والعبيد، وحقول القطن، و(الفالس)، و(البولكا)، والألحان الإفريقية، وأغاني الكنائس، والصرخات.
أصابني الإحباط الأقوى لحظة غياب الانفعال، والتأثر عن وجهه حينما دخل العيادة ذات يوم، ووجد ملابس العصور الوسطى معلّقة على الحائط، وأسلحتها متراصة فوق المكتب، وصوراً لخانات فقراءها، ومسافريها مطبوعة على الـ (تي شيرت) الذي أرتديه.
ما الذي يعنيه أن يحلم دائماً برجل عجوز، جالس في دكان قديم، ضيق جداً، لا يعرف في أي حارة عتيقة يوجد، ولا ما الذي يبيعه، بل أن ملامح العجوز نفسه تتغير كل مرة، لكنه يضع دائماً صورة (السادات) بالأبيض، والأسود وراءه فوق الجدار .. حلم يراه في النوم، وفي اليقظة.
بالطبع التنبيه الخاص بغلق الموبايل لا نقاش فيه، لكنه أحياناً يتعمّد تركه مفتوحاً، بل، ويتعمّد أحياناً أن يطلب من أحدٍ ما الاتصال به وقت الجلسة كي يُسمعني الرنّة .. وجدتها مرة صوت (محمد عبد الوهاب)، وهو يهنئ (محمد التابعي) برجوعه من (رأس البر).
لا شيء يدعو للخجل .. الخجل نفسه ليس مكروهاً بالتأكيد، بل دعنا نقول أن عليك أن تترك نفسك لتلقائيتها .. خذ بالك أن مقاومتك للتلقائية هو أمر بديهي أيضاً .. أنت تفهم بالطبع أنني أتحدث عن كلامك الواثق، المتدفق من يقينك عن عدلٍ ما .. عن مبادئ عامة، وأخلاقيات ثابتة يمكن الرجوع إليها، والقياس على بداهتها في جميع الأحوال .. كل هذا عادي جداً، فإذا كان عليك أن تشعر بنوع من الإحراج نتيجة إيمانك السري، المُضمر داخل كل كلامك الواثق عن يقينك؛ فلا تأخذ ذلك الإحراج على محمل شخصي كأنه بقعة طبيخ في قميصك النظيف، المكوي جيداً .. هذا الإحراج ليس فيه مشكلة، وإيمانك السري بأن ما يُعد دوافعاً عنيفة، أو سيئة، ومريضة هو بمثابة الخير الخالص ـ هذه دعابة لأنك تعرف أنه لا وجود لشيء يحمل هذه الصفة ـ هذا الإيمان ليس فيه سمة الحقارة، أو الفاشية، أو الظلم .. كل هذا لا معنى له .. مجرد كلمات تُستخدم لادّعاء الجدية .. لغة مخصصة لتدليل العبث بمزيل عرق يُسمى الحقيقة .. كما أنه لا بأس لو كنت ـ بأي معيار استهلاكي ـ حقيراً، أو فاشياً، أو ظالماً .. اعتبرها لعبة يا أخي، كل ما يمكن أن يحدث لابد، وحتماً أنه جزء منها .. رغبة شهوانية لازمة لوجودها. 
لا يفتح شات فيسبوك مطلقاً، وهذا يؤلمه .. في المرات النادرة التي يفتحه فيها، لا يبادر بالتحدث مع أحد، وهذا يؤلمه أكثر .. حينما يغلق شات فيسبوك في نهاية اليوم الذي شهد إحدى المرات النادرة التي فتحه فيها دون أن يبادر أحد بالتحدث معه فإن هذا يؤلمه أكثر، وأكثر  .. لحظتها يفتح (الصوت المنفرد) لـ (فرانك أوكونور) على الفور، ويقرأ الجملة الافتتاحية، المهووس بها: "يا للعجب! لقد كان في هذا المكان يوماً ما رجل يُدعى (نيد ساليفان)، وقد حدث له شيء غريب في ساعة متأخرة من إحدى الليالي، وهو قادم في طريق (فالي رود) من (دارلاس) ".
من رواية "الفشل في النوم مع السيدة نون" ـ دار الحضارة 2014
موقع "الكتابة" ـ 28 يونيو 2020

الجمعة، 26 يونيو 2020

كيف خلقت الموتى (1-3)

ربما كنت في ذلك الوقت مازلت أقرأ مجلات (ميكي)، و(سمير)، و(ماجد)، و(مجلتي)، و(العربي الصغير)، وقصص (المغامرون الخمسة)، و(المغامرون الثلاثة)، و(الشياطين الـ  (13ولم أكن قد بدأت بعد في قراءة (روايات مصرية للجيب) .. ربما كنت قد كتبت قصة، أو قصتين، أو ربما لم أكن قد بدأت في الكتابة أصلاً حينما تعوّدت على التمدد في سريري، أو الوقوف في منتصف الصالة وسط حجرات البيت، محدقاً في الفراغ الثقيل، الممتد والمتجمّد داخل كآبتها، بأقصى ما يمكن أن يصل إليه حزن وخوف طفل .. كنت أقول لنفسي بيقين لا يمكن للشك اختراقه بأن شيئاً كبيراً وحاسماً سيحدث، ويضع نهاية للأمر، وأنني ذات يوم سأكتب رواية أحكي فيها كل ما جرى لنا .. لم أفكر أبداً في احتمال أن هذا الشيء الكبير الحاسم قد يكون الموت .. الموت كان بعيداً جداً، أشاهده في التليفزيون ككذبة مسلية، وأسمع عنه كحقيقة مروّضة بأذنين آمنتين .. ربما يدل على ذلك الكليشيه الذي استعرته كإسم للرواية من قاموس العاطفة والحكمة الذي يحرّك خطواتي الصغيرة: (نبض الأمل) .. الطفل لابد له أن يضع التمسّك بالعدالة الفردوسية للمستقبل، وعدم الاستسلام لليأس كتعريفٍ نقيٍ للعالم مهما كان فائضاً بالآلام والشرور غير المحتملة .. كنت متأكداً من أن حياة أسرتي لا يجب أن تستمر بتلك الوتيرة البشعة، المتصاعدة من الصراع والعنف والخصامات الصلبة، وأن الزمن يدخر الحد اللازم الذي سيوقف المأساة .. لكنه ليس منقذاً بالضرورة .. حد ضبابي، غامض تماماً، يسبح فيما بين الضوء الشاحب، والعتمة الكاملة، ولا يمكن بالطبع تصنيفه خيراً أو شراً، لكنني كنت واثقاً من حتميته .. كنت أفكر ـ وهو ما نويت شرحه في الرواية التي سأحكي فيها كل ما جرى لنا ـ في أن كل فرد من أسرتي يمتلك تصوره الخاص عن (الأمل)، أي الوصول إلى دنيا أكثر جمالاً ومثالية، وأن هذا الاختلاف هو المسؤول عن زراعة الضغائن، وإشعال الصدامات، ضد إرادة النوايا الطيبة، التي هي الأساس المخبوء، الكامن في أعماق الجميع .. كنت غائباً للغاية، ومسجوناً برعبٍ متوسّل للقدر داخل الحدة المهينة للصخب المتواصل من الشجارات العامة، ولم أكن منتبهاً على الإطلاق إلى الغرابة الشخصية لوضعي الأسري، الذي لم أعثر ـ حتى الآن ـ على شبيه له .. حينما جئت إلى الحياة كان والديّ في الأربعينيات، ويفصلني عن أكبر إخوتي سبعة عشر عاماً، وعن أقربهم لي خمس عشرة سنة .. كأن أسرة عجوزا قررت أو حصلت دون قصد على شاهدٍ يختزن لحظاتها الأخيرة .. سجل توثيق بشري يجتمع فيه خلاصة تاريخ لم يعش سوى أقل فترة منه، وأصبح الآن على وشك الانتهاء .. كإنني بهذه الكيفية، وعلى نحو أدق لم أجئ إلى الحياة، وإنما إلى الموت .. كأن كل ما كنت أراه وأسمعه من حولي كان ينتمي إلى بشر لا يخاطبون الحياة بل يمهدون عبورهم إلى الموت .. دائماً أقول أنني شاركت أهلي وداعهم للعالم أكثر مما شاركتهم العالم نفسه .. بالفعل لم يُخذل المنطق، وبدأت أعيش الموت فعلياً قبل أن أُكمل العشرين من العمر .. بالطبع ذلك لم يكن دليلاً كافياً على سلامة التوقع الذي تكفلت أعمار أسرتي بتكوينه؛ إذ أن بشراً كثيرين يشهدون موت أفراد من أسرهم في سنٍ أصغر، إنما ما كان دليلاً حقاً ليس على سلامة التوقع، بل على ألوهيته هو أن الموت لم يتوقف عن التعاقب السريع بعد المرة الأولى لعمله .. مات أخي الأكبر، وبعده بأربع سنوات ماتت جدتي، وبعدها بسنة واحدة ماتت أمي، وبعدها بثلاث سنوات مات أبي، وبعده بتسع سنوات مات أخي الآخر .. ألوهية المنطق لابد لها أحياناً أن تتسم بشيء من روح الدعابة؛ فالموت لم يأخذ أحداً من أصحاب الأعمار الكبيرة أولاً، وإنما افتتح مسيرته بشاب في الثلاثينيات .. كأنه كان يخبرني بأن الطريق التقليدي الذي سيقطعه داخل البيت الذي وُلدت فيه ينبغي أن يشهد خطوة مفاجئة، حيث لا تذهب تلك الجائزة الهزلية المرعبة إلا لناسٍ مثلنا، يستحقون إثارة إضافية على الفناء .. الوعي المتزايد بذلك الترتيب، وتفاصيله، ونتائجه سيكون له الأثر الأكبر في تحويل (نبض الأمل) إلى (خلق الموتى).
موقع "الكتابة" ـ 23 يونيو 2020

السبت، 20 يونيو 2020

وجه الحائط

ثمة لحظة يمكن أن يشبه فيها وجه المرء تلك المساحة الصغيرة التي ينظر إليها في الحائط، والأشبه بدائرة محددة بخط وهمي، غير منتظم .. اللحظة التي يكون متيقنًا خلالها أن هذه النظرة الصامتة هي آخر ما يملك أن يفعله في الحياة .. حينها؛ ستكون تلك المساحة الصغيرة في الحائط هي وجهك الأكثر أصالة، الذي لن تفقد ذاكرتك ملامحه بمجرد إغماض عينيك .. لن يمكن للأنفاس والنظرات والكلمات التي تتساقط من هذا الوجه أن تتنكر في وجود آخر، بل ستظل محتفظة بطبيعتها كفضلات قسرية، مجهولة المنشأ .. ستكون هذه الدائرة هي الوجه الذي لن يفنى بعد موتك حتى لو تحوّل الحائط إلى ذرات غبار متلاشية .. ربما خاصة لو كانت ملامحك لشخص يعجز عن تصديق ما أهدره خلال سنوات طويلة، ولا يعرف كيف يمكنه التعويض فيما تبقى من ثوان قليلة، ليست مضمونة حتمًا .. ربما خاصة لو كانت الأحلام التي ترجو استدراك الماضي من أجلها قد تبددت بالفعل.
عندما يصل المرء إلى تلك النظرة سيصبح منطقيًا حقًا أن تحل تلك المساحة الصغيرة في الحائط موضع وجهه داخل الصور الفوتوغرافية في البراويز والألبومات وبطاقات الهوية .. لن يكون غريبًا على الإطلاق لو استهدفتها القبلات والصفعات والأقنعة .. سيصير بديهيًا أن يكتب غريب لم يراوده أدنى شك في كونه يعرفك جيدًا حكاية ما عن حياتك المنتهية تبدأ بـ "استيقظ من النوم ثم غسل الدائرة المحددة بخط وهمي غير منتظم"، وفي منتصفها: "لم يعد بوسعه سوى التضرع إلى السماء بتلك المساحة الصغيرة الخاشعة على الحائط"، ثم يختتم الحكاية: "وحينئذ أشرقت الدائرة التي ظل ينظر إليها طويلًا بسعادة كاملة".
أنطولوجيا السرد العربي ـ 17 يونيو 2020
اللوحة لـ  Andrew Wyeth

"الموت العجيب لطائر" في مجلة "الدراويش" الإسبانية.

الترجمة الإسبانية لقصتي القصيرة "الموت العجيب لطائر" تُنشر في مجلة الدراويش الأدبية التي تصدر قريبا في اسبانيا .. الترجمة للشاعر والمترجم العراقي الأستاذ حسين نهابة، وسيتم نشرها أيضًا في الجزء الأول من "الموسوعة المعاصرة للقصة القصيرة العربية".

الأحد، 14 يونيو 2020

نبوءات لا مرئية

لكن صورة الأبيض والأسود هذه تبدو كأنما تم التقاطها للدموع المكتومة التي تلمع في عينيّ وهما تحدقان بألم مصدوم ورجاء معاتب .. تم تفسير هذه النظرة بسقوطي من فوق كرسي المصوّر قبل لحظات من التقاط الصورة بعد أن وضعتني أختي هناك ثم تركتني مبتعدة عن العدسة .. أخبرتني شقيقتي بأنني انزلقت من حافة الكرسي الجانبية لأسقط جالسًا بنفس وضعيتي، كأنما الكرسي هو الذي تبخر من تحتي .. قالت أنني لم أبك بل تجمدت الدموع في عينيّ بهذا الشكل الذي تم توثيقه بين أربعة أطر صغيرة .. هي تقريًبا أول صورة يتم التقاطها لي بما أنني لم أصادف حتى الآن صورة أقدم منها، أما السقوط فلم يكن الأول، حيث قيل لي أيضًا أنني سقطت قبل هذا اليوم بعامين، أي حينما كنت رضيعًا، ولكن هذه المرة من فوق السُفرة الكبيرة التي كانت توجد في صالة البيت حينئذ، وبينما كان أفراد أسرتي يتناولون الغذاء عليها .. وقعت من هذا الارتفاع الشاهق لترتطم رأسي بالأرض، ومع البكاء والصراخ أخذ ورم مفزع ينمو في موضع الألم، ثم استغرق وقتًا طويلا في الاختفاء.
أظهر في صورة الأبيض والأسود حتى النصف الأعلى من جسدي داخل إطار مرآة مزخرف، كبير، لونه أبيض، ومنقوش في قمته اسم صاحب الاستديو (فايق) .. كرّس هذا الإطار عبئا رمزيًا عنيفًا يجابهني دائمًا كلما تأملت هذه الصورة؛ إذ يحاول أن يفرض حقيقة لم أصدقها أبدًا وهي أنني أنظر في مرآة، أي إلى نفسي .. منذ طفولتي أي منذ بداية الإدراك بأن هناك لحظات ومشاهد يمكن تثبيتها والاحتفاظ بها داخل براويز وألبومات؛ لم أقدر على استيعاب أن هذا الطفل الذي يوجد في الصورة هو أنا مثلما يتعامل الآخرون مع صورهم الطفولية بإيمان كامل أنهم حاضرون فيها .. أفكر في وجهي بينما أتمعن في تفاصيله فلا أجد تشابهًا أو بالأحرى لا أعثر على صلة:  شعره الغزير الناعم بخصلات منسدلة على جبهته، نظرته المرتعشة بالخوف والذهول، أنفه الأفطس، أذناه، فمه المفتوح بشفتيه السمينتين لتمرير الأنفاس التي أثقلها البكاء المكتوم في صدره .. لدي يقين تام بأن الفرق بين هذه الملامح وملامحي ليس مجرد اختلافات ترجع إلى التأثير الحتمي للزمن، بل هو انفصال جذري؛ فهذه التفاصيل من المؤكد أنها تخص طفلا آخر .. لكن هذا الانفصال ليس ناجمًا بالتحديد عن الملامح بقدر ما يكمن في الروح التي تعطي إيحاءات عن وجودها من خلال هذه الملامح .. الانفصال يكمن في وعي هذه الروح بالألم .. في تفسيرها للألم .. كان هذا الطفل خائفًا ومذهولا ومع ذلك فإنني لا أمتلك مطلقًا أي معرفة عن هذا النوع من الخوف أو الذهول الذي تم الاحتفاظ به في تلك العينين.

* * *
أشاهدها عبر كلماتها ودموعها ورعشة صوتها وهي تزيح الأغطية ثم تصعد إلى السرير لتساعد جسد أبي الثقيل المتيبس على الجلوس، قبل أن تسحبه بصعوبة  لتُنزل قدميه من حافة السرير، ثم تُحضر الماء والصابون والمطهرات والأدوية والملابس النظيفة والمراهم وضمادات قرحة الشرج وهي تدعو على نفسها بالموت .. تُمرر ذراعيها تحت إبطيه لترفع سبعين سنة هامدة في قاع الزهايمر وتتحرك بها هذه الخطوة العسيرة، كأنما تنقل القدر نفسه من السرير إلى الكرسي .. تقف لحظات لتسترد أنفاسها، ولتتأمل عيني أبي وهما تحدقان إلى وجهها كجثة شاردة لا تتذكر أي شيء، وخصوصًا في هذه اللحظة .. لا تتذكر أنها أنجبت بنتًا في يوم ما، كأن هذا النسيان شرط خروجها من الحياة عبر الثقب الطفولي الذي دخلت منه .. تغلق باب الحجرة كي لا يصاب بالبرد فيزداد شقائها، ثم تخلع عنه كل ملابسه، وتنزع الضمادات الملوثة كي تبدأ في تنظيفه بالماء والصابون دون تجاهل لأي جزء مهما كان ثم تجففه، وتضع المطهرات والمراهم والضمادات الجديدة ثم تلبسه الثياب النظيفة .. تتركه لتغيّر ملاءة السرير والبطانية ثم تُحضر الطعام المهروس في الخلاط لتجلس بجانبه وتطعمه بالملعقة متوسلة إليه وهي تبكي أن يفتح فمه .. يبصق الطعام في وجهها فترفع الملعقة ثانية، وتلح عليه من جديد، وهكذا يمكن أن يستغرق الانتهاء من طبق صغير قرابة الساعتين دون أن يفرغ تمامًا .. تعطيه الأدوية، وحينما يبتلع الحبوب والكبسولات دون أن يبصقها كالعادة تشكر السماء على هذه النعمة .. لكنها اليوم حينما أدخلت ذراعيها تحت إبطيه وأعادته من الكرسي إلى السرير بالعناء المألوف ثم قررت أن تعدّل الوضعية غير المنضبطة لياقة بيجامته، وحينما سحبت يدها بعد أن فعلت ذلك؛ مر الطرف المسنون للإسورة التي في معصمها على الطرف الليّن من أذنه دون أن تنتبه .. رأت دماءً غزيرة تتدفق من هذا الجرح فصرخت وأسرعت بإحضار البن والميكركروم والقطن والشاش والبلاستر لتحاول كتم النزيف فلم تنجح إلا بعد دقائق طويلة بدت كأنها أضاعت ما تبقى من عمرها .. يرتفع نشيجها كأنني أرى قلبها متناثرًا في ظلام صدرها، وكأن دماءها هي الأخرى ستندفع من فمها لتختلط بطوفان الدموع الذي أغرق وجهها .. تحكي كيف ارتجف جسد أبي لحظة انفتاح الجرح وتدفق الدماء .. كيف ظلت عيناه ترتعشان وهما نصف مغلقتين، بينما يهز رأسه بدهشة .. نعم بدهشة فقط .. كان يشعر بألم فظيع في أذنه، ولكنه لم يكن يدري كيف يجسّده إلا بالحيرة كما لو أن شخصًا ما قد قال له كلمة غير مفهومة .. كان مجبرًا على التعبير عما يحسه بأدنى صورة ممكنة .. أخذته في حضنها وظلت تقبل رأسه وتقول له ببكاء محموم: (أنا آسفة .. حقك عليا .. سامحني .. حقك عليا .. والله ما قصد) .. نظر إليها فرأت دموعًا صغيرة محتبسة في عينيه .. كأن هذه الدموع غير خاضعة لقدرته على تجسيد الألم أو لانعدام هذه القدرة، بالضبط مثل ارتجاف جسده ورعشات عينيه نصف المغلقتين .. لكن احتباسها في نفس الوقت أكد أنه كان عاجزًا عن جعل هذه الدموع تنفجر كما يليق بالألم الذي يشعر به .. كان شيئا راجعًا لإرادة لم يعد يمتلكها.
جزء من رواية قيد الكتابة
موقع "الكتابة" ـ 13 يونيو 2020

الأربعاء، 10 يونيو 2020

سيرة الاختباء (17)

الفقرات التالية من قصتي القصيرة "علبة الرماد" المنشورة بموقع "قديتا" في 30 أكتوبر 2010:
"ـ منذ سنوات طويلة تعرفت أنا وصديق لي - وهو قاص أيضًا بالمناسبة - على أديب كبير السن مخلص في كتاباته للقيم والمبادئ التي رسختها كلاسيكيات الأدب الروسي. كان رجلا مهذبًا وطيّبًا بحق وكان يعاملني أنا وصديقي كابنيْن.
ـ كان لهذا الأديب ابنة جميلة في مثل عمري أنا وصديقي تقريبًا وكانت تكتب الشعر وتتسم طباعها بالعفوية والمرح. ولأن صديقي كان - على العكس مني - وسيمًا وجريئًا فقد نجح خلال فترة قصيرة في تكوين صداقة قوية معها في حين ظلت علاقتي بها لا تتجاوز التحيات المقتضبة الخجولة - من جانبي طبعًا - والكلمات القليلة العابرة المحكومة بحرصي المرتبك على ألا تتلاقى نظراتنا بشكل مباشر. كنت أتحسّس بعينيّ جسمها من بعيد وهي تتحدث مع صديقي وتضحك معه بينما رعشة لذيذة ومؤلمة تحرق روحي.
ـ ذات يوم أخبرني صديقي بأنه كان بالأمس في منزل الأديب الكبير وأن ابنته الجميلة أخذته إلى غرفة نومها كي تطلعه على مكتبتها وأنهما ظلا جالسين في الحجرة مدة طويلة بينما أبوها وأمها يلعبان الشطرنج في الخارج. ورغم أن صديقي أقسم لي بأنه لم يحدث أي شيء بينهما إلا أنني لم أكن في حاجة لدافع أقوى حتى أقرر الانتقام بأيّ شكل. كتبت في نفس اليوم قصة قصيرة؛ كانت في الحقيقة سردًا تقريريًا سريعًا لموقف اختلقه خيالي الهائج بالرغبة في شفي الغليل ومؤسس على ما أخبرني به صديقي. كانت القصة عن بنت يزورها صديقها في منزلها ثم يقوم بـ “فتحها” داخل غرفة النوم بعدما طلبت منه أن يدخل كي يطلع على مكتبتها بينما والداها جالسان بالخارج يلعبان الشطرنج. كنت أستحضر أثناء الكتابة الدفء الناعم لجسد البنت الجميلة والذي كان توهجه يتدفق من وراء ملابسها بمكر شهواني منسجم بشراسة مع الخفة الطفولية لوجودها، بحيث كانت تبدو دائما كأنها تتربّص بكل ما يصادفها في العالم حتى تجعله يشاركها الرقص داخل حلم استثنائي.
في اليوم التالي قرأتُ القصة في الندوة الأسبوعية بحزب التجمع التي كان يديرها الأديب الكبير وأمام ابنته وصديقي وأمام كل الكتّاب الذين يعرفون أن الأديب الكبير يحب لعب الشطرنج مع زوجته وأن لديه ابنة وأن لدى ابنته صديق يحتمل فعلا أن يزورها في منزلها.
ـ ابتسم الأديب الكبير بمنتهى الحزن والأسى بعدما انتهيت من القراءة وبصوت خفيض وشاحب قال لي: “هذا ليس مستواك في الكتابة”. ثم أدار رأسه ليثبت عينيه بعيدًا عني وعن عيون الجالسين الذين كان من الطبيعي أن تنشط في وجوههم ابتسامات واسعة وهم يوزعون نظراتهم المتخابثة بيني وبين الأديب الكبير وبين ابنته وصديقي الجالسين بجوار بعضهما. تكلم عن القصة شخصان أو ثلاثة تقريبًا وأجمعوا - كما توقعت - على أنها أقل القصص التي سمعوها مني ولكن ما لم أتوقعه هو دفاعي عنها بعدما فرغ هؤلاء من حديثهم فوجدت نفسي مندفعًا بإصرار حاد في شرح المفارقة بين “لعب الشطرنج” وما يستدعيه من صلابة ذهنية وتركيز عميق وقدرة على توقع جميع الاحتمالات والتعامل معها وبين ما يحدث للابنة التي سُمح لها بأن تأخذ شابا إلى غرفتها في حضور والديها الواثقين - بوصفهما لاعبي شطرنج - في إمكانيات السيطرة والتحكم التي يتمتعان بها. الأديب الكبير الذي ظل ساكتا بملامح متجهمة أثناء النقاش والذي استكمل الندوة بنفس الملامح من دون أن ينظر إليّ ومن دون أن يستجيب لنظراتي المعتذرة التي استمرت تحدق في وجهه وترجوه أن يلتفت لي ويكلمني، هو الذي صافحني بعد انتهاء الندوة وهو الذي سألني عن أحوالي وبينما كان يحاول أن يستعيد ابتسامته الرقيقة المعتادة قال لي إنه سينتظر أن يسمع مني قصة أفضل قريبًا. في هذه اللحظة تمنيت أكثر من أي شيء آخر أن أقبّل رأسه وأخبره بأنني آسف لكنني لم أستطع فهززت رأسي ومشيت من أمامه بسرعة وأنا أشعر بشفتيّ قد التصقتا ببعضهما بحيث لن يجد الندم الثقيل الذي عدتُ به إلى المنزل في هذه الليلة طريقا للخروج من داخلي أبدًا".
كل ما تضمنته هذه الفقرات حدث بالفعل، وبدقة تامة عام 1993، وكان عمري وقتئذ 16عامًا، باستثناء أن صديقي لم يكن قاصًا، وإنما حينها كان ممثلًا مسرحيًا، وأعتقد أنني سأكتب ذات يوم عن السبب الذي جعلني أقوم بهذا التحريف في القصة .. بعد 27 سنة من هذه الواقعة مازلت أفكر في تلك اللذة الغامضة التي شعرت بها أثناء كتابة تلك القصة الانتقامية، وكان اسمها بالمناسبة "تحت السيطرة"، والتي لم أنشرها، ولم أحتفظ بها حتى بعد تلك الليلة البعيدة التي قرأتها فيها أمام أعضاء نادي الأدب بحزب التجمع بالمنصورة .. اللذة التي تتجاوز الثأر من صديقي، وابنة الكاتب كبير السن، ولا تمحو بالتأكيد الشعور بالندم الذي ذكرته في "علبة الرماد" .. كانت "تحت السيطرة" تقريبًا هي القصة الثانية بعد "المصفقون" التي أكتبها ـ كما أشرت في السيرة من قبل ـ بتعمّد أساسي لرد الأذى تجاه شخص أو مجموعة بشرية، ويتصادف أن ذلك الأذى في الحادثتين لم يكن متعمّدًا ضدي .. كانت هناك سعادة ممتنة لم أكتشفها وقتها في انتهاك أحكام قهرية، ليس لي دخل في وجودها: أن تكون صغير السن، أو أصغر كاتب في تلك الجماعة، بما يعني أن علاقتهم بك ستخضع عفويًا لأثر هذا الفرق العمري، حتى لو اتسمت بالود المستقر، والاحترام المتبادل .. أن يحاول "الأكبر سنًا" إعادتك إلى "القيم والمبادئ" القصصية التي تحاول أن تتخلص منها مبكرًا في أعمالك .. أن يكون هناك "أديب كبير"، "أب"، "أستاذ" يجلس على رأس طاولة يقع كرسيك دائمًا إلى جانبها، لمجرد أن عمرك 16 عامًا، وتحتاج مضطرًا للتواجد في هذا المكان، بينما يقترب هو من بلوغ الستين، في حين أن الفرق بين القصة القصيرة التي يكتبها كل منكما يؤكد حقيقة مناقضة .. حتى لو كان رجلًا مهذبًا وطيبًا بحق .. لروحه السلام.
لقراءة قصة "علبة الرماد" كاملة
موقع "الكتابة" ـ 8 يونيو 2020

الجمعة، 5 يونيو 2020

تشريح القصة القصيرة: أن تقرأ كمحقق

مثلما يقوم المحقق باصطياد الأدلة الكاشفة من بين المعلومات التي يمتلكها حول قضية معينة؛ يمكن لقارئ القصة القصيرة أن يؤدي أمرًا مشابهًا عن طريق انتزاع عبارات محددة خارج التفاصيل والمشاهد التي تتضمنها القصة .. في قصة "إبريق العرس" لفيليب سميث على سبيل المثال، والتي تدور حول راوٍ يقرر قضاء أمسية السبت برفقة جدته في المنزل بعد خروج أمه وشقيقته؛ في هذه القصة يمكن التوقف عند المقاطع الآتية:
"ناولت الجدة الإبريق الزجاجي، وعدت إلى مقعدي ممددًا قدميّ أمام المدفأة، وقالت جدتي: هذا إبريق عرسي، ولقد كان على المنضدة يوم زفافي مليئًا بالروم".
"وسط كل هذا اتجه صبي صغير نحوي وهو يحمل شيئًا ما في يده اليمنى، سلمه لي قائلًا: لقد أحضرت هدية لك، هل تخمن ماذا كانت؟ لقد كانت ساعة ذهبية يملكها تومي ويعتز بها كثيرًا".
"كما ترى كان لي حبيبان .. تومي وإدوارد، وكان عليّ أن أختار أحدهما .. كان تومي شابًا رقيقًا، ومع ذلك تزوجت جدك".
"في يوم عرسي أرسل لي تومي هدية هي أغلى ما يملك .. هل تعرف ماذا فعل بعد ذلك؟ لقد ذهب إلى حديقة أمه وشنق نفسه على شجرة التفاح الكبيرة".
"تدحرج الإبريق الزجاجي من يدها إلى حجرها .. كانت النيران تومض تحت الرماد، وبينما تطايرت شظية أو شظيتان حملهما الدخان عاليًا إلى المدخنة".
ومثلما يعمل المحقق على تحليل الأدلة المقتنصة؛ يقوم القارئ بتأويل العبارات التي عيّنتها بصيرته:
"الإبريق: رمز احتفالي، يشير إلى العرس تحديدًا .. الساعة التي أرسلها الحبيب إلى الجدة يوم زفافها هو وقت استثنائي، زمن خاص، موعد مرتقب .. الجدة لا تذكر سببًا واضحًا لاختيارها جد الراوي، كان يكفيها فعل "الاختيار" فحسب، بما يعني أن القرار كان في يدها، أو بدا كذلك حينئذ .. انتحار تومي بعد إرساله الساعة للجدة يقرر بأن الوقت الاستثنائي أو الزمن الخاص لا يقع داخل الحياة، كان الموعد المرتقب ينتمي إلى الموت .. تدحرج الإبريق الزجاجي من يد الجدة إلى حجرها ثم الصمت الوصفي لوضعيتها يدل على موتها، العرس المؤجل، زفافها المنتظر إلى تومي أو الحبيب المنتحر الذي بدأ هذا الاحتفال في اللحظة التي أرسل خلالها ساعته الذهبية إلى الجدة، حيث حياة المرء أشبه بنيران تومض تحت الرماد، تتطاير في النهاية مع الدخان ثم تتبدد".
ومثلما تضيء الأدلة التي تم اصطيادها سائر المعلومات الأخرى للمحقق؛ تكشف العبارات التي انتزعها القارئ بقية تفاصيل ومشاهد القصة:
"التماع ضوء القمر عبر التلال الذي يُظهر سحب دخان شاحبة تتصاعد من حديقة أحدهم .. أم الراوي ذات الستة والأربعين عامًا، الأرملة منذ خمس عشرة سنة، التي تخرج مع صديقها بالرغم من رفض الجدة واستنكارها لتلك العلاقة .. أخت الراوي التي تخرج هي الأخرى برفقة صديقها .. فتاة تجري عبر البوابة الأمامية لأحد المنازل .. إعداد الجدة للفحم، وإشعالها لنيران المدفأة" ...
كأنما كل حياة / نيران تحت الرماد تتماثل، تتوارث، تتدافع دائمًا نحو المصير نفسه كشظايا تتطاير ثم تتلاشى .. كأنما النيران والرماد "أو الذاكرة التي لا تزال مشتعلة تحت العمر الذي أصبح خامدًا" يسبقان حياة الفتاة التي تجري عبر البوابة الأمامية لأحد المنازل، ويجهزانها للاختفاء مع سحب دخان في حديقة، أو عبر مدخنة مدفأة.   
ومثلما يعتبر المحقق أن النجاح في حل القضية ليس غايته الوحيدة، وإنما الحصول على مزيد من الخبرة الاستفهامية التي يطاردها وعيه طوال الوقت؛ يقتفي القارئ أثر التساؤلات الممكنة داخل القصة:
"هل الشفقة تجاه الجدة هي التي دفعت الراوي حقًا للبقاء معها في أمسية السبت؟ .. هل كان يشعر على نحو غامض بأنها تخبئ سرًا قديمًا، وأنه من الممكن في الليلة المناسبة أن تبوح له بذلك السر حينما يكونان وحدهما في البيت؟ .. هل ماتت الجدة بالفعل أم أن الراوي شيّد هذا المشهد ذهنيًا بوصفه الختام اللائق بالحكاية التي كشفت عنها الجدة؟".
(من مقرر الورشة القصصية للكاتب ممدوح رزق)
موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 4 يونيو 2020

الأربعاء، 3 يونيو 2020

"قصيدة المنبر".. نُقّاد يطلقون رصاصة الرحمة!

يجدر تعيبن بعض التحديدات حول الطبيعة اللغوية، وفنية الشعر قبل محاولة الإجابة على الاستفهامات المتعلقة بتأثير القصيدة؛ حيث ما يبدو أنها خطابية كمثال لغوي، لا يفترض أن تقدم في حد ذاتها مبررًا لإزاحة الشعرية التي تتضمنها إلى التقييم الأدنى في اختبار الجودة، وإنما عليها كأسلوب فني يمتلك دوافعه البشرية أن تبقى خارج التصنيفات الطبقية للغة .. بذلك يمكن لمفردات التنحية والعزل الشعري كـ "التطور"، و"المستوى"، و"القيمة" أن تُستبدل بمفردات المقاومة كـ "التعددية"، و"الملائمة"، و"التجاور" .. الاستبدال الذي يمكن اعتباره تقويضًا لإرادة الهيمنة الكامنة في تحوّل الانحياز الذاتي إلى قانون مطلق للفن.
إذا كان ثمة من يمتلك صورة متعالية لما ينبغي أن تكون عليه "القصيدة"، أي التي يجب أن يكتبها جميع الشعراء، وليس "قصيدته"، أي التي يفضلها من بين ما يكتبه جميع الشعراء، وفقًا لتصوّر خاص، يعتقده شاملًا، أي متخطيًا لفرديته، عن تاريخ من الخطوات الارتقائية للشعر، وصل في لحظته الراهنة إلى التفوق الجمالي الذي تتضاءل أو تنعدم أمامه تأثيرات القصائد المبنية على ما يُنظر لها كعناصر مناقضة، أي تلك التي تُشكّل وجوهًا مصطنعة لماضٍ ميت؛ إذا كان ثمة من يمتلك هذه الصورة فإنه قد يؤمن بقطيعة متدرجة بين الزمن الأيديولوجي، والزمن اللامعرفي، وبالضرورة بين ما يُسمّى بالشعر الخطابي القائم على بلاغة بائدة، تنتصر بعماء متأصّل لما تعتنقه من خرافات المفاهيم الكلية، وبين الشعر الحديث المتطهّر من المجاز الكوني، حيث كان يختبئ اليقين الحاسم للحياة والموت، أو الحكمة الاختزالية للعالم بعيدًا عن الخلخلة والتهكم.
بهذا تبدو الإجابة سهلة تمامًا؛ فالشعراء الذين ينجذبون إلى ما يُطلق عليه "الشعر الخطابي" ينتمون إلى أنساق عامة من الأفكار والرؤى التي تدعي قدرتها على تفسير الوجود في ظل المتغيرات كافة، الأمر الذي يكلفهم انفصالًا عن واقع يحكمه الشك والإنكار والسخرية من المُثل القديمة وهو ما يتجسّد في ظواهر القصيدة المعاصرة .. لكن هذه الإجابة السهلة أشبه بالفخ؛ فهي تقترح في حقيقتها استفهامًا جوهريًا حول إذا ما كان يجب اعتبارها شرطًا أو معادلة للشعر؛ بتعبير آخر: هل يقتصر "التعبير الخطابي" على ما هو أيديولوجي بأقصى ما تسمح به حدود المصطلح، أم أن القصيدة الحديثة كما يُشار إليها بناءًا على جماليات انتقائية يمكنها أن تُكتب استنادًا إلى مفهوم كلي؟ .. الاستفهام الذي يستطيع أيضًا أن يعكس اتجاهه: هل بوسع "الخطابية" أن تُكتب كممارسة عدائية لليقين العام؟.
كل قصيدة، وليس كل شاعر، تعطي احتمالًا للإجابة، وليس الإجابة نفسها، وفقًا لما يمكن أن تعنيه الكلمات المستخدمة في هذا السياق عند لحظة معينة، ذلك لأن كل قصيدة هي محاولة مستقلة للتفكير في اللغة والشعر والتاريخ، لا تتطابق مع المحاولات الأخرى.
شهادتي ضمن ملف "قصيدة المنبر".. نُقّاد يطلقون رصاصة الرحمة! للشاعر "عماد الدين موسى" في مجلة "الدوحة" ـ يونيو 2020

الاثنين، 1 يونيو 2020

سيرة الاختباء (16)

منذ شهر ونصف تقريبًا كتبت إحدى مستخدمات تويتر: "حد يعرف كاتب أو صحفي معاصر معروف وفكره محترم من قاطني الدلتا؟" .. أجابها قارئ مشكورًا: "ممدوح رزق طبعًا" .. لم تكن سعادتي بهذه الإجابة مستقلة عن سخريتي من السؤال نفسه؛ فهو في اللحظة التي كان يُطرح فيها؛ ثمة استفهام مقابل كان يثبّت بالضرورة عدم منطقيته: "حد يعرف كاتب أو صحفي معاصر معروف وفكره محترم من قاطني القاهرة؟" .. الاستفهام الذي سيتم سحقه فورًا بدهشة استهزائية عامة، بالضبط مثلما يستفسر شخص ما عن إذا كان أحد يعرف ثقبًا مر منه شيء من قبل! .. لم تكن إحدى مستخدمات تويتر هي من كتبت ذلك السؤال إذن، وإنما تاريخ ما يُسمى بالمركز ذاته، ولم تكن سعادتي بإجابة القارئ إلا تقويضًا للخراءات المحتالة الأنيقة التي يتأسس عليها هذا التاريخ .. كنوع من الانسجام العفوي مع تلك اللحظة تذكرت حينها سطورًا من المقال الأول لـ "سيرة الاختباء" عن طلاب ورشتي القصصية:
"دائمًا ما أفكر بعد انتهاء هذه المحاضرة في أن هؤلاء إذا ما استمروا في الكتابة، وتزايدت حدة (الجموح) في قصصهم بمرور الوقت، وتضاعفت لامبالاتهم تجاه السائد والمضمون، وظلوا مقيمين في هذه المدينة بعيدًا عن مكان قد يمنحهم الوضعية الملائمة للحماية والتعويض؛ فإن هناك ثمنًا بالتأكيد سيستمرون في دفعه .. إنه أمر أشبه بقانون قطّاع الطرق" ...
كان ذلك السؤال مثالا ناصعًا لما يعنيه "قانون قطاع الطرق" .. التواطؤ والاندماج بين المتون المتجذرة: "الشهرة" .. "الفكر المحترم" .. "المركز" .. على جانب آخر لا تؤدي الأساليب الأزلية الشائعة في الدفاع عن ما يُسمى بـ "الإقليم" إلى أكثر من التكريس والحماية لتلك الفقاعة الخارقة التي حددت مواقع "المدن الأخرى" بكونها "في الخارج" .. يكافح "قاطن الدلتا" ـ بتعبير مستخدمة تويتر، وكما أدركت لدى الكثيرين منهم عبر سنوات طويلة ـ للانتماء إلى المركز بوصفه ارتقاءًا مستحقًا، كأنما المشكلة لديه تتعلق بالمسافات، وليس بالإطار المعرفي نفسه الذي يقرر تلك المسافات ويضمن توالدها .. ببساطة؛ يسعى جاهدًا للمشاركة في لعبة "القيمة"، لا تخريبها.
"يحلل الكاتب الفروق التأسيسية بين المدينة المركزية وهوامشها، كيف تنشأ علاقات القوة بين المؤسسة وأطرافها، ومسارات تطورها، كيف تتشعب وتتداخل وتتكاثر خارج أطرها التقليدية، كما يوضح أيضًا كيف تكمن السلطة المركزية في اللغة التي تُستعمل لإنكارها؛ حيث تتكفل الضفادع الملتهبة بإقرارها عن طريق الاستخدام المتواصل لتلك السياقات اللغوية الساذجة، التي ينبغي بحسب تأويلها المعتاد أن تكون "مُرهبة" لذلك الذي يقوم بتقويض هذه السلطة".
تتناول هذه العبارات من متواليتي القصصية "البصق في البئر" كتاب "الضفادع الملتهبة" للكاتب الفرنسي هنري لي روكس، الذي قام ندا القلوط بترجمته رغمًا عنه؛ تتناول الحيل الخرقاء لأطفال المتن، أو "الضفادع الملتهبة" كما أطلق عليهم مؤلف الكتاب، الذين يحاولون دائمًا بعفوية محمومة الدفاع عن المركز أو "الجغرافيا الثقافية" التي عيّنت أماكنهم، ورسمت مدارات متكاثرة لخطواتهم في مواجهة المقاصد الهادمة لما يدّعيه ذلك المتن .. الاستهلاك البائس للغة الذي يمارسه "قطاع الطرق" طوال الوقت فوق أسوار مدينة غارقة.
تمثل إرادة "الاختباء" رفضًا متهكمًا للهويات الاستباقية التي يفرضها المركز كماض متأصل من الانتقاءات المزيفة، وكسلطة خطابية تُشكّل "الظهور" الأدبي ـ سواء داخل "إقليم" أو خارجه ـ بحسب اليقين الذي يدعم هيمنتها في الوعي العام، حيث لا يثير سؤال كـ "حد يعرف كاتب أو صحفي معاصر معروف وفكره محترم من قاطني الدلتا؟" استنكارًا جماعيًا إلا في أحلام اليقظة.
موقع "الكتابة" ـ 1 يونيو 2020