يجدر تعيبن بعض التحديدات حول الطبيعة اللغوية، وفنية الشعر قبل
محاولة الإجابة على الاستفهامات المتعلقة بتأثير القصيدة؛ حيث ما يبدو أنها خطابية
كمثال لغوي، لا يفترض أن تقدم في حد ذاتها مبررًا لإزاحة الشعرية التي تتضمنها إلى
التقييم الأدنى في اختبار الجودة، وإنما عليها كأسلوب فني يمتلك دوافعه البشرية أن
تبقى خارج التصنيفات الطبقية للغة .. بذلك يمكن لمفردات التنحية والعزل الشعري كـ
"التطور"، و"المستوى"، و"القيمة" أن تُستبدل
بمفردات المقاومة كـ "التعددية"، و"الملائمة"،
و"التجاور" .. الاستبدال الذي يمكن اعتباره تقويضًا لإرادة الهيمنة
الكامنة في تحوّل الانحياز الذاتي إلى قانون مطلق للفن.
إذا كان ثمة من يمتلك صورة متعالية لما ينبغي أن تكون عليه
"القصيدة"، أي التي يجب أن يكتبها جميع الشعراء، وليس
"قصيدته"، أي التي يفضلها من بين ما يكتبه جميع الشعراء، وفقًا لتصوّر
خاص، يعتقده شاملًا، أي متخطيًا لفرديته، عن تاريخ من الخطوات الارتقائية للشعر،
وصل في لحظته الراهنة إلى التفوق الجمالي الذي تتضاءل أو تنعدم أمامه تأثيرات
القصائد المبنية على ما يُنظر لها كعناصر مناقضة، أي تلك التي تُشكّل وجوهًا مصطنعة
لماضٍ ميت؛ إذا كان ثمة من يمتلك هذه الصورة فإنه قد يؤمن بقطيعة متدرجة بين الزمن
الأيديولوجي، والزمن اللامعرفي، وبالضرورة بين ما يُسمّى بالشعر الخطابي القائم
على بلاغة بائدة، تنتصر بعماء متأصّل لما تعتنقه من خرافات المفاهيم الكلية، وبين
الشعر الحديث المتطهّر من المجاز الكوني، حيث كان يختبئ اليقين الحاسم للحياة
والموت، أو الحكمة الاختزالية للعالم بعيدًا عن الخلخلة والتهكم.
بهذا تبدو الإجابة سهلة تمامًا؛ فالشعراء الذين ينجذبون إلى ما يُطلق
عليه "الشعر الخطابي" ينتمون إلى أنساق عامة من الأفكار والرؤى التي
تدعي قدرتها على تفسير الوجود في ظل المتغيرات كافة، الأمر الذي يكلفهم انفصالًا
عن واقع يحكمه الشك والإنكار والسخرية من المُثل القديمة وهو ما يتجسّد في ظواهر
القصيدة المعاصرة .. لكن هذه الإجابة السهلة أشبه بالفخ؛ فهي تقترح في حقيقتها
استفهامًا جوهريًا حول إذا ما كان يجب اعتبارها شرطًا أو معادلة للشعر؛ بتعبير
آخر: هل يقتصر "التعبير الخطابي" على ما هو أيديولوجي بأقصى ما تسمح به
حدود المصطلح، أم أن القصيدة الحديثة كما يُشار إليها بناءًا على جماليات انتقائية
يمكنها أن تُكتب استنادًا إلى مفهوم كلي؟ .. الاستفهام الذي يستطيع أيضًا أن يعكس
اتجاهه: هل بوسع "الخطابية" أن تُكتب كممارسة عدائية لليقين العام؟.
كل قصيدة، وليس كل شاعر، تعطي احتمالًا للإجابة، وليس الإجابة نفسها،
وفقًا لما يمكن أن تعنيه الكلمات المستخدمة في هذا السياق عند لحظة معينة، ذلك لأن
كل قصيدة هي محاولة مستقلة للتفكير في اللغة والشعر والتاريخ، لا تتطابق مع المحاولات
الأخرى.
شهادتي ضمن ملف "قصيدة المنبر".. نُقّاد يطلقون رصاصة الرحمة! للشاعر "عماد الدين موسى" في مجلة "الدوحة" ـ يونيو 2020