الاثنين، 29 يوليو 2019

الأشرار

مرة كنت غاضباً جداً منها لسبب لا أتذكره .. رأيتها جالسةً على الكرسي الخشب الصغير، وتشطف الغسيل في آخر الحمام .. وقفت عند الباب، وأنزلت البنطلون، وتبوّلت عليها .. كان الحمام ضيقاً، والمسافة بيني، وبينها مهيأة للصنانة كي تغرق وجهها، وجسمها .. ظلت تحدّق فيّ بذهول، وهي تحاول تفادي المطر الأصفر، الساخن دون فائدة .. يومها غضبت مني جداً يا دكتور، وتقريباً صفعتني، وخاصمتني لفترة قصيرة .. كان لدي يقين بأنها لا تعاقبني على التبوّل نفسه، وإنما على المتعة التي عشتها في تلك اللحظة .. انتقام من الشغف الذي احتفلت به ملامحي نتيجة إذلال نجحت في ارتكابه ضدها .. هل كانت هناك وفرة من الأجزاء المكشوفة في جسد أمي وقت انهمار الصنانة عليها .. لا أتذكر.
كانت تُحذرني دائماً من التحدث، أو الرد على (الأشرار) الذين تمتلئ بهم المنطقة الشعبية التي نسكنها .. باعة المخدرات، والحرامية، والبلطجية، والقوادون، والمومسات .. ذات مرة كنت عائداً معها من المدرسة، وبينما كنت أسبقها بخطوة واحدة في المرور على الرصيف النائم تحت بلكونتنا؛ كان واحد من (الأشرار) جالساً .. مد رأسه مبتسماً بودٍ لحظة عبوري أمامه بالمريلة، والحقيبة المدرسية فوق ظهري، ثم سألني مُداعباً: (المدرسة حلوة؟) .. لم أنظر إليه، ولم أرد تنفيذاً لتعليمات أمي، لكنني فوجئت بها تُجيبه من خلفي قائلة: (حلوة) .. التفت مذهولاً، فوجدتها مبتسمة بودٍ يفوق ذلك الذي على ملامح (الشرير) كأنها تعتذر له عن عدم ردي عليه .. لم تكن هناك ذِلة تجبرها على الرد؛ لأنها كانت (الأبلة) الوقورة، الطيبة، التي تُعلم أطفالهم، وكان الجميع في الشارع يحترمونها جداً، ويتعاملون معها بكل التقدير .. لم أطلب منها تفسيراً للتناقض بين أوامرها، وأفعالها، ولم أخبرها بأنني لا أعتبرهم (أشراراً)، وبأنني أريد أن أتكلم معهم، وأضحك لهم، أو على الأقل الرد عليهم لو تحدثوا إليّ .. احتفظت بكل التخبّط في داخلي، وربما كان هذا الموقف من ضمن الأسس التي ستجعلني أكتب القصة القصيرة بعد ذلك.

الاثنين، 22 يوليو 2019

يوميات: مكان سيء لقارئ محنّط

لو أعيدت كتابة السطور الافتتاحية على غلاف مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" بطريقة التنبيه الموجز، الذي يفسّر ما بين كلماتها لكُتب على الغلاف: "تحذير ... كتابة مؤذية للقارئ المدجن، الخامل، ضارة بأصحاب الأذهان الناعمة".
تسخر مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" بصورة ضمنية، وعلى نحو استباقي من القطعان الأليفة على جودريدز، وداخل مفارخ النقد الأدبي .. هي بالطبع تدفع ثمن حرمانها للآخرين من الإشباع المسالم، لكن استمتاعها بالتسبب في الإزعاج هو الجوهر المسيطر على المشاهد كافة، خاصة تلك التي يحاول البعض استغلالها في مداواة أوجاعهم.
تحدثت في أكثر من مناسبة عن الأهداف المتعددة لورشتي القصصية؛ وأعتقد أن هذه فرصة ملائمة للكشف عن غرض أساسي لم أتكلّم عنه من قبل: أن تكون هذه الورشة خطوة دامغة لطلابها في محاولة تأصيل خبرة التعرّف على الفرق بين الكتابة الودودة والكتابة المستفزة .. بين القصة المروّضة، والقصة العدائية .. بين الكاتب الذي يخضع "تمرّده" لحدود مستأنسة، والكاتب الذي يمتلك غريزة اللعب الهادم بأي يقين، مهما كانت صلابته .. ألا تتعطّل يقظتهم تجاه الغايات النمطية اللطيفة التي يحاول القراء دائمًا تقييد النصوص الجامحة بأمانها المتوهّم .. ألا يكونوا مجرد نسخ هامدة ضمن قطعان جودريدز، وبصرف النظر عن هل سيستمرون في بذل الجهد اللازم لتحقيق ذلك أم لا .. ربما يتذكرون الآن محاضرة "الكولاج اللازمني" عن التحريفات الصادمة في قصة همنجواي "عجوز على الجسر" على سبيل المثال .. تستهدف ورشتي القصصية أن يأتي يوم يكتب فيه النقاد ـ من خارج المفرخة ـ عن مجموعات طلابها مثل هذه السطور للناقد المبدع "عمر شهريار" عن "مكان جيد لسلحفاة محنطة":
"ممدوح رزق يبحث طوال الوقت عن ثغرات العالم، كما أن الذات الساردة في كثير من قصصه هجومية .. عنيفة .. ساخرة، لكنها لا تنبع من قسوة أخلاقية، وإنما من إدراك عميق لعبثية العالم بوصفه مسخرة لا تحكمها قواعد سببية .. الذات المكرهة على الوجود، والتي تعرف أن كل شيء هو عبث، وبلا روابط منطقية؛ فتحل المتاهة (الخيوط المتشابكة، والمعقدة التي لا تؤدي لبعضها بالضرورة) محل البناء السردي الممنهج".
أو مثلما كتب الأستاذ الكبير "محسن يونس" عنها:                                                              
"قارئ ممدوح رزق سوف يتمتع بجانب قراءته قصصًا تعتمد على ذات فردية، والإبحار في وجودها بالمعنى الوجودي الباحث في كينونته وماهيته في هذه الحياة المهولة، ودروبها العجائبية والغريبة عن الإحاطة، من خلال موقف درامي طازج يحسب للكاتب أنه له وحده، ولا شبيه له في كتّاب قصصنا في الوقت المعاصر".
مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" هي مكان سيء لقارئ محنط.

الجمعة، 12 يوليو 2019

مكان مهجور، يمر من حوله الوجود، ويمضي في طريقه

سأبدأ بمحاولة الإجابة على التساؤل الذي أنهيتِ به رسالتِك السابقة: ربما أكتب عن الاحتمالات الغامضة لذاتي، الكامنة في حياة الآخر وموته .. عن الأشباح المختبئة في جسدي التي تحاول التلصص على الظلام الممتد خارج هذه الاحتمالات .. كأن ثمة مرآة تنطوي عليها ملامح هذا الآخر، يجدر التمعّن في ما تعكسه، أي ينبغي على الخيال أن يكوّنها، لاكتشاف ممر لم يكن مرئيًا يقود نحو إبهام مختلف لنفسي، وقد يؤدي بالضرورة إلى الصمت المحصّن الذي يتجاوزها .. ربما هذا ما يجعل الحياة، أو الكابوس المؤقت محكومًا بالكفاح العبثي لتجميع الأشلاء العدمية المتناثرة .. الدعابات الخرقاء، غير المصدّقة، التي يجاهد المرء لأن يخلق بواسطتها تلك الكينونة المجهولة خارج اللغة .. الكينونة المضادة، المنفلتة من هذه الأشلاء الموزّعة داخل الآخرين الذين يُشكّلون ذاكرتي .. ربما هي السر المحتجب في المرئيات والمسموعات التي لا تمت لأي لغة بصلة، لكنها في ثنايا اللغة وفجواتها بتعبير "جيل دولوز"، أو الروح الملغزة الأشبه بـ "مكان مهجور / يمر من حوله الوجود / ويمضي في طريقه" كما كتبتِ في إحدى قصائدِك .. كأن العدم يستعمل أوهامنا المتناسخة لإثبات خلوده، ولمحو حكاياتنا التي لم نسردها أبدًا.
صديقتي العزيزة:
في رسالتي السابقة حدثتك عن أنني لا أفتقد الموتى وحسب بل أفتقد أيضًا الذين يشاركونني اللحظات المتعاقبة يومًا بعد آخر، والآن أريد أن أكتب لكِ عن الموت باعتباره وضع حد لافتقاد ما لا أعرفه .. شخص يموت فأدرك حينئذ أن ذلك الشيء الغامض الذي قضيت زمنًا طويلًا في انتظار القدرة على انتزاعه خارج العمى لن أحصل عليه أبدًا .. العمى المتجسّد في كائن لم يكن  على حياته أن تنتهي في تلك اللحظة المبكرة .. تتحدد هوية الموت حينئذ بمدى احتياجي الخاص للوعد المبهم الذي لم يتحقق، المتمثل في وجود هذا الشخص، وبعد موته لم يعد لهذا الوعد فرصة أن يكون مصيرًا حقيقيًا.  
صديقتي العزيزة:
تلقيت منذ فترة قصيرة دعوة لتكريمي من صديقين عزيزين في احتفال ثقافي تُقيمه مدينتهما .. كنت حينئذ منغمسًا في كتابة غاضبة، لا يكاد يدفع فورانها العاصف أكثر من السخرية الانتقامية ضد الذين أغلقت أبواب ذكرياتي السيئة على وجوههم كي لا يستطيعون الخروج منها .. لكن الأمر يتجاوز حتمًا تصفية حساب شاملة طال تأجيلها، أو انتظرت وقتًا كبيرًا للغاية حتى تتم في موعدها المناسب، وبالكيفية وحدها التي تلائمني كبصمة أو ما أطمع أن تكون كذلك .. بعد عودتي من التكريم توقفت عن هذه الكتابة تلقائيًا بما يشبه بداهة جديرة بالتفحص .. يمكن لأمر مبهج وعابر ـ بما أنه ليس نمطًا للحياة ـ أن يضع سحابة رمادية مؤقتة فوق رغبة عدائية عمرها يمثل تقريبًا التاريخ الشخصي بأكمله .. يمكنه أن يُعطّل ـ ولو على نحو خافت ـ الاستجابة المحسومة لهذه الرغبة غير المهيّأة للتراجع أو الجدل كأنها نوع آخر أو أكثر أصالة للتنفس .. لا يعطي هذا بالنسبة لي نموذجًا واضحًا لتأثير الأشياء الإيجابية البسيطة على المزاج السوداوي كما يشيع في الوصايا الساذجة، وإنما يقدم مثالًا ساطعًا للمكر التافه للحياة، الذي يستعصي ربما في معظم الأحوال على الترويض، ولكن يُنظر إليه في الوقت نفسه كهدية تهكم يجب على الكتابة الغاضبة أن تقبلها.
أفكر دائمًا في أن أكثر الأوضاع مثالية لمخاطبة الآخر هو أن يكون ميتًا .. لا يتعلق بالأمر فحسب بقدرة المرء غير المسبوقة على الخطو داخل ظلام ما، وإنما على التحرّك أيضًا داخل أكثر الخرافات اللغوية اعتيادًا .. لم يكن بوسعي أن أخاطب أمي وهي تبدو على قيد الحياة كما فعل دوستويفسكي مثلا حين وصف أمه بالحنون، بينما كان يحدثها عن الملل والأحزان والشوق، قبل أن يقبّل يديها كابن بار .. لكن الموت لم يمنحني الحرية اللغوية للقيام بتلك الطقوس المبتذلة التي لم أشعر أبدًا بالرغبة في أدائها، بل يمكن القول أنه أعطاني الفرصة كي أحاول بطرق سردية مختلفة أن أشرح لأمي وهي في قبرها لماذا لم يكن ليتغيّر أي شيء بيننا لو عادت إلى الحياة .. في قصتي القصيرة "ستاند أب كوميدي" والمنشورة ضمن مجموعة "يوم واحد من العزلة" الصادرة عن دار فراديس البحرينية، وتضم قصصًا قصيرة جدًا لكتّاب من الوطن العربي؛ في تلك القصة كان هذا الأمر واضحًا تمامًا، وربما يمكن لعنوانها أن يضيء ذلك الشعور المتحسّر والساخر الذي كان يتملّكني وقت كتابتها .. كأن "الحياة" هي العائق الوحيد ـ غير الهيّن بالطبع ـ أمام "الوجود"، وبالتالي فإن المرء يبدأ حضوره الفعلي بعد انتهائها وفقًا لكل الكلمات التي لم يكن يستطيع الذين كانوا يشاركونه العتمة أن يعثروا عليها، أو يتحدثوا بها إليه قبل أن يتحوّل إلى جثة من الذكريات .. على جانب آخر ـ وهو ما يندرج قطعًا ضمن الهزل الكلي ـ قد تكون هذه الكلمات هي أكثر البدائل سوءًا للأثر الشخصي الذي لم يكتبه العابر بنفسه قبل أن يغادر.
امتناني لكِ دائمًا
ممدوح رزق
صديقي العزيز
أحسّ أحياناً أن الكاتب هو أكثر البشر حباً وتعلقاً بالحياة، سواء كان يعي ذلك أو يحسّ بنقيضه، وأن الحياة تمنحه  مقابل هذا الحب والتمسّك حياة متعددة ومتفرعة وغزيرة .
قلتَ لي في رسالتك إن حفل تكريمك قاطع كتابة غاضبة  كنت تكتبها، وأنك بعد حفل التكريم لم تعد إلى تلك الكتابة، لم تكن سعيداً بعدم العودة، ربما لأنّ الكتابة  هي أطول عمراً وديمومة من لحظة امتنان عابرة !
ربما كنا نكتب لنعيش الوجود على نحو أفضل، أو ربما لنضاعف الساعات التي ننهبها تباعاً، ونضاعف الأفعال، والأحاسيس، النشوة، الفخر والأثر مهما كان حجمه ومهما كانت الهيئة التي يتخذها، ليست المضاعفة هنا بمعنى خلق حجم مساو لذلك العيش، وإنما إعادة ابتكار الكلمات التي نجدها في ذاكرتنا بالصدفة لترسم  بها الكثير من الظلال حول عيشنا ومن خلاله حتى يبدو دون إطار، أو دون حد، كل محاولة لتفسير تلك الجمل والمفردات التي تقفز إلى وعينا دون غيرها  أثناء الكتابة هي محاولة لـ "الخطو في الظلام "..
الكلمات التي ظلت هامدة لأن الموتى لم يقولوها، والأفعال التي تجزأت وتفرقت مكوناتها لأن الموتى الذين نحب لم يفعلوها ربما نفعلها نحن ونقولها في تلك المسافة الفاصلة بين التذكر والنسيان، أو ربما ننظر نحوها من بعيد كأننا نعتذر للموت وللموتى عن حياتنا من بعدهم..
ألا ترى أننا نظلم الحياة وندل الوجود على ألوانه القاتمة كأنما ليضعها في طريقنا ونحن ننظر باستسلام وهدوء كأننا لا نريد أن نفارق المكان الذي نبتت فيه تلك الظلال الحزينة؟
حين يأخذ منا الموت من نحب، نكتشف فعلا وكما قلت في رسالتك أن حياتهم كانت عائقاً أو على الأقل ستاراً يحجب عنا رؤية صورهم الكاملة ومعايشة تفاصيلها الدقيقة، الموت يتيح  لنا تلك الصورة الحافلة بالتفاصيل ويتيح لتلك التفاصيل أن تكثر وتبدو أكثر جاذبية ودائماً كما تشاء  الذاكرة الحزينة وكما يتسع الخيال المحب والمشفق ..
صديقي العزيز
قبل أن أبدأ في الكتابة إليك عدت إلى قراءة قصتك القصيرة (الموت العجيب لطائر)، وهي من قصصك الجميلة التي تشبه قراءتها قراءة قصيدة جميلة ذات نهاية لا تنتهي؛
لقد ظلّ بطلك يراقب الطائر الميت والثابت مثل تمثال حتى أنه كان يلاحظ أحياناً رفيفاً خافتاً لجناحيه، قبل ذلك كانت المراقبة تلك قد تحوّلت إلى حياة كاملة يعيشها بطلك بمعزل عن حياته المعتادة وعن حياة الآخرين كل ذلك وهو يبحث عن جواب لسؤال وحيد كيف مات الطائر؟ من التعب في السعي نحو الخلاص من الكيس الذي مات فيه، أم من الاختناق أم مات متعمداً أن يلاقي الموت ..
ربما لا تعرف يا صديقي أنك حشرت القارئ مع بطلك في تلك العزلة الرهيبة وتحت سقف وحيد من المجهول المتجسّد في تلك التساؤلات الحزينة والمكلفة، ربما قمت دون قصد بوضع  القارئ أمام طائره الخاص، الذي آل إلى نفس المآل (شكلاً ماثلاً أمام النظر مثل تمثال) مهما كان اسم ذلك (الطائر) أو شكله ،مهما كان اسم خلوده داخل الوعي موتا أو حياة  أو سؤالاً لن يكون له جواب خارج الذات المعزولة في صَلاتها الشاخصة نحو المجهول أبداً، تلك الصلاة المتأملة والحزينة التي أسميتَها"الحياة الجديدة" والتي دخلها بطلك بإيمان مطلق دون أدنى شعور بأنه كان يهدر أيامه :"على العكس؛ لا تزال ثقتي تتزايد في أنني كرّست هذه السنوات لأكثر الأمور صوابًا، بل لن أكون مخطئًا لو قلت أن هذا الانشغال المهيمن بالطبيعة الملغزة لموت الطائر كان بمثابة الختام الوحيد اللائق بحياتي التي نجحت في تعزيز انفصالها عن الخرافات الأخرى ".
هكذا إذن لم يكن الموت هو بطل القصة ولا الطائر، بل تلك الحياة التي تحوّلت إلى لحظات طويلة من النظر والتأمل والإخلاص لتفسير المجهول..
تحياتي وتقديري
مريم شريف
موقع "الكتابة" ـ 11 يوليو 2019

الثلاثاء، 9 يوليو 2019

الموت العجيب لطائر

لتفسير المشهد الصادم الذي باغتني عندما فتحت شباك حجرة نومي المُطل على الشارع الخلفي للبناية التي أسكنها؛ افترضت أن رحلة الطيران المتطوّح للكيس البلاستيكي الصغير قد انتهت بدقة قدرية غريبة عند هذا القضيب الحديدي البارز ضمن عدة قضبان مماثلة من حافة سطح البيت الذي لم يُكتمل بناؤه، والملاصق لشباك حجرتي .. أن ثلاثة ثقوب كانت بالكيس، وأن مصادفة لا تُصدّق قد جعلت هذه الثقوب توزّع أدوارها كمصيدة محكمة بحيث يهبط الأول على طرف القضيب البارز فيمر عبر فراغه الضئيل مثبّتًا الكيس بصلابته المرتفعة، ويتسع الثقب الثاني في طرفه بما يسمح للطائر الذي لم أتمكن من تحديد نوعه أن يعبر إلى الداخل، بينما يترك الثقب الثالث في منتصف الكيس مساحة خبيثة لجناحي الطائر كي يرتفعا من خلاله نحو الخارج، ولكنها لا تكفي لمرور بقية جسده، أو لخفض الجناحين ثانية واسترداد وضعيتهما السابقة .. أن الطائر ظل عالقًا، غير قادر على الانفلات رغم المحاولات المتكررة التي ربما استغرقت وقتًا طويلًا، وانتهت بموته محتجزًا داخل الكيس كتمثال من العفوية الخالصة، خلقت القضبان الحديدية المنتصبة مسرحًا مثاليًا لعرضه .. كانت القضبان في تجاورها وتقاطعها فوق الحافة تكوّن ما يشبه هيكلًا هوائيًا لتقديم القرابين، أو كأنها أعمدة صغيرة لغرفة إعدام مفتوحة، يمثّل الكيس البلاستيكي مشنقة تتدلى من أعلى إلى منتصفها.
هل يُحتمل أن يكون وقوع الطائر في هذا الفخ قد بدأ قبل أن يثبّت الكيس نفسه في القضيب الحديدي؟ .. تخيّلت أن الطائر ربما دخل إلى الكيس بينما كان لا يزال محلّقًا في الهواء، وأنه نتيجة لثقل الطائر العاجز عن تحرير جناحيه فقد تهاوى الكيس نحو القضيب البارز الذي اخترق ـ بنفس الدقة القدرية الغريبة ـ فراغ الثقب ليُبقي الكيس الممتلئ بالطائر عالقًا به .. كيف يمكن الاقتناع بهذا التصوّر؟ .. لماذا دخل الطائر إلى الكيس أصلًا؟ .. هل كان يبحث عن طعام؟ .. هل فعل ذلك كنوع من المرح الاعتيادي؟ .. هل كان يُطارد طائرًا آخر، أو حيوانًا نجح، على عكسه، في الهروب قبل اصطياده؟ .. هل استحوذت على وعيه رغبة محصّنة، لم يفهمها، أجبرته على دخول الكيس؟ .. هل كان أعمى، أم أن الظلام كان حالكًا إلى هذه الدرجة؟ .. كان مستوى القضيب المنتصب ـ رغم ارتفاعه ـ منخفضًا بالنسبة لطائر لن يدفعه مؤثر للنزول إليه سوى إغراء لا يقاوم، أو احتياج قهري بلغ ذروته .. هكذا اعتقدت.
كيف بدأ الحدث الغامض وانتهى دون سماع أي صوت لمجاهدة الطائر في التملّص من الكيس، أو نداء استغاثة ليأسه بعدما أيقن استحالة تخليص جناحيه رغم المسافة الصغيرة للغاية بين شباك حجرة نومي والسطح المجاور؟ .. هل لم يكن يستطيع النطق؟ ..  كيف لم يقدر على تمزيق الكيس بمنقاره أو بمخالبه؟ .. لم يكن بوسعي تبيّن أدوات المقاومة هذه بسبب الحالة الشكلية التي تتخذها جثة الطائر، ولكنني فكّرت في ضرورة وجودها، مثلما كان لدي تأكد من أنه لو كان قد حاول استخدامها فإنها لم تكن ستُجدي نفعًا رغم الهشاشة المفترضة للكيس .. هل مات نتيجة الاختناق، أم بسبب الجوع والعطش، أم بفعل المجهود الشاق الذي بذله، أم تحت وطأة الرعب؟ .. هل كان مريضًا؟ .. لماذا يبدو الطائر كأنما دفع حياته ثمنًا لجموح اضطراري، لا يمكن لأحد سواه أن يستوعبه؟ .. كانت جميع التفاصيل التي تُشكّل سطح البيت الخالي، غير المشيّد بالكامل، وكذلك الفضاء الواسع المحيط به تستبعد تمامًا أي تدخّل لقصدٍ بشري في الأمر .. لم يكن بمقدور أي شخص الوصول إلى هذا المكان ومغادرته إلا بعد النجاة من سقوط يكاد يكون حتميًا،  فضلًا عن غياب الدافع المنطقي الذي يمكن أن يقود إلى تدبير هذا المشهد، والإقدام على مخاطرة مهلكة كتلك في سبيل تنفيذه .. هل ما استحوذ على وعي الطائر وقتئذ كانت رغبة انتحارية مبهمة، وجدت ضالتها على نحو مفاجئ في الكيس العالق بالقضيب الحديدي؟.
جعلت زوجتي تتفحص المنظر، ولم يخرج تفسيرها عما افترضته من قبل، وظل غير مقنّع بالنسبة لي ... التقطت بهاتفي المحمول صورة لجثة الطائر، وأطلعت عائلتي وأصدقائي ومعارفي عليها، ولم يمنحني أي منهم تبريرًا مُرضيًا يُعارض ما تخيّلته، أو حتى يضيف إليه أو يعدّله .. اتفقوا جميعًا على ما بدا أنها حقيقة بديهية، كان رفضي لها يزداد طمأنينة يومًا بعد آخر، رغم أنها كانت أول ما خطر تلقائيًا في ذهني عند رؤية الطائر .. كان لدي يقين بأن ثمة تفسيرًا حاسمًا، مغايرًا تمامًا لأي تصوّر ممكن يعتمد على مشيئة الصدف، والتعاقب العفوي للوقائع التي أنتجت هذا اللغز .. كنت أدرك أن هذا التفسير يكمن في خفاءِ ما، ينتظر اللحظة المناسبة لإزاحة ظلامه المتمنّع، وبالكيفية الجديرة بالكشف عن التعمّد المجهول لما حدث.
مرت سنوات كثيرة منذ هذا اليوم .. مع ذلك كانت قليلة جدًا بالنسبة لي .. ظل كل ما ينتمي إلى الماضي يتبدد بانسياب تدريجي أمام طغيان لا يخفت لهذا المشهد، ومحاولتي المستمرة للعثور على الحقيقة .. أصبحت الأيام كلها يومًا واحدًا ممتدًا عبر السنوات، ومغلقًا بإحكام على السر الذي لم أنجح بعد في التوصّل إليه .. يوم واحد، بدأ كعمرٍ آخر منذ اللحظة التي فتحت خلالها شباك حجرتي، ووجدت جثة الطائر المعلقة فوق حافة سطح البيت الذي لم يُكتمل بناؤه حتى الآن .. توقفت ذاكرتي شيئًا فشيئًا عن استرجاع ما لا يتعلّق بهذا السر، ولم يتمكن أي مما جرى في العالم بعد ذلك، أو حتى داخل الواقع الذي يخصني بصورة مباشرة من التسلل إلى هذه الحياة الجديدة مهما كانت أهميته أو ضراوته .. حتى طفلتي لم تعد بالنسبة لي أكثر من كائن يعيش خارج عزلتي، تتوالى فحسب على جسده متغيرات النمو .. أحلامي نفسها ـ مع ندرتها ـ امتنعت عن مغادرة مشهد الطائر، وإن بقي هذا المنظر كما هو في اليقظة، لا يخدشه تحريف أو تشابك مع صور أخرى .. لم أعد أفكر سوى في اللحظات الغامضة التي سبقت موت الطائر داخل الكيس البلاستيكي الصغير العالق بالقضيب الحديدي .. توقفت عن القيام بأي شيء عدا إطلاع الغرباء في كل مكان على صورة الطائر، وسؤالهم عما يظنون أنه قد حدث قبل تحوّله إلى جثة .. كل هذه السنوات لم تضف جديدًا، ولم تُعطل التفسير القديم الخائب الذي كلما تراكم تصديقه، كلما تعمّقت سذاجته في نفسي، وتوحّشت كراهيتي لسطوته .. بمرور الزمن راح يتلاشى كل ما كان يحدد هويتي عند الآخرين، ولم أعد بالنسبة للجميع سوى "الرجل الذي يطارد الموت العجيب لطائر".
أعتقد أنه لم يعد لدي الكثير من الوقت، ورغم أن سنواتي الأخيرة قد اقتصرت بشكل قاطع على التفسير الغائب لموت الطائر إلا أنني لم أشعر للحظة واحدة بأنني أهدرتها .. على العكس؛ لا تزال ثقتي تتزايد في أنني كرّست هذه السنوات لأكثر الأمور صوابًا، بل لن أكون مخطئًا لو قلت أن هذا الانشغال المهيمن بالطبيعة الملغزة لموت الطائر كان بمثابة الختام الوحيد اللائق بحياتي التي نجحت في تعزيز انفصالها عن الخرافات الأخرى .. أن الماضي بأكمله الذي سبق لحظة اكتشافي لجثة الطائر كان يسعى من أجل هذه النهاية على نحو مستتر، وإن كان لم يتوقف عن إعطاء العلامات الموحية بذلك بين حين وآخر .. وبالرغم من أنني لم أعثر على الحقيقة حتى الآن إلا أنني أشعر بالسعادة، ليس فقط لأن حياتي تنتهي بهذا النوع من الألم، بل لأن جثة الطائر لا تزال معلقة أيضًا في القضيب الحديدي رغم مرور كل هذه الفترة، ولم يظهر عليها أي أثر للفناء .. كأن الطائر لم يمت إلا منذ لحظة واحدة، أو كأنه يعيش في سكونه الطويل حياة مختلفة، لا يضمن استمرارها سوى محاولتي المتواصلة لإيجاد السر المختبئ .. أتخيل أنني إذا تمكنت ـ ولو في اللحظة الأخيرة من حياتي ـ من امتلاك التفسير الصحيح فإن الطائر لن يبدأ في زواله الجسدي بل سيكون باستطاعته الانفلات من الكيس العالق بالقضيب المنتصب .. هذا ما تؤكده الرعشات المتباعدة، متناهية الخفوت لجناحيه المحتجزين طوال هذه السنوات.
منصَّة (Rê) الثقافيَّة ـ 8 يوليو 2019
اللوحة: Rene Magritte

الخميس، 4 يوليو 2019

ممدوح رزق يلتقي طلاب جامعة الأقصى

يلتقي الكاتب والناقد ممدوح رزق مع طلاب قسم اللغة الانجليزية بجامعة الأقصى في شهر سبتمبر القادم عبر السكايب، وذلك للنقاش حول أعماله الأدبية، وقراءاته النقدية للنصوص المترجمة من الأدب الإنجليزي .. يصدر قريبًا لممدوح رزق متوالية قصصية جديدة بعنوان "أحلام اللعنة العائلية"، وكتاب نقدي عن فلسفة السرد عند جورج باتاي.
موقع "الكتابة" ـ 4 يوليو 2019