الأحد، 29 أغسطس 2021

سيرة الاختباء (30)


 أفكر أحيانًا في أن ما أعتقده عن ذلك الماضي ليس كما كان حقًا .. أن محاولات فرض الهيبة الماكرة المقترنة بالسخرية من الارتباك الشخصي لم تتجاوز اللحظات النادرة، وأنني في المقابل كنت أرد بعقاب تهكمي أو بفرض هيبة مضادة بعيدًا عن الكتابة ودون حفر في جروح الحيوات الخاصة كما ذكرت من قبل .. لكنني أفكر أيضًا في أنه كان يكفي حدوث تلك اللحظات مهما كانت قليلة .. كان يكفي أن تحدث لحظة واحدة فقط، وبصرف النظر عن استجابتي لها حتى لو كانت أكثر عنفًا .. إن الأمر يتعلق بالمهانة الكامنة في ذلك الاضطرار لأن تخرج من بيتك ليلة بعد أخرى، وتمنح الآخرين فرصًا سهلة لاستغلال ما يعتبرونه ثغرات شخصية من أجل الصراخ على خلاصهم بطريقة مختلفة .. المرض المتجذر داخلك من قبل أن توجد ويجبرك على السعي وراء الاندماج بجاهزيتك الغريزية للانفصال عن ما تكتشفه حين يصبح ورطة أو غنيمة نصية على جانب آخر.

"النادمون على محاولاتهم الخاسرة والمهينة طوال الماضي لإقامة العلاقات مع الآخرين، وتبادل الأحاديث والضحكات الودودة مع الغرباء .. الذين يُعذّبهم تذكّر الثرثرة الطائشة التي تلاحقت طوال أعمارهم أمام "الأصدقاء"، الفاضحة للضعف، وللأسرار الشخصية التي لا يجب أن يعرفها أعدائهم .. المتورطون دائمًا في الإبداء الشكلي ـ على الأقل ـ وبمبالغة مذلة في كثير من الأحيان لمشاعر الحب والاحترام، حتى لو لم يكن لتلك المشاعر وجود بداخلهم، أو يخفون نقيضًا لها .. المرغمون من أغوراهم الغامضة على الاستعراض الكلامي لما لا يريدون قوله، والاحتفال المظهري بتصديق ما قد لا يقيمون له وزنًا على الإطلاق .. الذين لم يتوقف حسن الظن عن الارتحال بعمائهم من هاوية لأخرى، وأهدروا كرامتهم في كل وقت بحثًا عن الألفة داخل الأرواح الخاطئة، وفي منح الساخرين من غفلتهم إحساسًا متواصلًا بأنهم في أشد الاحتياج إلى البقاء برفقتهم .. الذين تتضاعف مآثرهم المضحكة كلما أرادوا إثبات أنهم في غنى عمّن أساء إليهم، وأنهم يمتلكون القدرة على تجاهله".

تلك السطور من أطروحتي "مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور" ـ قيد الكتابة ـ وهي من ضمن نتائج تجارب "الصداقة الأدبية"؛ حيث تقدم تشريحًا جماليًا ليس للخبرة الواقعية فحسب وإنما للكتابة التي تأسست عليها أيضًا .. إن "السذاجة" كحكم أو كتعريف هي هاجس ذاتي أولًا يسبق الدلائل أوالقرائن التي تبرهنه خارج الجسد .. حصيلة مراقبة لمأزق الحضور تمتد منذ الطفولة وحتى تصير وعيًا انتهاكيًا لما يهيمن غيبيًا على هذا الحضور .. تأمل يتجاوز التعايش مع الوجود إلى تفكيكه بصورة انتقامية تشمل كائناته أحيانًا لا بوصفهم أعداءً وإنما كعناصر لسيطرته المطلقة .. كأدوات يستعملها في حرب الأقنعة حين تصبح حقائق للعالم.

"السذاجة" كذبة مثل "المكر" .. "الموبقات" كذبة مثل "الفضيلة" .. يمكنك أن تصدق الأكاذيب ولو ظاهريًا على الأقل .. أن تتصارع مع الآخرين مستخدمًا تلك الأكاذيب .. هل ستكتفي بذلك؟ .. ذلك هو السؤال الجوهري الفارق في لعبة تبادل الأدوار بين الإلهي والبشري .. بين السيد الخفي المزعوم والعبد المضلًل من السماء .. يصبح البشري إلهًا ـ مناقضًا للألوهة ـ كلما كشف عن الغياب في وجهٍ يدعي أصالته .. يصبح الإلهي بشريًا ـ ماسخًا للبشرية ـ كلما تجرّد من المعنى .. تلك سطور أخيرة من "مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور":   

"لا ينطوي تأمل "الساذج" ـ كما يُعرّف نفسه ـ لما يظن أنه فرد "حائز للنباهة" على تلهف لأن يصير مماثلًا له، وإنما يتفحص اللهفة ذاتها التي تسبق التأمل .. يحدّق في استفهاماتها المحتملة كما يليق بكائن تعطّلت "إرادته" أو بالأحرى اتخذت رداء العطالة، أمام التفكير في "الإرادة" .. هو ليس خاسرًا الآن على النحو الذي اعتاد عليه، وإنما يتساءل عن طبيعة ما يخسره .. لا يرجو الحصول على "الإدراك" الذي يتصوّر أن الآخر يتمتع به، بل يراوغ هذا الإدراك كي يراقب ما يطلق عليه "النضوج" في التعامل مع الواقع، وكذلك المعاناة الناجمة عن غيابه .. المراوغة التي لا تتعلّق بالإدراك فحسب، بل بتذويب ارتباطه بـ "الفكر الخالص" أو بـ "الأشياء في ذاتها"؛ فالنضوج ـ بالتضاد مع شوبنهاور ـ لن يستند إلى موضوع أو نموذج أصلي فيما وراء العالم".

   موقع "الكتابة" ـ 27 أغسطس 2021

برواز

لا تعطي الأمر أهمية أكثر مما يحتمل .. في الثالثة عصرًا حينما تستقبلك في بيتها بحسب الموعد المتفق عليه بينكما ستكتشف أنها تحتفل اليوم بعيد ميلادها الثاني والستين .. اعتبرها مصادفة سعيدة وليس تخطيطًا غامضًا منها .. كما تعرف من لقاءاتكما خلال الشهور الماضية على الماسنجر؛ هي مجرد امرأة مسالمة، تعيش وحدها، ولا تغادر منزلها إلا نادرًا، تعشق الاقتباسات الدينية، ولم تمعن الشيخوخة في التهام ملامحها .. أعتقد أن المعلومات التي أخبرتك بها عن حياتها - رغم قلتها - كانت خالية مما يمكن أن يثير شعورًا بالغرابة أو الارتياب .. صدقني هي لم تكذب عليك في حرف واحد من حكاياتها المقتضبة، وبالتالي فتقييمك لتلك الحياة بأنها عادية للغاية، وربما لدرجة الملل سيكون منطقيًا تمامًا .. ستجد بيتها مؤثثًا على طراز الثمانينيات مع تطفلات عصرية متفرقة بالإضافة إلى حشد من الصور القديمة لموتى عائلتها معلقة على الحوائط ومتراصة داخل أطر صغيرة فوق الرفوف الخشبية وأسطح الطاولات .. أعدك بأن تلك الصور لن تفسد ما جئت من أجله .. أما إذا طلبت منك بعد إطفاء الشمعة المنتصبة في منتصف التورتة التي أعدتها بنفسها، وقبل دخولكما السرير السماح لها بأن تعصب عينيها بشريط أسود فأرجو ألا تستسلم للفرضيات السادية المرتبطة بهذا النوع من الرغبات .. هي لن تطلب منك أكثر من ذلك وليس عليك سوى التحلي بالكرم المطلوب وتدعها تنفذ رغبتها .. أنت شاب في منتصف العشرينيات وربما لديك فرص أكبر لمقابلة امرأة تترك عينيها دون حجاب بينما تضاجعها .. أما بالنسبة لعجوز مثلها فقد تكون أنت فرصتها الأخيرة .. فكر في المسألة بتلك الطريقة وأظن أنك لن تمانع، فضلًا عن الاحتمال الذي قد يراودك بالحصول على متعة غير مسبوقة حين تنام مع امرأة معصوبة العينين .. أتصور أنك ستكون راضيًا بصورة كبيرة عن جسمها، في مقابل ذلك حاول بقدر ما تستطيع أن تتجاهل استجاباتها التي قد تبدو غير متوقعة وأنت بين فخذيها .. اطمئن، لن يفاجئك بأي شكل ضرر أو تهديد، فقط ستجدها وهي معصوبة العينين تتبادل الابتسام والضحك والبكاء على نحو خافت، كما ستتفوّه أثناء ذلك بتمتمات مختنقة، لا تخرب استمتاعك بمحاولة فهمها .. ضاجعها فحسب حتى تصل إلى نشوتك .. لكن بعد ذلك ـ وهنا أصل إلى نصيحتي الأهم ـ يُفضل أن تغادر سريعًا .. ربما لن يكون جيدًا أن تبقى بما يسمح لأن تنظر في عينيها بعدما تنزع الشريط الأسود من فوقهما .. ما ستراه قد لا تتمكن من نسيانه، حتى أنك ستوقن عندئذ أنه قد احتجزك داخل ذلك البيت للأبد .. غادر سريعًا قبل أن يُغلق على وجهك واحد من تلك البراويز التي مررت بينها.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 24 أغسطس 2021

الاثنين، 23 أغسطس 2021

الهواجس المتغيّرة للجمال

زميلة قمحية، تبدو بملامحها، وبتسريحة شعرها كالقطة الوديعة .. كانت تضع توّك، وفيونكات تزيد من اقتناعك بأنها قطة فعلاً .. كانت جميلة، وطيبة، ومؤدبة، وفي حالها على عكس الكثير من بنات الابتدائي وقتها، وكانت زميلاتها يحبونها .. كنت أشعر أنها مهتمة، ومتعلقة بي من بعيد لبعيد .. لا أنسى يا دكتور عندما أجريت عملية اللوّز، واللحمية في الصف الثاني، وتغيبت عن المدرسة أسبوعاً كاملاً .. أرسلت كراساتها، وكشاكيلها مع أمي معلمة اللغة العربية في نفس المدرسة كي أنقل منها الدروس التي فاتتني .. كراريسها كانت جميلة وأنيقة مثلها؛ ملونة، وملصوق عليها زهور، وعصافير، وأشجار، وحيوانات، ووجوه كارتونية .. لكن لم يكن هناك موضوع بيننا، ولم تتجاوز علاقتنا أبداً حدود الزمالة، والكلام العادي، القليل للغاية رغم إحساسي بأنها تحبني، وتكتم حبها مثلي .. لا أعرف يا دكتور لماذا كنت متأكداً أيامها من أن حبي لها أقل من حبها لي، رغم أنه لم يكن واضحاً ما يدل على ذلك سوى المعاملة الطيبة، والرقيقة .. تذكرت الآن أنها كانت تبكي مثل القطط أيضاً بدموع صغيرة، وبصوت خافت يشبه المواء المتقطّع .. كان بكاءها نادراً لأنها لم تكن تُضرب من المعلمات .. كانت متفوقة، ومهذبة، وتنظر لي دون أن انتبه.

الفتاة الثانية كانت بنت أخ، أو بنت أخت ـ لا أتذكر بالضبط ـ معلمة العربي التي كانت تدرّس لي في الفصل، والتي كنت أحبها، وأحترمها جداً .. كانت أصغر مني، ورغم أنها كانت ثقيلة، وباردة أحياناً، لكنني كنت أحب صحبتها بسبب هدوءها، ومسالمتها .. كانت جميلة، ورقيقة، وبيضاء، وصوتها غير مسموع، وشعرت أنني أحبها لدرجة الغيرة عليها من أحد تلاميذ فصلها .. كنا نمشي مع بعض كل يوم من المدرسة حتى بيتي الذي يبعد خطوات قليلة .. نتكلم، ونضحك، ثم نوّدع بعضنا .. عمرنا ما تكلّمنا بصراحة في الحب، وما إلى ذلك لكن كان كل منا معلقاّ بالآخر على قدر الصداقة، وبما لا يتجاوز الشعور المشترك بالبهجة من كلام أمي، وعمتها، أو خالتها بأننا سنكون لبعضنا حينما نكبر .. مشاعر، وحركات طفولية يا دكتور لكن ليس هناك ما يعادل جمالها .. ليس هناك ما يعوّض سحرها الذي انطفأ للأبد.

البنت الثالثة حكايتها حكاية يا دكتور .. باختصار كانت أجمل بنت رأيتها في حياتي .. حتى الآن لم أرى وجهاً ملائكياً يشبهها .. لكنها كانت عفريتة .. شقية، وخبيثة رغم صغر سنها، وضآلة جسمها، وضعف صوتها .. أحببت جمالها جداً، وكانت أصغر مني .. كنت أراقبها طوال الوقت، وأنتهز أي فرصة للتحدث معها في المدرسة، أو بجوارها حيث كانت تسكن في الحارة المجاورة لبيتي .. لا أتذكر كيف بدأت علاقتنا حيث كانت في صف أصغر مني، لكن بدأ ذهني في التأكد الآن من أنها بدأت في لفت انتباهي، والاقتراب مني، والتعلق بي ـ ربما بفعل صدف متوالية ـ إلى أن أصبحت مفتوناً بها .. لن أنسى يوم إحدى الحفلات المدرسية عندما جلسنا في جانب بعيداً عن الزحمة حتى نتكلم .. كانت قد وجّهت سباباً منذ لحظات قليلة لبنت أكبر مني، ومنها؛ فاشتكت لي تلك البنت من أن حبيبتي قليلة الأدب .. تحدثنا في الموضوع، وحبيبتي أصرّت على أنها ليست غلطانة فقلت لها فجأة ( أنا بحبك ) .. طلبت مني بإجرام أن أقول ( أنا حمار ) حتى تقول لي هي الأخرى أنها تحبني .. قلتها بعد تردد فردت عليّ بأنها لا يمكن أن تحب شخصاً ليست لديه شخصية .. حزنت جداً منها يا دكتور، ومن نفسي لأنني كنت أحبها للغاية، وحتى هذه اللحظة أحلم بها .. لازلت حتى الآن أستعيد مشهد وقوفها في طابور الفرن المواجه لبيتي، وضمها ليدها البيضاء الصغيرة، النحيلة في وضع ( البوكس ) إذا رأتني واقفاً في البلكونة، كي تُرسل لي لكمات مُداعِبة في الهواء، وهي تبتسم كوردة ضئيلة، لا يستحقها العالم .. أتذكر أنني رأيتها مرة واحدة فقط لما كبرنا .. كانت في كلية الآداب، ولا أتذكر كيف عرفت أنها دخلت قسم اللغة الفرنسية .. وجدتها أجمل مما كانت، وهي طفلة .. شيء وهم يا دكتور .. بجد لا يمكن أن تتخيل روعة عينيها، وملامحها، وشعرها .. الوحيدة من بنات ابتدائي التي قلت لأمي، وأختي أنني أحبها .. ضحكتا عليّ يا دكتور، وأنا تقريباً توقفت عن الكلام معها بعد ( أنا حمار ).

هؤلاء الثلاث فتيات لسن بالترتيب؛ لأن الطفل في ابتدائي بمقدوره أن يحب مائة بنت في وقت واحد .. ساعات مشاعره ناحية واحدة تعلو فيجد نفسه مركزاً معها دون أن يتخلى عن الباقيات، ثم تسيطر عليه أحاسيسه تجاه واحدة أخرى ـ لأسباب غير مستوعبة ـ فينقل تركيزه إليها، وهكذا .. كان الحب سهلاً، ولا تفسده عوائق، أما معاناته فتستطيع أن تأخذ، وتعطي معها، كما أن التعويض متوفر حولك بلا تعب، حتى وإن تأخر، أو توارى قليلاً.

بالنسبة للمعلّمات لا يخطر في ذهني الآن سوى واحدة كانت تُدرّس لنا المواد الاجتماعية .. كانت جميلة، وجسمها رائع، وكانت عصبية، وتضرب بغباء .. لديها بنتان أخذتا جمالها، وكانت مطلقة .. يمكنني الآن تفسير عصبيتها المبالغ فيها بالحرمان الجنسي الذي كان يُعذبها، لكنني للأسف لم أفكر في شهوتها، ولا في جسمها، ولم أتخيل حكايات، أو مواقف جنسية بيننا إلا في لحظات نادرة، وخاطفة جداً لدرجة أنني أشك الآن في حدوثها أصلاً .. جائز أن هذه التخيلات كانت مقتصرة على القبلات، والأحضان كما يليق بطفل في ابتدائي، واعتماداً على توجيهات التليفزيون .. لهذا يهمني يا دكتور أن أخبرك بأن جمال الوجه كان هو المستحوذ على كامل الاهتمام، والانشغال وقتها لدي مهما كان الجسم جباراّ .. كأن الجسم لم يكن موضوع الانجذاب حتى لو كنت أمتلك ماضياً في التعامل معه ..  ربما كانت الشهوة أيضاً تفرض تعتيماً بديهياً على الجسم وقت الرغبة في خلق صلة حسية مع البنت، أو المرأة.

هل كانت معجزات ما أسفل الرقبة تضيع من ذاكرتي بمجرد الانفصال عنها، ولا تعود إلا مع رجوعي لعجنها؟ .. هل من الممكن أن انتباهي للجسد كان يحتاج إلى إرشاد من صاحبته أولاً حتى لو ينتظر عودتي من المدرسة جسد آخر سيتعرى من أجلي داخل بلكونة مغلقة؟! .. حصار يا دكتور لا تدركه مطلقاً يحتّم على مشاعرك البقاء في حدود جمال العينين، والملامح، والشعر، وطريقة الكلام، والسكوت، والمشي، والضحك، والجلوس، خاصة لو أثبت كل هذا أن صاحبتهم ـ مثلما تردد الأغاني دائماً ـ قادمة من عالم آخر، وأنها ـ مثلما تردد الأغاني أيضاً ـ ليست بشراً مثلنا، وأنها تعيش وسط الملائكة ـ يخرب بيت أم الأغاني يا دكتور ـ إضافة بالطبع إلى الرقة، والنعومة، والمكياج البديع .. لا أعرف من أين أتيت بنموذج الجمال الذي كنت أقيس به، أو كيف تراكمت، وتناسقت المواصفات التي كانت تُطيّر عقلي حين أراها في امرأة، أو شابة، أو طفلة .. دعني أقول لك يا دكتور أن الجمال الذي أقصده قد يكون مرتبطاً بعينيّ كطفل، وتم تثبيت معاييره بآلية وفقاً لكتالوجات التليفزيون، والسينما، والصحافة وقتها، وهو ـ للعلم ـ لم يكن متوفراً في أي من فتيات، أو نساء عائلتي كلياً ..  الذي تغيّر عندما كبرت هو أنا، في حين ظل الجمال كما هو .. لكن هل الجمال نفسه اختلف أيضاً يا دكتور، وما كنت أراه لم يعد موجوداً، أم أن مرحلة التعلّق بالوجه قد انتهت تدريجياً، وبصورة منطقية للغاية، ولم يعد لجماله دور سوى تعزيز، أو تعويض نتائج التركيز على الجسد؟ .. هل هناك عوامل تتحكم في تشكيل الجمال ساهمت بقوة في اندثار ما لازلت أعتبرها أيقونات خاصة مع بداية التسعينيات؟ .. التحقيب مخادع، ومضلل، وسادي .. أعرف يا دكتور .. أعرف أيضاً أنني أحدد الحقب الزمنية وفقاً لمراحل حياتي أنا أكثر مما أحددها وفقاً للتاريخ .. لماذا لا تعتبر أنني استغلها فقط كمجرد لغة أعبّر لحضرتك من خلالها عن مدى الخيانة التي أعيش فيها؟ .. لم يتبق من تلك الأيقونات سوى أشباح، ومسوخ .. إنسى عينيّ كطفل الآن يا دكتور، وحاول استرجاع الشوارع، وإعادة تأمل الصور الفوتوغرافية، ومراجعة الأفلام، والمسلسلات، والأغاني، والإعلانات التليفزيونية، وشرائط حفلات الزفاف .. لكن في نفس الوقت لماذا لا يندرج تفكيري هذا في نطاق الحماية العادية بمعيار يُفاضل، ويُفرز للفصل بين الجمال، والقبح وفقاً لذوق شخصي شكّلته سنوات الماضي؟ .. أياً يكن السبب سواء نابعاً من النمو الفردي، أو من تبدّل العالم نفسه فإن لي الحق في الحسرة .. أحياناً يلح عليّ الموضوع جداً يا دكتور تحت تأثير ذكرى، أو مشهد، أو حدث؛ فأبحث على الانترنت عن أحد تكلّم، أو كتب عن ما عشته في الثمانينيات، ليرسم ـ بواسطة التناقض، والتعدد، والتشابك ـ إشارات ـ غير حاكمة ـ لمقاييس جمال كنت ـ ولازلت ـ أراها متجاوزة طبقياً ـ مهما كانت الإغراءات التي تريد إجباري على الاقتناع بأن تلك نظرة بديهية لابن الطبقة الوسطى .. عندي من الدلائل في المدرسة، والحي الذي كنت أسكنه، ومن البيوت، والشوارع، وكل الأماكن الأخرى ما يؤكد تصوراتي، أو على الأقل يمنع استبعادها .. أي شخص في أي زمن، وفي أي مكان يمكنه ـ وسيكون صادقاً طبعاً ـ أن يشرح لك يا دكتور كيف كانت هناك مخلوقات نورانية بحق تعيش على الأرض في طفولته، وأنها صعدت إلى السماء، وتركت خراباً ثقيلاً، معذِباً حينما كبر .. عندك مثلاً؛ منذ بداية صناعة السينما، وأفلام كل مرحلة تتحدث عن الانحطاط، وضياع القيم، وفساد الأخلاق في زمنها بعكس الأزمان المثالية الفائتة .. رثاء كوميدي، متواصل لعالم لم يعشه أحد .. يمكن لأي شخص أن يتكلم أمامك حتى يموت أحدكما أولاً عن التأثيرات الاجتماعية، والثقافية التي تتحكم في ( الانهيار ) .. لماذا يُفرض على الواحد إذن أن يتناول الأمر بصيغة أفضل، وأسوأ؟! .. لا شيء يا دكتور اسمه الجمال الثمانيني الأعلى مكانة من الجمال التسعيني، وربما الأقل مرتبة من الجمال السبعيني، وهكذا .. تحدث كطفل عن نفسك، وهذا ما أفعله الآن .. عن حياتك دون تعميم، ودون تشييد سياقات، أو تعيين أنساق .. كنت أنظر إلى البنت الجميلة في طفولتي كأنني أنظر إلى سحابة ملونة .. نسيم غافل .. برودة معطرة .. حينما تقع نظرتي الآن فجأة يا دكتور على طفلة، أو بنت، أو امرأة دون أن استقبل جمالها بشبقٍ مباشر، وإنما أراها أنثى نادرة من جميلات الثمانينيات المنقرضات حتى لو يمشي حولها كثيرات أجمل، وأسخن منها .. لماذا هي تحديداً يا دكتور؟! .. هل لأنها تطابق النموذج المستقر في طفولتي الذي لا ينفع شرح مواصفاته؟ .. لو استطعت شرحها لربما وجدتها تماثل معايير جمال أخرى، أو تطابق ما يعتبره آخرون مقاييس جمال عامة، ولهذا فهي لا تكتسب أي قداسة أكثر من كونها تنتمي لي فحسب .. هل لأنها صنعت لحظة حنين مبهمة، غير متوقعة، أحالتني لفتاة أخرى من الماضي لا أتذكرها؟ .. الجمال هواجس متغيرة يا دكتور؛ قد تضطرك أحياناً لتصديقها كيقينيات ثابتة حتى تحصل على أدوات مناسبة لهدم أوهامها، ومبالغاتها .. عيناك اللتان يلتهم الوعي المتزايد طفولتهما .. الوجود المستقل لجمال أنثوي مرهون بتاريخك الخاص، الذي يحكمك الميل أحياناً لإلصاقه بزمن محدد كي تعيد خلقه كحالة عامة تختزل فيها كل ما هو خارجه، ولم يعد له وجود في حياتك الآن .. الجمال الذي ينبغي أن يموت في داخلك عند نقطة زمنية معينة حتى تفرح بالجروح الغائرة لافتقاده .. الانتهاز التلقائي لأي أثر محفّز، أو الاستجابة المتوسلة لأي رائحة عابرة من الأيام القديمة .. محاولة فهم الرتوش، والتحسينات القشرية، والمعالجات السطحية ـ أو الجذرية ـ من حقبة لأخرى لجمال يظل على حاله، ولا ينتهي .. الامتزاج غير المنضبط بين هذا، وذاك .. لا وجود لشيء اسمه الجمال يا دكتور.

من رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” ـ دار الحضارة 2014

الاثنين، 16 أغسطس 2021

الخطيئة الأولى

قابلت أمي في السوق .. كنا ظهرًا وكانت تمسك بيد طفل صغير، في عُمر السادسة تقريبًا .. لم أسألها عنه بالرغم من كونه مجهولًا بالنسبة لي .. كان منطقيًا أن تمسك بيد طفل صغير بينما تشتري احتياجاتها وأن يرجع معها إلى البيت .. كنت عائدًا أنا الآخر إلى البيت فمشيت برفقتهما، لكنني لسبب غامض عجزت عن السير بجوارهما فظللت خلفهما في الطريق المزدحم .. فكرت وأنا أنظر إليهما: أي شيء كانت تطيعه أمي حين أمسكت بيد هذا الطفل؟ .. إلى أي مدى سيستمر الطفل في طاعته لتلك اللحظة؟ .. فجأة لم أجدهما .. اختفت أمي والطفل من أمامي فأسرعت في المشي للحاق بهما لكنني لم أعثر عليهما .. وقفت أتلفت حولي ثم بدأت أروح وأجيء داخل المسافة التي قطعتها خطواتنا باحثًا عنهما ومتنقلًا بين دكاكينها حتى الموجودة في الشوارع الجانبية مفترضًا أن أمي ربما توقفت لشراء شيء ما .. لم يكن هناك أثر لهما .. تساءلت في نفسي: هل سبقتني أمي والطفل الذي في يدها ووصلا إلى البيت دون أن أنتبه بالرغم من أن خطوة واحدة فقط كانت تفصلني عنهما؟ .. توجهت إلى البيت على الفور .. ظللت أطرق الباب طويلًا دون استجابة .. لم يكن هناك مفر من المغادرة .. لكنني أثناء نزول السلالم شعرت بتغيرات عدائية تتلاحق في جسدي: يتكاثر الشيب، وتثقل التجاعيد، وتضعف حركتي، حتى الصوت الذي كنت أخاطب به نفسي كان يزداد وهنًا .. خرجت من البيت ثم رفعت رأسي لأعلى .. كانت الشرفة مغلقة ويكسوها غبار كثيف .. ذهبت إلى المكان الذي قابلت فيه أمي والطفل داخل السوق .. ما إن وصلت إليه حتى استلقيت فوق أرضه وأغمضت عيني .. كأني نائم فوق سريري .. راحت المساحة الأسفلتية التي أتمدد فوقها تغوص بي تدريجيًا، ورغم إغماض عيني رأيت الأرض من حولها تتمدد لتغلق الحفرة التي أختفي داخلها بينما يواصل العابرون سيرهم دون توقف.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 15 أغسطس 2021

اللوحة: Maximilien Luce

الخميس، 12 أغسطس 2021

سيرة الاختباء (29)

لماذا لم يقتصر الثأر الذي كنت أستثمر قصصي لتمريره من أصدقائي الكتّاب والفنانين على الهوس الكوميدي المتواصل بفرض الهيبة الماكرة وامتد نحو ما يعتبره الآخرون موبقات أو رذائل؟ .. يتعلق الأمر برغبتي العفوية في إيذائهم بصورة أعنف .. أن أضعهم أمام النظرة الاحتقارية لمن يعرفون حكاياتهم كعقاب أشد ضراوة على النظرة المهينة التي كانوا يرمقون بها من يصنفونه ككائن ساذج .. يتعلق الأمر بالكرامة: إذا كان الإلحاح المربك على الاندماج الاستقصائي في مجموعة "مثقفين" مبررًا لانتهاك تلك الكرامة بالنسبة لكم، فحيواتكم الشخصية متخمة بمبررات تمزيق كرامتكم بالنسبة لبشر ٱخرين .. لكن هذا ليس كل شيء .. كانت المسألة تنطوي أيضًا على انتقام من عدم امتلاكي لأجساد النساء التي تعبر أسراركم .. كل النساء سواء كن ضمن الأطر الرسمية أو خارجها .. كانت قصصي تفعل ذلك بينما تحاول تصفية حساباتها مع الألم الغيبي.

لم تكن الحياة التي كنت أعيشها مع زملائي في قصر ثقافة الطفل مثالية، ولكن كان الوعي بالشر كمغامر صغير في نهاية الثمانينيات وسط مجموعة من الأقران المستكشفين لغموض العالم داخل مكتبة القصر أو في حجرة السطح بمنزل أحدنا أو فوق السور العلوي العريض للمنحدر الأسفلتي المطل على النيل؛ كان الوعي بالشر أقل حدة من ذلك الأرق المُهلك لدى الجالس في المقاهي بين كتّاب وفناني المدينة في نهاية التسعينيات وبداية الألفية .. كذلك تجربة الصداقة الأدبية في دراما الثمانينيات داخل المقاهي الشعبية القديمة وحجرات المكاتب وصالونات البيوت لم تكن ذات حميمية منقذة .. لكنني كنت أراها كذلك .. كنت أفكر فيها بتلك الطريقة كوعد يمتلك بوادر أو إشارات حضوره .. الوعد الذي دائمًا كنت أجابهه كلما أعطى احتمالًا بأنه على وشك التنفيذ، وذلك تحديدًا كان الدليل الأقوى على أن الطفولية قناع من ضمن الأقنعة التي ألصقها الآخرون بوجهي .. الأسرة والمعلمون والغرباء الكبار .. لو كانت الطفولية وجهًا أصليًا لما كان هناك سوى تصديق الوعود فقط .. لما كنت قد كتبت تلك القصص القصيرة التي تنتهك أقنعة الآخرين .. كنت أغادر هازئًا مسرح أحداث كل وعد كلما أبدى إيحاءً بأنه سيحقق الرجاء المطلوب، وقابضًا في نفس الوقت على غنائم تشريح زيفه .. لم يكن هناك شيء بوسعه أن يجعلك تمتلك الدنيا وما ورائها، وكان يجب أن تدرك ذلك بواسطة فرديتك التي تخترق الجماعات المتباينة وتتقمص أحلامها وتتجاوز حدودها بسخرية غريزية كأنما تُخضع العالم بشكل مضاد.

   موقع "الكتابة" ـ 12 أغسطس 2021

الأحد، 8 أغسطس 2021

همساتكم العارية حول قبري

ابن الحرام الذي هانت عليه العِشرة

وغادر حيواتكم فجأة ودون تفسير

يجلس وحده كل ليلة          

يستعيد أقنعتكم الشفافة

ويضحك ساخرًا من غفلتها.

لم تدركوا أنه كان رحيمًا بكم

بقدر ما كان رحيمًا بنفسه

حين قطع خيوط المودة

وأعطاكم فرصة

لن تحسنوا استغلالها بالطبع

للاعتراف بها كمشانق متنكرة على نحو سيء.

كان يجب أن تكون مشنقة واحدة بحجم العالم

يتدلى منها رأس القاتل المختبئ

الذي أجبرنا على تسمية الشر

بالخير والشر.

مشانق أبدية

رغم التمزق

ستعود للتلاحم ثانية

في همساتكم العارية

حول قبري.

سيرة الاختباء (28)

كان يمكن لعمرنا القصير الذي توزع بين نادي الأدب بقصر ثقافة المنصورة والندوة الأدبية الأسبوعية بحزب التجمع ومقهى الفراعنة ومقهى اللبن وفندق مارشال المحطة أن يكون ذا مزاج رائق ولكنكم للأسف لم تجعلوه كذلك .. لم يكن من الممكن أن أفكر ـ إلا نادرًا ـ في توجيه إهانة أو مجرد تلميح جارح يتعلق بحيواتكم الخاصة، حتى مع محاولات فرض الهيبة الماكرة (المضحكة دائمًا) أو السخرية من الارتباك الشخصي المقترن بالتنازلات المهلكة التي قُدمت لإشباع الرغبة في اكتشاف ما يُسمى بـ "الصداقات الأدبية"؛ حتى مع ذلك لم يكن الأمر ممكنًا.

كل ما فعلته أنني كتبت قصصًا قصيرة عن شاعر قصيدة النثر وزوجته وعن الفنان التشكيلي وممثل المسرح وصاحب متجر الكتب على سبيل المثال .. لم أكتبها كانتقام أخلاقي بالطبع؛ فالهازئ بالآثام لن يستهدف أحدًا بها، ولكنها كانت تمرر لبصائركم الخربة معادلة تهكمية بسيطة: إذا كان هناك أشخاص جديرين بالأذى لأن بعض البشر (مثلكم) يرونهم أطفالًا غافلين؛ فإن هناك أشخاصًا آخرين جديرين بالأذى أيضًا لأن بعضًا آخر من البشر (غيري) يرونهم قوادين ولبوات.

"كان أيضا يريد أن يتصرف مع صديقيه الآخرين وفقا لهذه الحكاية .. لم يكن يريد أن يجرح أو يؤذي أحدا وللعلم هو صادق جدا في هذا .. كان فقط يريد أن يستخدم حكاية الصديقين والزوجة في تثبيت مصباح أحمر داخل روح كل من صديقيه بحيث يضيء فورا حين يفكر أي منهما في خدش كرامته .. كان يريد أن يخبرهما بشكل غير مباشر أنه يعرف الحكاية أو يلمّح لهما مجرد تلميح بالأمر وأن عليهما إذن أن يحرصا تماما على عدم استفزازه حتى لا يتكلم بصراحة مطلقة أمامهما وأمام الجميع .. الصديق الثالث فشل ببراعة وكالعادة في أن يحقق هذا ولم يتمكن من إحداث أي تغيير في علاقته بصديقيه .. كالعادة أيضا ظل يرجع كل ليلة من المقهى إلى بيته سعيدا وهو يردد بدخله: أنا أعرف الحكايات .. أنا أعرف الحكايات .. أنا أعرف ..."...

قصة "أفراح العين الزجاجية المحتقنة" ـ مجموعة "قبل القيامة بقليل".

كانت استجاباتي تستثمر تلك القصص ـ التي كانت ستُكتب في جميع الأحوال ـ لتمرير ثأر بديهي مما يمثله حضوركم في العالم وليس مما كنتم عليه في الواقع .. تصفية حساب مع الغيب تتضمن تذكيرًا ـ كعاهة مستديمة ـ بأنني أعرف أسراركم، وتوثيقًا ساخرًا لتلك الفصول المسلية من تواريخكم يتضمن إشارات دالة على شخصياتكم لمن أراد أن يتعرّف على (أبطال) تلك الحكايات .. كانت قصص يتجاوز جوهرها الانتقام الشخصي إلى محاكمة المشيئة الخالقة والضامنة للألم الذي يمكن أن يصيب أحدًا ما لمجرد أنه يتلعثم أحيانًا أو لا ينتبه إلى تعليق لئيم أو يتعامى عن ابتسامات وإيماءات لاذعة .. الألم الذي يمكن أن يصيبه من أحد الشعراء (المناضلين) كان يجلس معه في المقهى بينما زوجة ذلك الشاعر تنام مع صديقه (المبدع) في تلك اللحظة أو فنان تشكيلي يحمل سرًا كارنيه عضوية الحزب الوطني أو يضاجع القاصرات من طالباته أو "ناشط ثقافي" يستعمل مقر عمله في استضافة حفلات الجنس الجماعي مثلًا .. كانت تلك حقائق وجودكم المتداولة لدى أقرانكم محل الثقة، وعلى النحو ذاته الذي جعلكم تتعاملون مع الأقنعة (الطفولية) التي ألصقها الآخرون بوجهي كحقائق أيضًا.

" كنت أظن أنني سأقدر على امتلاك المدينة بعد اختفاء الكتّاب والفنانين الذين كنت أجلس بجانبهم في مقهى "الحرية" .. بعد غياب القوادين، ولصوص الكتابة، والكاذبين، والواشين، والمدعين، والأنذال، وخدّام الاستعراضات الساذجة .. الذين لم تتوقف أرواحهم الوضيعة عن فضح العورات المبهرة التي كانوا يحاولون إخفائها وراء أقنعة المعرفة والهيبة والخبث المثير للشفقة".

نوفيلا "جرثومة بو".

كان يمكن لعمرنا القصير أن يساعدني على الاختباء بذكريات أقل سخافة .. أن تكونوا امتدادًا ـ ولو بصورة محدودة ـ للحياة التي كنت أعيشها مع زملائي في قصر ثقافة الطفل: جماعة صغيرة من المغامرين يستكشفون غموض العالم من داخل فضاء ضئيل، حميمي ومقفل .. كان يمكن أن نتشارك في تجربة الصداقة الأدبية كما كانت تتجسد في دراما الثمانينيات داخل المقاهي الشعبية القديمة وحجرات المكاتب وصالونات البيوت المنطوية على الشغف والسكينة والتشوّق النقي لامتلاك الدنيا وما ورائها, لكنكم للأسف أهدرتم تلك الفرصة.

"كنت أريد أن نضحك ونتكاتف في تشريح العالم كشلة مغامرين يشبهون أبطال السلاسل البوليسية القديمة، حيث عشت دائمًا أنتظر من يشاركونني تحقيق هذا الرجاء، ولكنكم كنتم تجبرونني طوال الوقت على التعامل معكم كعبيد، مُقدِمًا المسايرة والتغاضي والكبح المتعشّم للكراهية حتى أحصل على الثمن بتقديسكم لي".

نوفيلا "جرثومة بو".

   موقع "الكتابة" ـ 4 أغسطس 2021