الخميس، 28 فبراير 2019

معجزة غير متوقعة أو سوء حظ مستبعد

منذ طفولتي بدأ يسيطر تدريجيًا على نفسي هذا اليقين الذي أفسد عمري كله بأن الحياة تنقسم إلى عالمين أخذ كل منهما مكان الآخر على نحو كارثي وغير مفهوم؛ فما كان يجب أن أعيشه حقًا هي تلك الدنيا التي توجد في القصص المصورة وأفلام الكارتون والحكايات الخيالية، أما الواقع الذي أسكنه برفقة عائلتي وجيراني وزملائي في المدرسة والكائنات كافة هو ما كان يجب أن أقرأه وأشاهده عبر الوسائط التقليدية المحدودة، فقط من أجل الاستمتاع بالشر كخرافة لن تتجسّد في حياتي إلا بمعجزة غير متوقعة أو سوء حظ مستبعد .. كحماية شكلية لهذه الحياة من أن تتسلل إليها جرثومة ذلك الظلام الذي أصبح خيالًا محضًا .. اليقين الذي وقف راسخًا وصلبًا ضد قبولي للواقع تحت أي مستوى .. الذي حتّم عليّ رفض الاستمتاع بالدنيا كما يبدو أن هذا ما يقوم به الآخرون أحيانًا، حتى وأنا أمارس نفس الأداءات والطقوس، بل وبينما أشعر فعلًا بمتعتها .. الذي قدّر لي عدم الانخراط والتوغل والإقدام على مساراتها وعلاقاتها إلا مجبرًا وراضخًا ومتذمرًا، وبالطبع كخائف يقتله اليأس الذي سبق لحظته الأولى في الكابوس .. لكن جوهر الألم ربما يكمن في أنني لست يائسًا كاملًا .. بوضوح اعترافي مازلت متفائلًا لأقصى درجة رغمًا عني، وكل ما أظهره من علامات ثابتة ومؤكدة لليأس لا ترجع في الحقيقة إلا لقلة الحيلة أو الكسل الناقم .. مازلت خاضعًا للانتظار المعذِب أن يسترد كل من العالمين مكانه الأصلي، متمسكًا ببقائي مسجونًا داخل العتبات الضبابية كما اعتدت أن أسمي وجودي طوال الأربعين سنة الماضية .. الحواف المائعة التي أغادرها معميًا خطوة إثر أخرى نحو العتمة الأخيرة.
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة.
اللوحة لـ "كارل شبيتزوغ". 

الجمعة، 15 فبراير 2019

أن تتناول الغرابة كحقيقة عادية

لنقرأ قصة "وبر الكلب" لليديا ديفيس، بترجمة أماني لازار:
"مات الكلب. نحن نفتقده. عندما يرنّ جرس الباب، ما من أحد ينبح. عندما نصل إلى البيت متأخرين، ليس هناك من أحد في انتظارنا. لا نزال نجد وَبَره الأبيض هنا وهناك في أرجاء المنزل، وعلى ثيابنا. نلتقطه. علينا أن نتخلَّص منه. لكنه كل ما بقي لنا منه. نحن لم نرمِه. لدينا أمل جامح؛ أنه إذا ما جمعنا قَدْراً كافياً منه، سنكون قادرين على استعادة الكلب من جديد".
ماذا لو قرأنا هذه القصة هكذا:
"مات الكلب. عندما يرّن جرس الباب، ما من أحد ينبح. عندما نصل إلى البيت متأخرين، ليس هناك من أحد في انتظارنا. لا نزال نجد وبره الأبيض هنا وهناك في أرجاء المنزل، وعلى ثيابنا. نحن لم نرمِه، لأنه إذا ما جمعنا قدرًا كافيًا منه، سنكون قادرين على استعادة الكلب من جديد".
كل ما فعلته أنني حذفت: "نحن نفتقده ـ نلتقطه ـ علينا أن نتخلص منه ـ لكنه كل ما بقي لنا منه ـ لدينا أمل جامح"، بالإضافة إلى تعديل العبارة الأخيرة بما يتناسب مع هذا الحذف "لأنه إذا ما جمعنا قدًرا كافيًا منه، سنكون قادرين على استعادة الكلب من جديد".
ما الفرق بين القصتين؟
في قصة ليديا ديفيس هناك شعور مكشوف بالافتقاد .. استيعاب لمنطق التخلص من وبر الكلب، وأن تجميع هذا الوبر هو فعل معادٍ لهذا المنطق .. هناك وعي بأن استعادة الكلب بواسطة تجميع الوبر تُمثّل رجاءًا غير معقول، وبالضرورة ينطوي على استحالة تحققه، ومع هذا لابد من التمسّك به.
في القصة الثانية ليس هناك إعلان للافتقاد، ذلك لأن الذين فقدوا كلبهم يعرفون جيدًا ما عليهم فعله .. سيجمعون الوبر الذي سيمكّنهم حتمًا من استعادة الكلب ثانية.
إنه الفرق بين إخضاع العاطفة للتعبير التقليدي، الذي يتأمل هواجسه الخارجة عن المألوف باعتبارها جنونًا قهريًا عند الاستجابة لإلحاحها، وبين التعامل مع هذا الجنون باعتباره أمرًا بديهيًا لا يحتمل صوابه الشك .. هنا لا يتم التعامل مع الموت كشيء محسوم، بل حالة مؤقتة، ليس هناك مبرر لتصديق أبديتها؛ إذ أن ثمة وسيلة مؤكدة لإنهاء هذا الحضور العابر للغياب .. هكذا لا يتحدث الآخرون عن الفقد ـ حيث الذات البشرية التي تريد استرداد حياة أخرى لها من الموت بواسطة وبر الكلب ـ بل إن الفقد نفسه هو الذي يتحدث عن فداحته من خلال أولئك الذين لا يمكنهم الاعتراف به.
تعامل مع الغرابة كطبيعة عفوية، لا تحتاج لتقديم أسبابها .. كنظام خاص من المسلّمات الواثقة في صحة دوافعها ونتائجها .. هكذا تتحوّل الأفكار والمشاعر المعهودة من جروح ذاتية، تجمح أحيانًا إلى كوابيس مطلقة، تنتهك نفسها.

الخميس، 14 فبراير 2019

جرثومة بو

خطوات

بعد موته في حادث؛ وزّعت زوجته أحذيته الكثيرة على غرباء كانوا في احتياج إليها .. لكن حينما ارتدى كل منهم حذاءً وجد قدميه تتحركان إلى أماكن لم يذهب إليها من قبل .. هناك من توجّه به حذاء الميت إلى شوارع يخطو فيها للمرة الأولى، وهناك من دخل مقهى لم يسبق أن جلس فيه أبدًا، كما أن هناك من قاده حذاء آخر إلى إحدى الحدائق التي لم يقصدها مطلقًا في الماضي .. لم يقتصر الأمر على التحرّك العفوي في مسارات جديدة، وإنما كان الوجود في هذه الأماكن مقترنًا بحدث غامض، وشعور غير معهود أيضًا؛ فأحد الذين تحرك به حذاء الميت إلى شارع ما توقف فجأة أمام بيت قديم مهجور، ووجد رأسه يرتفع كي تتطلع عيناه إلى شرفته المتهدمة لفترة طويلة، كأنه ينتظر ظهور أحد سكانه الذين ما عاد لهم وجود داخله، ثم أحس هذا الشخص بمرارة لم يفهمها مع انخفاض رأسه وعودته للمشي مغادرًا الشارع .. أحدهم أيضًا اكتشف وهو داخل المقهى الذي لم يسيق أن جلس فيه أبدًا أن أذنيه تستمعان إلى أصوات عدة كأنها تخاطبه وتضحك معه دون أن يستوعبها، كأنها تنتمي إلى أشخاص غير مرئيين لا يشاركونه الطاولة فحسب، وإنما ذكريات مجهولة أيضًا، حتى أنه عندما أراد أن يدفع ثمن كوب الشاي الذي تناوله قبل ترك المقهى؛ شعر بضرورة مبهمة أن يعطي نقودًا أكثر للقهوجي قيمة ما تناوله أولئك الذين لم يستطع رؤيتهم، وكانوا يكلمونه ويضحكون معه .. أما الذي ذهب به حذاء الميت إلى إحدى الحدائق فقد وجد نفسه يجلس فوق أريكة بجوار سياج من النباتات العالية التي تفصل الحديقة عن النهر، ثم تفاجأ بعينيه تتمعنان في امرأة جميلة تجلس وحدها فوق أريكة أخرى على الجانب المقابل له .. لم يكن يعرف هذه المرأة، ولكنه لم يقدر على إزاحة بصره عن نظرتها المهمومة، وملامحها المنكسرة، كما لم يكن بوسعه تضليل إحساسه المباغت بالرغبة الجارفة في التحدث معها، قبل أن يحسم الخوف ارتباكه الحاد، ويدفعه للوقوف والخروج من الحديقة، وهو يفكر بيقين ملتبس في أن ما فعله الآن سبق أن تكرر كثيرًا من قبل في نفس المكان ومع نفس المرأة .. لكن حينما أوشك هذا الرجل على اجتياز الشارع  توقف فجأة .. لم تكن هناك سيارات تعبر أمامه بل كان الطريق خاليًا تمامًا، ومع ذلك تسمّرت قدماه، أو بالأحرى قبض الحذاء على قدميه فمنعه تمامًا من التقدم رغم رغبته في التحرّك إلى الجانب الآخر .. رأى سيارة تمرق فجأة من شارع جانبي لتخترق الطريق بسرعة طائشة ثم تختفي في لمح البصر .. شعر بقدميه تتحرران من القيد المحكم للحذاء فأصبح قادرًا على عبور الشارع.
صحيفة "المثقف" العراقية ـ 8 فبراير 2019

السبت، 9 فبراير 2019

قطع الزجاج الضئيلة

منذ أن سمع فجأة هذا الصوت الرهيب الذي يشبه ارتطام لوح زجاجي هائل سقط من السماء بأرض غاية في الصلابة، ومنذ أن تأكد أن هذا الصوت قد انبعث داخل جسده، ولم يسمعه أحد آخر؛ تحوّلت الكلمات التي ينطقها كافة إلى شظايا زجاجية متناهية الصغر .. يطلب من زوجته أن تصمت قليلًا فتتناثر قطع الزجاج الضئيلة بعدد الحروف التي كانت ستتضمنها عبارته المعتادة في هذه اللحظة .. يقرأ لطفلته قصة "سنووايت والأقزام السبعة" .. يسرد لشقيقته العجوز التي تعيش بمفردها حادثة قتل واغتصاب جديدة قرأها كي يستمتع بذهولها الخائف .. يشرح لصاحبه على المقهى لماذا يتمنى لو عاد به الزمن عشرين سنة محتفظًا بمعرفة المصير الذي انتهت إليه حياته بعد تجاوز الأربعين .. يسأل سائق التاكسي ذا الملامح الشائخة إن كان يمتلك صورًا فوتوغرافية قديمة لشوارع المدينة .. يتحدث في ندوة أدبية عن العوامل الطفولية التي أثّرت في كتابته للقصة القصيرة .. لا تتوقف الشظايا الزجاجية عن التدفق من فمه.
كان صوت الارتطام مفاجئًا، ولكنه لم يزرع صدمة .. حتى الدهشة التي رافقت بداية التدافع لقطع الزجاج الضئيلة من بين شفتيه كانت بسيطة ومؤقتة، خاصة بعدما انتبه إلى عدم الشعور بألم، أو إنهاك، أو بجرح ما قد نشأ عن هذا الانهمار المسنون، وفي المقابل لم يسبب غياب الكلمات متاعب للآخرين أكثر من احتياجهم الدائم لترك مساحة حذر صغيرة بين أجسادهم وفمه حين يتكلم .. كان الجميع يستوعب ما يود أن يقوله عبر هذه الشظايا الزجاجية، بنفس الآلية المعهودة للإدراك، كأنما ليس هناك فرق أن يتكلم بلغة أو بأخرى .. على نحو ما كان يجب أن يكون هذا مُريحًا، ولكنه للأسف لم يكن كذلك؛ فالعبء الأفظع الذي لم يكن هناك طريقة لتجنّبه هو ضرورة أن يتخلص بنفسه من قطع الزجاج الضئيلة الناجمة عن حديثه، والتي كان يرفض الجميع مساعدته في لمّها، ثم إلقائها في أكياس القمامة .. كان يتعيّن أن يفعل هذا بيديه، لأنها شظاياه وحده، وبالضرورة لزم عليه دائمًا أن يزيحها من المسافات التي تفصله عن الآخرين .. أصبح يحمل معه طوال الوقت حقيبة كبيرة تحوي فرشاة وجاروفًا وأكياسًا سوداء كأنها أدوات لمهنة يعيش منها، ورغم أنه لم يكن يتحدث كثيرًا أصلًا إلا أنه قرر تقليل لحظات كلامه، مقررًا أن ما حدث يمكن اعتباره دافعًا قويًا للوصول إلى ما كان يتمناه منذ زمن طويل أي الخرس التام.
منصَّة (Rê) الثقافيَّة ـ 8 فبراير 2019
اللوحة: محسن البلاسي.

الأربعاء، 6 فبراير 2019

داخل ذلك الكتمان

صديقي العزيز:
في قصتك القصيرة "الذين نفذوا التعليمات بدقة" كان الكتمان وصفاً للمستنقع الموحل والمعتم ذي الهواء الخشبيّ الخانق الذي كان مصيراً لأولئك (الذين نفذوا التعليمات بدقة)؛ "ظلوا يتلفتون حولهم داخل ذلك الكتمان حيث كل ذرة فراغ تسحق الأخرى، والمشهد بأكمله آخذ في الاختفاء ببطء شديد".
الاختناق الكامل حتى يصير الكتمان مكاناً لعذاب آخذ في الازدياد والعمق.
ربما قفز إلى وعي الكثير ممن قرأ تلك القصة (كِتمانه) الخاص، ربما فكّر الكثيرون أيضاً بمعنى أبعد يشمل الحياة والوجود المكلف مقابل عَدَم يحلّ الألم مكانه إلى ما لانهاية.
صديقي:
بتواطؤ مع أكثر ما كتبه الآخرون عن مجموعتي، كان عليّ التسليم ولو لبعض الوقت وأمام قرّائي على الفيسبوك غالباً، أن الموت هو الخلفية الثابتة التي كتبت مجموعتي الأخيرة أمامها، ربما وتبعاً لذلك يُفترضُ أن أسلّم أن الحياة بكل كثافتها ودهشتها ومشاعرها وأصواتها وفراغاتها وانهماراتها المستمرّة ليست إلاّ جزءاً من فراغ كليّ وهائل اسمه الموت.
ولكن الحقيقة هي خلاف ذلك، لقد أرسلت كتابي إلى دار النشر قبل وفاة ابراهيم، لم يكن وقتها في ذروة المرض، وكان الكتاب معداً  للنشرقبل وفاته بعدة شهور، كان يحبّ ما أكتب وقرأ الكثير من قصائد المجموعة، وفي إحدى المرات رفع عينيه الصافيتين إليّ وقال بتأكيد وثقة: هذا الكتاب لي، أريد أن تهديه لي.
حدث يا صديقي أنّ الكتاب صدر بعد وفاة ابراهيم، وحدث أن أخبار صدوره التي عملت دار النشر على إعدادها وتوزيعها، ربطت قصائد الديوان بفقد ابراهيم، بمعنى أنّ قصائد الديوان كانت تعبيراً متواصلاً عن الحالة الهائلة للحزن والفقد، فقدي لزوجي، مخاطبته والانغماس الكلّي في رثائه واستعادته ولو بالشعر، وفيما بعد تبنّت معظم المراجعات النقدية للديوان القصة ذاتها؛
لماذا أحبّوا هذه الفكرة؟ هل كانوا يضيفون مزايا وبلاغة لم تكن لتُحس أو تُرى إلاّ إذا اقترنت بآلام الفقدان؟
ليتهم لم يحملوني هذا الثقل، أن أكون في كلّ مرة في مواجهة مخجلةً داخل نفسي مع حقيقة أنني أقل من أن أكتب عن زوجي الذي فقدته، أقلّ من أحزان الموت وخذلانه لارتباطات الحياة والحب.
وفي مقابل ذلك ودون إرادة مني وبما يشبه الإكراه على إخلاص ومثالية قسرية، أجد نفسي مجبرة على التواطؤ الصامت مع (الآخرين) وأرضى الدخول في تلك الصورة المثالية للشاعرة الجريحة التي تمتلئ قصائدها بالبكاء الحزين على زوجها، وفيما بعد ربما يكون عليّ أن أقبل فقداني سُبل الخروج من تلك الصورة؛
أنا لست صاحبة تلك الصورة يا صديقي، حين كنتُ أملأ الأوراق بما لا يستعاد، كان ابراهيم مليئاً بالحياة، لقد كان ابراهيم جزءاً من كل ما كتبت لأنّ حياة كلّ منا كانت جزءاً من حياة الآخر، لكنني لم أكتب عن موته حرفاً واحداً، لا أعرف لماذا لم أكتب، ربما انصهر فقداني له مع مكونات أخرى وأحداث ومشاعر وتعاقب أيام وأشياء معلومة ومجهولة أكتب من خلالها ولا أكتب عنها، وربما لأنّ أمومتي لأربعة أطفال فقدوا والدهم لم تمنحني ترف عيش الحزن ولو للحظة عابرة فما بالك لو كان الأمر استغراقاً فيه؟ وربما أيضاً لأنني لم أتقبل بعد أن يحلّ الموت محلّ ابراهيم في ذلك الجزء الذي كان له، أريد أن أؤكد ذلك وأريد أن يعيه كل الذين اجتهدوا بأن كتابي" ما لايُستعاد" هو هديتي الأخلاقية للموت، وأن يتأكدوا أيضاً ومع تقديري لتعاطفهم، أن أيّ قيمة منحها الموت واحتمالاته القاتمة لقصائدي هي قيمة زائفة  وغير مستحقّة تثقلني وتثقل الكتاب.
صديقي:
ما لا يعرفه إلا قلة من الأصدقاء الذين تربطني بهم معرفة شخصية، أنني وبعد مرور ثلاثة شهور فقط على وفاة ابراهيم فقدت أيضاً شقيقي ورفيق روحي خالد شريف، هكذا فجأة ودون مقدمات غاب طبيب التخدير الذي كان مرضاه يرونه الملاك الذي يعيش على الأرض، ودون مقدمات أيضاً هاتفتني زوجته وألقت الخبر في سمعي الذي تحول إلى بئر قديم ومتهالك يردد صدىً لا يمكنني فهمه أو استيعابه، كانت الساعة الواحدة فجراً، أغلقت الهاتف، لم أبك ولم أفقد الوعي، مشاعري وانفعالاتي هي التي أصابها الإغماء وفقدتُ وعيي بها تماماً، لم أقو على الجلوس، كنت أمشي طيلة تلك الليلة وحتى الصباح بين غرفة نومي والصالون ولا أستطيع عمل أي شيء آخر سوى النظر بين الحين والآخر إلى وجوه أطفالي النائمين وكأنما أريد أن أتأكد أنهم ما زالوا أحياء..!
هذه أول مرة أكتب فيها عن  فقد أخي ، وربما تكون المرة الأخيرة ، قلبي يكاد يقفز خارج جسدي ...
صديقي:
هل الموت هو أقسى أنواع الحزن؟ هل هو أقسى أنواع الفقد؟ أليس الفقد هو انغماس أكبر في الوجود أم أن أحدهما نقيض للآخر، حين أقول لك مثلاً أنا أفتقدك ألا يكون المرادف أن وجودك مكتمل في حياتي لدرجة الإحساس بنقيضه؟ ثم أيهما فوق الآخر الوجود أم الفقد ، الحياة أم الموت؟
صديقي العزيز:
هل نكتب عن أشياء حدثت حقاً، أم نكتب عن ما لم يحدث؟ وجاءت الكتابة لتكون مساحة خلقه الممكنة ثمّ حياته؟
سيحدث هذا دائما، لأنّ شيئاً على نقيضه لم يحدث؛ أنني في كلّ مرة كنت أكتب فيها قصيدة ما، لم أكن أكتب الشيء الذي يتماثل لي كبطل لتلك اللحظة، حقيقة أردت ذلك، ولكن ما يحدث واقعياً أنني لم أكتب الشيء الذي أردته فعلاً، وإنما كتبت شيئاً من مكان جانبي يقع، في أحسن الأحوال، بجوار ما أردت أن أقول، كتبت من ذلك الجوار المبهم الذي يمنع ضبابه رؤية اللحظة الماثلة بكل كمالها ونقصانها ويحجب أيضاً وعلى نحو أكثر إصراراً إمكانية الدخول إليه،
مع ذلك أو بسببه ربما، فأنا لا أستطيع اعتبار هذا أو النظر إليه على أنه حقيقة،  لا أملك القدرة على التفريق هنا وفي كل ما يخص كتابة الشعر بين ما هو حقيقة وما هو انطباع ،
اسمح لي يا صديقي أن أتساءل : حين تكتب هل تكتب عن نفسك أم عن آخر، وإذا كتبت عن الآخر أياً كان، ألم تكن ذاتك هي المحور وهي العمق ، ألم تكن أنت المنطلق و الدافع؟ ألا يشكل الآخر وهجاً خاطفاً مهما أضاء لن يضيء لك إلاّ جزءاً صغيراً من تلك الخيوط المتشابكة في ذاكرتك أو مشاعرك التي أختبرتها أو تلك التي لم تختبرها بعد، أو ربما أحداثاً ووقائع ساكنة، كنت تنسى  أن تحرّكها، حتى حجبتها عنك مشاعر وأحداث أكثر سطحية وبداهة، ألا تكتب عن الآخر كشبيه لك تتلاعب الحياة به بذات الأصابع التي تشدك بها؟
ربما وحتى وقت طويل قادم سأظلّ أردّد ما قلته في كتابي الأخير:
"ما زلت أنتظر سياقاً آخر/ يملأُ الاتساع المطلق/ الذي تسلكهُ روحي كلّ ليلة / وتعود منه / دون أن تراه"
أنت أيضاً يا صديقي في قصتك القصيرة (فلاش باك لجناحين ناعمين) قلت:
"كأنني أفتش منذ أربعين عاماً داخل هذه الشوارع عن لقاء لا أتذكر من الذي أعطاني موعداً له، وما الذي يمكن أن يحدث عندما يتم".
مريم شريف
صديقتي العزيزة:
إنها الأقنعة بالغة السماجة أحيانًا التي يحاول الآخرون إلصاقها بوجوهنا كملامح أصلية، تماثل الخطوط المثالية التي يعتقدون أنها ترسم هوياتهم المنقذة .. لكنني أنظر إلى هذا التحويل القهري المستمر لأشباحنا إلى ما نعتبره ظلالًا قاصرة باعتباره حلمًا ماكرًا للكتابة .. رغبة سرية في مواصلة إنتاج نفسها على نحو مراوغ، أو بما أسميتيه في رسالتك "التواطؤ الصامت" .. ربما تريد الكتابة لهذه الأقنعة أن تتكوّن وتتراكم بوصفها ذخيرة سيتم استعمالها لاحقًا كسخرية من الدوافع التي خلقت هذا الزيف الطوباوي المترصّد .. في المتوالية القصصية "البصق في البئر" التي بدأت كتابتها منذ فترة؛ ثمة استثمار لتاريخ المرايا المتعسّفة التي أراد القراء والنقاد والكتّاب والناشرون ومحررو الصحافة الأدبية استبدال نصوصي بصلابتها المتوهمة كي تعكس ما يظنونه يقينًا محميًا من الشك عن لعناتهم الخاصة .. لعب هازئ بتلك الغايات الودودة التي طالما كتبوا عن نجاحي في تجسيدها .. قد تكون هذه الصورة القسرية للآخرين التي تثقلك صديقتي العزيزة عن ديوانك بمثابة غنيمة تهكم سخية لقصائد محتملة .. قد تكون هي المحرّض لكتابة غير متوقعة عن "ابراهيم"، وبالضرورة عن الموت.
صديقتي... كأن استدعاءك لموت شقيقك يعد استرجاعًا جديرًا بالتأمل لموت أخي الأكبر "مدحت رزق" الذي فقدته في السابعة مساء يوم السبت 2 فبراير عام 2013 .. كان أقرب إخوتي إلى قلبي، وأيضًا مات فجأة، كما كان طبيبًا مثل شقيقك، فضلًا عن أنني عرفت كذلك بموته عبر الهاتف من زوجتي التي علمت بالخبر أولًا، ومازالت صرخاتها تدوي في أذني منذ ذلك المساء الأكثر وحشية مما عشت في حياتي حتي الآن .. ظللت أدور وحدي أيضًا داخل البيت بخطوات مترنّحة في صمت، دون دموع أو كلمات .. فقط دوار ثقيل، وأنفاس متقطّعة، واستغاثة منتحبة داخلي تحاول تأكيد أن هذه اللحظة لم تحدث .. أن التليفون لم يرن، وأنني لم أرفع السماعة، ولم يذبح روحي شيء مما أظن أنني سمعته من زوجتي .. أن هذه اللحظة ليست أكثر من كابوس يقظة متخيل، أفقت بعد انتهائه .. كان لدي استعداد بل توسّل أن أكون قد أصبحت مريضًا بالهلاوس كي لا أصدق بأن تلك الثواني الضئيلة كانت حقيقية بالفعل .. كنت على وشك أن أعاود الاتصال بزوجتي كي أسألها إن كانت قد هاتفتني منذ قليل أم لا .. صديقتي العزيزة؛ أتعرفين ماذا كان أخي .. كما كتبت بعد زمن طويل من موته، أي حينما أصبحت قادرًا على ذلك؛ كان إنسانًا يصعب جدًا أن تتخيليه ميتًا، وهذا ما كان سيجعلك في نفس الوقت ـ لو كنتِ عرفتيه ـ واثقة من سهولة موته .. كل الغرباء الذين جلست معهم واستمعت إليهم كانت حكاياتهم عنه تؤكد ذلك .. أخي شخص لا يسمح لكِ حتى مع مرور الزمن بالاعتراف بموته، ولذلك كان يجب أن يموت بعد دقائق قليلة من إحساسه بقدرٍ من التعب .. موت أخي قادر على إفساد حياة شخص لم يقابله في عمره سوى مرة واحدة، وللحظات معدودة .. الموت الذي يحوّل أي متعة بعده إلى ذنب.
إنني لا أفتقد الموجودات التي كانت تبدو أنها تندرج ضمن أشكال الانتماء أو الإدراك أو الشعور بقدر افتقادي دومًا لما لا أعرفه .. ما لم أتمكن أبدًا من انتزاعه خارج العمى .. ما يمكن اعتباره الغرض الحتمي المفقود والغامض للجحيم .. لا أفتقد مثلا أسرتي الميتة التي أحمل رمادها دائمًا ـ كوعاء للفناء ـ كما كتبت في قصتي القصيرة "فلاش باك لجناحين ناعمين" والتي أشرتِ إليها في رسالتك:
"ينظرون في عينيّ حينما أمر بينهم كأنهم يعلمون أن معي حصيلة كبيرة من الرماد، يضيف المحترق من جسدي إليها وزنًا إضافيًا طوال الوقت، وأنني أكابد عناءً في حملها لم أعد أطيقه .. يعلمون أنني لا أستطيع نثر هذا الرماد خارج قلبي، ولا أستطيع تشكيله مرة أخرى كأبوين وثلاثة إخوة وجدة وقطتين وسلحفاة واحدة .. يعلمون أن هذا الرماد هو كل ما تبقى لي من العالم، وأنني فارغ تمامًا من دونه".
ليس العجز هنا صديقتي العزيزة عن إعادة تشكيل أجساد الماضي، وإنما عن خلق الوجود المضاد التي كانت هذه الأجساد وعودًا مهترئة له .. حقيقة عكسية مطلقة، فاقدة الذاكرة، أو تؤسس على الانتقام من علة الغيب البدائية .. لذا فالموت لا يكمن في هذا الغياب الأبدي لما لا أقدر على تصوره عن حياة أخرى مناقضة، أو العالم الذي كان ينبغي أن يوجد استجابة لما يمكن أن نطلق عليه التاريخ الكابوسي للواقع، وإنما يكمن الموت في تصديق هذا الوجود المبهم ..  في الانتظار المتحسّر لتحققه .. في رغبة امتلاكه التي لا تتعطل حتى في أقصى حالات الإنكار أو اليأس .. في الوعي بضرورة الوصول إلى ما لا يمكن استيعابه كثمن منطقي للكوميديا الشاملة التي أنشأها الألم .. لذا فإنني لا أفتقد الموتى وحسب بل أفتقد أيضًا الذين يشاركونني اللحظات المتعاقبة يومًا بعد آخر .. أفتقد طفلتي التي أفتح عينيّ على ملامحها في الصباح، وأغمضهما على قبلتها في الليل .. أفتقد المصير الإعجازي المخبوء الذي تمثّل "ملك" خطوته التمهيدية المخذولة .. هنا تكمن أزلية الموت بالنسبة لي .. البداهة الكونية التي تسبق أي حياة ممكنة .. الكتابة هي الطريقة الوحيدة بالنسبة لي للانغماس أكثر في هذا الموت .. للتوحد بالرمزية المجهولة والمحصنة لهذا الصراع الهزلي البائس الذي فرضته الطبيعة التعذيبية للزمن .. النزاع العبثي بين الهواجس الاستفهامية الطائشة عن الغياب الملتبس والفادح للخلاص .. الكتابة هي الطريقة الوحيدة كي أكون بقدر ما أستطيع أكثر قربًا من الصمت المعتم الذي يحاصر العالم .. كي أضلل في الوقت نفسه الأضواء أو الأصوات المتوهمة التي تدعي قدرتها على تبديده.
هذا يرتبط بإجابتي عن سؤالك حول الأشياء التي نكتب عنها .. أحب ما قاله "باسكال": الأفكار التي تهرب، أريد أن أكتبها، أكتب عوضًا عن ضياعها مني"، وهو ما أعتبره وجهًا آخر لإحدى مقولاته أيضًا: "إن الصمت الأبدي لهذه الآماد اللانهائية يرعبني" .. كأن الأفكار ـ أو الأحداث ـ الهاربة دومًا أشبه بالومضات المخاتلة التي لا تخص الإدراك بقدر ما تتعلق بذلك الصمت الأبدي المرعب حيث يحتجب ما لا أعرفه .. كأن هذا الصمت هو العمى الذي لا يمكن انتزاع شيء خارجه، أو الجدار الأسود الهائل الذي يتوارى خلفه الغرض الحتمي المفقود والغامض للجحيم .. أكتب عن الاحتمالات المهزومة ـ أو التي تمثّل "الجوار المبهم الذي يمنع ضبابه رؤية اللحظة" ـ لاختراق الوعود المهترئة للماضي طامحًا في العثور على سرها .. عن التصورات الخاسرة للتسلل وراء التاريخ الكابوسي للواقع .. عن الفرضيات المخيبة التي تحوم حول الخطوات التمهيدية المخذولة لمصير إعجازي ضائع .. كأن الكتابة بذلك هي التي تخلق داخل فضاء غير مرئي تلك الحقيقة العكسية المطلقة، فاقدة الذاكرة، أو التي تأسست على الانتقام من علة الغيب البدائية، حيث يمكن حيازتها في لحظة مباغتة، غير مرتقبة كمعجزة حقيقية.
ربما يعني هذا صديقتي العزيزة أن الموجودات التي يبدو أنها تندرج ضمن أشكال الانتماء أو الإدراك أو الشعور هي المتاهات التي تستعمل أرواحنا من أجل مرحها الذاتي، وأن الكتابة هي محاولة الوعي بهذه المتاهة .. بحقيقة ما تفعله .. بالتضليل الذي يفصلنا عن الحماية الخالدة التي لا ندري جوهرها.
أما فيما يتعلق بتساؤلك حول الكتابة عن النفس أو عن الآخر فستكون إجابتي في الرسالة القادمة.
كل التقدير لكلماتك التي أعتز بها كثيرًا.
ممدوح رزق
موقع "الكتابة" ـ 5 فبراير 2019

السبت، 2 فبراير 2019

مرويات الذئب: خيالات الأعمي الغائب

"نظرة الذئب تحكي وحدته، وانطفاء حدقتيه يحكي عزلته واصطباره".
يبدو هذا كأنما يعني أن خيالات الذئب سيخلقها نوع من العمى .. أن طعنة الخنجر من يد الخاقان في خاصرة الفريق أول التي بدأ بها لؤي حمزة عباس كتابه "مرويات الذئب" الصادر عن دار شهريار لن تنتج رؤية وإنما استبصارًا غائمًا لما لا يمكن إدراكه .. ستشكل هذه الخيالات عبر هاتين العينين مخلوقات العالم في تركيبتها الغامضة باعتبارها تكمن داخل جسد الذئب نفسه .. تمثلات مخبوءة لروحه الغائبة، تقع خارج الزمن، وما قبل التاريخ، أي كأصل لامتناهي يجثم حول الحياة والموت.
"في تلك اللحظة سمعت صرخة الفريق أول سيسانوف، وتراءت لي حدقتي الذئب وهما تلتمعان، بعد أن ختم الخاقان المعاهدة وعاوده الهدير، نهض متقدمًا من الفريق الذي انشغل بالنظر إلى مفاتيح أبواب القلعة في يد الخاقان، عندما صار الخاقان إلى جانبه سحب الخنجر بيسراه وطعنه في خاصرته، صرخ الفريق أول من هول المفاجأة وضراوة الألم وتهاوى على كرسيه قبل أن يسقط رأسه على الطاولة".
أحيانًا تكون هذه المخلوقات هم ساكني المصابيح الذين سقطوا في يد الذئب المرتجفة التي أرادت إنقاذهم مثلما أرادت يد الخاقان أن تنقذ أهل باكو بواسطة الطعنة القديمة .. كأن جسد الذئب في حقيقته مدينة مجهولة، وكأن أولئك الذين بحجم ساق الدودة أو أصغر هم كائناتها، أما المصابيح فكأنها العيون الداخلية للذئب التي لا تتوقف انفجاراتها المتلاحقة غير المرئية في صمت .. كأن هذه المصابيح هي الإثبات الذاتي للعمى .. لا يتعلق إنقاذهم بالفناء وحسب، وإنما في ذلك الاختفاء المبهم الذي يسبق الفناء .. في عدم الوجود الذي يتقدّم على الضياع الأبدي.
"في طفولته ركل كرة جلدية كما يركل الأطفال جميعًا الكرات من كل نوع، فحلقت عاليًا، ليس عاليًا جدًا، كان علوًا كافيًا لكي تصطدم بمصباح الشارع، انفجر المصباح على الفور، وشاهد من مكانه ذرات الضوء تتساقط مثل ندف دقيقة من الثلج، وسمع صوتها وهي تستغيث، فعرف، منذ ذلك الوقت، أناس المصابيح، ومنذ ذلك الوقت أخذ يجمع المصابيح المحترقة".
إن الاختفاء ليس نقيضًا للحضور هنا، بل هو محاولة للقبض على زيف التجسّد .. كفاحًا مستمرًا لرسم ملامح صائبة لوهمه .. يتحوّل الماضي المفقود إلى ذاكرة مؤقتة تطمح لتكوين صورة عن وجود لم يحدث .. عن عالم يفترض حقيقة لنفسه، ولكنه يظل منفصلًا عن الوعي الذي يتأمل تبدده .. الصديقان في قصة "طريق الغابة" كانا افتراضًا قبل افتراقهما .. ثمة غياب مشترك يسبق ضياع أحدهما داخل شجرة عالية .. كأن الشجرة هي مدينة ومصباح أيضًا؛ لذا فاختفاء الصديق يتم داخل جسد الآخر أي الذئب الذي ستحاول خيالاته أن تخلّص هذا الغائب من الاختفاء .. أي تخلّص نفسه من "اللاوجود" الذي سبق غيابها .. الطفل إذن هو الفكرة الاستبصارية لعيني الذئب عن العمى .. احتمال عن الحياة والموات يراقب ذاته كجزء من العدم .. نلاحظ دائمًا أن الأمر أشبه بصيرورة تكاد تعادل العود الأبدي، ولكنها قائمة على الاختفاء والحضور .. تكاد تكشف عن حتميتها كمضاجعات ملعونة .. شيء ما يغيب داخل فضاء مغلق .. شيء يقر باختفائه أنه لم يكن موجودًا أصلًا .. ثم يأتي ظهوره المغاير كرجاء خيالي أقرب لجثة تتصوّر حركة ما في الظلام .. بهذا يقر الشيء مجددًا أنه لن يوجد.
"عاد من الجبهة مباشرة إلى الغابة، ووجد الشجرة العالية كما هي، انتظر إلى جوارها، لكن صديقه لم يظهر أيضًا، فعاد إلى حياته: عمل وتزوج وصار أبًا، سألته زوجته عن الاسم الذي يحب أن يطلقه على الطفل، ولم يكن في ذهنه غير اسم صديقه. بعد سنوات ضاقت المدينة، مثل كل المدن، فردمت الغابة وقطعت أشجارها إلا الشجرة القديمة العالية".
حينما يُعتقد أن هناك حيوانًا يعيش داخل الذات، وأن البحر هو المكان المناسب لخروجه؛ فإننا لن نستعيد فحسب هدير البحر في رأس الخاقان قبل أن يطعن الفريق أول، بل سنفكر أيضًا في كائنات المصابيح، وبالضرورة في ذلك الغائب داخل الشجرة .. الحيوان كاستفهام الكينونة المرجأة .. الوجود المفترض أو المتوهم الذي لابد أنه في الداخل على نحو ما .. الذي يخبئ دوافع ظهوره غير القابلة للجدل .. يترك الذئب ـ أو بالأحرى عينيه اللتين تحكيان وحدته ـ مسافة من جسده كي يسرد عن الذات التي يتخيلها .. ليتوحد بنفسه المختفية .. ليعثر على تمثلها الغائب .. إذن هو لا يستوعب شيئًا يتجاوز عمائه.
"تحت إحساس بغرابة أن يحيا حيوان في دواخل نفس بشرية، وعلى نحو لا تفسير له، فكر بالبحر المتلاطم والحنون، ركب دراجته الهوائية وتوجه نحو الساحل معتقدًا أنه المكان المناسب لخروج الحيوان، كان الهواء البارد يضرب وجهه حينما فكر بالناس الذين يراهم على الساحل في كل وقت، يجلسون، أو يستلقون أو يتمشون، يحدثون البحر أو يستمعون إليه، وقد انصتوا لرغبات حيوانات دواخلهم، وهم يأتون للبحر من دون أن يعرفوا لذلك سببًا".
بهذه الكيفية فإن جسد الذئب هو الغرفة الصغيرة الضيقة في قصة "البرعم"، وإن الحبة التي أنبتت من الحفرة الضئيلة في أرضها برعمًا دقيقًا أخضر اللون قد ألقاها الطائر داخل هذا الجسد .. كذلك البرج الذي ينزل الذئب سلالمه اللانهائية بتحريض من صوت مبهم، حاد النبرة في قصة "نزول السلم الحجري" فإنه يوجد في عتمته الداخلية .. كأن البرعم يحمل أرواح أولئك الذين سقطت أسماؤهم عن الوجوه التي يتذكرها الذئب، وكذلك أسماء الذين لا يعرف وجوه أصحابها في قصة "ما يعز تذكّره" .. كأن النزول الأبدي للبرج هو مصير ذلك الذئب الوحيد الحالم بالطيران في قصة "الذئب عبر النافذة".
"كان بوده لو يقترب منه أكثر، يسأله عن سبب وجوده في الداخل، لكن الذئاب لا تحسن الكلام بكل أسف، تقدم خطوات ومسح على الزجاج بجبهته الضيقة ثم نظر إلى عيني صاحبه اللتين ما كانتا تلتمعان مثل عيون الذئاب الطليقة، تراجع حتى اصطدم الجدار المقابل، توقف قليلا وحرك رأسه حركة ذئب حائر، إلى الأعلى وإلى الأسفل، أرجع أذنيه حتى لامستا رأسه، ثم ضيّق عينيه وحرك ذيله مزمجرًا، سمع الرجل من مكانه في الطابق الأرضي زمجرته وأحسها قادمة من مكان بعيد، وبكل ما في بدنه من قوة شعر به يندفع نحو النافذة".
أتذكر الآن "هنري بتلر" المصوّر الأعمى الذي التقط بحدسه ـ من ضمن ما التقط ـ صورة لجذع شجرة تشبه ساق إنسان .. أحب التفكير في أنها الشجرة التي  اختفى داخلها الصديق / الصورة الغائبة للذئب في قصة "طريق الغابة" .. أن المصوّر لا يفكر في العمى بوصفه معاديًا للرؤية، وإنما قرينًا للخيال الفاضح لوهم البصر .. أن "هنري بتلر"، مثلما أراد لؤي حمزة عباس أن يكون في مروياته، هو الذئب الذي حينما التقط صورة الشجرة فكأنما كان يلتقط صورة لنفسه.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 3 فبراير 2019