الأربعاء، 30 يونيو 2021

التشبع الإلهي بالموت

تغدو الكتابة صعبة علي أكثر فقد سئمت من أبدية تصفية حساباتي مع الحياة.

إميل سيوران

أن تكتشف عند منتصف العمر أن كل ما كتبته ليس إلا تدوينًا متقطّعًا لوصيتك .. مجرد تذكير بأنك كنت هنا وتضحك بكل ما يمكن أن يعنيه ويشير إليه ذلك الضحك .. أن كل ما حاولت أن تجعله طريقة لغوية للعيش لم يكن إلا محاولة لتصفية حساب مع العالم، لم تنتج إلا مضاعفة غير محكومة لهذا الحساب .. لكن هل هذا ما يدفع الكتابة نحو مشقة تتجاوز الماضي؟ .. لنفكر في ماهية السأم بوصفه جوهرًا للأمر .. لم يكن السأم ناجمًا عن ثبات لخيبة الأمل أو انتظار للخلاص، وإنما عن التأخر في امتلاك حقيقي للحياة والموت .. تحوّل هذا السأم، وبتدرّج خفي إلى احتضار من نوع خاص، لا يستهدف سوى الذين لم ينجحوا في رؤية بصمات انتقامهم محفورة بشكل فعلي داخل الغيب نفسه .. لم يتمكنوا من دهس ولو جزء صغير من السماء أسفل ثأرهم .. ما نتج عن هذا الاحتضار كان جحيمًا يتجاوز صعوبة الكتابة أو سهولتها .. كان تذكيرًا مأساويًا لا يتعطل ولو للحظة واحدة بما لم أكتبه.

أتحدث عن لعنة الاستغراق التام بعد الأربعين فيما ينقص وصيتك المتقطعة التي كلما تراكمت سطورها كلما أمعنت في محو نفسها داخل روحك .. ما لم تتضمنه محاولتك لتصفية الحساب مع العالم التي كلما استمررت في كتابتها كلما دفعت حياتك التي لم تحدث ثمن قصورها وفشلها .. ما كان يجب أن يصطاده السأم من المتاهات المعتمة حتى يتحوّل من احتضار إلى تشبّع إلهي بالموت.

كل كتابة جديدة تصبح حسرة إضافية على النصوص اللانهائية التي لم تكتبها .. كفاح بائس لأن تكون تلك الكتابة هي كل النصوص اللانهائية غير المكتوبة .. كأن الامتلاك الحقيقي للحياة والموت يكمن فيما لم يُكتب .. كأن بصمات الانتقام المحفورة بشكل فعلي داخل الغيب لن تُرى إلا عبر تلك النصوص الغائبة .. النصوص التي لن تُكتب أبدًا مهما امتد عمر الكتابة وهو ما يجعل كل نص مكتوب دهسًا للسماء بكاملها أسفل ثأر لم يستطع أن يكون كذلك إلا لكونه مخذولًا وعابرًا .. لم يستطع أن يكون أبديًا إلا بفضل السأم الذي أصبح احتضارًا أي فناءً يسبق الوجود.


السبت، 26 يونيو 2021

المضاجعة اللغوية

أُؤمن أنه إذا كنت جادًا حيال حياة الكتابة، أو بشأن أي شكل إبداعي من أشكال التعبير فلابد أن تتحمل هذا العمل على أنه واجب (نداء) مقدس. أصبحت كاتبة بالطريقة التي صار بها الآخرون رهبانًا وراهبات، نذرت نفسي للكتابة منذ الصغر، ثم صرت عروس الكتابة؛ أكتب في شكل تعبدي كالخادمة.

إليزابيث جيلبرت

أتذكر جيدًا تلك اللحظات الرومانتيكية القديمة حينما كنت أبقى جالسًا حتى وقت متأخر من الليل داخل شرفة البيت المغلقة منعزلًا عن أسرتي وبين يديّ قلم ودفتر ورقي صغير، أتطلع إلى السماء بافتتان طفولي وأكتب .. لحظات التناغم التقليدي بين السحر المجرّد للطبيعة والنشوة الكونية للكتابة حيث تشعر في تلك الخطوات المبكرة وبكل ما يسكنك من مسالمة عمياء وعشم غافل أنك تقوم بأمر إلهي .. لم تكن قصصي بالغة الألفة مقارنة بالطقس الملائكي الذي كنت أعيشه وقتئذ وهذا ما يجعل التدرّج المتسارع للغضب في كتاباتي منطقيًا ومتوقعًا .. كانت البراءة الخالصة لذلك الطفل الذي يكتب قصصه الأولى متجانسة مع الصورة النمطية الأخاذة لعالم يمكن الاستمتاع بجماله والنجاة من شروره بفضل إعادة تشكيل حكاياته .. بالقدرة غير العادية للغة التي منحها الغيب لكائن جدير بذلك الاستثناء .. سيصبح هذا التجانس البدائي سر التوالدات المحمومة لغضب الكتابة .. ستكشف الرومانتيكية القديمة وبشكل متصاعد عن نفسها كغريزة لذلك الغضب.

كأنها رحلة التعرّف المتنامي على ما يضمره ذلك التناغم من خيانة وبالضرورة إدراك حتمية مجابهته بإضرام النار في الأوهام الذهنية المخادعة لذلك السحر الذي تختبئ وراءه الطبيعة، ولتلك النشوة الكونية التي تدعيها الكتابة .. مسار التحوّل الشهواني من الإيمان بالوعد المقدس للخيال إلى مطاردة الذاكرة الشيطانية للواقع .. كأن تلك المجابهة تتلخص في نزع الحصانة الأخلاقية ـ المنطوية على الافتتنان الطفولي القديم ـ عن السماء بوصفها هدفًا دائمًا للمضاجعة اللغوية .. بوصفها جسدًا شبحيًا مغويًا ينبغي للقص امتطاؤه .. هنا تتوقف أحقية ذلك الكائن المعذّب بالرجاء النقي للماضي لأن يكون إلهًا مضادًا على مدى استجابته الشبقية لذلك الإغواء .. على مدى شجاعته في انتهاك الخرافات التي يموت الآخرون في سبيل الحفاظ على صورتها في أرواحهم من الخدش .. أصبحت كاتبًا بالطريقة التي يتحوّل بها مهووس جنسيًا إلى قاتل متسلسل.

الأربعاء، 23 يونيو 2021

تشريح الضجر


"فشخصيات روايتي هي إمكاناتي الشخصية التي لم تتحقق. هذا ما يدفعني لأن أحبّهم كلهم ولأن أرتعب منهم في الوقت نفسه. ذلك أن كل واحد منهم عبر حدودًا ليس في مستطاعي سوى الالتفاف حولها. وهذه الحدود التي عبروها (والتي بعدها تنتهي “أناي”) هي ما يشدّني إليهم. لأن في هذا الجانب الآخر وحده يبدأ السّر الذي تسبر غوره الرواية. فالرواية ليست اعترافًا ذاتيًا للكاتب، وإنما تنقيب عمّا تصيره الحياة الإنسانية في الفخ الذي يسمى العالم".

ميلان كونديرا

أفكر دائمًا في ما يسمى بالكتابة الاعترافية بوصفها خداعًا طفوليًا .. يخلق الكاتب مزيجًا من المبالغات والأكاذيب المستندة إلى أسس تتعّمد طوال الوقت تقديم البراهين على واقعيتها .. يسخر هذا المزيج من سلطة الاعتراف أي من خرافة الإثم انطلاقًا من مسايرة أشكاله المستقرة .. ثمة فرق بين قراءة تتوقف عند حدود التوصيف السهل والمباشر لتلك الكتابة من حيث كونها اعترافًا وبين قراءة تدرك الحيلة التي يمرر من خلالها الكاتب أصواته المتعددة والمجهولة نحو الصمت الغيبي المعتم من خلال تلك (الاعترافات) .. بين التصديق الآمن لأقنعة الطفل باعتبارها وجوهًا حقيقية له وبين استيعاب أن ذلك الطفل لا يمتلك وجهًا من الأصل.

في كل قصد لترك دليل على واقعية النص محاولة لانتزاع صدى فعلي من وجود غامض يتجاوز الواقع نفسه .. استجابة خارقة تصبح بديلًا للحقيقة التي يراد إثباتها .. الخيال ليس نقيضًا لما نراه متعيّنًا بل إقرارًا بحتميته في اللحظة التي نجرّب خلالها احتمالات تغييبه .. لذا فكل المبالغات والأكاذيب صادقة عندما تتحول إلى مكائد تسعى للإيقاع بالمطلق .. تلعب الأسرار الذاتية بفضائحيتها كسبيل تهكمي لتعرية الألوهة من بداهتها.

شخصياتي ليست أفرادًا بالتحديد النمطي وإنما كل شخصية هي افتراضات مراوغة لكينونة تتجاوز الأطر المتوهمة التي يتوقف عندها العالم عن أن يكون جحيمًا مبهمًا .. هي ظنون طائشة لكينونتي، أتسلل من خلالها نحو هويات ملغزة أخرى، تمنحنى ديمومة مغايرة أي لانهائية مؤقتة داخل الفناء .. شخصياتي تحوّلني من فرد إلى بدائل متأرجحة لتشريح الضجر حيث ما ينبغي أن أصل إليه اتساقًا مع خطواتهم لا يتم بلوغه وإنما مناوشته كتلويحات توسلية لما يسبق الحياة والموت .. شخصياتي لا تصل مثلي إلى ما يبدو أنها تعيشه حقًا عبر اللغة، ذلك لأن ما تختبره وتقودني إلى تجاربه يماثل عماءنا الأصلي؛ وعدًا مقتولًا داخل ذواتنا من قبل أن يُخلق.   

السبت، 19 يونيو 2021

الخلود الأدبي: التهكم في مواجهة الشياطين الخالدة

"أنظر إلى الشباب الذين يقرأون كتبي باهتمام خاص لأنني أعرف بأني حين أموت ستُقرأ كتبي لفترة لا تقل عن ثلاثين أو أربعين عامًا .. لا توجد رغبة في الاختفاء التام لذلك نشعر بالطمأنينة حين يقرأ الشباب كتبنا".

مارتن أميس

لا ينفصل الخلود الأدبي بالنسبة لي عن الخلود نفسه .. ما أرجوه حقًا هو النجاة الجسدية الدائمة من الموت، لكن تلك الأبدية تشترط بشكل جوهري الاستيلاء على الذاكرة الكونية المجهولة التي لم تكن ذاكرتي الشخصية إلا ظلًا ملعونًا لها .. هذا يعني امتلاك كل الحيوات والميتات على النحو الذي يجعلني قادرًا على بعثها من جديد دون فقدان ما يمكن انتقاؤه من لحظات أثيرة ولكن في كمالها الموعود الذي لا يمكن انتهاك حصانته بفعل قوى غيبية ما .. الكتابة هي كفاح الوصول لتلك المعجزة الخارقة طوال الوقت وهو ما لا يجعلني مشغولًا إذا كان هناك من سيقرأني بعد الموت أو إذا كان هناك من سيقرأني وأنا مازلت حيًا إلا في تلك الحالة الاستثنائية .. أن تكون تلك القراءة ممرًا فعليًا للكتابة كي أستعيد بواسطتها الماضي الذي يسبق الزمن ومن ثمّ يتيح لي استرداد كل ما أصبح ضائعًا أو مهددًا بالفناء، وجعله إلهيًا دون تبعات قاتلة.

عدا ذلك فكل قراءة لن تعدو أكثر من محاولة اكتشاف متعة غير مسبوقة داخل الجحيم بين الكاتب وقارئه سواء عبر الانسجام أو التنافر .. كل تأويل هو بديل تعذيبي للخلود مهما كانت البهجة التي يمنحها .. لكن هل يمكن الاستيلاء على الذاكرة الكونية دون عقابها؟ .. إن الخلود الشخصي / الأدبي هو انتقام من القدر .. أخذ بالثأر من فكرة العالم نفسها من قبل أن تتجسّد .. هو قيامة للروح المطلقة تقيمها ألوهة الفناء.

أكتب النص كاحتمال لتعويذة ثم أنشره طامعًا أن يتمكن من استدعاء ذلك الشيطان الغامض الذي ربما نجح أخيرًا في السيطرة على السماء، ولم تكن تنقصه إلا رسالتي تلك حتى يُنهي الحياة والموت، ويمنحني الخلود الذي يحوّل كوابيس غضبي إلى مدافن حقيقية لأشلاء المقدس .. أكتب النص كوثيقة سخرية من غياب المعجزة الخارقة ثم أنشره بطموح أن تتمكن من الوصول عبر أجساد قرائي إلى حيث تسكن كل الشياطين المخبوءة الخالدة .. تذكير الشبح الهالك بأنه لم يكن هناك أي شيء يمنعه من إهانة كل شيء.

الجمعة، 18 يونيو 2021

جحيم غير مسبوق

قبل جائحة كورونا بزمن طويل توقفت عن الخروج من البيت إلا نادرًا .. كنت أظل خلال تلك المرات المتباعدة أدور في الشوارع القديمة التي مرت منها خطوات عائلتي الميتة .. أحيانًا كنت أتوقف عند جانب الطريق متلفتًا حولي، وفي أحيان أخرى كنت أغمض عينيّ للحظات محاولًا تضليل النظرات الخفية التي تراقبني ..  كنت أعود بعد ذلك إلى البيت مترنحًا باليأس، راجيًا الخلاص من تلك المغادرات الاستثنائية للبيت، حتى ظهر الوباء ليحقق ذلك دون توقع .. لكنه لم يكن خلاصًا بالتأكيد .. كان استجابة لأمنيتي بأسوء طريقة ممكنة .. تغيرت مخططات عملي للأفضل نتيجة هذا الامتناع التام عن الخروج حيث مشاريع الكتابة التي كنت أتناثر بينها ترتبط جوهريًا بذلك الأرق الممتد بين البقاء داخل المنزل لأطول وقت محتمل وبين الجولات الشبحية العابرة خارجه .. هذا التغير للأسف كان راجعًا لجحيم غير مسبوق .. ربما كان الأثر الأشد بغضًا لكورونا على مستوى العمل ذلك الذي لحق بورشتي القصصية الثالثة .. حاولت تعويض عدم إمكانية تنظيمها في مكان ملائم كما تعوّدت بإقامتها على فيسبوك ولكن استمتاعي بها لم يكن مماثلًا للورشتين السابقتين .. ما لم يتغيّر هو طبيعة النشر بالنسبة لي .. قبل الجائحة وبعدها؛ مازلت أنشر نصوصي وكتبي إلكترونيًا عدا تلك التي تستجيب أحيانًا لدعوات المحررين وعروض الناشرين .. مازلت منفصلًا عن السياق "الثقافي" الوضيع الذي يسمح لتاجر كتب، يعمل خادمًا مثاليًا لأبناء المركز كي يربح مما ليس لهم فضل فيه، أن يضع رأسه برأسي حين يطلب مقابلًا لنشر أعمالي .. لا أعتقد أن الوباء كان له تأثير سلبي على الكتّاب النشطين اجتماعيًا؛ ذلك لأنهم يستندون إلى تاريخ راسخ من "الفاعلية" يوفر لهم حصانة من أي تهديد، وبالعكس فبرامج اتصالات الفيديو التي ذاع استخدامها تحت سطوة التباعد والحجر الصحي كانت داعمًا سخيًا لذلك التاريخ .. ربما أصاب هذا التأثير الكتّاب الذين لا يزالون في سعي لتكوين دعائم مشابهة من الرواج الأدبي، تعتمد على الاستفادات المتراكمة والمتعددة من جلسات المقاهي وحضور الندوات وحفلات التوقيع والتنقل الدائم لاصطياد الفرص بين المؤسسات الصحفية والمراكز الثقافية ودور النشر .. أتمنى لهم حظًا سعيدًا.

شهادتي ضمن ملف العزلة والكتابة (13): ما بين أحلام توأد بسبب الصراعات وبين عجرفة الوسط الثقافي .. إعداد الكاتبة سماح عادل.

موقع كتابات

17 يونيو 2021

 

 

الأربعاء، 16 يونيو 2021

«مكان في الزمن» في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة


فيلم «مكان في الزمن» للمخرج نواف الجناحي، يشارك في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة، حيث يتنافس بين 14 فيلماً على جوائز المهرجان، والفيلم عن قصة للكاتب ممدوح رزق، وتم تصويره في البحرين، وتدور أحداثه حول رجل عجوز مهجور هائم في شقته، بينما يصارع الموت بذكرى جميلة.

ويُعد نواف الجناحي من أبرز المخرجين على الساحة الإماراتية والعربية، كما شارك كمحكّم رئيسي في العديد من المهرجانات السينمائية العربية والعالمية، كما أنه ممثل أيضاً بدأ التمثيل في عمر السابعة، وانتقل في عمر الـ 19 إلى كاليفورنيا بأميركا لدراسة فنون السينما. إلى جانب صناعة الأفلام، أسس الجناحي أيضاً عدداً من المبادرات مثل حملة السينما الإماراتية، «سينما الصندوق الأسود، وسينيوليو».

صحيفة "الاتحاد" الإماراتية

زر جلبابها

لوفرة من الأسباب القهرية المتواطئة في صلابتها؛ أُغلقت جميع أبواب الانتقام في وجهه .. لم يعد أمامه سوى أن يجرّب الأساليب الطفولية المألوفة لرد الأذى إليها .. تلك الحيل القديمة التي على بساطتها يمكنها أن تعكّر أكثر الأمزجة قدرة على الاحتفاظ بصفائها .. كانت فرصة غير متوقعة أيضًا لاسترجاع النشوة المفقودة لذلك الولد الصغير الذي كان يرتكب أحيانًا مكائد ساذجة في الماضي .. فكّر في أن ما سيقوم به تجاهها يمكن مع تراكمه أن يصل بها إلى مستوى الألم الذي يحقق له ثأرًا تتجاوز بداهته أي احتمال للتسامح.

انتظر حتى خرجت من البيت ثم دخل حجرة نومهما باحثًا عن موضع البدء لتصفية حسابه معها .. كان جلبابها المنزلي مكوّمًا فوق السرير .. أمسك به ثم فرده وهو يتساءل في نفسه: ماذا لو اكتشفت حينما تعاود ارتداءه بعد رجوعها إلى البيت أنه فقد أحد أزراره الثلاثة؟ .. ستشعر حتمًا بقدر من الانزعاج خاصة حينما تفشل محاولاتها الأكيدة في العثور عليه .. ضرر عظيم التفاهة ولكنه مجرد خطوة أولى لهدف يمكن بلوغه حين يتكرر بصورة منتظمة ومحسوبة فضلًا عن إمكانية تطويره مستقبلًا.

أحضر المقص وهو يفكر في الطريقة المناسبة لانتزاع الزر دون ترك أثر يثير الريبة .. لكنه بمجرد أن أمسك به بدأت أفكاره ومشاعره فجأة تتركز كليًا في إلى أي مدى هو زر ضئيل .. إلى أي مدى هو ناعم وهش وغافل .. راح يتحسس الزر بين إصبعيه كأنما يمررهما فوق وجه طفل بالغ المسالمة يتشبث بالأمان الأمومي للجلباب .. أحس بغصّة مباغتة ترتعش في حلقه بينما يستعيد ذكريات متناثرة .. مشاهد قديمة، غائمة ومبتورة تتضمنه وحده أحيانًا في لحظات مختلفة من عمره، أو تحتويهما معًا في أوقات متفرقة من تاريخهما المشترك، أو تشتمل فقط على ملامحها عندما كان يتأملها في صمت دون أن تنتبه إليه في أحيان أخرى .. ترك الجلباب وهو يجفف تلويحات شاحبة للدموع في عينيه ثم أعاد المقص إلى مكانه قبل أن يجلس محاولًا التوصل إلى طريقة بديلة للانتقام منها.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 14 يونيو 2021

الاثنين، 7 يونيو 2021

عربة المطافئ الصغيرة

ذات يوم أهداني أبي عربة مطافئ .. كانت صغيرة وحمراء على النمط الغربي الكلاسيكي ويجلس داخلها طفلان بملامح متطابقة ويرتديان زي رجال الإطفاء .. تخيلت نفسي الطفل الجالس وراء عجلة القيادة أما الطفل الآخر فلم أمنحه هوية محددة .. في مساء اليوم نفسه رأيت عربة المطافئ تحلق في السماء الممتدة وراء البيوت المقابلة لشرفتي .. كان طيرانها أشبه بالسير على أرض ممهدة بينما القمر يضيئ سطحها الأحمر المصقول بلمعان فاتن .. لكنها بدلًا من أن تضخ المياه كما يُفترض؛ راحت تطلق دفقات متتابعة من نيران كثيفة ما أن تلمس إحداها جانبًا من بناية إلا وتتهاوى مفتتة على الفور .. كنت أقود العربة والطفل الآخر بجواري يصوّب الجحيم على البنايات التي تتلاحق انهياراتها محدثة دويًا مزلزلًا .. كان الأمر مرعبًا وساحرًا .. شعرت بنشوة من يمارس عملًا روتينيًا ولكن بطريقته الخاصة، غير المتوقعة .. كنت أرى النيران تؤدي نوعًا من الإطفاء يماثل ما تقوم به المياه، إلا أن ذلك يتم على نحو خفي .. لحظات قصيرة من الرهبة المُسكرة عشتها في مراقبة عربة المطافئ وهي تتحرك في السماء مدركًا أن بيتي الذي أقف في شرفته لم ينجو من القصف على الرغم من بقائه محتفظًا بتماسك ظاهري .. بعد خمس وثلاثين سنة؛ مازلت أرى عربة المطافئ تسير في السماء .. لم يتغير شيء سوى أنه ما عاد لي وجود داخلها .. أصبح مقعد القيادة فارغًا منذ زمن طويل، والعربة تتحرك وحدها في مسارات عفوية بينما الطفل الٱخر لا يزال جالسًا في مكانه ويواصل إطلاق النيران على البنايات.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 5 يونيو 2021

اللوحة: Rene Magritte