الأربعاء، 23 يونيو 2021

تشريح الضجر


"فشخصيات روايتي هي إمكاناتي الشخصية التي لم تتحقق. هذا ما يدفعني لأن أحبّهم كلهم ولأن أرتعب منهم في الوقت نفسه. ذلك أن كل واحد منهم عبر حدودًا ليس في مستطاعي سوى الالتفاف حولها. وهذه الحدود التي عبروها (والتي بعدها تنتهي “أناي”) هي ما يشدّني إليهم. لأن في هذا الجانب الآخر وحده يبدأ السّر الذي تسبر غوره الرواية. فالرواية ليست اعترافًا ذاتيًا للكاتب، وإنما تنقيب عمّا تصيره الحياة الإنسانية في الفخ الذي يسمى العالم".

ميلان كونديرا

أفكر دائمًا في ما يسمى بالكتابة الاعترافية بوصفها خداعًا طفوليًا .. يخلق الكاتب مزيجًا من المبالغات والأكاذيب المستندة إلى أسس تتعّمد طوال الوقت تقديم البراهين على واقعيتها .. يسخر هذا المزيج من سلطة الاعتراف أي من خرافة الإثم انطلاقًا من مسايرة أشكاله المستقرة .. ثمة فرق بين قراءة تتوقف عند حدود التوصيف السهل والمباشر لتلك الكتابة من حيث كونها اعترافًا وبين قراءة تدرك الحيلة التي يمرر من خلالها الكاتب أصواته المتعددة والمجهولة نحو الصمت الغيبي المعتم من خلال تلك (الاعترافات) .. بين التصديق الآمن لأقنعة الطفل باعتبارها وجوهًا حقيقية له وبين استيعاب أن ذلك الطفل لا يمتلك وجهًا من الأصل.

في كل قصد لترك دليل على واقعية النص محاولة لانتزاع صدى فعلي من وجود غامض يتجاوز الواقع نفسه .. استجابة خارقة تصبح بديلًا للحقيقة التي يراد إثباتها .. الخيال ليس نقيضًا لما نراه متعيّنًا بل إقرارًا بحتميته في اللحظة التي نجرّب خلالها احتمالات تغييبه .. لذا فكل المبالغات والأكاذيب صادقة عندما تتحول إلى مكائد تسعى للإيقاع بالمطلق .. تلعب الأسرار الذاتية بفضائحيتها كسبيل تهكمي لتعرية الألوهة من بداهتها.

شخصياتي ليست أفرادًا بالتحديد النمطي وإنما كل شخصية هي افتراضات مراوغة لكينونة تتجاوز الأطر المتوهمة التي يتوقف عندها العالم عن أن يكون جحيمًا مبهمًا .. هي ظنون طائشة لكينونتي، أتسلل من خلالها نحو هويات ملغزة أخرى، تمنحنى ديمومة مغايرة أي لانهائية مؤقتة داخل الفناء .. شخصياتي تحوّلني من فرد إلى بدائل متأرجحة لتشريح الضجر حيث ما ينبغي أن أصل إليه اتساقًا مع خطواتهم لا يتم بلوغه وإنما مناوشته كتلويحات توسلية لما يسبق الحياة والموت .. شخصياتي لا تصل مثلي إلى ما يبدو أنها تعيشه حقًا عبر اللغة، ذلك لأن ما تختبره وتقودني إلى تجاربه يماثل عماءنا الأصلي؛ وعدًا مقتولًا داخل ذواتنا من قبل أن يُخلق.