الثلاثاء، 21 فبراير 2017

جاذب الخفافيش / تيسير النجار

جلست أمام الكمبيوتر، أتابع على اليوتيوب؛ مسرحية حفل الإرجاء في عرضها الأول وأعبث بمكمني، الذي حذرتني أختي من المساس به، ما أغضبني أنني لم أنتشِ. لم تحذرني اليوم لأنها تتحدث في الغرفة المجاورة؛ بصوت منخفض مع حبيبها.
(كنت أشاهد التليفزيون فارداً ساقيّ فوق كنبة الأنتريه المجاورة للكرسي الذي أجلس عليه .. كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل، وكانت كفي التي شكلت حضناً أسطوانياً لقضيبي تحت الشورت والكلوت تصعد وتهبط سريعاً بدعم ذهني يحاول إكساب خيالات الشاشة الضبابية ملامح وألوان .. كان تركيزي في هذه الليلة محصوراً في إعطاء ما كنت أظن أنها امرأة عارية تنام تحت رجل ما جسد طفلة العاشرة في المسرحية كما وصفتها أمي .. فجأة فُتح باب حجرة المعيشة ودخل أبي .. تشتيت الانتباه في بداية الاستمناء خاصة لو كان ناجماً عن مفاجأة صادمة سيؤدي في الغالب إلى انهيار تدريجي سريع للانتصاب، أما عند حدوثه بعد مرور الوقت فالنتيجة ستكون قذفاً فورياً تعيساً)* نسيت أمي الشرفة مفتوحة، وكادت الرياح أن تقتلع الأشجار بالخارج، انهالت علينا الأوراق الجافة وغطت أرضية المنزل. لم تعبأ أمي بالفوضى فقد كانت تحدق في المسلسل الهندي؛ تحب البطل الرومانسي، أعرف ذلك مهما أنكرت. أبي يستمع إلى الأخبار بصوت عالٍ؛ فهو يكره سخافاتنا، تخرج ألسنة شامتة من غرفته، صارخة بأن سوريا دُمرت؛ وأن قول: "ادخلوها بسلام آمنين" كان لليهود ونحن لا نعلم؛ والأزمة بين إيران والسعودية تشتد، (في هذه الفترة لم يكن أبي يعرف ماذا يفعل بخرائه .. كان يُخرج الأعاجيب البنية المزعجة، متفاوتة الأحجام من شرجه، ويقلبها بين يديه ليتفحصها باستغراب وغضب ثم يحاول التخلص منها في بيجامته، أو في أغطية الفراش والكراسي والكنبات، أو في ملاءة السرير ومسنده وحوافه، أو في الحوائط، أو يمدها إلى أي منا طالباً منه أن يأخذها ويجد تصريفاً لها كانت أمي تواجه صعوبة بالغة في الانتهاء من كتابة مسرحيتها (حفل الإرجاء)، ولم يكن ذلك راجعاً إلا لتهكم أختي من رغبة المؤلفة العجوز في الانتصار لوجهة نظر بطل المسرحية وهو قاص شاب يعتقد أن الكاتب العظيم لا يقدم أبداً تعريفاً واضحاً للحياة) *.
كان ممددًا؛ يشرب الشاي كثير السكر الذي أعددته له. فجأة، توهجت الشمس بشكل غير طبيعي، انفجر التكييف ولم يلحظ أحد، أشم رائحة الاحتراق؛ سقطت أسراب العصافير ميتة في شرفتنا وفي الطرق، لاذت الخفافيش بمنزلنا؛ امتلأت الشرفة، فاضت إلى الصالة؛ زحفت نحوي، ارتجفت خوفًا؛ كانت الخفافيش مغمضة العين، اتجهت نحو غرفة أبي، كان المذيع يزعق :" إن السلام قادم، سيسود المنطقة العربية قريبًا". رنوت بعينيّ إلى شاشتي الصغيرة كانت المسرحية شيقة (أخرج أبي من جيب بيجامته كرة متوسطة الحجم من الخراء، ثم ألقاها أمامي على الأرض بنفاذ صبر كشيء فشل في تشغيله .. صوته المهموم كان خافتاً بوعي للحرص على عدم إيقاظ أمي النائمة داخل حجرتها في نهاية الصالة، وأختي النائمة داخل غرفة مجاورة تشارك حجرة المعيشة في نفس البلكونة: (شوف هتعمل فيها إيه) .. أخرجت كفي المبتلة، ودون اهتمام بتجفيفها قمت لأربت على كتف أبي محاولاً تخفيف ضيقه، ثم أجلسته على الكرسي .. أمسكت بكرة الخراء، وقربتها منه: (عارف تعمل فيها إيه .. تاكلها) .. حدّق في عينيّ بدهشة لم تفقده هدوءه دون أن يتكلم .. (هي مش بتاعتك .. خلاص .. كُلها) .. قربتها أكثر حتى كادت تلامس شفتيه فزادت حدة الاستغراب في نظرته، ومع ذلك كشف فمه عن ثغرة صغيرة .. (شاطر .. افتح بقك كمان) .. تحولت عيناه من وجهي إلى كرة الخراء للحظات قليلة كأنه يُخضعها لتشريح أخير ثم مد رأسه وقضم قطعة ضئيلة مزينة بسائلي المنوي، وبدأ يمضغها بطقم الأسنان الأمامي)* الخفافيش تتخبط في زحمتها؛ سحبت أبي من قدميه، أسقطته من فوق سريره، كان يصرخ مستغيثًا، صوته كفحيح الأفعى، جسده الضخم أزاح الكثير من الأوراق الجافة، أثناء جرجرته في كل أركان المنزل. لم تغلق أختي هاتفها، ثقبت أمي الشاشة، تسللت داخلها، احتضنها البطل، وشاهدتنا بذات الشغف للمسلسل، ولدت ابتسامة فوق شفتيها. اقتربت الشمس نحو الاشتعال، اخترقت الخفافيش جسد أبي الذي أصبح لزجًا، تنفذ أفواجًا داخله؛ حتى صار أبي خفاشًا محترقًا، تعرق جسدي، أسدلت ستائر المسرحية وكنت سعيدة جدًا وشعرت بالانتشاء.
*الفقرات بين قوسين من قصة (حفل الإرجاء) للكاتب (ممدوح رزق).
موقع (الكتابة) / الأحد, 17 ابريل 2016
اللوحة لـ Herri met de Bles

الاثنين، 20 فبراير 2017

أنا العالم ... مجاز الإلهي والبشري

يدفع (هاني عبد المريد) بطل روايته (أنا العالم) إلى محاولة التماهي مع الوضعيتين الإلهية والبشرية؛ فـ (يوسف عبد الجليل) هو الشاب الذي يستعيد تاريخه العائلي، ويسترجع شخوصه وتفاصيله وعاهاته بوصفه إبنًا لهذا التاريخ من ناحية، وهو الخالق الذي يعيد إنتاج هذا الماضي الممتد على نحو يجعله قابضًا على تدابيره وممتلكًا لمشيئته من ناحية أخرى .. هنا تبدو الوحدة طبيعة جوهرية تليق بالحالتين مع تناقض أساسي؛ فوحدة الشاب اغترابية وانفصالية ـ مقيّدة في نفس الوقت ـ عن الإرث المهيمن في الحاضر الذي أنجبه، أما وحدة الخالق فهي انعزال كاشف، يكمن في الأسرار، ويتوارى داخل الفراغات، متحصنًا بمساحة ملغزة ومتعالية بينه والواقع الذي يحاول دائما تفكيكه وإنشاءه، أي يسعى لأن يخلق مستقبلا متمردًا على قدره .. هنا يمكن لاستفهام المعرفة أن ينمو ويتوالد؛ فـ (يوسف عبد الجليل) يبدو كذات تائهة، منذورة للضياع المحكم داخل الغموض، أما في طبيعته كخالق فإن الغموض لا يتبدد بقدر ما يشيّد حقيقة أخرى للتوهان .. حياة موازية، جمالية، لا تعطي الخلاص أو الفهم أو حتى القبول، وإنما تجعل من الإبهام شيئًا قابلا للعب، لتبادل المراوغة، لمنح تعددية للذات البشرية التي تتأمل تاريخها.
(كان شعور بالامتلاء والثقة لدى جميع أفراد العائلة، يجعلهم لا يشعرون بنقص، تجاه أي نقص بالفعل، خاصة وأن عائلتنا يحكمها العديد من الأساطير، التي بالطبع لم نكن نتعامل معها بوصفها أساطير، بل هي حقائق مؤكدة، خاصة لدى الأجيال السابقة، هذه الأساطير دومًا ما تداوي جروحنا، وتسد نواقصنا وعيوبنا، بل وتنظم العلاقة بيننا وبين الأشياء وبيننا وبين بعضنا البعض).
إذا كان للأساطير دور في بناء الماضي الذي يسترجعه الراوي في (أنا العالم)، وإذا كان لها دور في صياغة هذا الاسترجاع سرديًا؛ فإن الوظيفة الأهم بالنسبة لي هي تعامل البُعد الإلهي لبطل الرواية مع هذه الأساطير بوصفها معادلا سحريًا للأفكار والقصص والترتيبات المحتملة والمجهولة التي تقف وراء العالم الكلي، المتجاوز للسلطة العائلية .. لقد تحولت هذه الأعاجيب إلى خامات كونية ملائمة تمامًا للخالق الذي يعيد إيجاد العالم بمعجزات بديلة، وإذا لم تتسم هذه الخامات بالوضوح اللازم، أو بالقدرة على إنقاذ مستخدمها؛ فإن بإمكان هذا الإله أن يشكلها بالكيفية التي تقودها لتكوين تدابيرمختلفة، وامتلاك مشيئة مغايرة .. أن ينجم عن هذه الخامات صور وحكايات غير مسبوقة، وأن تفقد المدلولات حتميتها داخل فراغاتها.
(بقيت أكتب وأكتب، وفي روعي أنه عندما يسألني أحد لماذا تكتب؟ سأجيب على الفور، أنني أكتب كي أبدد مخاوفي وشعوري بالوحدة، أكتب حتى لا ينتهي العالم).
إن في الكتابة شيء يتجاوز الطمأنة لـ (يوسف) البشري، ولاستمرار العالم لـ (يوسف) الإلهي .. إنها بمثابة نوع من التأكيد لما حدث حقًا ولكن بشكل لا يمكن تهديده .. هنا يصير الهدم والتثبيت فعلا واحدًا .. ممارسة لا تنطوي على تضاد بقدر ما تنطوي على تحقيق الإنسجام .. رغبة في إذابة الذات داخل كافة الأجساد والتفاصيل حتي المنسي والمهمل والمستبعد منها، وتخطي الظواهر الملموسة نحو الإندماج مع ما هو غير مدرك .. أن تكون الذاكرة مثلما هي عليه، دون تحريف، محمية من الفناء كما كانت بالفعل، ولكن داخل فضاء تخييلي، يمكن مطاردة أشباحه مثلما هي قادرة على مطاردة حاملها .. إنه التوحد بين البشري والإلهي الذي تتجزه الكتابة كحلم يقظة.
(أقول لكِ إن قصصي هي عالمي الخاص، عالمي السري، الذي لا يعرف أحد عنه شيئًا سوى أنا والشخصيات التي أستنطقها على الورق، وتعيش في خيالي لأيام تراوغني وأغويها ... قصصي هي العالم الذي أشيده برغبتي، العالم الذي يطاوعني وأكون فيه أنا السيد الأوحد، الذي يأمر فيطاع).
يمكن اعتبار (ريم) أو الغواية المتجسدة في هذه الشخصية، يمكن اعتبارها الوسيط بين البُعدين في ذات الراوي .. الممر الشهواني الذي يعبره يوسف الشاب الذي يستعيد تاريخه العائلي أو (أنا) نحو يوسف الذي يكتب ليخلق هذا الماضي أو (العالم) .. المرآة التي يمكن قراءة كافة اللعنات داخلها، بقدرة استثنائية على التعايش مع الأرواح الشريرة.
(ستصير بين يدي يومًا ما، وستعترف بارتكابك لكل جرائمك، وسترتسم ابتسامة الارتياح والثقة على وجهي).
من هو الرقيب إذن؟ .. أحد شخوص الذاكرة الذي تحوّل ـ مثل يوسف ـ إلى إله معادٍ له؟ .. تحالف من الشخصيات المتواطئة في شكل موحد لإله مختلف؟ .. إله مجهول يوجد خارج الرواية، ولا يريد أن يكون هناك إلهًا غيره، ويؤجل معاقبة كل من تسول له نفسه اللعب بمقدرات الآخرين إلى قيامة ما؟ .. لأن الكتابة هي مجاز الإلهي والبشري فهي الوعد الثابت بتشتيت القمع وبعثرة آلياته، كأن الزمن يقاوم نفسه، أو كأن الآلهة على وشك أن تتخطي المساحات الملغزة والمتعالية التي تفصلها عن الواقع.

الثلاثاء، 14 فبراير 2017

الفن والتفكيك وما بعد الثقافة

(إذا كانت الثقافة قد تشكلت عبر مجموعة من الروايات التي كانت تحكي التاريخ، فمعنى هذا أن ثقافتنا مبنية على مجموعة من الاستعارات التي تعمل على بقاء الحكاية في سياق محدد بالنسبة للمتلقي مهما تعددت الروايات. التفاحة في حكاية الخروج من الجنة تنتقل ـ بوصفها استعارة ـ إلى حكايات أخرى لتعيد إلى الأذهان حكاية الخطيئة الأولى).
في كتابه (عملية تذويب العالم) الصادر عن دار (روافد) ينزع الكاتب الكبير (سيد الوكيل) اليقين عن المعرفة التي سادت عصور الحداثة، وأسست بواسطة علاقات القوة صورًا نمطية عن الفرد، وحددت المفاهيم النظرية لهويته. لقد تحوّلت الذات من قرار أيديولوجي إلى احتمالات متحررة، خارج السياقات العقلية، وهو ما أنتج بالضروة مواجهات بين الماضي الفلسفي كمكوّن للوعي، والأنقاض الناجمة عن هدم المراكز المثالية التي احتكرت (القيمة) سواء على المستوى الوجودي، أو فيما يتعلق بالثقافة كإرث من الحقائق الأخلاقية المهيمنة. يناقش (سيد الوكيل) بإحاطة ملهمة أثر هذه التغيرات، وطبيعة التبدّل في تفاصيل الواقع اليومي لما بعد الحداثة، مثبتا (التشريح) كفضيلة أساسية، أو هاجس جوهري لمراقبة آثار السلطة، وتتبع البصمات المتعددة لتقويضها. كأن الوهم يتم الانتقال به من كونه حصيلة ناجمة عن التفكيك، إلى جعله شأنًا جماليًا يمكن من خلاله مراقبة (التذويب)، وإعادة تجسيده في أشكال مختلفة. تحويل عوامل الصراع إلى عناصر للخيال الفردي ليس للاستمرار في تشكيل وجود الذات فحسب، وإنما لجعل الفعل الثقافي أداءً فنيا لا يخضع لخطاب السلطة، ولا يقصد الانحياز سوى لعدم الاستقرار على أي من القواعد التي سبق أن تكفلت الهوامش بإزاحتها.
(تاريخ التطور البشري هكذا، تدريبات على الإدراك، إدراك العلاقة بين الحركة والسكون، وبين الليل والنهار، بين العادي والمقدس. هذه أشياء قد تبدو متناقضة، لكن هناك علاقات أخرى، ليست على هذا القدر من التناقض الواضح، مثلا: العصا، ليست هي الشجرة، لكن ثم درجة من التماثل بينهما، ومع ذلك فكل منهما يحتفظ بتفرده وتميزه).
يكتب (سيد الوكيل) ما يشبه تاريخا لمصر وفقا لهذا التأمل للتناقضات بدرجاتها المتعددة، فهو يتتبع الخطوات التأسيسية للمشهد الثقافي عبر مراحل عديدة، لكنه الصوت الذي لا يرصد بقدر ما يكتشف ويعيد صياغة الأوجه الممكنة لهذا المشهد خصوصا للعلاقة بين تساؤلات التغيير المقترنة بـ (العولمة) من جانب، والاستهلاك من جانب آخر، أو بين الاستفهامات المطروحة لوسائل التعبير العصرية، والأحلام الكلاسيكية للقمع التي تشكل ملامح ومعايير الأنظمة السياسية، والتي تقف (الصورة) في وضع عدائي لها.
(هذا الدور كان مرتبطًا بكون الفن رسالة عظمى ذات قيمة إنسانية، وليس مجرد منتج سلعي يخضع لشروط العرض والطلب. وفي هذا الصدد، فمع بداية الألفية الجديدة، طالعتنا دار النشر الأكبر بمصر "الشروق" بحزمة من الإجراءات التي ربطت الإبداع الأدبي، بل والمبدع نفسه بآليات السوق، وأنماط الإنتاج المختلفة).
يتخطى (سيد الوكيل) تحليل الأنقاض الفلسفية للحداثة إلى تأمل علاقة الفرد بمفهوم (الهوية) داخل هذا الإطار من التقويض. تبدو (الفردية) في حد ذاتها ـ بعيدا عن اليقينيات المثالية ـ أقرب إلى انشطارات متواصلة، خارج موضوع (الحقيقة)، وهذا ما قد يجعلنا نقارب فرد ما بعد الحداثة باعتباره ممرًا ملتبسًا من المعطيات المتغيرة، الممزقة سلفًا. أن نختبر كيف يمكن لعدم الاستقرار (الدلالي) لوجود الفرد أن يرسم الصورة المراوغة لما بعد (الثقافة)، والتي تتجاوز حدود هذا الفرد . إذا كان الكتاب يتناول (التذويب) كأداء مضاد لهيمنة الإجابات الحداثية، وما تفرضه من علاقات القوة والمعرفة؛ فإن (التذويب) هو أداة للتطلع لما يمكن أن نسميه بـ (الأنساق الافتراضية البديلة) الناتجة عن خلخلة المقدسات الأيديولجية، وكذلك لتأمل علاقة الفرد بفكرة (الهوية) في حد ذاتها، في ضوء هذا الهدم للنظريات. هو أيضًا وسيلة لتفحص الطبائع الجدلية للتحولات التي تنشأ عن النزاع بين الأوهام التنويرية، وتحرير مفهوم (الثقافة) من المعنى، وأيضًا للكيفية التي تحوّلت بها هذه الطبائع إلى تصدعات متواصلة للذات محل الصراع.
قرأت هذا الكتاب الرائع بوصفه انتصارًا للسردية الشخصية التي يمتلكها كل منا سواء تلك التي كتبت أم لا، والتي يستطيع بواسطتها أن يثبت ـ على نحو خاص ـ أنه لم يكن هناك ذات يوم من (الحكايات الكبرى) سوى مصطلح شائع.
موقع (زائد 18) ـ 13 فبراير 2017

الاثنين، 13 فبراير 2017

الأربعون

أمي .. أبي .. لا أعرف إن كان لديكما علم بهذا أم لا، ولكن عمري أصبح أربعين سنة اليوم .. بدءً من الآن سأردد في داخلي برعب أقوى تلك الاستغاثة اليائسة التي ظللت أرددها لنفسي منذ عشر سنوات بالضبط؛ أي منذ اليوم الذي أتممت فيه ثلاثين عامًا: (لقد أصبحت كبيرًا جدًا) .. نفس الكلمات المقبضة التي كنت ترددها لي يا أبي دون أن يسمعها أحد آخر .. كأنك لم تعثر على كائن تستطيع أن تخبره بهذا الذي أصبح تعريفًا لحياتك سوى طفلك الصغير .. طفلك الذي كان يتأمل نظرتك المتوسلة، وملامحك الخائفة، وصوتك الخفيض المرتعش دون أن يجد في رصيده المحدود لدى العالم ما يصلح لإنقاذك، ولو مجرد كلمة مواسية؛ فيبقى صامتًا .. نفس الطفل الذي ظل يربت على ظهرك بعدما كنت تناديه إلى حجرتك، وتطلب منه أن يغلق بابها ثم تخبئ وجهك في حضنه وتبكي بحرقة شديدة .. كانت عينيّ تتطوحان بين أشباح الحجرة التي أغمضت بصرك عنها، محاولا استجوابها بشفتين مطبقتين عما أصابك، فلا تخبرني بشيء .. كانت تتوالد من عينيّ حينئذ أكثر من عين باطنية، تفتش بجزع في اللحظات والأيام السابقة لهذا الطقس السري المتكرر بيننا دون أن تعثر على سبب لبكائك .. تعوّدت أن أربت على ظهرك فقط وراء الباب المغلق، ولا أحكي لأحد، وأشعر كل مرة أن يديّ الصغيرتين مقارنة بظهرك الضخم غير كافيتين للقضاء على آلامك، بينما بقي نحيبك مبهمًا في ذاكرتي لسنوات طويلة .. سأظل أردد تلك الاستغاثة اليائسة في داخلي بذلك الرعب المتصاعد لأنه ليس لدي شخص آخر يمكنني أن أتجرأ وأقولها له، حتى طفلتي الوحيدة لا أظن أنني كنت سأستطيع أن أخبرها بذلك لو كانت تمتلك عمرًا أكبر .. لكنني في المقابل انتظرت حتى طال ذراعاها بما يكفي لأن أخبئ وجهي في حضنها، وأبكي بحرقة شديدة، بينما تربت يداها الصغيرتين على ظهري وراء باب حجرتي المغلق .. هي لم تحك لأحد عن ذلك يا أبي، وأعرف أن لعينيها اللتين تتطوحان داخل الحجرة التي أغمضت بصري عنها نفس النظرة المصدومة، وأنها تستجوب نفس الأشباح التي لن تخبرها بشيء .. أعرف أيضًا أن بكائي لن يظل مبهمًا في ذاكرتها كل هذه السنوات الطويلة .. (لقد أصبحت كبيرًا جدًا) .. إنها الكلمات الأكثر رحمة لأن تقول لشخص ما ـ كأنك تعترف بحقيقة مؤكدة ـ أنك ستموت قريبًا.
إبنتي (ملك) ولدت في نفس يوم ميلادي، وأصبح عمرها ست سنوات اليوم .. كبرت يا أبي رغمًا عني بسرعة لا يمكنني استيعابها .. أصبح بإمكاننا أن نخرج سويًا، ونمشي وحدنا، ونتكلم .. أن نبدأ رحلة جديدة لفقد الأحلام التي لن يمكننا حتى امتلاكها .. نمشي في الشوارع يا أبي التي تعرفها .. التي تغيرت، ولكنها لم تتبدل .. الشوارع التي لم نمش فيها معًا كثيراً، وهي ذاتها التي كنت تسير فيها وحدك بعد أن تهرّب منك من كنت تريده أن يكون صديقًا لك، ولم تجد بعده من يشاركك المساء .. كنت تصادفني أحيانًا مع أصدقائي فتشعر بالغيرة .. أنا أعذرك؛ فأنت لم تكن ترى سوى مشهد تقليدي مخادع لرفقة سعيدة من الأصدقاء المنسجمين .. كيف كان يمكنك يا أبي أن تدرك بأنني كنت أستعد كي أكون مثلك .. بلا أحد .. أتجهّز للتيقن من أنني طوال الوقت كنت مثلك، وأنني فقط كنت أقاوم هذا .. كان ينبغي في تلك اللحظة أن أتركهم يا أبي، وأن أذهب إليك تحت هذه السماء المظلمة، وبين مصابيح المدينة الساطعة، التي لا تقدر على إضاءة أي شيء .. كان يجب أن أتأبط توهانك وعدم تصديقك، وأن أعود بك إلى المنزل، وأن أجلس معك .. أقسم لك يا أبي أنني كنت أفكر في هذا كلما تقابلنا في تلك المواعيد الخبيثة، التي كنت تمشي خلالها على رصيف، وأنا وأقراني نتنزه على رصيف آخر .. أقسم لك أنني تمنيت أن أفعل هذا، ولكنني لم أستطع .. الآن بعدما أصبحت لا أقابل أحدًا، ولا أتحدث مع أحد، يمكنني أن أستوعب أكثر من أي وقت مضى لماذا كنت ترفع يدك بالسلام وأنت سائر وحدك لعابرين لا تعرفهم .. ربما تصورتهم أشخاصًا آخرين، أو ربما كنت تتحجج بهذا التشابه كي تشير إليهم .. كنت ترفع يدك ـ والإثنتين في أحيان كثيرة ـ بالسلام لعابرين لا يربطك بهم سوى ماضٍ لا يستحق الذكر، وعلاقات شاحبة، جعلتك منسيًا تمامًا في أذهانهم، أو على الأقل جعلتهم لا يتذكرونك جيدًا .. لقد قررت أن أبقى في البيت محاولا ألا أُكمل الطريق إلى ذلك المصير .. كي لا أرفع يدي بالسلام للعابرين الذين قد يكونون أبناءً لأولئك الذين كنت تشير إليهم، فيقابلونني بمثل ما كان آباؤهم يواجهونك به .. يتجاهلون تحياتي، أو يبتسمون في وجهي بسخرية دون رد، أو يرفعون أيديهم بشفقة متعجبة .. لقد قررت ألا أخرج من بيتي لأنني كنت قد بدأت أعيش هذا المصير منذ زمن طويل يا أبي دون أن أخبر أحدًا .. نعم يا أبي، كنت أفعل ذلك حتى وأنا أمشي أو أجلس وسط ما كان يبدو أنها صحبة متناغمة لن تتفكك .. كنت ستعرف كل هذا بمفردك لو كان بوسعك رؤيتي الآن بينما أوزع (صديقي الغالي)، (صديقي العزيز)، (صديقي الحبيب) على كل هؤلاء الذين يدّعي فيسبوك أنهم (أصدقائي) .. لكن البقاء في البيت لن ينقذني من تلك اللحظات النادرة التي أخرج خلالها فأجدني دون انتباه أحاول تبادل دعابة صغيرة مع بائع الجرائد مثلما كنت تفعل مع العامل أمام ماكينة عصير القصب في ظهيرة الثمانينيات .. لن ينقذني من تجهم بائع عصير القصب الذي امتد عبر ثلاثين سنة ليستقر في وجه بائع الجرائد .. لن ينقذني من الحرج النادم الذي كان يخفض رأسك وأنت تسير مبتعدًا، كأنك تحاول تثبيت إيمانك بأن طعم القصب هو كنزك الوحيد من الدنيا مثل صفحات القصص القصيرة التي أعود بها إلى منزلي .. البقاء في البيت لن ينقذني من احتضارك وموتك يا أبي.
أنت لا تعرف أم (ملك) .. إنها الفتاة التي كانت تنتظرني دائمًا تحت لافتة (كلية التجارة) في نهار التسعينيات .. التي لم يكن معي ذات يوم نقود للذهاب إليها، وحينما رفضت أمي أن تعطيني؛ حطمت اللوح الزجاجي لباب حجرة الصالون، وسالت دماء غزيرة من يدي .. أنت لم تكن تفهم كل هذا .. كل ما رأيته وأدركته أن طفلا أصبح رجلا فجأة؛ يزعق ويسب ويحطم الأشياء ويُخضِع هواء البيت بجرأة دمائه .. كنت ترى وتدرك نفسك جيدًا أيضًا .. عجوز أصبح طفلا ضعيفًا، حائرًا، غير قادر على التحكم في شيء، حتى جسده .. هذا ما جعلك بعد ذلك المشهد بأيام قليلة، تنتهز غضبك من أمر ما لتضرب اللوح الزجاجي لباب حجرتك، فسالت الدماء من يدك .. لم تكن هناك فتاة في انتظارك كي تفعل هذا من أجلها يا أبي .. لكنك في المقابل، وبعد أن أجلستك أمي على حافة السرير، لتحاول تضميد جرحك، ظللت تصيح في وجهها بعتاب مذهول، طالبًا منها أن تتذكر كيف كنت تصحبها مساءً للتمشية في شارع البحر، وكيف كنتما تعبران كوبري القطارات إلى الجانب الآخر، ثم تعودان من كوبري السيارات في الليالي القديمة .. كأنك كنت تريدها بكل ما تختزنه من لهفة وفزع أن تُخرج من الدولاب حقائبك التي لم تُفتح منذ زمن بعيد، وأن تضع صور الأبيض والأسود أمام عينيك، وأن تساعدك على الدخول إليها سويًا .. لم يكن في يدها شيء من أجلك يا أبي، لذا لم تجد ما تفعله بتلك اليد الفارغة سوى أن تربت بها فوق كتفك حتى أطبقت شفتيك، ولم تتكلم طوال ما تبقى من سنوات عمرك أبدًا.
(
ملك) تسألني عنك يا أمي .. لم تشاهدك إلا في الصور، ولكنها حينما تريد أن تتحدث معكِ؛ تأتي وتسألني عنكِ .. تريد أن تعرف كيف كنتِ؛ فلا أعرف بماذا أجيبها سوى بأن أنتزع ورقة من كراسة، وأصنع لها مركبًا صغيرًا مثل الذي كنتِ تنشأينه من أجلي، ومع كل ثنية للورقة في طريق الحصول على المركب؛ أستعيد يديك، ونظرتك الساهمة من وراء النظارة ذات العدستين السميكتين .. كأنني أشكّل ملامحك الحقيقية لها عبر تلك الثنيات المتتابعة إلى أن يكتمل المركب، وتتبدد ملامحك بينما يد (ملك) تحركه في بحرها المتخيل .. تتبدد ملامحك يا أمي ليس فقط لأن المركب لن يساعدها على رؤيتك بالفعل، مثلما أعجز أنا أيضًا عن استردادك، ولكن لأنه لن يصل بها كذلك إلى الشواطئ التي لم نستطع أنا وأنتِ بلوغها .. (ملك) تشبهك كثيرًا، كأنها نسخة مصغرة منكِ، وستصدقينني حتمًا لو راقبتِ شرودها المعتاد دون أن تشعر .. هل تعرفين يا أمي؟ .. (ملك) تحتضنني، وتقبلني، وتغني لي (بوسة على الخد دا، وبوسة على الخد دا .. الخد دا لا يزعل، ويغير م الخد دا .. واحدة ع الشِمال، والتانية ع اليمين، والتالتة ع الجبين .. يا عيون ماما إنت، قولي طالع لمين، جميل بالشكل دا) .. كأنك تعودين من خلالها لتقومي بما كنت أتأمل (وردة) وهي تفعله في (أوراق الورد)، وأفشل في تصورك وأنتِ تحققينه لي .. لكنني لم أجد فرصة من قبل لأن أقول لكِ بأن حضنك النادر، الذي تلاشى مبكرًا كان يعوضني عن كل شيء .. كان تذكره يعوضني عن كل شيء.
هكذا ستنتهي حياتي يا أمي بتلك الطريقة العكسية .. سأعود طفلا بلا ذاكرة كما حدث لأبي، وستصبح (ملك) هي أمي .. ربما هي التي ستهرع إلى الشوارع بحذائها المنزلي، وبالعباءة السوداء فوق ثياب النوم لتبحث عني حينما تستيقظ وتكتشف أنني لست في البيت .. أنني عندما خرجت من الحمام؛ قررت بدلا من العودة إلى سريري لاستكمال النوم، أن أفتح باب الشقة، وأن أخرج حافيًا، بالبيجاما، دون أن أعرف أين أنا، وإلى أين سأذهب .. ربما سيعثر عليّ أحدهم يا أمي في نفس المكان الذي وجدوا فيه أبي .. أمشي بجوار النهر حيث تعوّد أن يسير دون كائن آخر يتكلم معه، أو يحمل عنه بعض الحيرة التي كانت تثقل ابتسامته المرتبكة دائمًا .. ربما سأرجع معها يا أمي، هادئًا كما يليق بطفل افتقد سريره، وبنفس الصمت القديم، وبالنظرة ذاتها التي كان يتطلع بها أبي إلى الوجوه والأشياء من حوله وهو عائد إلى البيت، كأنني أحاول العثور على ما لا يمكن وصفه .. (ملك) يا أمي، هي التي بعد فترة قصيرة من ذلك اليوم ستحكم إغلاق باب البلكونة في مساء ممطر كي لا يتسلل البرد الذي لن أتمكن من التعبير عن شعوري به، وهي التي ستطفئ ضوء الحجرة حتى أنام، وهي التي ستحكي عن تلك الدموع التي رأتها في عينيّ المفتوحتين حينما أرادت أن توقظني في نهاية هذا المساء، ولكنني لم أصحو أبدًا.
أنا لا أعرف ماذا ستفعل (ملك) من بعدي يا أبي .. أنا لا أعرف ماذا ستفعل وأنا مازلت معها يا أمي .. أنا لم أعد أفعل شيئًا في حياتي سوى الكتابة والبكاء .. أكتب كثيرًا، وبسرعة متزايدة، كأنني أحاول ألا أنسى شيئًا .. كأنني أحاول اللحاق بكل شيء .. كأنني أحاول الوصول إلى شيء غامض سينقذني قبل انتهاء الوقت .. أصبح كل شيء يجعلني أبكي: تأمل الماضي .. مشاهدة الناس من الشرفة .. النظر إلى الغيوم .. الاستماع إلى الأغنيات القديمة .. التفكير في الموت .. الجلوس بمفردي وراء باب مغلق .. كتابة هذا القصة تُبكيني .. لكنني أصبحت أيضًا كلما ضحكت لأي سبب أجد صعوبة كبيرة في التوقف .. أنا الذي لم أكن أقدر على التحدث إليكما وأنتما على قيد الحياة .. هكذا، أصبح عمري أربعين سنة اليوم.

الخميس، 9 فبراير 2017

كأنني أحاول استرداد حياة غامضة

المفارقة
سأحاول الآن استعادة كيف كتبت قصتي الأولى .. ما أقصده بالقصة الأولى هو الكيان اللغوي الأول الذي كان لدي اطمئنان وقتئذ لتسميته (قصة قصيرة) بعد محاولات عديدة للانتقال من (موضوعات التعبير المدرسية) إلى (الكتابة الأدبية) .. زمن الانتهاء التدريجي لمرحلة مبكرة كنت أتخيل نفسي خلالها داخل حكايات مختلفة، متقمصاً شخصيات الآخرين سواء كانوا الغرباء في الشارع، أو أبطال الكوميكس والروايات البوليسية وقصص الخيال العلمي وأفلام ودراما التليفزيون .. بداية قمع لم يكتمل حتى الآن لرغبة التحدث مع الآخرين، والمشاركة حتى في ما لا أقدر على فهمه أو استيعابه من تجاربهم، وأخذ دور فيها بأي شكل .. المحاولة تعني أنني لست واثقاً من صحة النتائج التي سأحصل عليها، أو بشكل أدق من انتماء تلك النتائج للحظة القديمة التي سأستعيدها؛ إذ أنه من المحتمل جداً أن يكون المؤثر الأقوى في تشكيلها هو رؤيتي الآن للماضي وليس الماضي نفسه .. (الاستعادة) إذن هي مغامرة لاقتناص الاحتمالات، أكثر منها إيمان بخط مستقيم سيقود الالتزام به إلى يقينينات.
كنت في المرحلة الإعدادية، وشاهدت ذات مساء برنامجاً تليفزيونياً تستضيف فيه المذيعة رجلاً مشلولاً يجلس فوق كرسي متحرك .. أثناء التمعن في هذا المشهد معزولاً عن صوت الحوار كانت صورة رجل مشلول يجلس فوق كرسي متحرك تُرسم في ذهني .. مجرد انتقال مسالم من ما يُسمى بـ (الواقع) إلى ما يُسمى بـ (الخيال) .. لكن كان هناك سؤال ينمو أو ربما كان هذا السؤال هو ما يُعيد رسم المشهد دون تحريف في داخلي: (ما الذي ينقص هذه الصورة؟) .. الإجابة بديهية بالطبع: هذا رجل مشلول ويريد أن يمشي .. المشي بالنسبة له أمنية .. حلم ربما صعب التحقيق .. جميل جداً .. إذن فهناك سؤال آخر يجب أن يضيء داخل السؤال الأول: ما الشيء الذي يرمز إلى (الحلم) ويكون وثيق الصلة بالقدرة على المشي؟ .. طائر .. حصان .. الرجل لا يريد أن يطير ولا يريد أن يجري .. إنه يريد على الأقل أن يقف ويمشي .. ثم لماذا لا يكون الرمز أقل تحديداً وأكثر غموضاً، وبالتالي شاسع الدلالة فيما يتعلق بالتحرر من الشلل .. حسناً .. ربما كان في الحصان أوالطائر وضوح وواقعية أزيد مما ينبغي .. لماذا لا آتي بشيء ساحر، غير ممسوك ليكون رمزاً ثم أُكسبه صفات وسمات إنسانية دون أن يفقد خواصه الأصلية؟ .. كانت (النجمة) لائقة بهذا الدور .. ما الذي ينبغي أن يحدث إذن بين رجل مشلول يجلس فوق كرسي متحرك ويحلم بالمشي ونجمة؟ .. يمكن للنجمة أن تصبح امرأة جميلة، مغوية .. يمكنها أن تنادي على الرجل المشلول من وراء شباك الحجرة التي يجلس فيها وحيداً (الوحدة مرادف بديهي للشلل على المستوى النفسي) .. الرجل يستطيع أن يُحرك يده ليفتح الشباك حين يسمع نداءها له .. يمكنه أن يبتسم لها .. يمكنها أن تقترب منه .. أن تهمس في أذنه .. أن تتمايل بدلال وفتنة، وأن ترخي ثوبها الفضي (كضوء النجوم)، وأن تهمس له من جديد .. الرجل يمد يده إليها مثلما مدت يدها إليه .. سيحاول أن ينهض حين تتلامس أصابعهما، لكنه سيترنح ويتهاوى على الأرض الصلبة (الصلابة التي تعني أن هناك واقع متبلد خارج جسد الرجل المشلول، لا يهمه ولا تؤثر فيه معاناة كهذه) .. الرجل ينظر إلى النجمة بأسى .. النجمة تبكي وهي تنظر إلى الكرسي المتحرك.
كان هناك حرص على ألا يكتشف القارئ (الكرسي المتحرك) إلا في نهاية القصة .. هذه من النصائح الجوهرية التي تجعل من قراءة القصص البوليسية أهمية أساسية في بداية حياة الكاتب .. أنها تثبت في وعيك كيف تُخفي وتصدم .. كيف تعد مفاجأة سرية داخل حالة هادئة ثم تعلن عنها في الوقت المناسب من حيث لا يتوقع أحد .. لذا كان الرجل منذ بداية القصة (يجلس فقط) ولكن في النهاية تبين أنه يجلس فوق (كرسي متحرك).
لكن إذا كانت القصص البوليسية تُدربك على هذه الاستراتيجية فالموضوع ليس أداءً شكلياً بل كل ما في الأمر أنك في الكتابة تستخدم نفس ما يمكن أن تستخدمه في حياتك اليومية من حيّل دفاعية، وألعاب نفسية مع نفسك ومع غيرك .. في الواقع، ووفقاً للمحاذير والحسابات الذاتية أنت تكبت أفكاراً وأكاذيب، وتواري انفعالات وخدع ثم بناءاً على تقديراتك الخاصة تُفصح عنها وبكيفيات متعددة محاولاً أن تكسب بها لحظة الوجود مع الآخر .. إنها نفس المحاولة لتنظيم الكلمات في حوار ما لتوصيل رسالة بأكثر الأساليب الملائمة، أو للتحدث في موضوع أمام مستمع مكسباً إياه طباع الهيمنة والتشويق والإمتاع بفضل حصيلتك من خبرات .. القصص البوليسية تُذكرك دائماً باستعمال هذا الأداء (البديهي) في الكتابة أيضاً، وخاصة داخل عالم يتيح لك الأمان اللازم لترتيب هذه الإجراءات بحرية، ودون تهديد قد يُسببه تدخل شريك ما.
يقول (ديفيد بالداتشي):
(أتعلم من يفوز في المحكمة؟ الموكل الذي يمثله محامي يروي قصصاً أفضل من المحامي الآخر. عندما تقوم بإجراءات دعوى قضائية لا يمكنك تغيير الوقائع. يمكنك فقط إعادة ترتيبها لجعل القصة أفضل لتدعم موقف موكلك وذلك بالتأكيد على أشياء معينة والتقليل من أهمية الأخرى. فتقوم بالتأكد من أن الحقائق التي تريد للناس تصديقها هي الأكثر إقناعاً. والحقائق التي تؤذي قضيتك تتخلّص منها إما عن طريق تبريرها أو إخفاءها. هكذا تُروى القصة .. ويليام غولدمان، الذي كتب سيناريو “السلطة المطلقة”، أعطاني نصيحة جيدة جداً: “أكتب كل شيء كما لو كان أول شيء كتبته في حياتك. فاليوم الذي تعتقد فيه بأنك تعرف كيف تفعل ذلك هو اليوم الذي تنتهي فيه حياتك ككاتب”. كان محقاً. عندما تصبح الكتابة وظيفة لي – حينما أبدأ بالتفكير بأنني أفضّل لعب التنس وأقوم بأخذ طرق مختصرة وأكتب هذه المرة مثل المرة السابقة – سأتوقف عنها.(
لو أردت الآن التحدث نظرياً وبشكل عام عن ما يحيط بهذه التجربة وعن الاستنتاجات (المحفزة للجدل) التي قد تنجم عنها فإنه من الأجدر الإشارة إلى إيماني وقتئذ ـ أي وقت كتابة هذه القصة ولسنوات طويلة بعدها ـ بذلك الشيء الذي يسمى (الموهبة) والذي لن أخوض الآن في شرحه من حيث تداخل معناه مع فكرة أن الكاتب نبي بطريقة ما ويحمل رسالة إلى آخر هذا الكلام .. لكنني الآن أريد التركيز على أن الكتابة أصعب من مجرد حصول إنسان على مهارات خارقة كهدية من الغيب يتحول على إثرها إلى كائن نادر واستثنائي .. الكتابة قرار غير مشروط بشيء إلا برغبتك في الكتابة وبأن تفعل كل ما تراه ضرورياً ـ أياً كان ـ لخدمة هذه الرغبة .. إن توقفي أمام مشهد الرجل المشلول في التليفزيون وانتقال صورته إلى ذهني وما تبع ذلك من خطوات ليس صدفة .. لقد رأيت نفسي في الرجل المشلول، أما الكرسي المتحرك فهو كل الأدوات التي أستعملها في حياتي وتدعي أنها تساعدني على الحركة، ولكنها في الحقيقة تثبّت عجزي .. الكرسي المتحرك هو الأسرة والجيران والمعلمين والزملاء والوجوه التي لا أعرف أصحابها .. هذا لم يكن مدركاً أمامي وأنا استجيب للمشهد في التليفزيون وأعمل عليه لأخلق منه قصة قصيرة، ولكن هذه المحركات كانت ضمنية وتؤدي عملها في صمت تام دون أن أشعر.
النجمة هي تفصيلة من حياتي؛ فأنا منذ صغري أحب النظر طويلاً إلى النجوم سواء في السماء أو في الصور أو في الرسوم داخل كتب الحكايات والكوميكس وأفلام الكارتون .. كنت ولازلت أهوى رسمها فضلاً عن أنه من ضمن الأسباب التي جعلتني أقع في حب فتاة جميلة كانت معي في الفصل الابتدائي أنها كانت بارعة في رسم نجوم أروع من النجوم الحقيقية ..  لهذا اخترت النجمة كرمز للانفلات من الشلل، فهي كانت تناسبني أكثر من الطائر أو الحصان .. كنت أريد ما يتعدى الطيران أو الجري .. كنت أريد التحرر .. الحجرة هي حجرتي وبالتالي الشباك .. كل شيء في القصة يخصني، ولهذا فالكتابة قرار استخدام لما تملكه للقيام بأمر لا يمكن تحقيقه إلا بواسطة الكتابة .. القرار أيضاً سيدفعك بالضرورة ـ ومع استمرار الكتابة ـ إلى التوقف أمام المشاهد واللحظات المنتقاة ـ مثلما حدث معي أمام البرنامج التليفزيوني .. الصور التي تتنمي إليك .. أي أن الرغبة في الكتابة هي التي تقف وراء ما يمكن أن نُطلق عليه (توظيف الواقع) لصالح (التعبير عن همك الشخصي) أياً يكن ما تعنيه كلمة (التعبير) وما يُفهم من دلالة (الهم الشخصي).
أكثر القصص سحراً بالنسبة لي هي ما تنطوي على مفارقات مركبة، تتطور باستمرار .. خدع من المتاهات المتداخلة الممتدة في جميع الاتجاهات دون حواجز .. لا توجد مواصفات جاهزة بالطبع لما يسمى بالخدعة السردية .. كل كاتب يكوّن مصائده الخاصة وفقاً لما يعرفه عن المصائد .. أنت تؤسس وعداً كأنه هو الشيء الوحيد الحقيقي الصادق المتاح الذي بوسعك الآن أن تقدمه للقاريء، لكنك ستخالفه بشكل مفاجيء فيتبين أن ما كنت تؤسسه ليس وعداً وإنما ستار أعده فخ سري .. فخ يفتح أمام من يقع فيه سيلاً من الأبواب والنوافذ المتدفقة التي تؤدي لارتكابات غير منتهية .. هذا الفخ هو القصة القصيرة .. لا تنخدع بمصطلح (النهاية الكاشفة) فهناك اعتياد بأنه يعني وضع حل لمشكلة، ولكن من الأفضل في تصوري أن تبين النهاية ـ دون مباشرة ـ الصراع بين ما كان ظاهراً وما كان مخفياً في النص، وكيف يمكن لهذا الصراع أن يتطور وينمو ويمتد ويتسع وتتشابك أطرافه وتُخلق له تفاصيل جديدة تتصاعد دون نقطة ختام.
لاشك أن من أهم ما يعتمد عليه تشييد الخدعة القصصية هو مهارة الإخفاء .. ما الذي يجب أن تخفيه وكيف وأي آثار وعلامات وإيحاءات مراوغة ستتركها (خاصة الفراغات) لتشير إلى وجوده دون التورط في فضح، وما الذي ستكشف عنه وكيف ومتى ..  أنت من تحدد كل هذا فلا يوجد كتاب إرشادات لصنع خرائط المفارقات .. كيف تلعب بالمتناقضات للوصول إلى ما هو غير منتظر .. كيف تستخدم طريقة الشظايا (المقاطع التي تبدو للوهلة الأولى لا علاقة لها ببعضها) في عملية الإخفاء.. المفارقة تصبح هنا مرآة لجسدك الذي يتكوّن من أجزاء متناثرة ومتجمعة، ذات تواريخ متباينة .. تذكر دائماً أنه مهما كان الكم الذي صرحت به فهناك دائما ما سيظل مخفياً .. هناك طوفان من قصص قصيرة لم تُسرد أبداً في المتن سواء مارست الإخفاء الكامل أو التصريح الكامل .. في النهاية حساباتك لهذه المقادير هي رهانك الذاتي.
إن المسألة تتعلق بكونك شخص عادي لا يستطيع أن يستوقف الناس الذين لا يعرفهم في الشوارع ويقول لهم أن هناك وراء ملامحه أشياء ينبغي أن يعرفوهها .. أنت لا تستطيع أن تفعل هذا فقررت كتابة القصة قصيرة، أما الخدع السردية فهي المتعة التي تنظم من خلالها ما تريد قوله .. هي ليست متعة شكلية قطعاً وإنما كما قلت سابقا محاولة توصيل أو إبلاغ الأمر بأكثر الطرق تأثيراً وبأكثر الوسائل ملائمة وفقاً لما يناسب الكتابة.
ما تقرره أيضاً في الكتابة القصصية هو المنطق السببي الخاص بك، فأنت غير مطالب باتباع أي نظام من الدوافع المقررة للوصول إلى نتائج بديهية .. من الاتهامات التي قد توجه إليك بأن سلوك الشخصية غير مبرر، ولكن على من يوجه هذا الاتهام أن يمتلك أولاً التعريف الأكيد، الكلي، الذي ينطبق على كافة الحالات المماثلة، ولا يمكن التشكيك فيه .. يكفي أن يكون سلوك الشخصية مبرراً بالنسبة لك، وإذا لم يستوعبه أحدهم فهذه ليست مشكلتك .. الأمر يتعلق بافتراض أن الكتابة لابد أن تكون انضباطاً مضاداً لفوضى الحياة، فمن الغريب حقاً ـ أو ربما هو العادي ـ أن يصادف الفرد في كل مكان وفي كل لحظة أحداثاً وأموراً يعتبرها غير مبررة دون أن يتوقف أمامها كثيراً أو يحاسبها أويحاكمها في وعيه، وإنما يفعل النقيض حينما يصادفها في نص أدبي فلا يتوقف عن اتهامها بعيب مخالفتها للمنطق .. هناك من يريدك أن تنقذه بالكتابة من عماء الواقع ولا يجب عليك أن تفعل. 
من الدعائم الجوهرية أيضاً التفكير في أن الشخصيات والأفكار والأحداث هي وجوه لبعضها بطريقة أو بأخرى مهما بدت حدة التنافر بينها .. الانشغال بهذا سيجعل الأشياء انعكاسات متحالفة، كأن كل جزئية ترى تجليات متعددة لها في مرايا الجزئيات الأخرى، وهذا الانعكاس هو ما يسهل في تصوري استخدام المفارقة .. الانعكاس يوفر شعوراً قوياً بالتناغم بين المتناقضات، وبالانسجام بين التضادات ومن هنا تصبح الأشياء المتنافرة خامات يمكن توظيفها لصالح بعضها .. يمكن اخفاءها وتعيين دلائل لها والكشف عنها والكشف عن انتماء كل منها للأخرى .. هذا ما يخلق قوة المفارقة.
اللغة
استعملت في قصة الرجل المشلول قاموساً مكوّناً من جميع قراءاتي السابقة وهذه فرصة للتحدث عن موضوع (اللغة) لأنني لا أنظر للكاتب بوصفه صندوقاً مغلقاً على مفردات وتراكيب لغوية محددة يمكن تعريفه بها كهوية .. اللغة بالنسبة لي كالأسرة والجيران والمعلمين والزملاء والوجوه التي لا أعرف أصحابها .. اللغة كالكراسي المتحركة .. أي أنها أغراض خبيثة .. حالات متغيرة ومتبدلة لا ترضخ للثبات، وبالتالي هي مواد أوّلية تُستخدم وفقاً لتدابير لحظة استعمالها .. قد يسهل القول أن تنظيم مسارات اللغة يتم بناءاً على متطلبات أو ضرورة ما، ولكنني أريد أن أتفادى شبهة التحديد والفصل بين ما يمكن التورط في تسميته بـ (أنواع اللغة) داخل هذه العبارة .. لذا يطيب لي استبدالها بقول أقل تعسفاً وهو أن لغة النص هي نتاج صراعات غير محكومة بين تاريخ الكاتب وتاريخ قراءاته وهواجسه الحالية .. بين مزاجه وكوابيسه وأسراره .. اللغة هي صراع ذاكرة منزوعة الفواصل.
من حقك أن تمارس ما يمكن اعتباره حذلقة أو فذلكة أو نحتاً مبالغاً في اللغة .. لكن من الأسئلة الضرورية التي أجد أنه من الجوهري الاستمرار في طرحها طوال الوقت بداخلك: هل تتسم لغتك بالتنوّع أم بالجمود؟ .. هل تتحقق في لغتك اختلافات أم أنها تتخذ طبيعة ثابتة؟ .. هل يمكنك تبرير ـ لنفسك ـ استعمال أشكال معينة في لغة نص ما دون استخدام شكل آخر؟ .. كان أسلوبي في البداية (أي أواخر المرحلة الابتدائية وجميع سنوات المرحلة الإعدادية) محصوراً في مزيج واضح من (نبيل فاروق) وكتّاب سلسلة إشراقات أدبية في الثمانينيات والتسعينيات أذكر منهم الآن (مجدي البدر) و(معصوم مرزوق) و(أحمد حميده) وبعض الأعمال المبسطة للكلاسيكيين مثل (تشارلز ديكنز) و(روبرت لويس ستيفنسون) و(ألكسندر دوماس) .. منذ عدة أيام كان الكاتب الكبير (محسن يونس) يناقش مجموعتي (مكان جيد لسلحفاة محنطة) وقال أثناء الندوة جملة اتفق معه الموجودون فيها (أصبحت أعرف نص "ممدوح رزق" قبل أن أقرأ اسمه عليه) كان يتحدث من منطلق أنني أمتلك طريقة خاصة جداً في كتابة القصة القصيرة ليس لها شبيه عند كتّاب القصة الآخرين .. لم  يكن المقصود هنا تحوّل الكتابة إلى قوالب نمطية وإنما ما تستطيع استنتاجه من المناقشة هو أن المفاجآت غير المتوقعة التي أمارسها هي التي يمكن ألا يكون لها شبيه .. لهذا إذن أصبح هناك قراء حينما يصادفون خدعاً وألعاباً سردية صادمة فإنهم ينسبونها لي بشكل تلقائي .. بصمة أن تكون لك غرابتك المميزة.
المعنى
ستقابل بالتأكيد من يتهكمون على أن (لقصتك معنى) باعتبار أن المعنى المقصود يسعى لتوصيل غاية مثالية أو قيمة أخلاقية أو شعور وطني نبيل مثلاً .. أنا واحد من هؤلاء المتهكمين، ولكنني في الحقيقة لا أعرف أصلاً شيئاً اسمه المعنى سواء كان قيمة أو أي شيء آخر .. طالما أن الأمر كذلك فلا يجب على أحد أن يخجل من أن لقصته غاية أو مقصد إصلاحي ما، فالقيمة ليست معنى بل هي ببساطة ما تريد أن تكتبه الآن وفي ذلك تتساوى كل الرغبات سواء كانت تسعى للمساهمة في تحقيق العدالة الكونية أو الضحك للأبد .. الكتابة هي الدليل الذي تريد نحته في الفراغ على مرورك في الحياة وعلى ما حدث لك فيها وعلى ما كنت ترجوه منها حتى لو كان (قتل الأشرار والتخلص من المفسدين).
في كتابه الشهير (ما الأدب) طلب (سارتر) من منتقدي أفكاره حول (الأدب الملتزم) أن يذكروا له قصة جيدة واحدة غايتها خدمة الاضطهاد، وقصة جيدة واحدة كتبت ضد السود أو ضد العمال أو ضد الشعوب المحتلة .. هذه هي (الأخطاء) التي لا يمكن لأي انسان أن يقبلها أو يكتب دعماً لها (طبعاً) ، لكن المضحك بالفعل هو أن بإمكان أي قارئ أبيض ليس عاملاً ولا محتلاً أن يعتبر أي قصة خادمة لاضطهاده أو تمارس عنفاً غير مبرر لأفكاره ومشاعره وبالمناسبة قد يعتبرها (سارتر) قصة رائعة .. يمكن لأي كاتب أن (يضطهد) في كتاباته كافة ما يعتبره شروراً مؤذية طافحة من معتقدات وسلوكيات أي فرد أو جماعة بشرية تجاهه .. أن يكتب ضد ما هو أكثر كراهية بالنسبة له من السود والعمال والشعوب المحتلة دون أن يعتبره أحد عنصرياً أو فاشيا .. (تحديد الأخطاء) يؤسس دائما لترتيب ذهني للجرائم ينبغي عليه حتمياً الخضوع لسلطة تحكم تحوله من الشخصي إلى العام  .. يجعل جريمة ما أكثر وضوحاً من جريمة أخرى وبالتالي أكثر قسوة، فضلاً عن أن هناك جريمة تستطيع نقل جريمة أخرى من خانة (الخطأ) إلى خانة (الصحيح).
إن الفكرة ببساطة هي أنه لا وجود لمجموعة محددة من الموضوعات الصائبة التي يجب ألا تخرج كتاباتك عنها .. ليست هناك أفكار معينة هي التي تتحقق فيها ما يسمى بقيم (الخير والحق والجمال)، ولا يوجد أشخاص يمثلون الخير المطلق وآخرون يمثلون الشر المطلق، بل أنه من الأفضل أن تفكر في عدم وجود الخير والشر من الأساس، وإنما في وجود ظنون متقلبة تحاول تنظيف العالم .. إذا بدا لك أن هناك بالفعل أفكار وأشخاص يمكن وضعهم في خانات مقفولة للخير والشر فليس ذلك خطأً أو عيباً بل كل ما في الأمر أن هناك ما تولى إنتاج تلك الرؤية بالذات في ذلك الوقت تحديداً، وكل هذا قابل للتغير والتبدل، وبالتأكيد في اللحظة التالية سيكون عادياً أن تكتشف وتعثر على ما لم يكن مُدركاً بالنسبة لك في زمن فائت.
إن هذا ليس تحريضاً على عدم أخذ موقف أو تبني عقيدة أو الإيمان بنمط تفسير للعالم، وإنما محاولة لخلق كافة الاستفهامات الممكنة حول علاقة الكتابة بالمواقف والعقائد والأنماط .. سأحاول صياغة المقصد في معادلة سهلة تفترض أن الكتابة لا ترفض الملتزمين بثوابت فلسفية وسياسية مثلاً، ولكنها في المقابل تفتح أمامك ثغرات لتُبقي على أهمية الشك .. الشك الذي يرفض الاستقرار على ترتيب أو نظام أو نسق، ويخلخل المفاهيم والمعايير التي تحاول طوال الوقت ضبط مقاييس الجودة للكتابة.
العمق
إن سلطة كلمات مثل (الموهبة) و(الأديب) و(عبقرية الفنان) لابد أنها ستقودنا إلى موضوع الجودة وما يخلقه من فرز طبقي للكتابة .. المثال الأبرز في هذا الشأن هو الفصل بين الروايات البوليسية وقصص الرعب والخيال العلمي على سبيل المثال وبين (الروايات الجادة) التي تحمل (فكراً رفيعاً) .. في مصر هناك جذور لهذا الفصل، ولهذا أستعير ما جاء في كتاب (عصور نهضة أخرى) ـ وهو كتاب أنصح بقراءته ـ وتحديداً في الفصل المعنون "وسائل تسلية الشعب: الترجمة والرواية الشعبية والنهضة في مصر" حيث كتبت "سماح سليم":
(تتأرجح هذه "النهضة" الأدبية من دون ثبات بين حنين أصيل إلى عصر ذهبي مفقود للحضارة الإسلامية الكلاسيكية ودافع حداثي محموم شكّلته وقيّدته ضغوط اللقاء مع الاستعمار. نشأت الرواية العربية من هذا الوعي المزدوج، تحديداً، كرواية تكوينية منتفخة تسرد أزمة الذات البرجوازية الحديثة بانتظام في عالم من التوترات والفرص المتصارعة بجنون، من جهة، كانت سوق الروايات الشعبية الرائجة في نهاية القرن التاسع عشر خافية عن الأعين بدرجة كبيرة في التاريخ الأدبي، لكنها حتى عندما ظهرت للعيان، أتى ظهورها كعلامة على التدهور الاجتماعي والثقافي الذي كان مشروع النهضة يحاربه).
كأن هناك قائمتين كونيتين: تم تعيين الموضوعات الهامة في الأولى، والموضوعات التافهة أو الأقل أهمية في الثانية.
بالعودة إلى (ديفيد بالداتشي) نجده يقول:
(يقتلني هذا التمييز ما بين الروايات الأدبية والتجارية، فهو أشبه بتقسيم الاتحاد إلى اثنين. مثل تقسيم الوحدة بين اتحاد العمال الأمريكيين وكونغرس المنظمات الصناعية. ومن سيشجع هذا الانقسام؟ الشركات الكبرى.
حضرت فعاليات كتابية في جميع أنحاء البلاد وقابلت الكثير من الروائيين الأدبيين الرائعين والذين يرحبون بالكتاب التجاريين مثلي بكل رحابة صدر. وكأن أحدهم يقول لي: “مرحباً يا رفيقي!”. ولكنني من جهة أخرى وجدت الكثير من العدائية. فالجانب التجاري يشكو: “أنا أكتب كتباً بجودة كتبك ولكنني لا أفوز بأية جوائز”. والجانب الأدبي يشكو: “أنا أكتب كتباً أفضل من كتبك ولكني لا أبيع أياً منها.(”
لا تصدق أن هناك مجمع مقدس غير مرئي يتولى إصدار الأحكام الأدبية .. لا تصدق أن هناك روايات أقل من روايات، أو أن هناك ثقافة أرقى من ثقافة، أو أن هناك قاريء ساذج طالما يقرأ (جي كي رولينج) وقاريء عميق طالما يقرأ (كونديرا) .. صدّق فقط ما تجربه بنفسك، وما تقتنع به .. من لم يعثر في كتاباتك على (فكر رفيع) فتلك ليست مشكلتك ولا مشكلته بل في الواقع مشكلة اللغة التي تُطلق صفات وأحكام وتصنيفات .. مشكلة تصديق الدعايات التي يأكل (اللاعبون في الثقافة) عيشهم عليها.
سيسأل أحدهم كأنه يقول (كش مات): هل يتساوى (نجيب محفوظ) بـ (أحمد خالد توفيق) مثلاً؟؛ فيجيبه أحد آخر: (ما حاجتك للمفاضلة؟، ما معنى التساوي، وماهي أدوات القياس؟، لماذا يجب على انحيازاتك أن تكون استحوذاية، أي تصير مقاييس ثابتة لانحيازات الجميع؟). 
لو كان تفضيل قارئ ما لـ (أحمد خالد توفيق) عن (نجيب محفوظ) جريمة لوجبت محاكمته إذن بتهمة الجهل قبل أن (نشفق عليه)، ونبدأ في معالجة طيشه بدلاً من العقاب حتى يغير رأيه ويصير (كياناً صالحاً).
هناك من سيوجه اللوم إلى نظام التعليم وثقافة المجتمع وكافة الأطر المعرفية الفاشلة التي تسمح بطغيان هذا (النوع من الروايات) كأنك لو درّست أدب (نجيب محفوظ) في جميع المراحل التعليمية ووزعت كتبه بالمجان على كل فرد من أفراد الشعب وعُرض كل يوم فيلم مأخوذ عن قصة له في قناة حكومية فإن كل هذا سيمنع قراء من تفضيل كتابة (أحمد خالد توفيق) عن رواياته.
سيقول أحد آخر أن المرحلة العمرية هي الحاكم فـ (أحمد خالد توفيق) موجّه للمراهقين والشباب في حين أن أدب (نجيب محفوظ) مخصص للكبار .. هذا المنطق ينسحب خجلاً أمام إعجاب المراهقين والشباب بـ (نجيب محفوظ)، وأمام شغف (الكبار) بـ (أحمد خالد توفيق) وبالطبع أمام إدمان كثير من العجائز لقراءة (أجاثا كريستي) مقابل نفور تام من أعمال (ساراماجو) مثلاً.
إذا أعجبتك (كمثقف) قصة لـ (أليس مونرو) فإنك معرّض للاتهام بالسطحية طوال الوقت من بعض من يعشقون (الروّاد): (تشيكوف) .. (موباسان) .. (همنجواي) .. لهذا فسؤال المتعة أكثر جدوى عندي من سؤال الفرز .. المتعة التي ترفض تحويل الذائقة إلى مطلق.
أرجو في هذا السياق قراءة مقال (كيف تحولت الموناليزا إلى أيقونة؟) لـ (إيان ليزلي) ترجمة (أحمد شافعي) على مدونة (قراءات).
الكاتب
الكتابة في جانب رئيسي منها تعني بالنسبة لي التمسّك بالرغبة الطفولية في خلق قصص تماثل الحكايات التي كنت أقرأها وأتخيل نفسي فيها، أو في حكايات تشبهها، أو مغايرة لها .. هذا التمسّك أكثر صعوبة مما يقال عن (الموهبة)؛ فالأمر عندي ليس قدرات مبهمة تأتي بها إلى العالم فيتحوّل الخلق إلى رفاهية قدرية لا دخل لك فيها، وإنما مطلوب منك ألا تهدرها، وأن تحافظ عليها، أو في قول مأثور سخيف (كيف تنمي موهبتك)! .. الرغبة الطفولية في خلق القصص وكتابة الحكايات المتخيلة ليست أعلى شأناً من الرغبة الطفولية في أن تصبح طبيباً أو ضابط شرطة كما أنها ليست أقل منزلة .. كل الرغبات الطفولية متعادلة في تصوري، ولا أعطي الكتابة قيمة (بالمعني التقليدي للقيمة) يجعلها (تسمو) فوق كل الهوايات والمهن .. وجاهة الفن والأدب وجميع الأفكار اللامعة المتعلقة بالكتابة أشياء لا أثق فيها مطلقاً، بالعكس أجد في نفسي دائماً لذة لهدم رومانسيتها وتعكير نقاءها .. قد تُحدد الفروق في أن الكتابة ربما لا تكون مهنة بالمعنى الشائع حتى لو صارت مهنة بالفعل عند البعض، كما أنها قد تُعد من أكثر الممارسات قابلية للهوس، وبالطبع فإن الكاتب معرّض لأن يكون من أكثر الكائنات حساسية وانشغالاً بالعالم .. لكن كل هذه الفروق أيضاً وهمية في ظني، ويمكنها ببساطة أن تتحقق دون ارتباط بعلاقة مع الكتابة، كما أن الأوصاف المعتادة التي استخدمتها الآن تبدو مرنة وعامة وغير دقيقة إلى حد لا يجب معه الاستسلام .. نعم الكاتب ينتج (هكذا يقال) ما يتجاوز فرديته، يتخطى الواقع المباشر، ويعرف كيف (يُعبّر) عن البشر وعن ماوراء الوجود .. لكن هذا بالنسبة لي كأنك تقول أن الكاتب يأكل ويشرب وينام أي أنه لا اختلاف بينه وبين أي شخص آخر .. كل شخص يتجاوز بالفعل فرديته، ويتخطى الواقع المباشر، ويعرف كيف يُعبّر عن البشر وعن ما وراء الوجود، ولكن بطريقته وهذه هي الكلمة التي أجدها هامة هنا .. (طريقته) بمعنى أنه لا يوجد قانون (لتجاوز الفردية والواقع) أو (للتعبير عن البشر وعن ما وراء الوجود) .. لا يوجد منهج صنمي يُصنِف من يلتزم به بأنه ناجح ومن يُخالفه بأنه فاشل .. (طريقته) أن أي شخص يقوم بما يؤديه الكاتب على المستوى التفكير والشعور دون أن يكتب .. الكاتب فقط هو الشخص الذي لم يكتف بذلك بل قرر أن يفضح الهوس والحساسية والانشغال عبر اللغة، وأن يوثق هذا الذاكرة ويُحركها في العالم كأنها ذاته أو وجه من وجوهه .. أي إنسان من الوارد أن يفعل هذا في أي لحظة إذا أراد، وإذا أتيحت له الفرصة، وإذا استطاع تحمّل الألم الناجم عن ذلك.
أتصور أن تحوّل المقارنات إلى هاجس مستمر، لا يهدأ هو أمر مفيد .. أن تظل تسأل نفسك دائماً: ما الفرق بين قصتك والمقال السياسي؟ .. ما الفرق بين قصتك ومحاضرة التنمية البشرية؟ .. ما الفرق بين قصتك وخطبة الجمعة؟ .. أسئلة من هذا النوع كفيلة وحدها بأن تبقيك متيقظاً ومشغولاً بنصك، ومحافظاً على أداء الواجبات الضرورية اللازمة لإبقاءه (نصاً) كما تعرف عن (النصوص) مهما اتخذ هيئة المقال أو المحاضرة أو الخطبة.
يقول الشاعر على لسان (ستيفن سبندر) في كتابه (الحياة والشاعر)، ترجمة د. محمد مصطفى بدوي:
(سأدرس لأعلم كيف أخضع حقيقة وجودي لحكم الزمن. سأكشف عن حدود مقدرتي في تفهم الحياة من حولي. أنا لا أستطيع أن أتظاهر برؤية أكثر مما أرى، لأنني في كل موضع تحدني حدود حساسيتي، ونوع حيويتي، وضيق ذكائي والرعب الذي وجدته في بيئتي الأولى، وما ترشدني إليه تجاربي التالية. أنا لا أقبل شيئا على علاته، ولكني أخلق كل شيء خلقاً جديداً من مدركاتي. لست أقبل دون تساؤل أي نظام يقال عنه أنه عظيم أو خيّر، إذا ما اختبرته، وجدته عظيماً أو خيّراً حقاً، وإذا كانت لدي القدرة على فهمه وخلقه من جديد، حينئذ تُبعث الحياة ثانياً في ذلك النظام الإنساني ـ الذي أُخذ على علاته وتوارثته الأجيال ـ في وهج الإنسانية التي كانت أول من خلقه. مهما كانت مواهبي محدودة أو فهمي ضئيلاً، فإنني إذا كنت صادقاً فلن أستطيع الفرار حتى ولو أردت من هبة واحدة: وهي أن لدي أشياء لا نهاية لها أود أن أقولها. لأنني أقف وحيداً في العالم وقد حُبست في وجودي الذاتي. لا أرى أي شيء إلا من خلال عقلي وعيني عاكساً في وعيي المنعزل جميع الوجوه والمناظر والطبيعة والنجوم التي هي خارج وجودي ومكملة له. ولي نظرة فريدة في الأشياء، نظرة تخصني وحدي وفي الوقت نفسه هي نظرة كل إنسان، لأن كل إنسان معزول مثلي. قليل من الناس من تتوفر فيهم الشجاعة اللازمة للإقدام على عمل. وأقل منهم من تتوفر فيهم الشجاعة اللازمة لإدراك طبيعتهم أنفسهم). 
سيكون داعماً قوياً لك كما أرى هو استمرار التفكير في هذا السؤال مع كتابة كل نص جديد: ماهي القصة القصيرة؟ .. لكن ما أقصده هنا ليس توجيه السؤال بنية الرغبة الحادة في الحصول على إجابة مؤكدة وإنما الحصول على تصورات ملهمة .. اكتشافات متغيرة كالتفتيش في منجم من الخطأ الظن أنك تعرف حدود ما يخبئه .. عن نفسي أتمنى لو اعتبرت أن القصة القصيرة تكمن في كل شيء .. كل شيء بمعنى أنها كامنة في أكثر ما تعتقد أنه يخلو منها .. القصة القصيرة حاضرة بكل هيمنتها في أمور وتفاصيل لا تبدو على سطحها (أحداث) أو (حوارات) أو (مشاهد) .. قل في نفسك أن هناك قصص كثيرة متداخلة تقف وراء الصور العادية والأقوال المجردة والتقارير الجامدة التي لا تحكي شيئاً، ولكنها تنتظر التنقيب الملائم .. إنها أيضاً نفس طريقة الأداء العقلي المعتاد؛ فالتفكير العادي هو نتاج قصص وتراكمات قصص عبر تاريخ خاص متقاطع مع آخرين.
أتذكر أنه خلال السنوات الطويلة الأولى في بداية عملي كانت الأفكار تأتي عن طريق المشاهد البصرية .. منظر يستوقفني فجأة فتحدث (التماعة ذهنية) بتعبير (ماركيز) تستدعى على الفور العناصر التي تنقصه (كما حدث في قصة الكرسي المتحرك) سواء كانت هذه العناصر من مشاهد واقعية مختزنة في الذاكرة، أو متخيلة، أو قادمة من نفس العالم الحاضر الذي ينتمي إليه المنظر، أو مناقضة له .. كان هذا طاغياً بشكل كبير لمدة طويلة جداً ثم بدأت الأفكار تأتي من كل الاتجاهات .. لم يعد الأمر حكراً على المشاهد البصرية، وإنما أصبح بإمكاني كتابة قصة وفقاً لتأملات ومشاعر وتساؤلات وأحلام ورغبات وحوارات وافتراضات وكتب ولوحات وأفلام وموسيقى وأغاني وألعاب الكترونية وبرامج كومبيوتر ووثائق قديمة وحوداث ومعلومات ونظريات وتحليلات وأكاذيب واختلاقات ومن الذكريات .. (فلانري أوكونور) كتبت في إحدى مقالاتها أنه لا حاجة لمزيد من الحوادث في حياة الكاتب بعد بلوغه العشرين لأن كثيراً من المادة التي تزوّد الرواية تكون قد حدثت للكاتب قبل ذلك العمر، بل أكثر من اللازم .. رغم أنني لا أهوى التحديدات، ولكنني أعتبرها كلمات جديرة بالتأمل، لأن الماضي تحوّل عندي إلى ثروة كتابية بعد مرور سنوات طويلة من البدء في الكتابة وحينما أصبح لدي (سنوات كثيرة قديمة) .. صارت هناك وفرة متزايدة دائماً لمشاهد آنية تنتزعني فجأة نحو اللحظة الفائتة في ذاكرتي لأنها تخصها .. بفضل الصراع بين هاتين اللحظتين، والاستفهامات التي تشتعل نتيجة لاحتكاكهما ببعضهما كتبت قصصا قصيرة كثيرة جداً.
سؤال مثل (من أين تأتي أفكارك؟) هو وثيق الصلة بـ (الموهبة)، وبـ (عبقرية الفنان)؛ إذ يفترض أن الأفكار هي أطفال نورانيون، نتيجة علاقة سرية بين الكاتب وملائكة الكتابة التي كرّسها القدر لخدمته، ومن الطبيعي أن يصيب (البشر العاديون) رغبة أو هوس التلصص على خصوصيات هذه العلاقة تعويضاً عن عدم امتلاكهم القدرة على خوضها.
إنني أفضل سؤالاً أبسط ـ لو كان باستطاعتي التوصل لإجابات مريحة حقاً ـ مثل (كيف يمكنك أن تتحدث عن عالمك الكتابي؟) ولو أنه سؤال بالفعل وبالتالي يتطلب إجابة وتلك مشكلة، ولكنه على الأقل يعطي حرية للارتباك والاضطراب والتردد ـ لا أثق عموماً في من يتكلمون عن هذا الأمر دون لجلجلة .. في نفس الوقت فإن سؤالاً كهذا أكثر ملائمة في تصوري لعدم وجود علاقة للموضوع بالإلهام بقدر ما له علاقة بالتبعات والنتائج التلقائية لقرار الكتابة .. قرار الكتابة الذي اتخذته، وفعلت ما يلزم لخدمته هو ما سيخلق ما سميته من قبل (غريزة الكتابة) التي تجعل التفكير العادي وإدارة الشؤون اليومية والتعامل التقليدي مع البشر بمثابة بحث ضمني عن لحظة الكتابة .. عن المشهد الذي سيخلق علاقته بمشهد آخر في الماضي ـ حتى لو كانت علاقة عدائية أو غير متآلفة بالطبع ـ حيث تتم إعادة تكوين الذاكرة عبر الغرائب المكتشفة .. استمرار قرار الكتابة المتخذ في لحظة سابقة هو ما يجعل الكتابة تحدث داخلك دون دراية أثناء انغماسك في الحياة المألوفة حتى تظهر حصيلتها فجأة ودون توقع إثر إشارة مفاجئة أو حافز عابر أو تراكمات محتدمة من الأفكار والمشاعر والتخيلات.
يقول (نيل جايمان):
(نحصل على الأفكار من أحلام اليقظة. نحصل على الأفكار من شعورنا بالملل. نحصل على الأفكار طيلة الوقت. الفارق الوحيد بين الكُتاب وغيرهم من الناس أننا ننتبه لذلك بينما نقوم به).
ليست كل الأفكار تأتي مغلفة بوصفتها الشكلية .. أي نظام كتابتها وطبيعة تراكيبها اللغوية وأفعال شخصياتها .. كل شيء قابل للتغيير والتبديل والحذف والإضافة وليس هذا صيانة شكلية بل كما قلت سابقاً أنه بالضبط كتنظيم الكلمات في حوار ما لتوصيل رسالة بأكثر الأساليب الملائمة، أو للتحدث في موضوع أمام مستمع مكسباً إياه طباع الهيمنة والتشويق والإمتاع. 
عندي طفلة عمرها أربع سنوات .. ألعب معها كل الألعاب الممكنة، وأحكي لها كافة الحواديت التي يمكن لها أن تفهمها، لكن اللعبة الأساسية التي عوّدتها عليها بحيث أصبحنا نلعبها يومياً هي لعبة (السفينة وجزيرة الكنز) حيث يفترض أننا وهي داخل سفينة، وبينما نحن في وسط البحر نتعرض لعاصفة قوية تمنع من وصولنا إلى الجزيرة التي يختبيء فيها الكنز، ولكننا نتمكن في النهاية من التغلب عليها والوصول إلى الكنز بعد مصادفة كائنات مختلفة وأحداث عجيبة وكوميدية .. نستعمل أغطية السرير والوسائد والمكعبات في سبيل إنجاز هذه المغامرة البسيطة التي تعتبرها طفلتي الآن لعبة بينما في الواقع هذا هو الفعل العادي الذي أؤديه في رأسي طوال الوقت بأشكال متعددة، وهو ما يجعلني أستطيع إلى حد ما التحدث عن (كيف تأتي أفكار الكتابة).
لا توجد قفلة كتابة .. هناك فقط طريق مقطوع الآن بينك وبين الورقة أو الشاشة .. لكن الكتابة كما قلت تتم في كافة الأحوال داخلك .. قرار الكتابة يحولها من فعل إلى تفكير ومن تفكير إلى حياة ليس فيها شيء غريب .. إذا ظل الطريق مقطوعاً فابتعد عنه وعُد وقتما تجد أن لحظة العودة قد حانت .. ليس عندي كتاب وصفات لما يجب أن تفعله حين يظل الطريق مقطوعا فأنت الذي تقرر هذا، وهو أمر يخص المعمل المغلق للكاتب مهما كانت سهولة التسلل إليه .. فقط ابتعد ولن أقول لك مثلما يقال عادة: (درّب نفسك على تمارين كتابية أخرى) أو (غيّر مكان الكتابة) أو (شاهد فيلما معيناً أو اقرأ أو ارسم) أو (ابدأ النص من زاوية أخرى) .. افعل ما تراه صائباً فكل محاولاتك صائبة لأن العلاقات التي ترتب لتجسيد الفكرة هي نفس علاقاتك بالبشر والأشياء .. معقدة وغير منضبطة وخاضعة للتعثر والصدام والقطيعة .. لكن الكتابة في النهاية تمنحك ما هو أكثر وهي فرصة تصفية كل هذا والخروج منه لإعادة إنتاجه مهما تعرضت محاولاتك لنفس المشكلات .. في النهاية الكتابة ستتم حتماً طالما تمسّكت بحدوثها.
أكتب قراءاتي النقدية كأنني أكتب قصصاً قصيرة .. القراءة هي اكتشاف النصوص المخبوءة وصياغتها على مستوى الخيال ثم إعادة كتابتها.
يقول (بورخيس):
(ما الذي يعنيه بالنسبة لي أن أكون كاتبًا؟ يعني ببساطة أن أكون مخلصًا لمخيلتي. عندما أكتب شيئًا لا أطرحه على أنه حقيقي موضوعيًا (فالموضوعي الخالص هو حبكة من الظروف والأحداث)، وإنما حقيقي لأنه وفيّ لشيء أعمق. عندما أكتب قصة، أكتبها لأني مؤمن بها: ليس كما يؤمن أحدنا بشيء تاريخي محض، وإنما بدقة أكبر، مثلما يؤمن أحدنا بحلم أو بفكر).
قد يُلاحظ أنني طوال الوقت أتكلم بوصفي قاصاً دون التطرق لتجاربي الروائية، وليس في هذا إصرار على تثبيت حقيقة بل التحدث من خلالها باعتبارها أمراً بديهياً لا يحتاج للإثبات .. قلت في حوار سابق ورداً على سؤال (ما هي أقرب أشكال الكتابة لك؟) أن كل ما أكتبه هو قصة قصيرة .. في كل رواية من رواياتي الثلاث كنت أجرّب واكتشف كيف يمكن لقصة قصيرة أن تكتب رواية .. لا أتحدث عن توسيع الحدود الشكلية لمنطقة كتابة صغيرة أو استثمارها للارتفاع بطوابق بناء شاهق، وإنما أتحدث عن استخدام البصيرة المقتنِصة والإيقاع اللعوب المتوتر للقصة القصيرة في كتابة رواية .. أن تنسج هذياناً مقتضباً من اللحظات الشاحبة والمشاهد المخبوءة والأحداث الهامشية التي تحافظ فيها القصة القصيرة على طبيعتها المنزوية الساحرة، التي تخلق العالم من ثقب ضئيل مهما زادت الصفحات .. ما أقوله الآن شخصي جداً، أي أنه خبرة تبقى حقيقية حتى لو كان من العسير أن يدركها غيري .. يمكن كختام لهذه النقطة القول أنني في تجاربي الروائية كنت أبتعد بتلقائية خالصة عن الحشو الروائي الذي ذكر (بورخيس) أنه مصدر الإحساس بالملل رغم أنه قد يكون جزءاً جوهرياً من الرواية.
أريد في النهاية التحدث عن شأن يخص علاقة الأحلام بالكتابة .. هناك أحلام تريدك أن تكتبها، ولا تتعب نفسك بالبحث عن مبررات لذلك الإصرار .. أحياناً استيقظ من النوم بعد حلم لا يبدو أنه يختلف كثيراً عن سائر الأحلام العادية الزاخرة بالأحداث والحوارات غير المعقولة، وبالانتقالات الملغزة، وبتبدلات وتحولات الشخصيات دون تمهيدات أو أسباب ظاهرية .. لكنني لا أعرف فوراً لماذا قررت تدوين هذا الحلم كما هو، ودون أي تغيير باعتباره قصة قصيرة .. مع مواصلة استرجاع (بورخيس) فإنني الآن أؤمن أكثر من أي وقت مضى بتلك الكلمات الوحشية التي قالها: (حاول نقل الحلم وحسب. وإذا كان الحلم مشوشًا "وهو يكون كذلك عادة في حالتي"، لا أحاول تجميله، ولا حتى فهمه).
 إنني لا استوعب تماماً ما يمكن أن يعنيه الحلم قبل الكتابة، ولكنني في كل مرة أعثر على ما يقف وراءه .. اكتشف أثناء كتابته لماذا دفعني هذا الحلم بالذات لتدوينه، وأرى أسراره تتطاير وتتدافع كالألعاب النارية المتكاثرة التي لا تهدأ كلما أعدت قراءته .. عليك أن تثق في أحلامك، وأن تسجيب لقراراتها، أما عن المطالبات بتقديم البراهين النمطية لأحقية الحلم في أن يصير كتابة  فعليك قتلها بمجرد أن تطفو داخل عقلك.
أخيراً يمكنني تقديم إجابات عديدة لسؤال (لماذا تكتب؟) ستنطوي جميعها على كراهية للسؤال، لكنني أفكر الآن في أنني ربما عشت من قبل حياة غامضة كلياً، لا أدري أي شيء عنها، وأن ما أعيشه الآن هو انتقال لا يُصدَّق من هذه الحياة إلى الموت .. كأنني أحاول بالكتابة استرداد العالم المجهول قبل انتهاء الوقت حيث يجب أن أكون بالفعل .. الحياة التي تزداد غموضاً وابتعاداً مع كل محاولة لاستردادها.
*شهادة عن الكتابة قرأتها خلال لقائي بأعضاء ورشة الكتابة الابداعية التي تنظمها (محطات للفن المعاصر) بمدينة (دمياط)، بدعوة من صديقي الكاتب (محمد عبد النبي).
موقع (الكتابة) ـ 21 ديسمبر 2014