الاثنين، 7 سبتمبر 2015

أشباح الكتابة

لا أعتقد أن أهمية طرح الأسئلة حول الكتابة تكمن في الوصول إلى إجابات راسخة بقدر اكتشاف وتأمل كيف يمكن لهذه الإجابات أن تتحول في أي لحظة إلى مبررات صلبة للارتباك، ولمضاعفة الألم .. إن الأمر يبدو ملهماً حقاً خاصة عند التفكير في إلى أي مدى تتسم استفهامات وهواجس العملية الإبداعية بالاستقرار على صيغ ثابتة، وإلى أي مدى تتسم كذلك بالإصرار على التفجر داخل حياة الكاتب بصرف النظر عن امتلاء الماضي بصفقات المصالحة بينهما .. لا تحتاج الأسئلة إلى منطق واضح يفسر أسباب تخليها الدائم عن التراجع أو الاختباء، ومعاودة الإلحاح ـ بثقل المزاج العنيف للمرة الأولى ـ للحصول على يقينيات مرضية .. يمكن لكافة الإجابات التي ادُخرت للتصدي إلى تلك المآزق الذهنية أن تبدو غير قادرة على منح الطمأنينة المتوقعة، حتى داخل أقوى حالات الإيمان بكونها حقائق حاسمة .. على سبيل المثال قد يقضي كاتب ما عمره ممتناً للثقة التي أعطتها له قائمة (جورج أورويل) المنشورة سنة 1946 بـ (أربعة دوافع عظيمة للكتابة):
(1ـ الأنانية المطلقة: أن يتم التحدث عنك، أن يتم تذكرك بعد الوفاة، أن تنتقم من الكبار في طفولتك، إلخ.
2ـ الحماسة الجمالية: مسرة تأثير وقع صوت على آخر، في انضباط النثر الجيد، أو إيقاع القصة الجيدة.
3ـ الدافع التاريخي: الرغبة برؤية الأشياء كما هي، بالعثور على الوقائع الحقيقية وحفظها من أجل الأجيال القادمة.
4ـ الغرض السياسي: الرأي بأن الفن يجب ألا يتعلق بالسياسة هو بذاته موقف سياسي).
 لكن هذه الثقة ربما تصبح ـ دون احتياج لأي نوع من التأثيرات الحادة ـ إلى شكل من أشكال الخبرة المخزية، التي تثبت أن استطاعتها مواجهة المسوخ الخرافية في وقت سابق لا تعني بالضرورة القدرة على هزيمتها حين تستأنف نفس المسوخ اعتدائها مرة أخرى .. تبدو الكتابة كأنها تمتلك خطاباً سرياً، غير خاضع لركائز يمكن استخدامها لجعله نسقاً متماسكاً .. هذا الخطاب يتم الاشتباك معه بأساليب غير منضبطة مع كل خطوة جديدة داخل تجربة الكتابة حتى لو بدت متشابهة أو حتى متطابقة مع خطوات أخرى؛ حيث تبدو العقائد أحياناً كذخائر فاشلة، لديها فقط إمكانية الإيهام بسد الثغرات، لكنها لا تقوم بأكثر من تخفيف الإضاءة أو إظلام وحشيتها المتسعة ..  بطريقة أو بأخرى قد تعرف بواسطة الاشتباك مع هذا الخطاب السري للكتابة أن ثمة إجابة صحيحة، مجهولة، توجد في مكان آخر خارج كافة الأطر التي يمكن الاحتماء بها .. ربما هذا ما يُسمى بالسحر بالغامض للكتابة، والذي لديه من الجبروت الخاص ما يجعل من الإجابة الصحيحة ـ ونتيجة لكونها مجهولة ـ غير موجوة في أي مكان أصلاً، أو يجعلها ـ في نفس الوقت ـ كامنة في جميع اليقينيات التي تخيلتها رصيداً فاسداً؛ فيعيد إليك الثقة في صلاحيتها، فضلاً بالطبع عن منحك إجابات جديدة.
الأمر ذاته ينطبق على ما قالته (ميغ واليتزر): (أنت لا تستطيع السيطرة على الآخرين، على علاقاتك، أو على أطفالك، ولكن في الكتابة تستطيع أن تحصل على فترات متصلة تكون فيها المسيطر تماماً).        
إن الإيمان بكون الكتابة ملاذاً تعويضياً لغياب القدرة على التحكم في الحياة والبشر قد يتحول إلى إيمان مضاد، وعلى نحو مفاجىء بأن الكتابة لا يمكن أن تكون تعويضاً عن هذا الإخفاق، وأن هناك في الواقع أدلة ـ ربما ليس بوسعك ملامستها ـ تؤكد لك، وبصور حتمية استحالة العثور على بديل آمن لفوضاه التي تمضغك ببطء .. حتى لو تحدد اليقين في نطاق متعة الكتابة عن الفشل في السيطرة؛ ستظل هذه العقيدة مهددة بالحضور الممكن للحظة التي تتفحص خلالها المعرفة الناصعة بأن العجز عن التحكم لا يقتصر على الحياة بل ممتد إلى الكتابة أيضاً .. ربما هذا ما يُسمى بالمأساة.
في كتاب (لماذا نكتب؟) ـ تحرير: (ميريدث ماران)، ترجمة (مجموعة من المترجمين العرب)، ومراجعة وتحقيق (بثينة العيسى)، الصادر عن (الدار العربية للعلوم ناشرون) يجيب عشرون من الكتاب الناجحين على أسئلة الكتابة .. لنقرأ مثلاً (إيزابيل الليندي) متحدثة عن أسلوبها:
(هناك سحر مؤكد فيما هو عفوي. أريد للقارىء أن يشعر بأني أحكي له القصة شخصياً. عندما تحكي قصة في المطبخ لصديق، فهي مليئة بالأخطاء والتكرار. أحاول أن أتجنب ذلك في الأدب، ولكنني مازلت أريدها حواراً، كما هو قص القصص عادة. إنها ليست بمحاضرة).
أيضاً (ديفيد بالدتشي) يقول:
("أكتب لقرائك" هو تعبير ملطف لـ "اكتب ما تعتقد أن الناس ستقوم بشرائه". لا تقع في هذا الخطأ! أكتب للشخص الذي تعرفه جيداً، اكتب لنفسك).
أما (كاثرين هاريسون) فتتحدث عن تجربتها الأفضل والأسوأ، الأكثر إثارة والأكثر فظاعة:
(لو كانت "القبلة" مكتوبة من قبل رجل، لو أن أبي ـ لنقل ـ هو الذي كتب عنا، فقد لا يهاجم كما هوجمت، لأنني كنت صادقة بشأن أمور معيبة. لقد خرجت من تجربة "القبلة" محطمة، ولكنه كان أمراً جيداً في الإجمال، فقد أدركت أنه لا يمكنني فعل أي شيء بعد ذلك لأجعل الآخرين يقولون ما هو أشنع مما قيل عني الآن، كانت تجربة محرّرة).
إنني أتفق تماماً مع المحررة في مقولتها بأن أحد أهم عناصر القوة في فرضية الكتاب هي أن الاختلافات بين حالات الكتّاب أقل أهمية بكثير من أوجه الشبه بينهم .. هذا ما يجعل من النماذج السابقة التي اخترتها تبدو كحلول ثمينة لأرق شائع: ارتباك الحكي .. رفض القراء .. الاغتيال الشخصي من النقاد .. لكنها في حقيقة الأمر مشكلات أكثر تعقيداً من أن تنهيها حكمة زملاء المهنة .. إن القيمة الجوهرية لتلك الخلاصات تنبع من كونها احتمالات داعمة للمواساة الضرورية أحياناً .. عزاء يستند إلى قرائن دامغة للتشارك في تفاصيل دقيقة من هموم عامة .. لكن المواساة في أنجح الأحوال لا تمحو الألم، وإنما يمكنها المساعدة على التحرر من حصاره اللحظي .. لا يوفر العزاء تحصيناً ضد الأذى، ولكنه يفتح باباً مغلقاً لتنظر من خلاله إلى سماء أبعد حيث تحلق سكينة ما .. لذا على الرغم من تلك الأصوات المتعددة التي تخبرك طوال الوقت بأنك لست وحدك في هذه الورطة، فإن الشعور بالاختناق ربما يظل محتفظاً ببداهته العمياء، التي لا تخفت حتى مع مرور الزمن عند رصد الاضطراب السردي في عملك (الأخطاء والتكرار)، وعدم قبول قارىء ما لكتابتك (جحيمك الذي لا يُمتع الآخرين)، ومحاولات النقاد لقتلك (كيف تجروء على الكتابة هكذا؟!) .. مزيج الندم والغضب والسأم الذي يغرقك كل مرة كأنه جرحك الأول، ربما لأن كل كتابة ستبقى في الواقع كأنها كتابة أولى تختبر الإجابات، وتستجوب الحقائق، وتراوغ اليقينيات، وتحاكم العقائد، وتنقب في العالم عن الاحتمالات المنقذة.
أخبار الأدب
5/9/2015