الأحد، 29 نوفمبر 2020

"السر المحصّن" ... الرمزية الجوفاء للعالم

لنتخيّل الأمر على هذا النحو: شخص مهووس بما يُسمّى "فضائح المشاهير"؛ السياسيون، الفنانون، الرياضيون، الإعلاميون، رجال وسيدات الأعمال .. ذلك النوع من البشر الذي يقضي معظم وقته على الإنترنت متتبعًا ما تم توثيقه بمختلف الوسائل حول "الأسرار المشينة" لـ "نجوم المجتمع" في كل مكان وزمان .. يتوقف هذا المهووس ذات يوم فجأة عن رحلاته الاستكشافية ويسأل نفسه: هل هذا كل شيء؟ .. بالتأكيد لا .. ثمة "فضائح" لا نهائية لم تُكشف حتى لمن تم "فضحهم" بالفعل .. لماذا؟ .. لأن من يعلم بتلك الأسرار لم يرغب في ذلك .. لم يفكر حتى في تعريتها أو مجرد التلميح لها ولو بأكثر الطرق خفوتًا .. أشخاص يعرفون، وبإمكانهم كشف ما يعرفونه أو الإشارة إليه، ويدركون جيدًا أنهم لن يدفعوا أي ثمن في المقابل .. لن يصيبهم أدنى ضرر أو تهديد نتيجة لهذا .. ورغم ذلك يتكتمون على الفضائح .. لا يخطر في ذهن أي منهم سرد ولو حكاية واحدة عن سر مثير بالرغم من أن الاهتمام لا ينقصهم، ويقدرون على إيجاد تسوية أخلاقية للأمر (عرض الحكاية كرسالة وعظية مثلًا)، ولا تمنعهم انشغالات الحياة من إنجازه، فضلًا عن كونهم لا يلمسون استفادة واضحة من الاحتفاظ بالأسرار في ذاكرتهم وحسب، بل وربما يستشعرون أحيانًا اللذة الكامنة في الإيحاء بها ـ على الأقل ـ للآخرين استنادًا إلى مبدأ أن السر لا قيمة له إن لم يعرف أحد أنك تملكه .. ليست الأسرار التي تتعلق بالمشاهير فقط، بل التي تخص الجميع.

سينتبه ذلك المهووس بأنه واحد من هؤلاء .. هو يفعل ذلك مثلهم .. عرف خلال حياته العديد من الفضائح، التي لم تتداول في نطاق عام، أي تقتصر على حدودها الضيقة ولم تتحوّل إلى علكة شعبية، ومع هذا لم يكشف عنها .. في البناية، الشارع، المدرسة، الجامعة، العمل .. لم يفكر في تعرية الأسرار أو التلميح لها ولو من وراء إسم مستعار، ومن دون أن يُصرّح بالأسماء الحقيقية لشخصياتها .. لماذا لم يفعل ذلك؟ .. لماذا حرم نفسه طوال الماضي من لذة كشف الفضائح أو حتى الإشارة إليها من خلال مكانها وزمانها والأحرف الأولى من أسماء أبطالها؟ .. أي شيء في داخله منعه من ذلك؟

سيفكر في أنه ربما ثمة شيء يشبه "غريزة الإخفاء" تحكم الحياة، لا تحتم علينا الحفاظ على أسرارنا الخاصة فحسب بل أسرار غيرنا أيضًا .. غريزة يثبتها كل ما يُفضح، أو يُكشف، أو تتم تعريته؛ إذ أن كل سر يظهر إلى العلن يخص شخصًا ما فكأنه تعتيم على أسراره الكثيرة الأخرى .. الأسرار التي ثمة من يعرفها ومع ذلك لم يبح أو يوحي بها على الأقل في مجال عمومي .. غريزة لا تستهدف حماية المخبوءات الشخصية في حد ذاتها، وإنما يبدو كأنها تقصد حماية "خفاء أعظم" .. كأن حفاظها على هذه المخبوءات هي طريقتها في الحفاظ على المخبوء الغيبي .. أن يظل محجوبًا، متمنعًا، معجِزًا، لا يظهر إلا من خلال تجلياته الجزئية (علاماته المكشوفة المعادلة للأسرار العارية في الواقع) التي تثبته وتشير إليه وتحتم الخضوع لقدراته المطلقة .. أن تبقيه مقدسًا.

سيستعيد المهووس بالأسرار شخصيتين نمطيتين لهما علاقة بالأمر: النمّام، وصحفي الفضائح .. كلاهما يعتمدان على كشف الخبايا المعيبة في فضاء مفتوح .. لكنهما في الوقت نفسه يشتركان في سمات أخرى: أولًا يُشار إلى كل منهما باعتبارهما يحملان هوية منفصلة عن السائد (حينما أقول أن هذا شخص نمّام، فإنني أميّزه عن أكثرية لا تمتلك صفته، وهو ما ينطبق بالضبط على صحفي الفضائح) .. ثانيًا لا يصل أي منهما إلى الإشباع، يريدان دائمًا ما يستحق قوله / نشره للآخرين، لذا فكأن ثمة حكمًا يقينيًا يستقر داخل كل منهما بأن هناك أسرارًا لم تُكشف بعد، وتتجاوز دون حد ما تم تعريته بالفعل .. ثالثًا لا يحصل أي منهما على الاكتمال، يرغبان في الإحاطة التامة بكل ما يقومان بفضحه سواء عند استقبالهم للسر، أو أثناء كشفهم له، أو بعدما أصبح شأنًا متداولًا، أي يطاردان المعرفة الكلية المتعذّرة، التي لا تنفلت منها أبسط التفاصيل، وهو ما يعني بالضرورة إدراكهما بأن ثمة ما يحيط بالسر نفسه لم يُفضح، وربما يعلمه شخص آخر، لم يكشف عنه .. إذن فكل من "النمّام"، و"صحفي الفضائح" يثبتان أن: الفضح استثناء .. كل ما يقومان بتعريته (أو اختلاقه) لا يُقارن بما هو مخفي .. هناك دائمًا خبايا في ما يتم كشفه.  

إن هذا يبدو كحتمية بشرية لنسب الأشياء الواضحة إلى فيض غير محدود من الأسرار التي تنبع جميعها من "سر أصلي"، لا يُدرك، يمتلك الحقيقة الكاملة، والتفسير الشامل، أي الهيمنة الكونية على الموجودات كافة .. آلية إنسانية لا تتعطل عبر الزمن لتحصين ذلك المصدر المترفّع، المسيطر عبر كل "خفاء صغير" يوطد "خفائه المتعالي" .. كأنها برمجة قهرية لأجسادنا على الاستخدام المتكتم للغة، الذي لا يفضح بقدر ما يواري، لا يصرّح بقدر ما يومئ، لا يتكلم بقدر ما يستخدم الكلمات كستار، كنوع مراوغ من الصمت، حتى في أكثر الخطابات اعترافية، وهو ما يحقق طوال الوقت العبادة العفوية للقوة الكامنة في الخطاب المخبوء لذلك السر الأصلي .. للسلطة المتجذرة في الكلمات المحجوبة لذلك المصدر المترفّع، والتي تدل عليها كلماته المعلنة الأقل .. كأن الحياة ليست إلا إلزامًا متواصلًا بالإحالة العمياء إلى مرجع قيمي غير منظور، وليس محل شك، بواسطة التواطؤ مع خفائه.

سيتوصّل ذلك المهووس إلى أن الأمر لا يتعلّق فقط بالفضائح، وإنما بكل شيء .. بكل ما لا يُعد سرًا أيضًا .. أن الناس لا يتحدثون عن حيوات الذين يعرفونهم بما يعادل صمتهم عنها .. لا يتداولون في أغلب الأحيان ـ إن حدث ذلك ـ سوى جوانب محدودة، ملامح انتقائية لتلك الحيوات، وبشكل مؤقت بالرغم من امتلاك الفرد لساحات افتراضية غير مؤطرة في العصر الحديث يمكنه أن يسرد من خلالها جميع القصص التي يملكها .. سيدرك أن الفضائح ليست إلا الدليل الأقوى على طغيان الإخفاء .. الإثبات الأكثر صلابة لحتمية المواراة التي تتجاوز "الأسرار المشينة" وتشمل كل تفاصيل الواقع .. لماذا هي الدليل الأقوى؟ .. لأن إخفاء الفضائح يعظّم قيمة الإخفاء حيث لا يتساوى التكتم على سر مثير بالسكوت أمام أمر عادي .. ليس هذا كل شيء .. فالفضيحة بتجسّدها كنموذج للإثم تمنح من يخفيها شعورًا تأكيديًا بأنه صورة "للخفاء الأعظم" .. تعطيه برهانًا حسيًا بأنه يعرف (الذنب) مثله، ويستطيع أن يكشفه مثله، كما يقدر أن يواريه مثله أيضًا .. الفضيحة كـ (شر) تجعل من يخبئها قادرًا على تقمّص "المخبوء الغيبي"؛ فإن كشف شيئًا فهذا دليل قدرته على إخفاء أشياء أكثر بكثير، أي بوسعه التحكم (مثلما يفعل ذلك المحجوب والمتمنّع والمعجز) في الأسرار كحاضن لها .. هذا ما يجعل (التواطؤ مع خفاء المرجع القيمي) ساطعًا .. التواطؤ الذي ليس أقل من غريزة.   

بهذا تكون آلية الإخفاء موظفة للحفاظ على أن يكون المُعلَن رمزًا لشيء آخر قد يمنحه المعنى .. شيء يملؤه ويحيط به إخفاء مغاير، وبالتالي يكون هذا الشيء رمزًا لشيء آخر وهكذا دون حدٍ أو انقطاع .. إبقاء العالم في طبيعته الترميزية حيث يجب أن يشير خفاء جميع الأشياء إلى الخفاء المطلق الذي تنتهي عنده كل الرموز أي الذي يمتلك معانيها الحاسمة .. وبما أن الخفاء المطلق هو حضور مؤجل أي غياب إلى حين؛ فلن يكون الخفاء الجزئي إشارة له بل سيصبح هو نفسه ذلك الخفاء المطلق .. بديلًا له .. كل موارة صغيرة ستكون غيبًا مستقلًا في حد ذاته، أي تمتلك احتمالًا لأن تكون ثغرة منقذة في الوجود تمامًا كما يفترض بالمقدس أن يفعل .. هذا ما يجعل الترميز ليس إلا فراغًا يشير ويتبدل ويدور داخل فراغات أخرى.

ثمة ماهية غامضة للاطمئنان الناجم عن التزام الصمت الذي نصحت به "آنيا" خالها "جاييف" في مسرحية "بستان الكرز" لأنطون تشيكوف .. الصمت الكامن حتى في أكثر الكلمات إفراطًا .. أن تكون سرًا ينتسب إلى سر أكبر .. ظلامًا يمرر المخبوءات التي يراكمها من العالم نحو الخفاء الذي قد يضمن مصيرها .. يحقق خلاصها .. أن تكون روحًا متناغمة لهذا التكتّم الكوني .. ظلًا يُجسّد إرادته .. أن تكون تلك المواراة المجهولة نفسها ولكن على نحو غير خارق، مستعدًا لمعجزتها الوشيكة. 

أراجيك ـ 28 نوفمبر 2020

اللوحة لـ Elsie Palmer Payne

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020

دليل الألوهة

كأي شخص عادي كان يقابل بشرًا في كل مكان يذهب إليه ويتحدث معهم .. لكنه منذ أصبح في الثامنة عشرة تقريبًا بدأ طقسًا يوميًا لم يتوقف طوال سنوات لاحقة .. كان يعود كل مساء إلى بيته ثم يضع شريطًا فارغًا في الكاسيت ويسجّل ردوده على الآخرين الذين قابلهم في ذلك اليوم .. ليست الردود التي قالها بالفعل، وإنما التي كان يجب أن يقولها .. كان يستعيد أحاديثه مع كل شخص تكلّم معه ثم يوثق في نهاية اليوم الكلمات التي لم يتذكر أن يقولها، أو التي رغب أن يقولها ولم يستطع، أو التي لم يتمكن سوى أن يتفوّه بظلال مائعة لها .. كان يعيد مخاطبة الجميع ولكن بالطريقة الصحيحة.

بعد فترة استغنى عن شرائط الكاسيت وبدأ يسجّل استدراكاته اليومية على الهاتف المحمول حتى أصبح بعد سنوات طويلة يمتلك مخزونًا هائلًا من الملفات الصوتية يماثل ذلك الذي يحتوي شرائطه القديمة .. حتى جاء اليوم الذي توقف فيه عن الخروج من بيته .. اليوم الذي بدأ فيه بالضرورة التوقف عن مقابلة البشر إلا قليلًا جدًا، ومن ثمّ لم يعد هناك حوار حقيقي بينه وبين أحد .. لم يعد لديه ما يوثّقه فتوقف عن التسجيل .. أصبح يعيد الاستماع يومًا بعد آخر لتسجيلاته منذ البداية كأنما يسترجع ذكريات حياة أخرى، مستقلة عن تلك التي عاشها حقًا .. حياة أصلية .. ولم يكن هناك ما يؤنس وحدته أكثر من تخيّل اليوم الذي سيستمع فيه كل الذين تحدث معهم في تلك الشرائط والملفات الصوتية إليه .. إلى ما قام بتسجيله بعيدًا عن عيونهم .. كان يعرف أن هذا اليوم سيأتي بعد موته .. وبالرغم من أنه لم يكن لديه تصوّر منطقي محدد للكيفية التي ستصل بها التسجيلات إليهم حين يكون راقدًا في قبره؛ إلا أنه كان موقنًا أن الأمر سيتحقق.

لكن ما لم يكن يتوقعه ـ ولم يكن هناك أيضًا سبب منطقي لعدم التوقع ـ بدأ يحدث .. مات واحد منهم ثم تبعه آخر قبل أن يلحق ثالث بهما .. بدأوا يموتون وهو لا يزال حيًا، يواصل الاستماع إلى الشرائط والملفات ولا يدري ماذا يفعل .. لم يكن بوسعه أن يعطي أو يرسل لأحد منهم التسجيلات التي خاطبه خلالها .. كان يدرك أن استماعهم إلى تسجيلاته يشترط عدم وجوده للأبد .. أن يكون غائبًا على النحو الذي يضمن ألا يلتقي بأي منهم ثانية .. كان يدرك أنه لن يستطيع أن يقوم بهذا وهو على قيد الحياة .. لن يتمكن من الابتعاد كل هذه المسافات وهو ما زال يتنفس .. لم يكن غريبًا إذن أنه حينما أراد الاستماع مجددًا إلى الشرائط والملفات التي تحدث فيها إلى الذين أصبحوا موتى وجد ضحكاتهم مسجّلة بدلًا من كلماته .. لم يكن هناك أدنى أثر لصوته .. ضحكاتهم فقط .. لم يكن غريبًا أيضًا أنه بعد انكماش تدريجي للألم الذاهل الذي تملّكه نتيجة لذلك؛ وجد نفسه يفسر هذا الاستبدال الفادح بأن تلك الضحكات هي ثمن بقائه حيًا .. أن الوتيرة لن تتعطل .. سيتعاقب موتهم، وستبدد ضحكاتهم صوته من التسجيلات تباعًا، وفي كل مرة يحدث هذا سيقطع خلوده خطوة جديدة .. أنه نوع العذاب الذي ليس إلا دليل الألوهة حيث أن من جرّبت كلماته التي لم يسمعها إلا هو الفناء فإنه حتمًا لن يختبره ثانية.

موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 22 نوفمبر 2020

من المجموعة القصصية "ولقلبي سواده الفاتن" ... تصدر قريبًا.

الصورة لـ joel peter witkin

الأربعاء، 18 نوفمبر 2020

رسائل مع "دفا" ـ 1 ـ

لا شيء صالح لأن يكون مرة واحدة

ممدوح يا أعز الناس

لك ما أردت و إن لم يكن كل ما أردت

..........................................

أختبئ خلف أشيائي الصغيرة...حتى تجدوني

أبحث عنكم.......حتي تجدوني

لو فقط تبحثون هنا

هنا.......

هنا.....

هنا...

أنا

لماذا لا تسمعون ضحكة أفلتها متعمدة من مخبئي؟

لماذا لا تعثرون عليّ؟  ليتكم تموتوا

لا..لا تغضبوا لم أقصد الإيذاء

سترحلون؟

تاركين الأشياء الصغيرة التي لا تخبئني ..تغطيني؟

هل تستحقون حقًا أن تموتوا؟

أم  أنه أنا التي تستحق أن تلعب الاستغماية دائمًا لوحدها؟

..............................

أنتظر رأيك يا قارئي وناقدي الأول

طبعًا مكتوبًا (لحسن تكون افتكرت إنى عاوزاك تكلمني أو هاموت واسمع صوتك)

أنتظرك

دفا

الثلاثاء ـ 14 سبتمبر 2004

 * * *

حيث أنه أصبح منهكًا من التفكير في الإهانة

أجمل ما في نصك الرائع هو ذلك التساؤل الأخير ...

(هل تستحقون حقًا أن تموتوا؟

أم أنه أنا التي تستحق أن تلعب الاستغماية دائمًا لوحدها ؟(

أتدرين لماذا هو كذلك؟ .. لأنه ليست له إجابة .. ودائمًا ما يكون لهذا النوع من التساؤلات مثل هذه القسوة الرائعة .

بالمناسبة ...

لاحظت وجود تشابه وربما تطابق بين ما جاء في نصك ونص آخر لـ (يانيس ريتسوس) خاصة في مقطع :

 "أختبئ خلف أشيائي الصغيرة حتى تجدوني"

حيث كتب ريتسوس في بداية نص (البساطة):

"أختبئ خلف الأشياء البسيطة حتى تعثروا علىّ

فإن لم تعثروا علىّ ستعثرون على الأشياء".

أشكرك على استجابتك بإرسال النص حيث أنه جاء فعلًا في الوقت الذي كنت أفتقدك فيه بشدة، ولو أنني ما زلت أفتقدك حتى هذه اللحظة .. وكنوع من رد العزومة أرسل لك نصًا كتبته أمس، ولو أنكِ أصبحتِ بخيلة جدًا في كتابة رأيك عن أعمالي الأخيرة التي أرسلتها إليكِ .

مرة أخرى ..

أين صورة الجميلة (مريم)؟

"حيث أنه أصبح منهكًا من التفكير في الإهانة"

في الصباح

خرج من منزله إلى الشارع

وعند جانب الطريق

وقف

فقط

هكذا

وقف

يتطلع إلى ما حوله

صامتًا

بلا أية انفعالات

هكذا

ظل واقفًا...

كان من الطبيعي أن يمر أمامه

بعض من يعرفونه

ـ هل تنتظر شيئًا؟

ـ لا

ـ هل تبحث عن شيء؟

ـ لا

ـ هل تحب أن نصلك إلى مكان ما؟

ـ لا

ـ هل تريد شيئًا؟

ـ لا

هكذا طوال النهار

حتى بدأ الليل

وأصبح الشارع خاليًا تقريبًا

لحظتها

تلفت حوله قليلًا

ثم أطرق برأسه للحظات

قبل أن يسير بتمهل

عائدًا إلى منزله.

ممدوح

الأربعاء ـ 15 سبتمبر 2004

 * * *

تبادل أدوار الآلهة

ممدوح 

شكرًا علي إبداء إعجابك بنصي

وإن كنت لم أفهم حتى الآن معنى أنه يتشابه مع ريتسوس؟ .. هل يعني ذلك أني رائعة مثل ريتسوس؟ .. أم أن ريتسوس رائع مثلي؟

أو أنى أغش من ريتسوس قليلًا؟

المهم أنه أعجبك

الغريب حقًا ليس التشابه مع نص ريتسوس

الغريب هو أن هذا النص كان في رأسي منذ فترة يدور كالنحلة دون أن أعرف كيف أُخرجه، وعندما بعثت لي بنصك الأخير ـ ليس هذا و لكن السابق له ـ الذي حاولت قدر المستطاع أن أُخفي مدى إعجابي به حتى أبدو بمظهر الثقيلة في النقد ولكني كالعادة فشلت تمامًا

النص أجمل ما قرات لك يا ممدوح

المهم بعد قراءة نصك مرات عديدة متتالية

وبعد فترة بسيطة كتبت نصي

إلا أننى شعرت بأنه يقترب من نصك؟ أليس كذلك؟ ولو قليلًا؟

هذا نص آخر

يا دوب أنهيته الآن

..........................................................................................

تبادل أدوار الآلهة

هنا

وفي هذه اللحظة

التي أكتب فيها الشعر الآن

كم شخصًا يحتضر بقسوة؟

هنا

وفي هذه اللحظة بالذات

التي تقرأون فيها السخف الذي أكتبه

يكونون قد أنجزوا احتضارهم ببراعة

الآن

كنت أتمنى ألا أكون وحيدة هكذا

يا ليته يكون هنا

ليس مع الذين يحتضرون الآن

ولا مع الذين أنجزوا احتضارهم ببراعة

فقط

يكون

الآن

هنا

لأخبره عن كل الذين يحتضرون الآن ولا أعرفهم

وكل الذين أنجزوا احتضارهم دون أن أعرفهم أيضًا

ليقول لي (يا ملاكي)

فأبكي وأقول (الآلهة فقط عندها ملائكة)

فيقول (أعبدك)

لأكون أنا الإله هذه المرة

ثم

نظل دهورًا هكذا

نتبادل أدوار الآلهة معًا

.....................................

أنتظر رأيك

دفا

الأربعاء ـ 15 سبتمبر 2004

موقع "الكتابة" ـ 16 نوفمبر 2020

اللوحة لـ van gogh

الأربعاء، 11 نوفمبر 2020

سطوة المني والدم: كيف يتشابه المتحرّش والانتحاري

منذ أيام قليلة تم تداول فيديو على شبكة الإنترنت لواقعة تحرّش طبيب بشري بجامعة الزقازيق بطالبة جامعية أثناء استقلالهما ميكروباص؛ حيث قام بالاستمناء داخل السيارة وهو ما أظهر الفيديو أثره على ملابس المتحرّش بعد القبض عليه...

 تخلق هذه الواقعة استفهامًا ملهمًا: هل يمكن أن يتماثل تفجير الجسد داخل ميكروباص والاستمناء وسط ركابه؟ ... يعتبر الانتحاري والمتحرّش الفضاء العام مستباحًا له كوجود فاسد، مُعطِل وملتبس، يمثّل بتكوينه وامتداداته حضورًا عدائيًا؛ لذا فهو يستحق الانتهاك، أو ما تسمّيه "جوليا كريستيفا" بـ "قصاص الأنقياء"، والذي ينطوي بالضرورة على إخضاع كائناته لنتائج هذا اليقين: "ضحية التحرّش في واقعة الزقازيق كمثال، وضحايا الانتحاريين عامة" .. يستهدف هذا الانتهاك الوصول إلى الأورجازم: الجنة الأبدية بكل ما تشتمله في الاعتقاد الديني من متع حسّية بالنسبة للانتحاري، والتحرر العابر من الزمن أو الخلود المؤقت الناجم عن "الموت الصغير" مثلما يُطلق الفرنسيون على الرعشة الجنسية استنادًا إلى ارتباطها بتجاوز الوعي للحدود الجسدية لحظة الوصول إلى ذروة نشوة تضاعفها المخاطرة عند المتحرّش .. هذه المخاطرة تحديدًا هي ما يعادل التفجير الجسدي .. المتحرّش في حالة طبيب الميكروباص بالإقدام على الاستمناء علنًا بما يضمن تلقي العقاب يبدو كأنما يقدم جسده قربانًا للمتعة مثلما يفعل الانتحاري تمامًا رغم ما قد يتخذه من محاولات للحذر، وحتى مع رغبته المؤكدة في النجاة بما قام به .. الجسد باعتباره عبئًا غامضًا، كيانًا محكومًا بشروط القبح التي تهيمن على الفضاء العام؛ لذا فهو مستهدف بالانتقام أيضًا .. بالتدمير الذي تعيد الذات بواسطته ولادتها .. لهذا سيبدو أيضًا أن الاعتداء البدني الذي مارسه شهود الواقعة على الطبيب؛ سيبدو كأنه جزاء متوقع للوعي الجمعي تجاه فرد ارتكب فعلًا بديهيًا ولكن في المكان الخاطئ، وهذا يكفي لتجريمه .. "لماذا لم تتخيلها داخل الحمام أو بينما تضاجع زوجتك مثلما يفعل الجميع؟!" .. كانوا يثأرون من صورتهم التخريبية المكبوتة التي جسّدها المتحرش، مثلما يجسّدها الانتحاري دائمًا: محاولة خدش الخراب المستقر، ولو بطريقة أخرى غير الاستمناء في مكان عمومي أو تفجير الجسد وسط شخوصه.

في هذا التشابه وباستعادة "فرويد"؛ لا تؤدي غريزتا الحياة والموت المهمة نفسها فحسب (الاستمناء العلني، والتفجير)، بل تكشفان امتزاجهما: يتماثل الانتحاري والمتحرّش في التماهي الأوّلي مع الأب "المحب" السابق على الأب الأوديبي، الذي يمثّل وعدًا للأنا المثالية، (الامتلاك النرجسي للعالم، أو ما يجب أن يكون كذلك وفقًا لما ستقوم به يدي المكشوفة، أو بما سيفعله جسدي في الخارج) وهو ما يدعم الكفاح المتنامي للغة نحو الوصول إلى النموذج المطلق الذي يتخطى "الأبوة البشرية": (حيث يندمج الفردوس الأبدي بالمتعة الحسية اللانهائية) متوحدًا بكل "مثالية" مفترضة، أي يمتلك ما وراء الزمن، ويمنح الخلود .. المثال الذي يقبل ويرعى الرغبات أو يتسامح معها كقهر يمكن تبريره (العالم ليس رحيمًا بي، لأنه غير مثالي، أي يمنعني من تحقيق رغباتي المتناقضة) .. يتحوّل الإخفاق في تحرير هذا المثال من غيابه إلى عقاب مزدوج للذات وللآخرين (الانتهاك أو التدمير) الذين ساهم وجودهم في منع الوعد بالخلاص من التحقق .. الذات التي تبدو في الواقع غير قادرة على إرضاء الكمال الغيبي في اللاوعي (المقدس والمتعة في حصانتهما المتجذرة) باعتبارها عالقة طوال الوقت داخل ما يتورط فيه الآخرون.

 في قصتي القصيرة  (2013) Hitomi Tanaka In The Busتقوم أيقونة البورنو اليابانية Hitomi Tanaka بتصوير أحد أفلامها داخل باص حيث راح يتخيّل واحد من الركاب الذين طلب منهم مخرج الفيلم ادعاء النوم أثناء الحفل الجنسي الذي سيقيمه ركاب آخرون مع Hitomi؛ راح يتخيّل الباص وهو يسقط من طريق جبلي .. لكن في الوقت نفسه كان خياله عاجزًا عن تدبير سبب منطقي لنجاته من هذا السقوط الأمر الذي جعله يشعر بالهلع، كأن ما دار في ذهنه أثناء ادعاد النوم هو ما سيحدث بالفعل .. مع ذلك، وحينما فتح عينيه بشكل طفيف ليتأكد من أن أحدًا لم ينتبه إلى علامات ذلك الهلع على وجهه؛ وجد نفسه لا يزال جالسًا على كرسي الباص، ولكن هذا الكرسي كان موجودًا على أرض عشبية شاسعة، تحاوطها جبال عالية جدًا بينما الباص أمامه مقلوبًا على ظهره، ومدمرًا بالكامل، وكتل بشرية ممزقة محشورة في ثقوبه، أما السيدةHitomi Tanaka   فقد كانت تسير نحوه مبتسمة .. هل يذكركم هذا بشيء؟ .. تفجير الجسد داخل ميكروباص والاستمناء وسط ركابه .. الامتزاج بين غريزتي الحياة والموت .. كان الراكب لا يتخيّل سقوط الباص بقدر ما كان يدفعه (يستمني) للسقوط "انتهاك الفضاء العام وإخضاع كائناته" .. كأن عجزه عن تخيّل نجاته من السقوط هو رغبة في عدم النجاة "تلقي العقاب، والانتقام من الجسد، وتدميره لإعادة ولادة الذات" .. كأن رؤيته لنفسه حيًا وحده مع Hitomi Tanaka خارج الباص المحطّم، وبعيدًا عن أشلاء جثث ركابه؛ كأنه الأورجازم: الجنة الأبدية بمتعها الحسّية، أو الخلود المؤقت إلى حين انتهاء الرعشة الجنسية واستكمال الباص لطريقه على نحو معتاد.

أراجيك ـ 9 نوفمبر 2020

الأربعاء، 4 نوفمبر 2020

سيرة الاختباء (22)

بدأت منذ فترة قصيرة في كتابة مشروع نقدي جديد بعنوان "كيف يُصنع التاريخ الأدبي"، وإذا أردت أن أتناول الآن نموذجًا مختصرًا لإحدى الطرق التي يتكوّن بواسطتها هذا التاريخ لقدمت المثال التالي: لو أن الكاتب الذي طرح في مقاله تحليلًا لـ "القواسم المشتركة الملفتة، والجديرة بالتأمل بين نوفيلا (جرثومة بو) ومسلسل (قابيل)"؛ لو أن هذا الكاتب كان ينتمي إلى جماعة أدبية من الشخصيات التي تمتلك "مكانة مركزية" ـ وهو المصطلح الذي يتضمن المشروع النقدي المُشار إليه في البداية تعريفًا تشريحيًا له ـ لتعاقبت الأخبار والمقالات والتدوينات وفيديوهات البوكتيوبرز ومنشورات فيسبوك حول الأمر، والتي لن تتوقف بالتأكيد عند حد "التشابهات" بين النوفيلا والمسلسل، وإنما ستمتد وبتركيز شامل حول وجود "شبهة سطو" فعلية من المسلسل على النوفيلا، حتى لو تعمّد كاتب المقال "مؤلف النوفيلا" التأكيد على عدم استهدافه الإشارة أو التلميح إلى وجود سرقة أو حتى اقتباس .. ستقوم "الشلة" بما لا ينبغي أن يؤديه هو بنفسه.

لن يمر وقت طويل حتى يُسرع محررون وكتّاب ونقّاد ومدونون وقرّاء وبتزايد غير محكوم في الانضمام إلى "القضية" أو الخطوات التمهيدية لهذا "التاريخ الأدبي" الذي يتم توثيقه ليس فقط بقوة الانتشار، وإنما بما اكتسبه هذا الانتشار من لمعان النفوذ التأثيري الذي يحظى به أفراد الجماعة الأدبية التي تكفلت بالمهمة منذ بدايتها .. الأسماء التي لابد من الثقة في خطابها نظرًا لكونها "معروفة" و"ناجحة" أو"حصلت على اعتراف وتقدير المؤسسات الثقافية المرموقة" .. ستتوالى المقالات والتدوينات والفيديوهات والمنشورات فضلًا عن الحوارات والاقتباسات وإعادات النشر.

سيفتح كل ما سبق أبوابًا لا حصر لها نحو ماضي كاتب النوفيلا .. كتبه ومقالاته ومسرحياته وسيناريوهات أفلامه ومحاضراته عن الكتابة والنقد ... إلخ .. سيُكتشف، وسيُعاد اكتشافه ليس فقط ككاتب، وإنما ككاتب في موضع اهتمام "رأي عام"، يدعمه "مثقفون كبار"، بعد تعرّض أحد أعماله لـ "اقتباس محتمل على الأقل" من مسلسل حقق شهرة كبيرة .. سيكون ضروريًا حينئذ أن يسعى إليه الناشرون أكثر، وأن يُكتب المزيد عن إصدارته، وأن تتسابق إليه اللقاءات الصحفية، ودعوات المناقشة، وحفلات التوقيع، والجوائز، والترجمات على نطاق أوسع .. سيتم تثبيت "التاريخ الأدبي" بفضل تلك التوالدات المستمرة، التي لا تخضع للتحديد، بوصفه "وعيًا جماعيًا رسميًا" يتنقل عبر الزمن.

يكمن السر في ثنائية الزخم والإلحاح .. وفرة العناصر التي لديها "منزلة مميزة" داخل "الوسط الثقافي"، وتعمّدها الكتابة عن الموضوع والترويج له لأطول وقت ممكن بحيث يصل إلى مستوى التجذّر الذي يجعله قادرًا على خلق نتائجه بنفسه، ومراكمة آثاره بلا عطل، ودون حاجة لمزيد من التدّخل.  

أعرف أن هناك من سيتصوّر وبشكل عفوي تمامًا أن ما كتبته الآن ستكون له نبرة "الحسرة" إذا ما تحوّل إلى كلام .. أنه رثاء لأمنية لم تتحقق .. هذا الاعتقاد البائس يسعدني حقًا لأنه دليل احتياج صاحبه إلى تضليل إدراكه بأن ما ذكرته حقيقة لا يمكن إنكارها .. أنتم تعلمون جيدًا أنه الواقع، مثلما تعلمون أيضًا ـ يا أبناء الكريمة ـ لماذا عليكم الصمت أو المراوغة عند مواجهة ذلك اليقين .. لكن هذا لا ينفي قطعًا الشك المستقر داخلي منذ عرض المسلسل في رمضان 2019 تجاه وجود "استفادة ممكنة" من "جرثومة بو"، والتي يدعمها تعدد "القواسم المشتركة"، المثيرة للانتباه بالفعل، وعلى نحو أقوى مما حفّز ارتيابي في "تماثلات أساسية" بين روايتي "الفشل في النوم مع السيدة نون"، ومسلسل "30 يوم". 

نعم .. هو ثمن عدم الانتماء إلى "شلة"، ذلك لأن ما يحققه هذا "الانتماء" لم أكن أبدًا زاهدًا فيه، ببساطة لأنني أستحقه، بل وأكثر الجديرين به .. لكن في المقابل فإنني أستحق بصورة جوهرية ما يليق بي فعلًا، أي ما كنت، وما زلت عليه حتى الآن .. أن أكون وحدي، مستقلًا بفرديتي الطائشة، خارج المتن، منفصلًا عن سلطة المركز، مجرّدًا من أفضال "الصداقة"، مغتنمًا المكاسب الأنقى .. لأنني أكثر الجديرين بأن أكون لاعبًا بـ "التاريخ الأدبي"، لا قطعة من ألعابه.

موقع "الكتابة" ـ 3 نوفمبر 2020

الأحد، 1 نوفمبر 2020

خيوط الفناء

في لحظة ما ستعجز عن سماعهم مجددًا وهم يتحدثون أو يضحكون .. لن تقدر حتى على تخيّل صمتهم أو الطريقة التي كانوا ينظرون بها إلى ما حولهم مرة أخرى .. كل أصواتهم ستتحوّل في ذاكرتك حتى النهاية إلي بكاء .. أنفاسهم ستصبح توجعات، وعيونهم ستكون دموعًا فقط .. اللحظة التي تكشف فجأة عن طغيانها الأبدي بالرغم من أنك تعرف تمامًا أنها استغرقت زمنًا أطول مما يمكنك تصديقه .. لكن ما يبدو تمهيدًا بطيئًا كي تدرك بأن ذهنك كان يعمّل دائمًا كآلة تسجيل سرية لأرواح الجحيم المخبوءة في أجساد الموتى؛ لم يكن في حقيقته سوى ضربة فأس خاطفة، تتركز سطوتها في الإيهام بأنها حدث متدرّج، واقع ينمو بمرور الوقت .. سيكون أكثر رجاءاتك وحشية أن تمتلك دليلًا مُحصّنًا بأن ما تراه وتسمعه في ذاكرتك ليس إلا وهمًا لئيمًا .. أن مشاهد عذابهم ليست إلا بصمات المزاج الملعون لذهنك الذي يحتفظ بالجثث في عتمته مثلما يواري طفل متوجّس ألعابه في صندوق مغلق أسفل سريره .. ستظل تتوسّل في كل لحظة أن تسترد أصواتهم ونظراتهم المألوفة حتى التي طالما اعتصرت نفسك بالخوف والغضب والضجر .. ستتمنى استعادة هذا الاختناق المروّع ثانيةً، كأنه نوع من طمأنينة أصابها سحر شرير، يمنعها من التجسّد ولو كذكرى متهالكة .. لن تستطيع أن ترى الوجوه التي كان يمكنّك تمييزها وأنت مغمض العينين، ذلك بعد أن عرفت أنك دُفنت معهم.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 31 أكتوبر 2020