السبت، 18 سبتمبر 2021

فنار مهجور


 حين يُطفَئ مصباحي للأبد

سوف أسترد وظيفتي الأصلية

كسرٍ لا يكشفه إلا إخفاء محكم.

سأتوقف عن أن أكون وعدًا بالأمان

وأصبح دليلًا على كذبة الضوء

وبداهة الظلام في كل جسد.

سأترك البحر غنيمة للضجر

بعدما أتخلى عن دوري المصطنع

في لعبة الخطر والنجاة …

البحر كمقبرة معتمة

حيث تُدفن بتلاحق وصمت

أرواح العالقين في طمأنينة الأحلام:

السائرون في الشوارع

وساكنو البيوت

الخائفون من الغرق.

حين يُطفَئ مصباحي للأبد

لن أكون علامة ليلية

سأكون مصدرًا لليل

وذلك ما سيفسر الرهبة المُسْكرة

في نفس العابر

الذي يدور حول انتصابي المقبض

محدقًا في عيوني الخامدة

التي يعرف أنها من موضعها الشاهق

ترى ما لا يمكن رؤيته

وتختزن ما لا يمكن وصفه

وأن ذلك كان كافيًا

لأزيح عن خطواته الغافلة

مجرد وميض قد يتعثر به

في طريقه نحو النهاية.

اللوحة: Vilhelm Melbye

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2021

سيرة الاختباء (31)

نشرت جريدة "أخبار الأدب" في 29 أغسطس 2021 عددًا خاصًا بعنوان "نجيب محفوظ .. في ذكرى البنّاء الأعظم" .. وصف استسهالي مبتذل مثل هذا فيه من الشوفينية الرادعة أكبر بكثير مما يمكن أن يخطر في ذهن كاتبه، وذلك لا علاقة له بأدب نجيب محفوظ نفسه الذي لا يحتاج إلى صيغ تفضيل مطلقة وطفولية كهذه لتقديره، لكنها كافية لمجابهة أي نزعة للتمرد على التراتبية الأدبية أو هيمنة (الرموز والروّاد) على قمة السلم الوهمي للقيمة .. يذكرني هذا بعنوان مماثل على غلاف نفس الجريدة منذ حوالي 15 عامًا، حينما جمع المسؤولون عن تحريرها وقتئذ عشرين كاتبًا شابًا تقريبًا ـ لا أحتاج للقول بأنهم قاهريون ـ في ملف أطلقوا عليه "كتّاب الألفية في مصر" .. مسارات النشر والنقد والترجمة والجوائز ... إلخ قائمة بشكل أساسي على تشابكات لانهائية من التزييف والتواطؤ بين المكرسين مركزيًا (كتّاب، صحفيين، نقاد، ناشرين، أكاديميين)، وبمعنى آخر؛ لا يتحقق التاريخ الأدبي الرسمي إلا بتراكم متواصل من التضليل العام الذي يثبت تأثيره في النتائج الاستثنائية قبل التي تؤكده كواقع شامل.

يسهل تعرية الكليشيه التوصيفي هذا عند كل محاولة للإجابة على الاستفهام البسيط الذي يحتم طرحه منطقيًا: أعظم بالنسبة لمن؟ .. بالتأكيد ليس للبشرية جميعها عبر العصور كافة, كما أن (الأعظم) قد يكون بالنسبة لأي إنسان متغيّرًا وليس ثابتًا، أي أن المعايير التي يقوم عليها حكم (العظمة) في لحظة ما بكل امتداداتها ربما تتبدل وتتلاشى فضلًا عن خضوعها طوال الوقت للمساءلة والجدل والمقارنة بمعايير أخرى، ولو كان بالنسبة للأغلبية كما يفترض (مبدع الوصف) فإنها الأغلبية التي يعرفها هو .. التي يستطيع قياسها وفقًا للحدود التي تتحرك داخلها فرديته وحسب وليست التي تتجسد في ذاتها داخل كل مكان وزمان كيقين كوني .. إذن هو أولًا وأخيرًا توصيف لوجهة نظر، وحينما يكون كذلك فإن موضعه البديهي هو عنوان مقال لصاحبها وليس عنوان ملف عن (كاتب) لا (إله).

أتذكر أنه منذ 4 سنوات طلب مني الأستاذ "السيد حسين" شهادة عن نجيب محفوظ لمجلة "الأهرام العربي" .. كتبت في هذه الشهادة تحليلًا مختصرًا لما أراها مظاهر دهاء الكتابة عند محفوظ .. لكنني فوجئت بنشر الشهادة مرفقة باقتباس يتضمن هذا التعبير: (رائد الرمزية السحرية) وهو ما لم يكن له أي حضور في الشهادة نفسها ويتنافر كليًا مع كتابتي بشكل عام، حيث أنني لا أستخدم كلمات مثل (رائد) أو (رمز) إلا لكي أسخر منها .. أدرك تمامًا الفرق بين تشريح جماليات الكاتب وبين التقديس الساذج له .. ببن التوحد والاشتباك بعوالمه السردية وبين تحويلها إلى سلطة لا تاريخية مرهبة .. رأيت الخطأ وقتئذ أقل أهمية من مجرد الإشارة له، ذلك لأن الشهادة نُشرت بالطبع في مدونتي بعنوانها الأصلي (الرمزية السحرية عند نجيب محفوظ) وكذلك في كتابي (استراقات الكتابة).

أستعير هذه الفقرة من كتابي "نقد استجابة القارئ العربي ـ مقدمة في جينالوجيا التأويل" للإشارة إلى الدور الذي تمارسه ألقاب مثل "البنّاء الأعظم"، أو "الصانع الأمهر" كما أطلق أحدهم على المعجزة الفكاهية "إله السرد" ذات مرة:

"أستطيع أن أمتد بهذا الخط على استقامته الآن كي أفكر في هذا الخطاب النقدي المهيمن عبر التاريخ، والذي تقوده (أسماء) لم تمتلك (السلطة) إلا بفضل الأنساق المعرفية (المؤسسية) التي تكوّنت وتراكمت تدريجيًا من خلال آليات الفرز والتنميط والإقصاء، ولم يعد لزمنها الخاص تعريفًا إلا بواسطة لامركزيتها، أي التناسل العشوائي لعلاقات القوة المتشابكة داخل أنظمتها المحكومة بالمفاهيم. تُشكّل هذه الأنساق إذن منهجًا من القواعد التي تُخضع القراء بصورة عفوية لـ (بداهتها المطلقة)؛ حيث كل إدانة، أو كل إقرار للصواب أو الخطأ يمارسه القارئ سيستمد (شرعيته الجمالية) من هذا الوجود المعرفي الذي يمتد طغيانه كغرائز توجيهية وإرشادية تمثل (الحقيقة)".

هل أنا في حاجة الآن للتأكيد على تقديري واحترامي الشخصي لأسرة تحرير "أخبار الأدب" وخاصة الكاتبة منصورة عز الدين والأستاذ طارق الطاهر، وأنني أتشرف كثيرًا بالأعوام التي قضيتها في كتابة مقال شهري لـ "بستان الكتب" قبل أن أتوقف منذ عامين تقريبًا بصورة مؤقتة عن كتابة القراءات النقدية، وأنني كتبت مقالًا تهكميًا عن "كتّاب الألفية في مصر" قبل سنوات في موقع "شبكة شباب الشرق الأوسط" والذي كان يحرره الكاتب والمترجم "أحمد زيدان"؟ .. ربما أنا في احتياج لذلك حقًا نظرًا لأنني لا أتحدث مع أحد ولا أتبادل المكالمات الهاتفية أو الرسائل الإلكترونية أو المحادثات الخاصة مع من يمكنهم أن يجعلوني في غنى عن هذا التأكيد.   

ثمة فرق بين من يتصدى لماكينات التأليه الثقافي راهنًا وتاريخيًا بمعزل عن أطر الحماية النخبوية ومجردًا من التكاتفات المتحيزة للقبائل والجماعات الأدبية، وبين من يفعل ذلك ضامنًا لصلابة ما يرد عنه الأذى وما يوطده في الوقت نفسه كمتن مغاير.

      موقع "الكتابة" ـ 14 سبتمبر 2021

الجمعة، 10 سبتمبر 2021

الإقناع

كان يلقب بالشيخ؛ يؤم الناس في الصلاة، ويلقي دروسًا دينية في المساجد، كما كانت لديه صفحة على فيسبوك ينشر فيها أقوالًا إيمانية مأثورة .. جاءته في الحلم تلك الليلة طفلة صغيرة مريضة بالسرطان كان قد نشر صورتها على صفحته مع دعاء بالشفاء لها .. رآها كما كانت في صورتها تمامًا وسمعها تسأله بصوت واهن:

ـ لماذا أتعذب؟

لم يكن يرى نفسه ولكنه سمع صوته يرد عليها:

ـ هذا ابتلاء من الله ويجب أن نرضى بقدره.

ـ أنا لم أقترف ذنبًا.

ـ الله سيعوضك في الجنة.

ـ لكني لا أستحق ما أنا فيه الآن.

استيقظ من نومه غاضبًا .. لم يكن مفزوعًا ولا حزينًا ولا حائرًا .. كان يشعر بالسخط فحسب لأنه فشل في إقناع الطفلة.

في الليلة التالية وبعد يوم أطاله الشعور بالعجز؛ جاءته الطفلة في الحلم ثانية .. لكنها هذه المرة كانت عارية كليًا وتمتلك جسدًا لم يصدق جماله بينما يرى نفسه يعتليها عاريًا أيضًا فوق سرير مستشفى .. بعدما انتهى من مضاجعتها وقبل أن ينهض من فوقها؛ نظر إلى وجهها الشاحب متسائلًا بابتسامة واثقة .. أومأت الطفلة الصغيرة بالإيجاب مبتسمة هي الأخرى برأسها الأصلع.

استيقظ من نومه سعيدًا وبينما كان يغتسل شعر بأنه يزيل عن جسده آثار معركة عابرة خرج منها منتصرًا.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 9 سبتمبر 2021 

الاثنين، 6 سبتمبر 2021

مراجعات الكتب كمورفولوجيا تأديبية

من ضمن ما لاحظته أثناء دراستي للممارسات الخطابية للقرّاء العرب على موقع جودريدز ـ وهو ما سيضاف بشكل أكثر تفصيلًا للطبعة الجديدة من كتابي "نقد استجابة القارئ العربي ـ مقدمة في جينالوجيا التأويل" ـ أن هناك مِن هؤلاء القراء إذا ما أبدى قبولًا أو تجاوبًا أو حتى احتفاءً بأعمال أدبية تنطوي على ما يسمى بكسر التابو الديني أو الجنسي فإن ذلك يكون مقترنًا بإدانة لما يعتبرها مشكلات أو عيوبًا في الأسلوب أو البنية النصية .. هذه الإدانة لا يتناولها من ضمن الانتهاك القيمي الذي أظهر توافقًا معه، أي بوصف تلك المشكلات أو العيوب في حقيقتها جانبًا من التمرد الشكلاني للعمل، والذي يتسق ويتلازم مع تجاوز "المحظور"، وإنما يقاربها كموضوع مستقل، لا يحتمل تعدد التأويل، ويجب النظر إليه من زاوية واحدة وهي "الإخفاق" .. فشل الكاتب في استعمال التقنيات أو تشييد النظام الأكثر ملاءمة لروايته على سبيل المثال .. الفشل هنا صفة لا يمكن أن يمنحها القارئ لنفسه أو أن يحكم على الأقل بـ "عدم الانسجام" بين وعيه القرائي والجماليات الكتابية التي يستخدمها النص، بل ينبغي بعفوية بالغة الثقة أن يلصق تلك الصفة بالروائي كخادم لغوي مكلف وحسب بإرضاء الجميع في كل مكان وزمان.

تبدو هذه الإدانة كأنها حيلة دفاعية لاواعية للتوازن .. تعويض التابو الذي تم القبول بكسره .. مقاومة الانتهاك القيمي بطريقة غير مباشرة .. تبدو هذه الإدانة كأنها عقاب ضروري للكاتب في مقابل التجاوب مع تمرده.

يحتاج القارئ أن يظهر كشخص منفتح، غير خاضع، أو حتى متسمًا بالجموح .. أن يُبعد عن صورته لدى الآخرين صفات الرجعية والتزمت والمسالمة تجاه الثوابت الأخلاقية .. يحتاج لأن يظهر أمام نفسه هكذا فعلًا أو أن يقنع ذاته بأنه قادر حقًا على التفكير بشكل تقويضي .. لكن هذا القارئ الذي لم يقدر على أن يكون ذلك الشخص على نحو تام فإنه يظل محكومًا باليقينيات التي تجبره على أن يجعل الكاتب يدفع ثمن انتهاكه .. حينئذ لا يعني الاحتفاء بكسر التابو إلا نوعًا من الرفض المراوغ سيعلن عن نفسه في موضع آخر (الشكل).

إن مراجعات الكتب التي تستعمل تعبيرات مثل "الحبكة الساذجة" .. "الشخصيات سيئة الرسم" .. "ضعف البناء الروائي" في تلك الأحوال تكون أقرب إلى مورفولوجيا تأديبية (محاكمة المكونات ووظائفها وعلاقاتها ودلالاتها) أي تلك التي تعيد إنتاج بنية النص بما يضمن أن يكون في حالة دفاع عن نفسه ولو على مستوى "تشكّله"، طالما ثمة سبب يدفع قارئه ـ ظاهريًا أو بدرجة ما ـ للتعايش مع مضمونه الانتهاكي.     

"مكان في الزمن" في إيطاليا

بعد الولايات المتحدة الأمريكية ومصر، سيُعرض فيلم "مكان في الزمن" في إيطاليا في الدورة الثامنة عشر لمهرجان Salento International Film Festival ، الذي يستمر من 7 إلى 12 سبتمبر 2021. الفيلم للمخرج نواف الجناحي عن قصة لممدوح رزق.

الخميس، 2 سبتمبر 2021

صبر الصياد

صباح الخير صديقي العزيز

أعلم أنك ستدهش من هذه الصيغة التي أفتتح بها رسالتي إليك نظرًا لأنك لا تعرفني؛ ما بالك إذن لو عرفت أنني في المراجعة الأخيرة فضلت أن أجعلها بديلة لـ (صديقي الوحيد) خشية ألا تصدقني .. فبالرغم من أن تصديق ذلك أو عدمه ليس مؤثرًا في مضمون الرسالة إلا أنني لا أعرف لماذا أشعر بضرورة مبهمة لأن أخبرك بأنني ابتعدت عن أصدقائي جميعهم منذ فترة طويلة، وأنه بعد زمن بسيط من ذلك الانقطاع التام، وحينما صادفت حسابك الشخصي على انستجرام اعتبرتك بالفعل صديقًا جديرًا بالبقاء في حياتي المتخلصة من الصداقات كافة.

أرسل إليك هذه الرسالة كي أعبر لك عن شعوري بالحزن تجاه ما أصابك بسبب جائحة كورونا، والتي جعلتك تضطر أحيانًا لارتداء الكمامة واستعمال المطهرات كما يبدو في بعض الصور والفيديوهات التي تنشرها، أو ربما تسببت لرحلاتك الجوية في تعطيل مؤقت .. أشعر بالحزن لأنني ببساطة أحب حياتك، وبالتالي لا أريد أن يلحق بها أي ضرر مهما كان تافهًا .. لست ساذجًا حتى أعتقد أنك إنسان سعيد لمجرد أنك تجوب العالم وترافق نساءً جميلات وترتاد أكثر الأماكن سحرًا، أو لأنك تأكل وتشرب وتلبس وتغني وترقص وتدخن وتسكر كما يليق بكائن يعيش رفاهية متوطدة .. لديك بالتأكيد تعاستك الخاصة، وكل ما في الأمر أنني كنت أتمنى لو اختبرت ذلك الشكل المجهول من التعاسة الذي يدفعك للعيش على هذا النحو .. كنت أتمنى أن أجرّب ذلك الألم الذي يظهرك كما لو كنت سعيدًا بهذه الصورة المخادعة لضعاف العقول .. أنا أيضًا لدي تعاستي الخاصة، لكن بوسعك القول أنه بعد تجاوزي الأربعين شعرت بالضجر من حياتي .. كان لدي رجاء بأن ألامس على الأقل تعاسة مختلفة داخل تلك المتع الظاهرية التي تشكّل حياتك .. ونظرًا لأنني أعجز كليًا عن ذلك فليس بمقدوري سوى أن أعيش صورك وفيديوهاتك على انستجرام.

لهذا، وبعدما لاحظت في الآونة الأخيرة أنك تخليت حتى عن التزاماتك البسيطة بالإجراءات الاحترازية فإنني أطلب منك أن تعاود استخدامها حماية لنفسك .. لا أريد لما أنت فيه أن يتوقف .. لا أريد لمنشوراتك الاحتفالية بالحياة، التي أعلم أن ثمة معاناة من نوع ما تتوارى خلفها، أن تنتهي .. منشوراتك التي أصبحت حياتي، وأنا كشخص عادي يخاف الموت لا أريد أن أفقد هذه الحياة .. حافظ عليها أرجوك .. أما إذا شعرت قبل نهاية عمرك بأنك تريد الانعزال عن العالم، وإعادة تأمل أسرارك البائسة، ثم تملكتك الرغبة في كتابة قصة قصيرة عن ذلك وطلبت مساعدتي؛ فإنك حتمًا ستكون قد قصدت الرجل المناسب، ولا أحتاج للقول بأنه حينئذ ستكون اللحظة التي يكتمل فيها امتناني لوجودك في حياتي .. اللحظة التي انتظرتها منذ أن اعتبرتك صديقي الوحيد.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 1 سبتمبر 2021

اللوحة لـ (بابلو بيكاسو)