الأربعاء، 13 أبريل 2016
خلق الموتى
يعد " ممدوح رزق " واحدا من أغزر كتّاب جيله، فرغم أنه
مازال في الثلاثينيات من العمر، إلا أن انتاجه الأدبي تنوع بين القصة، والرواية،
والشعر، والدراسات النقدية، وقصص الأطفال، هذا غير الترجمة. ورغم أن القضية ليست
أبدا قضية كم بل كيف، إلا أن ممارسته أشكالا مختلفة من فنون القول بالإضافة إلى
اطلاعه على الأدب العالمي وتأثره بفن السينما، قد أثرا بشكل ملحوظ على إبداعه.
" خلق الموتى " رواية صغيرة الحجم، وبداية من العنوان الصادم يلج القاريء هذا العمل بمشاعر من الفضول والرهبة، لكن صورة الغلاف لسلفادور دالي لم تكن في رأينا مناسبة، صحيح أنها صورة شهيرة هي " وجه الحرب " لكن الجمجمة الكبيرة والجماجم الصغيرة الموزعة داخل محجري العينين والفم أبعد ما تكون عن الاتساق مع الدلالة الكلية للعمل. كما أن البنط الطباعي الصغير قد أضاف نوعا من عدم الارتياح للمتلقي.
اكتسب " ممدوح " قدرة مدهشة على صياغة جملة سردية ذات إيقاع خاص ومنضبط. جملته ذات سلاسة غير عادية تجعل أسلوبه نوعا من السهل الممتنع. تنساب الجمل واحدة وراء الأخرى دون معاظلة، وإذا كانت اللغة كما ذكرنا ليست مجرد أداة لنقل المحتوى، فقد استغل الكاتب تلك الأداة بذكاء ليدخلك في عالمه القاتم والمربك، منذ السطور الأولى بلغة لا تكاد تحس وجودها أصلا، فلا نجد نتوءا واحدا أو مفردة تعطل التلقي. اللغة هي زورقه الذي ينساب بك لتبحر في عالمه الخاص. عالم خليط من الدهشة وكسر التابوهات وكسر أفق توقعات القاريء.
وثاني عتبات النص الإهداء " إلى أبي مرة أخرى وربما لن تكون الأخيرة " أما المفتتح فهو قصيدة الشاعر اليوناني ريتسوس من ديوان مختارات البعيد ترجمة رفعت سلام " فلنغلق أعيننا برهة ليمكننا أن نسمع الأم وهي تغسل الأطباق في المطبخ... حتى يصل لقوله " أبانا الذي في السماء ". القصيدة هي رغبة في إعادة خلق عالم حميمي مفتقد، عالم بديل عن واقع الشاعر، يستعيد فيه أمه الغائبة، ويعود فيها لمراعي طفولته، ولأن النوم أمنية عصية يبتهل إلى الأيل الأزرق الذي سيمنحه أخيرا نعمة النوم.
إن العلاقة بالأب تلك السلطة البطريركية الكلية الخانقة الذي يتمرد الراوي عليه ويظل مع ذلك يحبه، تظل علاقة ملتبسة وتبدأ منذ السطور الأولى " أعرف يا أبي أنك أنت الذي فعلتها ". نحن إذن أمام اتهام، بل إدانة الابن لتصرف الأب. لقد استولى الأب على أحد المنتديات الالكترونية باسم مستعار هو " احتمال مستبعد " وعلى مدار النص يفضح الابن كذب الأب وافتراءاته.
وبينما تمثل ( الافتتاحية ) في الرواية الواقعية جزءا هاما يترتب عليه مسار القص وتطوره، يتخلى ممدوح رزق عن الافتتاحية التقليدية، وتصبح عنده أقرب لكتاب رواية ( تيار الوعي ) حين استغنوا عنها، لقد أصبح الماضي في رواياتهم جزءا من الحاضر، فهو مخزون في ذاكرة الشخصية تستدعيه اللحظة الحاضرة على غير نظام أو ترتيب، ولذلك لا تكتمل الأحداث في تسلسلها الزمني إلا في نهاية القراءة، حيث يعاد ترتيبها في مخيلة القاريء.
يقع القاريء في نوع من الحيرة، فالأب قد تجاوز السبعين ومن المفترض أن تكون علاقته بالكومبيوتر في أغلب الأحوال محدودة، خاصة أن النص لم يخبرنا بنوع تعليم الأب أو مهنته أو ثقافته، ويمارس الأب الكذب ويدعي أنه أرمل في حين أن زوجته جالسة أمام البحر في شرم الشيخ وتعد هي وزميلاتها العدة للسفر إلى باريس. أما الابن الذي يدعي الأب أنه عاطل فهو عازف ترومبيت بفرقة جاز أصدر العديد من الألبومات والسيديهات الناجحة، كما أنه يقيم الحفلات الرائعة داخل مصر وخارجها. والشقيقة التي يدعي الرجل أنها نزيلة إحدى المصحات النفسية، فنانة تشكيلية جميلة تعيش في القاهرة مع زوجها مدرس الفلسفة بإحدى كليات الآداب وبرفقة أطفالها الرائعين. وأخيرا صديقه الوحيد ليس مدمن مخدرات، بل باحث في تاريخ الكوميديا ويملك دار نشر متخصصة. بل إن الأب نفسه لم يخضع لعملية قلب مفتوح كما يدعي، ومازال يتمتع بصحة جيدة بفضل عادات صحية وغذائية صارمة تؤجل من شيخوخته. لقد اختار الأب الاستيلاء على منتدى المنصورة تحديدا لأنه يحب المنصورة جدا ويرتبط بها روحيا، أما نشر حكاياته على الانترنت فسببها من وجهة نظره، أن نشرها في كتاب أو مدونة لن تحقق له سوى قراءات عابرة.
طبعا سيكون القاريء فكرة مؤقتة عن نوعية هذا الكاتب، ويكون الانطباع الأول واحد من إثنين: الأول أنه بصدد نوع من الكتّاب الذين يتعاطون الكتابة كنوع من المخدرات لتلقي بهم في عالم وردي، تصبح فيه الشخصيات ذات أصول ارستقراطية، تعيش في رفاهية وبحبوحة يحلم هو بها. نوعية من الكتاب الذين يمجدهم القاريء، لأنهم يصورون واقعا زائفا، حيث يبدو العالم على أبدع ما يكون، وليس في الإمكان أفضل مما كان، نضيف إلى ذلك الجهل المطبق والغباء في اختيار الشخصيات دون دراسة أو خبرة حياتية تمكن الكاتب من تبرير أو فهم تصرفاتها. الأم مجرد مدرسة في مدرسة ميت حدر الابتدائية فكيف لها أن تعيش هي وزميلاتها حياة هوانم الزمالك، أما النجاح المنقطع النظير للابن عازف الجاز في مدينة إقليمية مثل المنصورة، ذلك الذي يصدر السيديهات ويجوب العالم فأمر يصعب تصديقه، لو أضفنا لذلك أن الأخت فنانة تشكيلية، وأن الصديق صاحب دار نشر متخصصة في مجال الكوميديا، فنحن إذن نعيش في مدينة ليون لا في المنصورة.
الاحتمال الثاني هو أن الابن يكذب بكل تأكيد، ويحتاج القاريء أن يعمل عقله فيما يقرأ، ولا ينخدع ببراعة الكاتب الأسلوبية التي لا تترك له الفرصة لالتقاط أنفاسه أو التفكير فيما يحدثنا به الراوي. اللغة كما سبق وأشرنا تقذف بالمتلقي داخل شرنقة حريرية، ويصبح السرد ذا إيقاع لاهث يذكرنا بلغة ألبير كامي في الغريب. ونفس لغة البطل " ميرسو " الخادعة يستخدمها عازف الترومبيت. هكذا تظل علاقة القاريء بالنص قلقة، ويلجأ الكاتب إلى حيل فنية مثل استعراض قراءاته الشعرية والنقدية والفلسفية، ويزدحم النص القصير بتناصات عديدة، قد نشعر أحيانا أنها تمثل عبئا على النص.
ويظهر الكاتب نفسه داخل ثنايا العمل، فلا تعرف هل هو عازف الترومبيت أم كاتب القصص، ولا توجد إشارة واحدة في النص أنهما شخص واحد. وإذا كان احتراف البطل الكتابة له ما يبرره، فالكلمة أرخص المواد الخام لانتاج فن، نجد في المقابل أن عزف الترومبيت لم يأت ذكره في طفولة الابن مرة واحدة. ويلجأ الكاتب لنوع من التغريب أو العبث حيث يستخدم تقنية الحلم/ الكابوس في أحيان كثيرة، فالأب الذي يجلس في جامع السنجق مداعبا مسبحته يرجو ابنه الصلاة معه قائلا: " أنت الآن في المسجد وهذه فرصة لا تضيعها من أجل خاطري استغلها " وأخيرا يقنع ابنه بالصلاة فيقف الابن في الصلاة، ويخرج المصلون بما فيهم الأب نسخة من " نادي القتال " وسيكتشف القاريء التشابه بين رواية ممدوح ورواية تشاك بولانيك.
التناقض الغريب بين صورة هذا الأب وبين قراءاته لكيركيجور الذي يتهم الله بأنه في قسوة تاجر رقيق. والتناقض الشديد بين المستوى الاجتماعي والذي تظهر به الأسرة وبين كلمات الابن، فكلمات مثل " ابن الكلب الوسخ .. الخول " تثير إشكالية وتزيد من عمق العلاقة الملتبسة بين الابن والأب. إن أحد مشروعات الابن هي الكتابة عن " جيص أبيه الشمولي " ويصفه لنا في صفحتين كاملتين، والولد الذي يتهمه الأب أنه " دلدول " يخرج من البيت فيذهب إلى محل كشري، لا لمطعم أنيق، ولم يتمكن رغم ذلك المستوى الاجتماعي المرفه نسبيا من الذهاب لطبيب يعالج له مشكلة حب الشباب. ومع استمرار القراءة نكتشف أن الأم تجلس في الشرفة، لا تغادرها، وأن الابنة موظفة عانس في الشئون الاجتماعية.
والاجتراء الشديد على التابوهات كان بدوره لافتا. " مرور آخر 35 دقيقة على آخر استمناء لي "، " جيص الأب خطاب شمولي "، " مشهد الأم وهي تخرج أصابعها المبتلة قليلا من تحت كلوتها " " خراء الوجود "، " شقيقتي تجلس أمام قناة الناس تشاهد أفلام السكس "، " مدام ندى ضيقة من تحت " تسهم تلك اللغة في استعداء القاريء بكل تأكيد.
وباستمرار القراءة تزداد الدهشة، فالأب يدين نفسه وكل سلطة أبوية مرتبكة، فيعترف أنه كان يضرب ابنه وزوجته باستمتاع سادي، ونستغرب كيف يعترف بقهر وإذلال الزوجة، ودفع الابن إلى الفشل دفعا، وحول الابنة إلى مريضة نفسية تجاوزت الأربعين دون عريس ومع ذلك تحبه. كيف استطاع الأب أن يصف بتلك الدقة مشاعر ابنه النفسية وشعوره بالقهر؟ الأب كلي القدرة يعرف فيما يفكر ابنه، ومشروعات كتابته القادمة، ورغبته في مضاجعة أربع كاتبات عربيات، وماذا فعل لحظة بلحظة حين طرده من عالمه من البيت.
ولا نعلم هل الابن هو الكاتب نفسه، أم هو شخصية من نسج الخيال. وهل هو الكاتب الذي يقدم نصائح للكتابة تثير الحيرة والضحك وتكاد تجعله مريضا نفسيا مثل: ضرورة طهي الطعام وممارسة الجنس.
باستمرار القراءة يتكشف العالم الحقيقي. هذه كلها أوهام وأمنيات لعالم كان الابن، الذي لم نعرف له اسما أو رسما، يتمنى لو عاشت فيه أسرته، بعد أن رحل ثلاثتهم، دون أن يعطينا الكاتب مجرد تلميح كيف ماتوا جميعا. الراوي إذن مخلوق وحيد بلا أب أو أم أو أخت أو صديق.
الكتابة تشبه عزف الابن على الترومبيت من أجل الراحلين. الكتابة إذن محاولة لبعثهم إلى الحياة مرتين: مرة بتقديم واقع جميل، فيه كل الرفاهية الممكنة حيث يمارس الأب نزوة شيخ مأفون. ومرة بمحاولة بعث هؤلاء الموتى بفلاش باك يتذكر فيه خيبة واقعهم. الأم التي لم تعرف الناس، والأب الذي لا يجيد حتى النكتة، والأخت تلك المريضة النفسية الطليقة التي تكره العالم.
ونتأكد مع آخر وحدة سردية أن البطل ( عازف الترومبيت ) هو الذي استولى على الموقع منتحلا شخصية أبيه. ليست هذه اعترافات بل إدانة للأب. ليست هذه قصة حياة، بل وهم حياة لم يعشها أبدا الراوي ولا أسرته.
إنها رواية حداثية تحتاج لقراءة ثانية لسبر أغوارها، واكتشاف جمالياتها. هذا الدرب الصعب الذي اختاره ممدوح رزق يثبت موهبته، وقدرته الفائقة في السرد، وكسر الحدود بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، بين الواقع والوهم، بين ما هو حياتي وبين ما هو قرائي.
الحبكة التقليدية إذن لا تناسب الكاتب، ولابد للزمن الروائي نفسه أن يتشظى. إنه لا يكتب لنا مغامرة، بل تصبح الكتابة نفسها مغامرة. كاتب يعترف أنه يستعدي القاريء ويعتبر تلك العداوة مكسبا. إنه يختار النمط الثاني من السرد، لم يعد العالم مفهوما مثلما كان يفهمه بطل بلزاك ذلك البطل الفاعل، لكنه العالم الذي لا يفهمه الأبطال شأنهم شأن ميرسو ألبير كامي والسيد " ك " بطل كافكا.
إن منطق الحكي عند ممدوح رزق هو عدم التخلي عن لعبة الخداع و" الاشتغالة " وهذا ما فعله بامتياز ممدوح رزق. لكن يبقى سؤال.. هل يفيد استعداء القاريء فعلا؟ وهل تجد هذه الكتابة جمهورا؟ ألم يعد كتاب الرواية الجديدة أنفسهم إلى الشكل الأقرب للتقليدية؟ وهل أنتج ممدوح رزق نصه تحت تأثير ثقافة غربية تمارس عليه نوعا من الاستلاب؟ هل هو بحاجة لإعادة قراءة تراثه العربي ليحقق نوعا من التوازن لعالمه؟ هي أسئلة نطرحها ولن نتوقف عندها ونترك القاريء الجديد ليجيب عنها. ألم يقل كافكا أننا نقرأ لنطرح الأسئلة لا لنجيب عليها.
" خلق الموتى " رواية صغيرة الحجم، وبداية من العنوان الصادم يلج القاريء هذا العمل بمشاعر من الفضول والرهبة، لكن صورة الغلاف لسلفادور دالي لم تكن في رأينا مناسبة، صحيح أنها صورة شهيرة هي " وجه الحرب " لكن الجمجمة الكبيرة والجماجم الصغيرة الموزعة داخل محجري العينين والفم أبعد ما تكون عن الاتساق مع الدلالة الكلية للعمل. كما أن البنط الطباعي الصغير قد أضاف نوعا من عدم الارتياح للمتلقي.
اكتسب " ممدوح " قدرة مدهشة على صياغة جملة سردية ذات إيقاع خاص ومنضبط. جملته ذات سلاسة غير عادية تجعل أسلوبه نوعا من السهل الممتنع. تنساب الجمل واحدة وراء الأخرى دون معاظلة، وإذا كانت اللغة كما ذكرنا ليست مجرد أداة لنقل المحتوى، فقد استغل الكاتب تلك الأداة بذكاء ليدخلك في عالمه القاتم والمربك، منذ السطور الأولى بلغة لا تكاد تحس وجودها أصلا، فلا نجد نتوءا واحدا أو مفردة تعطل التلقي. اللغة هي زورقه الذي ينساب بك لتبحر في عالمه الخاص. عالم خليط من الدهشة وكسر التابوهات وكسر أفق توقعات القاريء.
وثاني عتبات النص الإهداء " إلى أبي مرة أخرى وربما لن تكون الأخيرة " أما المفتتح فهو قصيدة الشاعر اليوناني ريتسوس من ديوان مختارات البعيد ترجمة رفعت سلام " فلنغلق أعيننا برهة ليمكننا أن نسمع الأم وهي تغسل الأطباق في المطبخ... حتى يصل لقوله " أبانا الذي في السماء ". القصيدة هي رغبة في إعادة خلق عالم حميمي مفتقد، عالم بديل عن واقع الشاعر، يستعيد فيه أمه الغائبة، ويعود فيها لمراعي طفولته، ولأن النوم أمنية عصية يبتهل إلى الأيل الأزرق الذي سيمنحه أخيرا نعمة النوم.
إن العلاقة بالأب تلك السلطة البطريركية الكلية الخانقة الذي يتمرد الراوي عليه ويظل مع ذلك يحبه، تظل علاقة ملتبسة وتبدأ منذ السطور الأولى " أعرف يا أبي أنك أنت الذي فعلتها ". نحن إذن أمام اتهام، بل إدانة الابن لتصرف الأب. لقد استولى الأب على أحد المنتديات الالكترونية باسم مستعار هو " احتمال مستبعد " وعلى مدار النص يفضح الابن كذب الأب وافتراءاته.
وبينما تمثل ( الافتتاحية ) في الرواية الواقعية جزءا هاما يترتب عليه مسار القص وتطوره، يتخلى ممدوح رزق عن الافتتاحية التقليدية، وتصبح عنده أقرب لكتاب رواية ( تيار الوعي ) حين استغنوا عنها، لقد أصبح الماضي في رواياتهم جزءا من الحاضر، فهو مخزون في ذاكرة الشخصية تستدعيه اللحظة الحاضرة على غير نظام أو ترتيب، ولذلك لا تكتمل الأحداث في تسلسلها الزمني إلا في نهاية القراءة، حيث يعاد ترتيبها في مخيلة القاريء.
يقع القاريء في نوع من الحيرة، فالأب قد تجاوز السبعين ومن المفترض أن تكون علاقته بالكومبيوتر في أغلب الأحوال محدودة، خاصة أن النص لم يخبرنا بنوع تعليم الأب أو مهنته أو ثقافته، ويمارس الأب الكذب ويدعي أنه أرمل في حين أن زوجته جالسة أمام البحر في شرم الشيخ وتعد هي وزميلاتها العدة للسفر إلى باريس. أما الابن الذي يدعي الأب أنه عاطل فهو عازف ترومبيت بفرقة جاز أصدر العديد من الألبومات والسيديهات الناجحة، كما أنه يقيم الحفلات الرائعة داخل مصر وخارجها. والشقيقة التي يدعي الرجل أنها نزيلة إحدى المصحات النفسية، فنانة تشكيلية جميلة تعيش في القاهرة مع زوجها مدرس الفلسفة بإحدى كليات الآداب وبرفقة أطفالها الرائعين. وأخيرا صديقه الوحيد ليس مدمن مخدرات، بل باحث في تاريخ الكوميديا ويملك دار نشر متخصصة. بل إن الأب نفسه لم يخضع لعملية قلب مفتوح كما يدعي، ومازال يتمتع بصحة جيدة بفضل عادات صحية وغذائية صارمة تؤجل من شيخوخته. لقد اختار الأب الاستيلاء على منتدى المنصورة تحديدا لأنه يحب المنصورة جدا ويرتبط بها روحيا، أما نشر حكاياته على الانترنت فسببها من وجهة نظره، أن نشرها في كتاب أو مدونة لن تحقق له سوى قراءات عابرة.
طبعا سيكون القاريء فكرة مؤقتة عن نوعية هذا الكاتب، ويكون الانطباع الأول واحد من إثنين: الأول أنه بصدد نوع من الكتّاب الذين يتعاطون الكتابة كنوع من المخدرات لتلقي بهم في عالم وردي، تصبح فيه الشخصيات ذات أصول ارستقراطية، تعيش في رفاهية وبحبوحة يحلم هو بها. نوعية من الكتاب الذين يمجدهم القاريء، لأنهم يصورون واقعا زائفا، حيث يبدو العالم على أبدع ما يكون، وليس في الإمكان أفضل مما كان، نضيف إلى ذلك الجهل المطبق والغباء في اختيار الشخصيات دون دراسة أو خبرة حياتية تمكن الكاتب من تبرير أو فهم تصرفاتها. الأم مجرد مدرسة في مدرسة ميت حدر الابتدائية فكيف لها أن تعيش هي وزميلاتها حياة هوانم الزمالك، أما النجاح المنقطع النظير للابن عازف الجاز في مدينة إقليمية مثل المنصورة، ذلك الذي يصدر السيديهات ويجوب العالم فأمر يصعب تصديقه، لو أضفنا لذلك أن الأخت فنانة تشكيلية، وأن الصديق صاحب دار نشر متخصصة في مجال الكوميديا، فنحن إذن نعيش في مدينة ليون لا في المنصورة.
الاحتمال الثاني هو أن الابن يكذب بكل تأكيد، ويحتاج القاريء أن يعمل عقله فيما يقرأ، ولا ينخدع ببراعة الكاتب الأسلوبية التي لا تترك له الفرصة لالتقاط أنفاسه أو التفكير فيما يحدثنا به الراوي. اللغة كما سبق وأشرنا تقذف بالمتلقي داخل شرنقة حريرية، ويصبح السرد ذا إيقاع لاهث يذكرنا بلغة ألبير كامي في الغريب. ونفس لغة البطل " ميرسو " الخادعة يستخدمها عازف الترومبيت. هكذا تظل علاقة القاريء بالنص قلقة، ويلجأ الكاتب إلى حيل فنية مثل استعراض قراءاته الشعرية والنقدية والفلسفية، ويزدحم النص القصير بتناصات عديدة، قد نشعر أحيانا أنها تمثل عبئا على النص.
ويظهر الكاتب نفسه داخل ثنايا العمل، فلا تعرف هل هو عازف الترومبيت أم كاتب القصص، ولا توجد إشارة واحدة في النص أنهما شخص واحد. وإذا كان احتراف البطل الكتابة له ما يبرره، فالكلمة أرخص المواد الخام لانتاج فن، نجد في المقابل أن عزف الترومبيت لم يأت ذكره في طفولة الابن مرة واحدة. ويلجأ الكاتب لنوع من التغريب أو العبث حيث يستخدم تقنية الحلم/ الكابوس في أحيان كثيرة، فالأب الذي يجلس في جامع السنجق مداعبا مسبحته يرجو ابنه الصلاة معه قائلا: " أنت الآن في المسجد وهذه فرصة لا تضيعها من أجل خاطري استغلها " وأخيرا يقنع ابنه بالصلاة فيقف الابن في الصلاة، ويخرج المصلون بما فيهم الأب نسخة من " نادي القتال " وسيكتشف القاريء التشابه بين رواية ممدوح ورواية تشاك بولانيك.
التناقض الغريب بين صورة هذا الأب وبين قراءاته لكيركيجور الذي يتهم الله بأنه في قسوة تاجر رقيق. والتناقض الشديد بين المستوى الاجتماعي والذي تظهر به الأسرة وبين كلمات الابن، فكلمات مثل " ابن الكلب الوسخ .. الخول " تثير إشكالية وتزيد من عمق العلاقة الملتبسة بين الابن والأب. إن أحد مشروعات الابن هي الكتابة عن " جيص أبيه الشمولي " ويصفه لنا في صفحتين كاملتين، والولد الذي يتهمه الأب أنه " دلدول " يخرج من البيت فيذهب إلى محل كشري، لا لمطعم أنيق، ولم يتمكن رغم ذلك المستوى الاجتماعي المرفه نسبيا من الذهاب لطبيب يعالج له مشكلة حب الشباب. ومع استمرار القراءة نكتشف أن الأم تجلس في الشرفة، لا تغادرها، وأن الابنة موظفة عانس في الشئون الاجتماعية.
والاجتراء الشديد على التابوهات كان بدوره لافتا. " مرور آخر 35 دقيقة على آخر استمناء لي "، " جيص الأب خطاب شمولي "، " مشهد الأم وهي تخرج أصابعها المبتلة قليلا من تحت كلوتها " " خراء الوجود "، " شقيقتي تجلس أمام قناة الناس تشاهد أفلام السكس "، " مدام ندى ضيقة من تحت " تسهم تلك اللغة في استعداء القاريء بكل تأكيد.
وباستمرار القراءة تزداد الدهشة، فالأب يدين نفسه وكل سلطة أبوية مرتبكة، فيعترف أنه كان يضرب ابنه وزوجته باستمتاع سادي، ونستغرب كيف يعترف بقهر وإذلال الزوجة، ودفع الابن إلى الفشل دفعا، وحول الابنة إلى مريضة نفسية تجاوزت الأربعين دون عريس ومع ذلك تحبه. كيف استطاع الأب أن يصف بتلك الدقة مشاعر ابنه النفسية وشعوره بالقهر؟ الأب كلي القدرة يعرف فيما يفكر ابنه، ومشروعات كتابته القادمة، ورغبته في مضاجعة أربع كاتبات عربيات، وماذا فعل لحظة بلحظة حين طرده من عالمه من البيت.
ولا نعلم هل الابن هو الكاتب نفسه، أم هو شخصية من نسج الخيال. وهل هو الكاتب الذي يقدم نصائح للكتابة تثير الحيرة والضحك وتكاد تجعله مريضا نفسيا مثل: ضرورة طهي الطعام وممارسة الجنس.
باستمرار القراءة يتكشف العالم الحقيقي. هذه كلها أوهام وأمنيات لعالم كان الابن، الذي لم نعرف له اسما أو رسما، يتمنى لو عاشت فيه أسرته، بعد أن رحل ثلاثتهم، دون أن يعطينا الكاتب مجرد تلميح كيف ماتوا جميعا. الراوي إذن مخلوق وحيد بلا أب أو أم أو أخت أو صديق.
الكتابة تشبه عزف الابن على الترومبيت من أجل الراحلين. الكتابة إذن محاولة لبعثهم إلى الحياة مرتين: مرة بتقديم واقع جميل، فيه كل الرفاهية الممكنة حيث يمارس الأب نزوة شيخ مأفون. ومرة بمحاولة بعث هؤلاء الموتى بفلاش باك يتذكر فيه خيبة واقعهم. الأم التي لم تعرف الناس، والأب الذي لا يجيد حتى النكتة، والأخت تلك المريضة النفسية الطليقة التي تكره العالم.
ونتأكد مع آخر وحدة سردية أن البطل ( عازف الترومبيت ) هو الذي استولى على الموقع منتحلا شخصية أبيه. ليست هذه اعترافات بل إدانة للأب. ليست هذه قصة حياة، بل وهم حياة لم يعشها أبدا الراوي ولا أسرته.
إنها رواية حداثية تحتاج لقراءة ثانية لسبر أغوارها، واكتشاف جمالياتها. هذا الدرب الصعب الذي اختاره ممدوح رزق يثبت موهبته، وقدرته الفائقة في السرد، وكسر الحدود بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، بين الواقع والوهم، بين ما هو حياتي وبين ما هو قرائي.
الحبكة التقليدية إذن لا تناسب الكاتب، ولابد للزمن الروائي نفسه أن يتشظى. إنه لا يكتب لنا مغامرة، بل تصبح الكتابة نفسها مغامرة. كاتب يعترف أنه يستعدي القاريء ويعتبر تلك العداوة مكسبا. إنه يختار النمط الثاني من السرد، لم يعد العالم مفهوما مثلما كان يفهمه بطل بلزاك ذلك البطل الفاعل، لكنه العالم الذي لا يفهمه الأبطال شأنهم شأن ميرسو ألبير كامي والسيد " ك " بطل كافكا.
إن منطق الحكي عند ممدوح رزق هو عدم التخلي عن لعبة الخداع و" الاشتغالة " وهذا ما فعله بامتياز ممدوح رزق. لكن يبقى سؤال.. هل يفيد استعداء القاريء فعلا؟ وهل تجد هذه الكتابة جمهورا؟ ألم يعد كتاب الرواية الجديدة أنفسهم إلى الشكل الأقرب للتقليدية؟ وهل أنتج ممدوح رزق نصه تحت تأثير ثقافة غربية تمارس عليه نوعا من الاستلاب؟ هل هو بحاجة لإعادة قراءة تراثه العربي ليحقق نوعا من التوازن لعالمه؟ هي أسئلة نطرحها ولن نتوقف عندها ونترك القاريء الجديد ليجيب عنها. ألم يقل كافكا أننا نقرأ لنطرح الأسئلة لا لنجيب عليها.
د. أشرف حسن
نشرت هذه الدراسة في كتاب ( تيارات التغيير في أدب الشباب ) الصادر
بمناسبة مؤتمر الأدباء الشبان الأول ـ إبريل 2013
الأب يواجه الابن عبر الوسيط الالكتروني
ربما يصبح مناط الجدارة في رواية «خلق الموتى» للكاتب المصري ممدوح
زرق، قدرتها على إدهاش متلقيها، عبر استحداث منطق جمالي يخصها، يتكئ على ما أسميه
دوماً «حيوية الاختلاف»، بحيث يغادر النص السياقات القديمة كلها، ليرتاد أفقه
الخاص، متخلياً عن ذلك «الجُبن العقلي»، وواصلاً ما بين المرئي واللامرئي، مضفياً
على السرد طابعاً فلسفياً، ونزوعاً ساخراً في رؤية العالم، عبر مساءلته والتندر
عليه.
في «خلق الموتى» ثمة انطلاق من نقطة محددة، تعد بمثابة البؤرة المركزية التي تتفرع عنها الحكايات، فثمة أب يقرر اختراق أحد المنتديات الإلكترونية، ليبث من خلاله رسالة يومية عن ابنيه وزوجته وصديقه القديم، في حال من التعرية لهم، والكشف عن انحدارهم الروحي، والنفسي، من وجهة نظره. غير أن هذا المسلك سرعان ما يصطدم بالابن (عازف الترومبيت)، فيقرر المواجهة بدلاً من الهرب، والذي يعد – أيضاً – بمثابة الوجه الآخر للشخصية المركزية في الرواية (الابن/الكاتب) صاحب المشاريع الإبداعية، والمسكون بتنويعات ثقافية مختلفة لأدباء وفلاسفة: (آلان روب غرييه/هايدغر/ لو كليزيو..(.
ثمة مستويات متقاطعة للسرد في الرواية، يمكن تلمسها عبر المقاطع المختلفة، والتي تشكل في مجملها المتن السردي للعمل، والباحثة في جوهرها عن أفق للخروج، أو لمغالبة الوضعية البطريركية، والسلطة الهيراركية، التي قد تتبدى في الأب، أو في العُرف الاجتماعي، أو في كليهما معاً: «على فكرة... أنا ليست عندي مشكلة أن تكون (هاكر)، أو أي شيء آخر طالما أن لا أحد يعرف شخصيتك الحقيقية، ولكنني لا أريدك أن تصدق نفسك، وتظن أنك لست مكشوفاً بالنسبة إلي... أنت تعرف جيداً أن التعاطف الذي يمكن أن تحصل عليه من الناس نتيجة آلامك التقليدية المملة سيكون هشاً وضعيفاً وقصير العمر ولن نضمن لك استمرارهم في متابعة حكاياتك. الناس ليست في حاجة لأن تعرف أنك وحيد وخائف وخيبة الأمل تقتلك. الناس تريد مصائب وكوارث محددة وملموسة بوضوح وأنت أعطيتهم هذا: قلب مريض... زوجة ميتة... ابن عاطل... ابنة مجنونة... صديق مدمن» (ص13(
ثمة محاولة لـ «قتل الأب» إذاً في الرواية ولسحق ما يمثله من ترميزات دالة على قمع السلطة وقهرها. لذا تصبح السخرية أداة ناجعة في التعاطي مع تلك السلطة /الأب: «سيخبرك أن جيص أبيه لم يكن مجرد جيص بل خطاب شمولي لسلطة مستبدة، تعرف تماماً كيف ترسخ في وعي المحكومين بأمرها أنها لن تفقد أبداً براعتها في القهر وأنها ستظل حية الى الأبد» (ص 27)
لعبة الضمائر
يوظف ممدوح رزق صيغاً مختلفة للحكي، معتمداً على التنويع في استخدام الضمائر ما بين الأنت، والهو، والأنا، بحيث تعبر كل صيغة حكائية عن نظرة إلى العالم، تختلف في ماهيتها وطرائقها عن الأخرى. ولذا نرى الكاتب يستهل روايته باستخدام ضمير المخاطب (الأنت)، فيجعل من الأب / السلطة القامعة مروياً له، ومروياً عنه في آن، وموجهاً إليه سياط اللوم والتأنيب: «صحيح أن لديك إبناً وابنة، ولكنني لست عاطلاً من العمل، ولا أعيش حتى بعد تجاوزي الثلاثين على فلوسك، كما أن شقيقتي ليست مريضة في أحد المصحّات النفسية... أنت تعرف أنني عازف ترومبيت بفرقة جاز، وأنني أصدرت مع أعضائها الكثير من الألبومات والسيديهات الناجحة» (ص9(
ثمة إحالة يصنعها الروائي ممدوح رزق إلى نصه السابق «السيئ في الأمر»، وبما يحيلنا إلى حالة من التماهي ما بين المؤلف الضمني للعمل، والراوي الذي هو خلق متخيل من جانب الكاتب، لنصبح – ومن ثم – أمام مفارقة جديدة، ضمن مفارقات عدة تمتلئ بها الرواية، بدءاً من استهلالها السردي، وصولاً إلى نهايتها، حين نكتشف أن القرصان الالكتروني «الهاكر» ما هو إلا عازف الترومبيت / الابن المغدور به، المتمرد والمقموع في الآن.
تتكئ المقاطع السردية في بنيتها على آلية كسر أفق التوقع لدى المتلقي، وبما يجعلنا أمام رواية تعتمد في الأساس على إعادة الاعتبار الى اللعبة الجمالية، بوصفها غاية فنية، لنصبح أمام عدد من المقاطع السردية المخاتلة، والتي يهيمن عليها راوٍ رئيس ماكر، تشغله الاستطرادات ذات النزعة الفلسفية، (مثلما ورد في صفحتي 15، 16)، وتتجاوز في النص عوالم متعددة مملوءة بالتناصات. وهذا يمكن أخذه على النص، إذ بدت بعض المواضع والتناصات مقحمة على السرد، (مثلما ورد في صفحتي 41، 42)
في «خلق الموتى» نرى لعباً فنياً بمشهدية الصورة السردية، لنصبح أمام خليط مدهش من الأشياء التي تتوازى وتتقاطع في آن، ومن ذلك المقطع السردي الذي نرى فيه الأب يقرأ القرآن الكريم، والبنت تشاهد المسلسل التركي في الآن نفسه، وتود أن تلتقط بالكاميرا، صورة بطلها الذي تهواه، بينما الأم كليلة النظر تشاهد فيلمها الأجنبي ثم تنام، وتصحو على سعالها الحاد، والابن يلتهم الانترنت طيلة الوقت.
ينفتح النص على عدد من المشاهدات الحياتية، والخبرات القرائية والمعرفية، ليتضافر وعيان: قرائي وبصري. وتبدو الجملة - الصيغة (أهلاً ومرحباً بكم) بمثابة جملة مركزية في السرد، يوظفها الكاتب ليكسر من خلالها ذلك الحائط الوهمي بينه وبين متلقيه، وبما يشي بأننا أمام توظيف واعٍ لحيلة بريخت الشهيرة، والتي يستخدمها رزق هنا ليحرق المراحل النفسية المتوهمة بينه وبين قارئه.
وتبدو نهاية النص مفتوحة على أفق تأملي ساخر، لطبيعة النوع الأدبي ذاته، وغاياته، وبما يتسق مع بدايتها في كونهما يدفعان بالقارئ إلى التساؤل والمراجعة، وعبر نص سردي يحوي طبقات دلالية متعددة، وواسعة.
في «خلق الموتى» ثمة انطلاق من نقطة محددة، تعد بمثابة البؤرة المركزية التي تتفرع عنها الحكايات، فثمة أب يقرر اختراق أحد المنتديات الإلكترونية، ليبث من خلاله رسالة يومية عن ابنيه وزوجته وصديقه القديم، في حال من التعرية لهم، والكشف عن انحدارهم الروحي، والنفسي، من وجهة نظره. غير أن هذا المسلك سرعان ما يصطدم بالابن (عازف الترومبيت)، فيقرر المواجهة بدلاً من الهرب، والذي يعد – أيضاً – بمثابة الوجه الآخر للشخصية المركزية في الرواية (الابن/الكاتب) صاحب المشاريع الإبداعية، والمسكون بتنويعات ثقافية مختلفة لأدباء وفلاسفة: (آلان روب غرييه/هايدغر/ لو كليزيو..(.
ثمة مستويات متقاطعة للسرد في الرواية، يمكن تلمسها عبر المقاطع المختلفة، والتي تشكل في مجملها المتن السردي للعمل، والباحثة في جوهرها عن أفق للخروج، أو لمغالبة الوضعية البطريركية، والسلطة الهيراركية، التي قد تتبدى في الأب، أو في العُرف الاجتماعي، أو في كليهما معاً: «على فكرة... أنا ليست عندي مشكلة أن تكون (هاكر)، أو أي شيء آخر طالما أن لا أحد يعرف شخصيتك الحقيقية، ولكنني لا أريدك أن تصدق نفسك، وتظن أنك لست مكشوفاً بالنسبة إلي... أنت تعرف جيداً أن التعاطف الذي يمكن أن تحصل عليه من الناس نتيجة آلامك التقليدية المملة سيكون هشاً وضعيفاً وقصير العمر ولن نضمن لك استمرارهم في متابعة حكاياتك. الناس ليست في حاجة لأن تعرف أنك وحيد وخائف وخيبة الأمل تقتلك. الناس تريد مصائب وكوارث محددة وملموسة بوضوح وأنت أعطيتهم هذا: قلب مريض... زوجة ميتة... ابن عاطل... ابنة مجنونة... صديق مدمن» (ص13(
ثمة محاولة لـ «قتل الأب» إذاً في الرواية ولسحق ما يمثله من ترميزات دالة على قمع السلطة وقهرها. لذا تصبح السخرية أداة ناجعة في التعاطي مع تلك السلطة /الأب: «سيخبرك أن جيص أبيه لم يكن مجرد جيص بل خطاب شمولي لسلطة مستبدة، تعرف تماماً كيف ترسخ في وعي المحكومين بأمرها أنها لن تفقد أبداً براعتها في القهر وأنها ستظل حية الى الأبد» (ص 27)
لعبة الضمائر
يوظف ممدوح رزق صيغاً مختلفة للحكي، معتمداً على التنويع في استخدام الضمائر ما بين الأنت، والهو، والأنا، بحيث تعبر كل صيغة حكائية عن نظرة إلى العالم، تختلف في ماهيتها وطرائقها عن الأخرى. ولذا نرى الكاتب يستهل روايته باستخدام ضمير المخاطب (الأنت)، فيجعل من الأب / السلطة القامعة مروياً له، ومروياً عنه في آن، وموجهاً إليه سياط اللوم والتأنيب: «صحيح أن لديك إبناً وابنة، ولكنني لست عاطلاً من العمل، ولا أعيش حتى بعد تجاوزي الثلاثين على فلوسك، كما أن شقيقتي ليست مريضة في أحد المصحّات النفسية... أنت تعرف أنني عازف ترومبيت بفرقة جاز، وأنني أصدرت مع أعضائها الكثير من الألبومات والسيديهات الناجحة» (ص9(
ثمة إحالة يصنعها الروائي ممدوح رزق إلى نصه السابق «السيئ في الأمر»، وبما يحيلنا إلى حالة من التماهي ما بين المؤلف الضمني للعمل، والراوي الذي هو خلق متخيل من جانب الكاتب، لنصبح – ومن ثم – أمام مفارقة جديدة، ضمن مفارقات عدة تمتلئ بها الرواية، بدءاً من استهلالها السردي، وصولاً إلى نهايتها، حين نكتشف أن القرصان الالكتروني «الهاكر» ما هو إلا عازف الترومبيت / الابن المغدور به، المتمرد والمقموع في الآن.
تتكئ المقاطع السردية في بنيتها على آلية كسر أفق التوقع لدى المتلقي، وبما يجعلنا أمام رواية تعتمد في الأساس على إعادة الاعتبار الى اللعبة الجمالية، بوصفها غاية فنية، لنصبح أمام عدد من المقاطع السردية المخاتلة، والتي يهيمن عليها راوٍ رئيس ماكر، تشغله الاستطرادات ذات النزعة الفلسفية، (مثلما ورد في صفحتي 15، 16)، وتتجاوز في النص عوالم متعددة مملوءة بالتناصات. وهذا يمكن أخذه على النص، إذ بدت بعض المواضع والتناصات مقحمة على السرد، (مثلما ورد في صفحتي 41، 42)
في «خلق الموتى» نرى لعباً فنياً بمشهدية الصورة السردية، لنصبح أمام خليط مدهش من الأشياء التي تتوازى وتتقاطع في آن، ومن ذلك المقطع السردي الذي نرى فيه الأب يقرأ القرآن الكريم، والبنت تشاهد المسلسل التركي في الآن نفسه، وتود أن تلتقط بالكاميرا، صورة بطلها الذي تهواه، بينما الأم كليلة النظر تشاهد فيلمها الأجنبي ثم تنام، وتصحو على سعالها الحاد، والابن يلتهم الانترنت طيلة الوقت.
ينفتح النص على عدد من المشاهدات الحياتية، والخبرات القرائية والمعرفية، ليتضافر وعيان: قرائي وبصري. وتبدو الجملة - الصيغة (أهلاً ومرحباً بكم) بمثابة جملة مركزية في السرد، يوظفها الكاتب ليكسر من خلالها ذلك الحائط الوهمي بينه وبين متلقيه، وبما يشي بأننا أمام توظيف واعٍ لحيلة بريخت الشهيرة، والتي يستخدمها رزق هنا ليحرق المراحل النفسية المتوهمة بينه وبين قارئه.
وتبدو نهاية النص مفتوحة على أفق تأملي ساخر، لطبيعة النوع الأدبي ذاته، وغاياته، وبما يتسق مع بدايتها في كونهما يدفعان بالقارئ إلى التساؤل والمراجعة، وعبر نص سردي يحوي طبقات دلالية متعددة، وواسعة.
د. يسري عبد الله
صحيفة الحياة
الخميس ١٥ نوفمبر ٢٠١٢
"خلق الموتى".. الوجود ورطة كوميدية
لا تعتبر رواية "ما بعد الحداثة" تطوراً حتمياً للفن
الروائي، لكنها "مسار" آخر، يُضاف إلى مسارات هذا الفن.
ويعبر مفهوم "ما بعد الحداثة" عن تيار فكري وجمالي، ارتبط بالآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية، عدم الثقة في العقل، أزمة الهوية، نقد القيم السائدة والمتعارف عليها خصوصاً ما يتعلق بالأسرة أو الدين. ومن ثم يغلب على هذا التيار طابع الهدم و التفكيك لكل ما هو سائد من أفكار وقيم وسلوك.
هذا مدخل أساسي لقراءة نص "خَلق الموتى" للروائي ممدوح رزق، والصادر عن سلسلة "إبداعات الحرية". فالكاتب يعي تماماً أنه يكتب نصه وفق جماليات ما بعد حداثية، وأي مدخل آخر لن يساعد كثيراً في فك شفرات النص.
وطبيعي إذا اختلفت رؤيتنا إلى العالم، أن تختلف طبيعة العالم الروائي الذي نكتبه بالضرورة، فهو لم يُعد مطابقاً له، ولا حتى موازياً، بل أصبح فاضحاً له، متمرداً عليه، ساخراً منه.
ما يهمنا هنا تشريح أهم التقنيات التي لجأ إليها رزق في بناء نصه باستقراء محورين فقط هما: العنوان وهوية النوع.
خلق
عنوان النص "خلق الموتى" يضعنا مباشرة في صميم حالة "ما بعد حداثية". ففعل "الخلق" امتياز إلهي، قد يُنسب إلى البشر تجوزاً أو مجازاً، كما إنه يستعمل للدلالة على عملية إيجاد ما ليس موجوداً. وطالما أن مفهوم "الموتى" لا ينفصل عن كونهم كانوا "أحياء" في مرحلة ما، فمن المفترض إذن استعمال فعل "إحياء الموتى".
لكن الكاتب، وإن أصر على السطو على هذا الامتياز الإلهي، وإنجاز ما يشبه المعجزة عبر "خلق الموتى"، فضل ألا يتورط في عملية "إحياء" للموتى "كما عاشوا فعلاً".. بل يريد لهم خلقاً مختلفاً وفق مخيلته الذاتية، كما رآهم، أو كما أراد أن يراهم. فهو وإن لم ينفصل تماماً عن شذرات واقعية تخصهم، يذهب بهم إلى أفق آخر، منفصل عن رتابة الواقع، ويتفوق عليه في عبثيته وشطحاته.
ومهما كانت ثمة تفاصيل تتماهى أو تتطابق مع الواقع، أو تحلينا مباشرة إلى سيرة الكاتب نفسه "ممدوح رزق"، ففعل "الخلق" الذي يتصدر النص ويشير إليه، ويؤسس للعقد السردي بينه وبين قارئه، هو تأكيد بأن العالم الروائي الذي يشيده، نتاج خالص لمخيلة كاتبه، ولا يطابق أي معايير أو مقاييس أخرى، من خارجه. سواء من العالم الواقعي أو حتى العالم الروائي المتعارف عليه. فالنص مجال سيادي لكاتبه يؤسس له ما يشاء من قواعد.
نأتي إلى "المضاف إليه" في العنونة "الموتى"، وهم أيضاً "المفعول بهم"، فالكاتب يخلق "موتى" من العدم، أو يستحضرهم من غياب، كي يبقوا في الضوء، كي يتصالح معهم (حتماً أخفق في هذه المصالحة أثناء وجودهم الواقعي)، كي يورطنا في محبته لهم، يضحك معهم، ويسخر منهم غالباً. كأنها حفلة لخلع الأقنعة، وليس ارتدائها، للتهزيئ وليس للتكريم، وللانتقام أحياناً.
يستحضر رزق الموتى من نافذتين سحريتين:
ـ الأولى نافذة واقعه. فنحن القراء ـ على الدوام ـ نجلس مع الكاتب في صالة شقته في المنصورة، نشاهد التلفزيون مع أسرته وأصدقائه، نتلصص عليهم في غرفهم الخاصة، ونتابع كل ما يدور من ثرثرة ومشاحنات، وكيف تحافظ الأسرة على القيم التقليدية كالترابط واحترام الزوج والأب، رغم أنها في حقيقة الأمر تتحلل شيئاً فشيئاً.
من ثم أبطال النص والساردون الأساسيون له، هم: الأب المدرس الذي تجاوز السبعين ويقرر الانتقام من أسرته بفضحها على الإنترنت، الأم المدرسة في ميت حدر والتي تقضي الوقت مع زميلاتها على المعاش وتتنزه في رأس البر أو حتى شرم الشيخ، ثم الابن عازف الترومبيت، والأخت الفنانة التشكيلية المتزوجة. أسرة مثالية بالمفهوم الديني والاجتماعي، لكن هذا تحديداً ما يفضحه النص! وإن كان الحضور الذاتي والمباشر للكاتب نفسه يجعلنا أكثر حذراً في التعاطي مع "فخ" الواقعي، فما ينشره الأب من فضائح عائلته يختلف جذرياً عما ينشره الولد من فضائح. على الدوام ثمة فراغات وانقطاعات ما بين الواقعي والتخييلي، من ثم فإن إطار السيرة التي تبدو ذاتية جداً، أو واقعية جداً، ليس أكثر من حيلة سردية.
أما النافذة الأخرى التي يستحضر منها الكاتب موتاه، فهي ثقافته الخاصة، أي ما يقرأه من كتب وروايات وما يشاهده من أعمال فنية. فتطل علينا أسماء مثل ريتسوس في الاستهلال، كافكا، ودي ألن، أونجاريتي، بوكوفسكي، كامل الشناوي، وغيرهم.
هذا الحضور، يدمج التجربة الذهنية للكاتب في تجربته الحياته، وقد يمثل تكريماً ما لتلك الأسماء، أو جلبهم كشهود على بؤس تجربته الحياتية وتوريطهم فيها مثلما هو متورط، أو تعرية وفضح لخبراته القرائية. فمطالعة معظم هذه الأسماء تحيلنا مباشرة إلى الولع بما بعد الحداثي، كقاسم مشترك بينها.
يحضر هؤلاء الموتى بنصوصهم الخاصة وأقوالهم، وأجسادهم أحياناً حينما يتورطون في مشاهد موازية أو متداخلة مع المشاهد الواقعية، مثلما في صفحة 64 عندما يدخل من الشباك ـ وليس الباب ـ شبه المفتوح أشهر الظرفاء في الثقافة العربية على اجتماع الأسرة في صالة الشقة، وكأنه متحف كوني، يضم هذين النوعين من الموتى. من حفروا أسماءهم على وجه الحياة ومن ماتوا دون أن يعبأ بهم أحد.
نسف التعريف
وصّف رزق نصه على الغلاف الخارجي بأنه "رواية"، فإما أنه يستسلم للتجنيس التقليدي لأشكال الكتابة، أو يريد أن ينتزع مفهوم الرواية من هويته الكلاسيكية، كي يتسع لنصوص تكتب خارج متنها التقليدي.
صحيح أن الرواية، في تقليديتها، قادرة على تمرير حمولات متنوعة من شعر وقصة قصيرة ومقال وتشكيل، لكن تلك العجينة يعاد خلطها بطريقة مغايرة في النص ما بعد الحداثي.
وصحيح أيضاً أن الرواية، التقليدية جداً، تتخلق من مكان وزمان وشخصيات، وتكتب وفق نسق لغوي ما، ولم يعد شرطاً أن تتجاوز خمسة آلاف كلمة. لكن تلك العناصر لا تتمازج مع بعضها البعض وفق المعيار الجمالي المتعارف عليه. فابتداء يقع النص كله في أقل من 75صفحة ، ولا تتمازج عناصره وفق بنية زمنية محكمة صعوداً نحو حبكة ما، بل هي على الدوام في حال من السيولة والتفكك والانقطاعات والتجاور.
نحن دائماً أمام موقف روائي مضاد يؤسس لسلسلة لا تنتهي من المفارقاتِ، كما تظهر في أبسط متوالياتها السردية عندما يؤدي المصلون الصلاة بنسخة من كتاب "نادي القتال"، أو يعاقب الأب ابنه ظناً منه أنه أضاع "البتاع" ولا يجد الابن أدنى فرصة كي يعرف ما هو "البتاع" الذي ضاع! أو حين يجد نفسه في مطعم كشري ويضطر للجلوس والأكل مع غرباء هم على الأرجح يحتقرونه وينفرون منه، أو يرى أبوه يكرر "الأفيه" نفسه عشرات المرات متوقعاً أن يظل مضحكاً ومسلياً.
كل مفارقة أشبه بقطبين "سالب وموجب" يؤسسان للمشهدية، التي هي قوام هذا النص، فنحن إزاء نص جارف في مشهديته، وتعريته، مثل مشهد "جيص" الأب، أحد أهم إنجازاته التاريخية التي لا ينساها أفراد العائلة، مشهد الدلدول، ومشهد ممارسة الأم للعادة السرية.
لم تعد هناك "حكاية" بالمعنى التقليدي يستطيع القارئ أن يمسك خيوطها ويتتبعها من البداية إلى النهاية، ثم يستخلص منها "حكمة الدهر" مثل مقولة "خطايا الآباء يرثها الأبناء" ـ حتى وإن التمسنا ظلالها في النص ـ لأن الكاتب ليس مشغولاً بلف حكمة جاهزة في خيوط سردية ناعمة كي يأتي القارئ فيتناولها ويمضي.
بل إذا سألته عما تحكي رواية "خلق الموتى" لن يجد إجابة، وإذا سألته السؤال التاريخي الأشهر: ماذا يريد الكاتب أن يقول؟ أيضاً لن تعثر على إجابة.
إن القارئ تورط أخيراً ورطة كاتبه، كلاهما لا يملك حكاية ولا معنى جاهز للوجود. ليس معنى ذلك أن الرواية ما بعد الحداثية لا أخلاقية، لكنها ذات أخلاقية مغايرة وملتبسة، فالكاتب يريد أن يتخلص من سلطته المزعومة على النص والقارئ في ضربة واحدة، لأن أية سلطة هي ضرب من ضروب القهر والاستغلال والخداع والتعالي.
لقد تحرر الكاتب من مسئوليته الأبوية الوعظية أن يرشد قارئه إلى جواهر الحكم المدفونة وراء النص، فهو عاجز عن الفهم، عن الإيمان بحكمة ما، ثم ما أكثر المزيفين المتاجرين بحكم لا تعني لهم في حقيقة الأمر شيئاً.
ليس مهماً أن تقرأ رواية كي تستخلص حكمة، قد لا تكون صادقة أو تعجز أنت نفسك عن العيش وفقاً لها، ولا أن تعجب بذكاء وتماسك الحبكة، ولا أن تستمتع بحكاية مسلية يغبطك الآخرون عندما تعيد حكيها لهم. بل الأهم من ذلك كله أن تتورط في التجربة الروائية مثلما تتورط في واقعك المعيش. الشعور الحقيقي بالورطة ـ واقعاً وتخييلاً ـ هو فقط ما يساعدك على استبصار ذاتك والوعي برحابة وتعقيدات وجودك، وإمكانية تحررك من كل ما يثقلك، من حكم وأوهام وصيغ سلطوية.
كأن النص وكاتبه يلوحان لك من بعيد: انظر إلى بؤس تجربتي.. انظر بحب وعمق ثم اضحك بملء فمك.. اضحك من قلبك.. اضحك بكل حواسك.. فما تراه، وما تعيشه ليس أكثر من ورطة كوميدية.
حياتنا ليست كما نتوهم، محبوكة، وصاعدة نحو مصير محتوم، فتلك خدعة من خدع العقل. ليست سوى رواية مفككة، وشذرات غامضة، من الجنس والحب والفرح والألم والكآبة والجنون.
وما يبقى منها ليس تلك الحكم الباردة التي لا نمل من تردادها، بل مشاهد وامضة عشناها بكل فرح وقسوة وألم، قرأناها في كتاب، رأيناها في فيلم أو على خشبة مسرح.. مشاهد تعيش في مخيلتنا لكن الواقع لا يسمح لها بأن تتجسد. وهنا تبدأ الرواية ما بعد الحداثية مهمتها.
ويعبر مفهوم "ما بعد الحداثة" عن تيار فكري وجمالي، ارتبط بالآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية، عدم الثقة في العقل، أزمة الهوية، نقد القيم السائدة والمتعارف عليها خصوصاً ما يتعلق بالأسرة أو الدين. ومن ثم يغلب على هذا التيار طابع الهدم و التفكيك لكل ما هو سائد من أفكار وقيم وسلوك.
هذا مدخل أساسي لقراءة نص "خَلق الموتى" للروائي ممدوح رزق، والصادر عن سلسلة "إبداعات الحرية". فالكاتب يعي تماماً أنه يكتب نصه وفق جماليات ما بعد حداثية، وأي مدخل آخر لن يساعد كثيراً في فك شفرات النص.
وطبيعي إذا اختلفت رؤيتنا إلى العالم، أن تختلف طبيعة العالم الروائي الذي نكتبه بالضرورة، فهو لم يُعد مطابقاً له، ولا حتى موازياً، بل أصبح فاضحاً له، متمرداً عليه، ساخراً منه.
ما يهمنا هنا تشريح أهم التقنيات التي لجأ إليها رزق في بناء نصه باستقراء محورين فقط هما: العنوان وهوية النوع.
خلق
عنوان النص "خلق الموتى" يضعنا مباشرة في صميم حالة "ما بعد حداثية". ففعل "الخلق" امتياز إلهي، قد يُنسب إلى البشر تجوزاً أو مجازاً، كما إنه يستعمل للدلالة على عملية إيجاد ما ليس موجوداً. وطالما أن مفهوم "الموتى" لا ينفصل عن كونهم كانوا "أحياء" في مرحلة ما، فمن المفترض إذن استعمال فعل "إحياء الموتى".
لكن الكاتب، وإن أصر على السطو على هذا الامتياز الإلهي، وإنجاز ما يشبه المعجزة عبر "خلق الموتى"، فضل ألا يتورط في عملية "إحياء" للموتى "كما عاشوا فعلاً".. بل يريد لهم خلقاً مختلفاً وفق مخيلته الذاتية، كما رآهم، أو كما أراد أن يراهم. فهو وإن لم ينفصل تماماً عن شذرات واقعية تخصهم، يذهب بهم إلى أفق آخر، منفصل عن رتابة الواقع، ويتفوق عليه في عبثيته وشطحاته.
ومهما كانت ثمة تفاصيل تتماهى أو تتطابق مع الواقع، أو تحلينا مباشرة إلى سيرة الكاتب نفسه "ممدوح رزق"، ففعل "الخلق" الذي يتصدر النص ويشير إليه، ويؤسس للعقد السردي بينه وبين قارئه، هو تأكيد بأن العالم الروائي الذي يشيده، نتاج خالص لمخيلة كاتبه، ولا يطابق أي معايير أو مقاييس أخرى، من خارجه. سواء من العالم الواقعي أو حتى العالم الروائي المتعارف عليه. فالنص مجال سيادي لكاتبه يؤسس له ما يشاء من قواعد.
نأتي إلى "المضاف إليه" في العنونة "الموتى"، وهم أيضاً "المفعول بهم"، فالكاتب يخلق "موتى" من العدم، أو يستحضرهم من غياب، كي يبقوا في الضوء، كي يتصالح معهم (حتماً أخفق في هذه المصالحة أثناء وجودهم الواقعي)، كي يورطنا في محبته لهم، يضحك معهم، ويسخر منهم غالباً. كأنها حفلة لخلع الأقنعة، وليس ارتدائها، للتهزيئ وليس للتكريم، وللانتقام أحياناً.
يستحضر رزق الموتى من نافذتين سحريتين:
ـ الأولى نافذة واقعه. فنحن القراء ـ على الدوام ـ نجلس مع الكاتب في صالة شقته في المنصورة، نشاهد التلفزيون مع أسرته وأصدقائه، نتلصص عليهم في غرفهم الخاصة، ونتابع كل ما يدور من ثرثرة ومشاحنات، وكيف تحافظ الأسرة على القيم التقليدية كالترابط واحترام الزوج والأب، رغم أنها في حقيقة الأمر تتحلل شيئاً فشيئاً.
من ثم أبطال النص والساردون الأساسيون له، هم: الأب المدرس الذي تجاوز السبعين ويقرر الانتقام من أسرته بفضحها على الإنترنت، الأم المدرسة في ميت حدر والتي تقضي الوقت مع زميلاتها على المعاش وتتنزه في رأس البر أو حتى شرم الشيخ، ثم الابن عازف الترومبيت، والأخت الفنانة التشكيلية المتزوجة. أسرة مثالية بالمفهوم الديني والاجتماعي، لكن هذا تحديداً ما يفضحه النص! وإن كان الحضور الذاتي والمباشر للكاتب نفسه يجعلنا أكثر حذراً في التعاطي مع "فخ" الواقعي، فما ينشره الأب من فضائح عائلته يختلف جذرياً عما ينشره الولد من فضائح. على الدوام ثمة فراغات وانقطاعات ما بين الواقعي والتخييلي، من ثم فإن إطار السيرة التي تبدو ذاتية جداً، أو واقعية جداً، ليس أكثر من حيلة سردية.
أما النافذة الأخرى التي يستحضر منها الكاتب موتاه، فهي ثقافته الخاصة، أي ما يقرأه من كتب وروايات وما يشاهده من أعمال فنية. فتطل علينا أسماء مثل ريتسوس في الاستهلال، كافكا، ودي ألن، أونجاريتي، بوكوفسكي، كامل الشناوي، وغيرهم.
هذا الحضور، يدمج التجربة الذهنية للكاتب في تجربته الحياته، وقد يمثل تكريماً ما لتلك الأسماء، أو جلبهم كشهود على بؤس تجربته الحياتية وتوريطهم فيها مثلما هو متورط، أو تعرية وفضح لخبراته القرائية. فمطالعة معظم هذه الأسماء تحيلنا مباشرة إلى الولع بما بعد الحداثي، كقاسم مشترك بينها.
يحضر هؤلاء الموتى بنصوصهم الخاصة وأقوالهم، وأجسادهم أحياناً حينما يتورطون في مشاهد موازية أو متداخلة مع المشاهد الواقعية، مثلما في صفحة 64 عندما يدخل من الشباك ـ وليس الباب ـ شبه المفتوح أشهر الظرفاء في الثقافة العربية على اجتماع الأسرة في صالة الشقة، وكأنه متحف كوني، يضم هذين النوعين من الموتى. من حفروا أسماءهم على وجه الحياة ومن ماتوا دون أن يعبأ بهم أحد.
نسف التعريف
وصّف رزق نصه على الغلاف الخارجي بأنه "رواية"، فإما أنه يستسلم للتجنيس التقليدي لأشكال الكتابة، أو يريد أن ينتزع مفهوم الرواية من هويته الكلاسيكية، كي يتسع لنصوص تكتب خارج متنها التقليدي.
صحيح أن الرواية، في تقليديتها، قادرة على تمرير حمولات متنوعة من شعر وقصة قصيرة ومقال وتشكيل، لكن تلك العجينة يعاد خلطها بطريقة مغايرة في النص ما بعد الحداثي.
وصحيح أيضاً أن الرواية، التقليدية جداً، تتخلق من مكان وزمان وشخصيات، وتكتب وفق نسق لغوي ما، ولم يعد شرطاً أن تتجاوز خمسة آلاف كلمة. لكن تلك العناصر لا تتمازج مع بعضها البعض وفق المعيار الجمالي المتعارف عليه. فابتداء يقع النص كله في أقل من 75صفحة ، ولا تتمازج عناصره وفق بنية زمنية محكمة صعوداً نحو حبكة ما، بل هي على الدوام في حال من السيولة والتفكك والانقطاعات والتجاور.
نحن دائماً أمام موقف روائي مضاد يؤسس لسلسلة لا تنتهي من المفارقاتِ، كما تظهر في أبسط متوالياتها السردية عندما يؤدي المصلون الصلاة بنسخة من كتاب "نادي القتال"، أو يعاقب الأب ابنه ظناً منه أنه أضاع "البتاع" ولا يجد الابن أدنى فرصة كي يعرف ما هو "البتاع" الذي ضاع! أو حين يجد نفسه في مطعم كشري ويضطر للجلوس والأكل مع غرباء هم على الأرجح يحتقرونه وينفرون منه، أو يرى أبوه يكرر "الأفيه" نفسه عشرات المرات متوقعاً أن يظل مضحكاً ومسلياً.
كل مفارقة أشبه بقطبين "سالب وموجب" يؤسسان للمشهدية، التي هي قوام هذا النص، فنحن إزاء نص جارف في مشهديته، وتعريته، مثل مشهد "جيص" الأب، أحد أهم إنجازاته التاريخية التي لا ينساها أفراد العائلة، مشهد الدلدول، ومشهد ممارسة الأم للعادة السرية.
لم تعد هناك "حكاية" بالمعنى التقليدي يستطيع القارئ أن يمسك خيوطها ويتتبعها من البداية إلى النهاية، ثم يستخلص منها "حكمة الدهر" مثل مقولة "خطايا الآباء يرثها الأبناء" ـ حتى وإن التمسنا ظلالها في النص ـ لأن الكاتب ليس مشغولاً بلف حكمة جاهزة في خيوط سردية ناعمة كي يأتي القارئ فيتناولها ويمضي.
بل إذا سألته عما تحكي رواية "خلق الموتى" لن يجد إجابة، وإذا سألته السؤال التاريخي الأشهر: ماذا يريد الكاتب أن يقول؟ أيضاً لن تعثر على إجابة.
إن القارئ تورط أخيراً ورطة كاتبه، كلاهما لا يملك حكاية ولا معنى جاهز للوجود. ليس معنى ذلك أن الرواية ما بعد الحداثية لا أخلاقية، لكنها ذات أخلاقية مغايرة وملتبسة، فالكاتب يريد أن يتخلص من سلطته المزعومة على النص والقارئ في ضربة واحدة، لأن أية سلطة هي ضرب من ضروب القهر والاستغلال والخداع والتعالي.
لقد تحرر الكاتب من مسئوليته الأبوية الوعظية أن يرشد قارئه إلى جواهر الحكم المدفونة وراء النص، فهو عاجز عن الفهم، عن الإيمان بحكمة ما، ثم ما أكثر المزيفين المتاجرين بحكم لا تعني لهم في حقيقة الأمر شيئاً.
ليس مهماً أن تقرأ رواية كي تستخلص حكمة، قد لا تكون صادقة أو تعجز أنت نفسك عن العيش وفقاً لها، ولا أن تعجب بذكاء وتماسك الحبكة، ولا أن تستمتع بحكاية مسلية يغبطك الآخرون عندما تعيد حكيها لهم. بل الأهم من ذلك كله أن تتورط في التجربة الروائية مثلما تتورط في واقعك المعيش. الشعور الحقيقي بالورطة ـ واقعاً وتخييلاً ـ هو فقط ما يساعدك على استبصار ذاتك والوعي برحابة وتعقيدات وجودك، وإمكانية تحررك من كل ما يثقلك، من حكم وأوهام وصيغ سلطوية.
كأن النص وكاتبه يلوحان لك من بعيد: انظر إلى بؤس تجربتي.. انظر بحب وعمق ثم اضحك بملء فمك.. اضحك من قلبك.. اضحك بكل حواسك.. فما تراه، وما تعيشه ليس أكثر من ورطة كوميدية.
حياتنا ليست كما نتوهم، محبوكة، وصاعدة نحو مصير محتوم، فتلك خدعة من خدع العقل. ليست سوى رواية مفككة، وشذرات غامضة، من الجنس والحب والفرح والألم والكآبة والجنون.
وما يبقى منها ليس تلك الحكم الباردة التي لا نمل من تردادها، بل مشاهد وامضة عشناها بكل فرح وقسوة وألم، قرأناها في كتاب، رأيناها في فيلم أو على خشبة مسرح.. مشاهد تعيش في مخيلتنا لكن الواقع لا يسمح لها بأن تتجسد. وهنا تبدأ الرواية ما بعد الحداثية مهمتها.
شريف صالح
موقع ثقافات
2012/09/25
تاهوما أحمر بلون أصابع الموتى
إلى أبي أو ربما إلى كل الآباء، وهي أيضاً إلى الرب القابع على كرسي
السلطة الاجتماعية والنفسية والأدبية، وإلى الرب ( الهاكر ) حتى ولو لم يكن له
وجود إلا داخل أذهاننا، أو يتمثل وجوده في كثيرين من حولنا لكنه ( احتمال كان
يعدّه الآخرون ويعدّ نفسه مستبعدا )، أو أنه الرب الهاكر المستلقي يستمتع بمتابعة
مصائب الأخرين من خلال عيون المحيطين أو المتلصصين وحتى العابرين .
(الناس تريد مصائب وكوارث محددة وملموسة بوضوح - وأنت أعطيتهم هذا : قلب مريض .. زوجة ميتة .. ابن عاطل .. ابنة مجنونة .. صديق مدمن )
لكن من قد يرى ما بداخل هذا المستلقي وما بداخل العيون المتطلعة لفضائح ودماء الأخرين، وأرجلهم المتعطشة للعبث بقطعهم الملقاة فى عرض الطريق، وآذانهم المستمتعة بصوت طفولى غاضب يخرج من شباك لم يكتمل يوماً فعل انفتاحه على آخره، أو على مصراعيه ككلمة مملة .
إنهم منتبهو الحواس ويفعلون كل ذلك كى يشعروا بمدى قوتهم وبأنهم لايزالون بخير وأنهم أقوياء وأنه يجب شكرهم وإعطائهم ميداليات ذهبية من مركز الكون حيث انهم لم يصلوا لهذه المرحلة التى وصل لها آخرون ...
)هل جربت الفرح برسالة الترحيب الآلية التى تظهر لك بعد تسجيلك فى منتدى أو عندما يرسل لك المنتدى رسالة تهنئة على الإيميل يوم عيد ميلادك ؟ .. حينما تكون فى أشد الحاجة للتحدث مع أحد وتتصل بصديق؛ هل لاحظت نبرة السخرية في صوت المرأة التي تخبرك بأن " الهاتف الذى طلبته ربما يكون مغلقاً، من فضلك حاول الاتصال فى وقت أخر " ؟) ستكون كاذباً لو قلت أنك لم تجرب هذا كله
لم تسعد يوماً باللعب بجمجمة ملقاة فى الطريق قبل أن تدحرجها حتى بالوعة المجاري المفتوحة، هل اختبرت شعور جمجمة تسبح في ماسورة صرف بعد أن لعب بها أحدهم ككرة غير عابيء لمن هي وحتى غير متسائل عن لمن هي و من فصلها ولماذا على الأقل .
مشكلة الكتابة عن رواية كهذه أنها على حجمها الصغير كبيرة مشحونة، وأنني لست بناقد أصلاً، أنا أتحدث عن ما يؤثر في أنا وعن ما يتلاقى معي أنا، وأظن أنه حتى هذه لا يسلم منها ناقد إلا لو كان كمدرس لغة عربية إلزامي بتعبير ممدوح رزق نفسه .
ولكن لو حاولت اللعب بذاكرتي بعد انتهائي من الرواية وحاولت تسجيل الكلمات التي لازالت عالقة بذهني بقوة فستكون هكذا بدون ترتيب مقصود ولكنني أظن أن تذكرها بعينها له معنى ما وأن الترتيب له بداخلي معنى، سأفتح صفحة الورد وسأسجل هذه الكلمات :
يانيس ريتسوس، وودى آلن، كيركيجور، مخدرات، مدمن، عاطل، مستبعد، منتدى إنترنت، شرم الشيخ، الغردقة، باريس، مصحات نفسية، جاز، عازف ترومبيت، فنانه تشكيلية، فلسفة، الكوميديا، دار نشر، مقويات، شيخوخة، رقيق، لن أغضب، نصوص، سلطة، مقاهى، هازيء، متوتر، استمناء، eggs، سبحة، هاكر، خيبة أمل، فضائح، مجنون، ة، نادي القتال ...
لا تنتهي الكلمات ولا الأسماء هذه عينة فقط، لكن يتلاقى معي بالطبع المكان؛ فالمنصورة حاضرة وبقوة فهي ليست مجرد موضع إقامة ولا أحداث حياة للكاتب بل هي مكوّن لا يريد أن ينفصل عن الكاتب ولا يريد الكاتب أن ينفصل عنه، إنه المكان يلح دوماً فهناك لقاء بالأب داخل جامع (السنجق) حيث الأب في مركز الكون يصلي بنسخة من نادي القتال، وحيث يدور بينهم حوار وكأنه صلاة متبادلة وليس كحوار عادي يدور بين شخصين،
وكوبري طلخا وكوبري الحديد ومنطقة النوادي هذا الشريط بين المعبرين حيث يتمنى الكاتب العبور لكن يعود مرة أخرى فقد كان يدور حول الهرب ولا يريد الهرب بالفعل، لقد كان يلعب بفكرة الهروب يقتل بها الوقت وستقتل هي بعد عبور الوقت، بل هي مقتولة قبل عبوره .
شارع العباسي وكشري عبده .. لن ينتهي العد لو حاولت التحدث عن ما يتلاقى معي، لكن لا أستطيع أن أتخطى لحظات جلوسه وحيداً على ترابيزة بجوار غرباء بداخل مطعم مشحون بالناس وحركة الأكل لكنه وحيد ولا يختلط بأحد هل لا يريد أو هل اعتاد أو هل يتحصن بما في داخله أم هل يتحصن من ( الخيانات المتنكرة )
أن تلتقي مشاعر لك ومواقف مع مشاعر ومواقف شخصية فى رواية أو مشاعر الراوى نفسه فليس معنى هذا أنه سرق حياتك بل قد يعني ببساطة أنه عاش ما عشته أو أجاد التعبير عن ما تلاقى معك .. ما الذى قد يكون غريبا في هذا ، أن تعيش مع الراوي ومع الرواية؛ فالراوي نفسه يتحدث عن التماثل مع بطل سينمائى بداخل فيلم، بعد أن يتجاوز مضطراً الضرورة التقليدية لوسامة البطل القارة في تصوره كما زج بها في وعيه ...
) أحس فجأة أنه التجسيد الواقعي للبطل السينمائي في صورته المعروفة، والذي يحمل دائماً ملامح متجهمة، وينظر إلى أشياء العالم بعمق بينما يرتحل بمفرده فى فيلم ما (
تساؤله هل يجب - فى لحظة وجد فيها نفسه هو وأباه محرومان من تصديق كل شيء - أن يفعلا مثل ( فورست جامب ) .. هو يسير بجانب أبيه وكلاهما فى تعبيره - فى هذه اللحظة عاريين من الحقائق الصغيرة التي يحتاج أن يصدقها كل كائن ليحافظ على يقينه بوجود غاية غيبية كبرى وبالتالي يصدق أنه ليس غافلاً.
الأم المريضة والأخت المهمشة، نظرة للواقع بصورتين صورة حقيقية وصورة متخيلة ولن تعلم أي الصورتين حقيقة .. إبحث عن حقائقك وخيالاتك أنت .
الكتابة والهواجس الشخصية وما وضع بين قوسين كحديث من الراوي لنفسه وللمتلقي ولروائيين آخرين، وأنه ( على الروائي أن ) ؛ خطة طويلة وقد تكون ممارسات حياة الراوي نفسه وقد تكون أمنيات وقد تكون رسالة .
لا أظن أنه يمكن تقديم رواية كهذه من خلال محاولة عرضها لكن شكراً للمتعة التي يروجها ممدوح رزق، رغم أنه قد يبدو من العنوان وغلاف الرواية بلوحة سلفادور دالي أنها كئيبة بالكلية.
(الناس تريد مصائب وكوارث محددة وملموسة بوضوح - وأنت أعطيتهم هذا : قلب مريض .. زوجة ميتة .. ابن عاطل .. ابنة مجنونة .. صديق مدمن )
لكن من قد يرى ما بداخل هذا المستلقي وما بداخل العيون المتطلعة لفضائح ودماء الأخرين، وأرجلهم المتعطشة للعبث بقطعهم الملقاة فى عرض الطريق، وآذانهم المستمتعة بصوت طفولى غاضب يخرج من شباك لم يكتمل يوماً فعل انفتاحه على آخره، أو على مصراعيه ككلمة مملة .
إنهم منتبهو الحواس ويفعلون كل ذلك كى يشعروا بمدى قوتهم وبأنهم لايزالون بخير وأنهم أقوياء وأنه يجب شكرهم وإعطائهم ميداليات ذهبية من مركز الكون حيث انهم لم يصلوا لهذه المرحلة التى وصل لها آخرون ...
)هل جربت الفرح برسالة الترحيب الآلية التى تظهر لك بعد تسجيلك فى منتدى أو عندما يرسل لك المنتدى رسالة تهنئة على الإيميل يوم عيد ميلادك ؟ .. حينما تكون فى أشد الحاجة للتحدث مع أحد وتتصل بصديق؛ هل لاحظت نبرة السخرية في صوت المرأة التي تخبرك بأن " الهاتف الذى طلبته ربما يكون مغلقاً، من فضلك حاول الاتصال فى وقت أخر " ؟) ستكون كاذباً لو قلت أنك لم تجرب هذا كله
لم تسعد يوماً باللعب بجمجمة ملقاة فى الطريق قبل أن تدحرجها حتى بالوعة المجاري المفتوحة، هل اختبرت شعور جمجمة تسبح في ماسورة صرف بعد أن لعب بها أحدهم ككرة غير عابيء لمن هي وحتى غير متسائل عن لمن هي و من فصلها ولماذا على الأقل .
مشكلة الكتابة عن رواية كهذه أنها على حجمها الصغير كبيرة مشحونة، وأنني لست بناقد أصلاً، أنا أتحدث عن ما يؤثر في أنا وعن ما يتلاقى معي أنا، وأظن أنه حتى هذه لا يسلم منها ناقد إلا لو كان كمدرس لغة عربية إلزامي بتعبير ممدوح رزق نفسه .
ولكن لو حاولت اللعب بذاكرتي بعد انتهائي من الرواية وحاولت تسجيل الكلمات التي لازالت عالقة بذهني بقوة فستكون هكذا بدون ترتيب مقصود ولكنني أظن أن تذكرها بعينها له معنى ما وأن الترتيب له بداخلي معنى، سأفتح صفحة الورد وسأسجل هذه الكلمات :
يانيس ريتسوس، وودى آلن، كيركيجور، مخدرات، مدمن، عاطل، مستبعد، منتدى إنترنت، شرم الشيخ، الغردقة، باريس، مصحات نفسية، جاز، عازف ترومبيت، فنانه تشكيلية، فلسفة، الكوميديا، دار نشر، مقويات، شيخوخة، رقيق، لن أغضب، نصوص، سلطة، مقاهى، هازيء، متوتر، استمناء، eggs، سبحة، هاكر، خيبة أمل، فضائح، مجنون، ة، نادي القتال ...
لا تنتهي الكلمات ولا الأسماء هذه عينة فقط، لكن يتلاقى معي بالطبع المكان؛ فالمنصورة حاضرة وبقوة فهي ليست مجرد موضع إقامة ولا أحداث حياة للكاتب بل هي مكوّن لا يريد أن ينفصل عن الكاتب ولا يريد الكاتب أن ينفصل عنه، إنه المكان يلح دوماً فهناك لقاء بالأب داخل جامع (السنجق) حيث الأب في مركز الكون يصلي بنسخة من نادي القتال، وحيث يدور بينهم حوار وكأنه صلاة متبادلة وليس كحوار عادي يدور بين شخصين،
وكوبري طلخا وكوبري الحديد ومنطقة النوادي هذا الشريط بين المعبرين حيث يتمنى الكاتب العبور لكن يعود مرة أخرى فقد كان يدور حول الهرب ولا يريد الهرب بالفعل، لقد كان يلعب بفكرة الهروب يقتل بها الوقت وستقتل هي بعد عبور الوقت، بل هي مقتولة قبل عبوره .
شارع العباسي وكشري عبده .. لن ينتهي العد لو حاولت التحدث عن ما يتلاقى معي، لكن لا أستطيع أن أتخطى لحظات جلوسه وحيداً على ترابيزة بجوار غرباء بداخل مطعم مشحون بالناس وحركة الأكل لكنه وحيد ولا يختلط بأحد هل لا يريد أو هل اعتاد أو هل يتحصن بما في داخله أم هل يتحصن من ( الخيانات المتنكرة )
أن تلتقي مشاعر لك ومواقف مع مشاعر ومواقف شخصية فى رواية أو مشاعر الراوى نفسه فليس معنى هذا أنه سرق حياتك بل قد يعني ببساطة أنه عاش ما عشته أو أجاد التعبير عن ما تلاقى معك .. ما الذى قد يكون غريبا في هذا ، أن تعيش مع الراوي ومع الرواية؛ فالراوي نفسه يتحدث عن التماثل مع بطل سينمائى بداخل فيلم، بعد أن يتجاوز مضطراً الضرورة التقليدية لوسامة البطل القارة في تصوره كما زج بها في وعيه ...
) أحس فجأة أنه التجسيد الواقعي للبطل السينمائي في صورته المعروفة، والذي يحمل دائماً ملامح متجهمة، وينظر إلى أشياء العالم بعمق بينما يرتحل بمفرده فى فيلم ما (
تساؤله هل يجب - فى لحظة وجد فيها نفسه هو وأباه محرومان من تصديق كل شيء - أن يفعلا مثل ( فورست جامب ) .. هو يسير بجانب أبيه وكلاهما فى تعبيره - فى هذه اللحظة عاريين من الحقائق الصغيرة التي يحتاج أن يصدقها كل كائن ليحافظ على يقينه بوجود غاية غيبية كبرى وبالتالي يصدق أنه ليس غافلاً.
الأم المريضة والأخت المهمشة، نظرة للواقع بصورتين صورة حقيقية وصورة متخيلة ولن تعلم أي الصورتين حقيقة .. إبحث عن حقائقك وخيالاتك أنت .
الكتابة والهواجس الشخصية وما وضع بين قوسين كحديث من الراوي لنفسه وللمتلقي ولروائيين آخرين، وأنه ( على الروائي أن ) ؛ خطة طويلة وقد تكون ممارسات حياة الراوي نفسه وقد تكون أمنيات وقد تكون رسالة .
لا أظن أنه يمكن تقديم رواية كهذه من خلال محاولة عرضها لكن شكراً للمتعة التي يروجها ممدوح رزق، رغم أنه قد يبدو من العنوان وغلاف الرواية بلوحة سلفادور دالي أنها كئيبة بالكلية.
حسام شادي
مجلة المحلاج
5 / 1 / 2013
فضح الموتي في رواية ممدوح رزق
"خلق
الموتي" رواية للقاص والروائي ممدوح رزق صادرة ضمن سلسلة إبداع الحرية تحت
إشراف الكاتب عبدالفتاح الجمل. هي رواية إشكالية بداية من العنوان نفسه من هم
هؤلاء الموتي؟
ربما هي الشخصيات التي تشكل منها عالم القاص قبل أن يرحلوا، وربما هي شخصيات تحيا لكنها لا تعيش وهو يحاول بث الروح فيهم بالكتابة، فأحد تعريفات الكتابة "خلق شخصيات حية علي الورق" كما أن حضور الكتاب العالميين الذين استدعي فقرات وجملا لهم طوال العمل هم أيضا ضمن هؤلاء الموتي أو من يري أنهم موتي. كتب ممدوح رزق رواية علي غلاف العمل، في حين أن النص من وجهة نظري أقرب لروح القصة القصيرة منه إلي الرواية، أو بالأحري هو نص عابر للنوعية، فخيوط الحكاية صغيرة وقد تقطعت سريعا، بالإضافة إلي وجود مقاطع شعرية، وكتابة عن الكتابة والنقد، وحضور لشخص المؤلف، واستشهاد فقرات لكتاب عالميين في محاولة تجريبية لكسر الشكل التقليدي الروائي واستقطاب جميع أشكال الفنون من سينما، ومسرح، وشعر، وفلسفة ونقد. إذا كانت العولمة قد جعلت من العالم قرية صغيرة، فإنها جعلت أيضا من الفن جنسا أصغر علي نفس الدرجة من التداخل، والتسامح، فالشعر لا يعادي القصة، والقصة لا تعادي الفلسفة، والعكس صحيح.
قتل الأب
يصدر القاص النص بمقطع شعري للشاعر "ريتسوس" عن الحنين إلي الطفولة والبراءة الأولي، بما يعني شوق الكاتب لطفولته وماضيه الجميل، غير أننا نصطدم من الوهلة الأولي بسلطة الأب المتماهي مع الابن في مفارقة مدهشة، فالعادة أن يتماهي الابن مع الأب، بينما السلطة الأبوية العاجزة الفاشلة الخاوية هي التي تماهت في محاولة لمسخ ومحو شخصية الابن، ويبقي الصراع بين سلطة الأب والابن. القديم والجديد صراعا مفتوحا، يقوم السارد بفضح خواء وضعف الأب ويعري زيفه من خلال تلك الحيلة.
كسر التابو الديني
كل سلطة لدي البطل سلطة مرفوضة، سواء كانت أبوية أو دينية. الابن شخص وجودي يريد تحديد مصيره بنفسه، وبتجاربه وقناعاته الشخصية لا أن يكون ريشة تعبث بها يد القدر. إنه يريد أن يجري ويجري مثل بطل فيلم فورست جامب في إشارة إلي أن البطل الأمريكي حر، مغامر طموح في مقابل البطل العربي مأزوم بقيود الواقع، والمكبل بالسلطة الدينية والأبوية.
رافضا أيضا أن يكون الدين منحصرا في العبادات والفروض لا صلة له بملابسات ومشكلات الحياة، فالمصلون في النص منفصلون عن الواقع تماما، ومشغولون بأحداث رواية بوليسية أخرج جميع المصلين بمن فيهم أبي نسخة من نادي القتال ولأن الصلاة لم تكن في نيتي أو توقعي فلم يكن معي نسخة الأمر الذي جعلني أشارك أبي القراءة من نسخته. وقف الإمام وراح يقرأ ونحن نردد وراءه كيف أضطر تايلر لاستخدام الدهن المشفوط من أم مارلا في صنع الصابون للاستفادة من ثمنه في غسل الملابس ودفع الإيجار.
ثم يتطرق إلي شيوخ الفضائيات الذين بدلوا الدنيا بالآخرة، لا يتحدثون إلا عن عذاب القبر وأهوال النار ونعيم الجنة، فيشبه هذه الخطب بصرخاتها وتأوهاتها بأفلام الجنس. فهم يقومون بدور خطير يشغلون المجتمع بقضايا غيبية، وفرعية ويتركون جوهر الحياة الأساسي فالدين ليس حصنا أو ديرا أو مسجدا للهروب من الواقع بل سلاح للتعامل معه وللتغلب عليه.
التطهر
البوح والفضفضة ونشر آلام القاص علي حبال القارئ ليس قتلا للوقت بل فعل تطهر بامتياز هو يريد التخلص من حمولة الماضي الثقيل، ليعود نقيا ويقف من جديد في وجه العالم عن طريق الاعتراف، ويتساءل يريد أن يختبر في كل مرة هل الفضفضة تريح حقا أو علي الأقل تخفف أم لا.؟
يعرض القاص بانوراما من الحيل والتقنيات الفنية في النص منها:
- تعدد الضمائر أو الالتفات البلاغي: يستخدم القاص ضمير المخاطب في حواره مع أبيه كأنه يريد أن يواجهه، وضمير المتكلم حين يسرد أحداثا عن نفسه كأنه يريد من القارئ أن يكون صديقا له أمينا علي أسراره، ويشاغبه باللعب معه بتغيير الضمائر.
- المونولوج الداخلي: البطل يعاني من مرض نفسي، وبالتالي هو ملئ بالهواجس، والأفكار وصراعات داخلية تفور بها رأسه. كان طبيعيا أن تتداخل الحوارات، والمقاطع الشعرية والأحداث المختلفة اللا مترابطة في الظاهر بينما الرابط الوحيد بينها هو البطل المريض نحن أمام عوالم منفصلة في آن.
- التغريب السردي: الكاتب ليس السارد المتعالي الواقع خارج النص، يحرك شخوصه وأحداثه دون أن يتورط في عملية الكتابة بل يقوم بنفسه داخل العمل، والقارئ يتابع النص وهو يتخلق أمامه للمشاركة في إكمال زاوية الرؤية والخروج بالنص برؤي مختلفة لا بصيغة واحدة.
ربما هي الشخصيات التي تشكل منها عالم القاص قبل أن يرحلوا، وربما هي شخصيات تحيا لكنها لا تعيش وهو يحاول بث الروح فيهم بالكتابة، فأحد تعريفات الكتابة "خلق شخصيات حية علي الورق" كما أن حضور الكتاب العالميين الذين استدعي فقرات وجملا لهم طوال العمل هم أيضا ضمن هؤلاء الموتي أو من يري أنهم موتي. كتب ممدوح رزق رواية علي غلاف العمل، في حين أن النص من وجهة نظري أقرب لروح القصة القصيرة منه إلي الرواية، أو بالأحري هو نص عابر للنوعية، فخيوط الحكاية صغيرة وقد تقطعت سريعا، بالإضافة إلي وجود مقاطع شعرية، وكتابة عن الكتابة والنقد، وحضور لشخص المؤلف، واستشهاد فقرات لكتاب عالميين في محاولة تجريبية لكسر الشكل التقليدي الروائي واستقطاب جميع أشكال الفنون من سينما، ومسرح، وشعر، وفلسفة ونقد. إذا كانت العولمة قد جعلت من العالم قرية صغيرة، فإنها جعلت أيضا من الفن جنسا أصغر علي نفس الدرجة من التداخل، والتسامح، فالشعر لا يعادي القصة، والقصة لا تعادي الفلسفة، والعكس صحيح.
قتل الأب
يصدر القاص النص بمقطع شعري للشاعر "ريتسوس" عن الحنين إلي الطفولة والبراءة الأولي، بما يعني شوق الكاتب لطفولته وماضيه الجميل، غير أننا نصطدم من الوهلة الأولي بسلطة الأب المتماهي مع الابن في مفارقة مدهشة، فالعادة أن يتماهي الابن مع الأب، بينما السلطة الأبوية العاجزة الفاشلة الخاوية هي التي تماهت في محاولة لمسخ ومحو شخصية الابن، ويبقي الصراع بين سلطة الأب والابن. القديم والجديد صراعا مفتوحا، يقوم السارد بفضح خواء وضعف الأب ويعري زيفه من خلال تلك الحيلة.
كسر التابو الديني
كل سلطة لدي البطل سلطة مرفوضة، سواء كانت أبوية أو دينية. الابن شخص وجودي يريد تحديد مصيره بنفسه، وبتجاربه وقناعاته الشخصية لا أن يكون ريشة تعبث بها يد القدر. إنه يريد أن يجري ويجري مثل بطل فيلم فورست جامب في إشارة إلي أن البطل الأمريكي حر، مغامر طموح في مقابل البطل العربي مأزوم بقيود الواقع، والمكبل بالسلطة الدينية والأبوية.
رافضا أيضا أن يكون الدين منحصرا في العبادات والفروض لا صلة له بملابسات ومشكلات الحياة، فالمصلون في النص منفصلون عن الواقع تماما، ومشغولون بأحداث رواية بوليسية أخرج جميع المصلين بمن فيهم أبي نسخة من نادي القتال ولأن الصلاة لم تكن في نيتي أو توقعي فلم يكن معي نسخة الأمر الذي جعلني أشارك أبي القراءة من نسخته. وقف الإمام وراح يقرأ ونحن نردد وراءه كيف أضطر تايلر لاستخدام الدهن المشفوط من أم مارلا في صنع الصابون للاستفادة من ثمنه في غسل الملابس ودفع الإيجار.
ثم يتطرق إلي شيوخ الفضائيات الذين بدلوا الدنيا بالآخرة، لا يتحدثون إلا عن عذاب القبر وأهوال النار ونعيم الجنة، فيشبه هذه الخطب بصرخاتها وتأوهاتها بأفلام الجنس. فهم يقومون بدور خطير يشغلون المجتمع بقضايا غيبية، وفرعية ويتركون جوهر الحياة الأساسي فالدين ليس حصنا أو ديرا أو مسجدا للهروب من الواقع بل سلاح للتعامل معه وللتغلب عليه.
التطهر
البوح والفضفضة ونشر آلام القاص علي حبال القارئ ليس قتلا للوقت بل فعل تطهر بامتياز هو يريد التخلص من حمولة الماضي الثقيل، ليعود نقيا ويقف من جديد في وجه العالم عن طريق الاعتراف، ويتساءل يريد أن يختبر في كل مرة هل الفضفضة تريح حقا أو علي الأقل تخفف أم لا.؟
يعرض القاص بانوراما من الحيل والتقنيات الفنية في النص منها:
- تعدد الضمائر أو الالتفات البلاغي: يستخدم القاص ضمير المخاطب في حواره مع أبيه كأنه يريد أن يواجهه، وضمير المتكلم حين يسرد أحداثا عن نفسه كأنه يريد من القارئ أن يكون صديقا له أمينا علي أسراره، ويشاغبه باللعب معه بتغيير الضمائر.
- المونولوج الداخلي: البطل يعاني من مرض نفسي، وبالتالي هو ملئ بالهواجس، والأفكار وصراعات داخلية تفور بها رأسه. كان طبيعيا أن تتداخل الحوارات، والمقاطع الشعرية والأحداث المختلفة اللا مترابطة في الظاهر بينما الرابط الوحيد بينها هو البطل المريض نحن أمام عوالم منفصلة في آن.
- التغريب السردي: الكاتب ليس السارد المتعالي الواقع خارج النص، يحرك شخوصه وأحداثه دون أن يتورط في عملية الكتابة بل يقوم بنفسه داخل العمل، والقارئ يتابع النص وهو يتخلق أمامه للمشاركة في إكمال زاوية الرؤية والخروج بالنص برؤي مختلفة لا بصيغة واحدة.
مازن حلمي
مجلة (الثقافة الجديدة)
أغسطس 2012
الأربعاء، 6 أبريل 2016
أصوات العمى
في مجموعته القصصية (مملكة الأصوات البعيدة) الصادرة مؤخراً عن دار
(روافد) يضع (أحمد الزلوعي) الفرد في مواجهة انعزاله الخاص على نحو يجعل من هذه
المواجهة عتبة أو ممراً مجازياً للاشتباك مع الذاكرة الشخصية .. هذا الاشتباك يتسع
ليشمل التاريخ الكوني بوصفه تراكماً من الأزمنة الشبحية غير المحكومة، التي تقف
وراء لحظة الوجود بينما تحاول اكتشاف هويتها .. ربما هناك محاولة ممتدة عبر قصص
المجموعة للسيطرة على الماضي ليس كفضاء ملتبس من الأسباب والدوافع الغامضة التي
تُشكل تجارب وخبرات العالم، بل باعتباره الوجه المدرك للغيب .. التفاصيل التي يمكن
استعمالها ـ كغنيمة سردية مثلاً ـ في اكتشاف المبررات والتدابير القدرية المجهولة
التي تحاصر الحياة .. هذا الاكتشاف يتعامل معه (أحمد الزلوعي) كهاجس للهيمنة .. استيعاب
مروّض للظلام القابض على المعرفة .. كسعي للخلاص خارج موضوع الزمن انطلاقاً من
شروطه .. يأخذ الأمر شكل الإنقاذ الروحي كما في قصة (طاقة القدر)، وأحيانا يتجلى
في سمة الوهم القادم من الأحلام كما في قصة (الحلم السابع)، وأحياناً يستغرق في
طبيعة أقرب إلى الفانتازيا الميلودرامية كما في قصة (مملكة الأصوات البعيدة) حيث
يتحوّل (معتز عبد الهادي) إلى سجل كوني يدمج بين أصوات ذاكرته الخاصة، وأصوات
الكائنات الأرضية في حضورها اللحظي والتاريخي المنتشر في الزمن:
(التقط صوته وهو طفل يلهو في مدخل العمارة مع أبناء الجيران، وصوت
أبيه يناديه ليصعد وصوت أمه تدعوه إلى الطعام .. ثم بدأت آذانه تلتقط أصواتا غريبة
تنطق بلغات غريبة .. تعرف منها على الألمانية والأسبانية والإنجليزية، وأخرى لا
يعرفها خمن أن منها السنسكريتية والآرامية والسيريانية .. أصوات شتى لسحرة في جبال
بعيدة، وفرسان في صحار نائية، وجرحى يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وفقراء في أكواخ
بالية).
هذا السجل ليس مجرد توثيق أو امتزاج بين الإشارات المسموعة والمتناثرة،
بل يبدو كحيز دلالي من العناصر المتنافرة التي تريد العثور على صياغة صحيحة
للتساؤلات القادرة على بلوغ الغاية القدرية الأبعد .. التوصل إلى التآلف أو
التوافق المناسب بين هذه الاستفهامات التي تتجلى ظاهرياً في شكل معطيات نمطية
لانتزاع ما يشبه الحكمة الغيبية التي تمنح لكل صوت من هذه الأصوات التحرر الجدير
به.
هذا الانشغال بالقدر نجده أيضاً في قصة (انفجار إطار أمامي) وهو تأمل
يخضع أيضاً لتكنيك (البانوراما) أي تجميع الحالات المختلفة في نطاق فوقي أو مشهد
لازمني موحد، له القدرة على أن يكون رهاناً استثنائياً بإيحاءاته واستجواباته التي
تتخطى حدوده الواضحة .. في هذه القصة ملامسة للعلاقة بين الغيب ولعبة تحديد
المصائر التي تُرسم تلقائياً دون تعمّد ولكن كاستجابة عفوية لاحتمالات كان من
الضروري أن تتحقق.
هناك نبرة ذاتية يمكن ملاحظتها أثناء مراقبة (الأصوات) وهي تحاول الاندماج
عبر الزمن كأسلوب جمالي للتفكير في القدر .. قراءة أسراره .. الفهم ومقاومة العمى
بطريقة ما .. هذه النبرة تعطي ذلك الشعور بإدراك أن الغيب ـ رغم التعويض الروحاني
ـ سيظل فكرة مغلقة .. أنه لن يمكن الاستقرار على هوية مُخلّصة للوجود، وأن الأسباب
والدوافع التي تُشكل تجارب وخبرات العالم ستظل غامضة .. لنقرأ السطور الأخيرة من
قصة (تجوال ليلي):
(تنبه إلى أن يسير بمحاذاة الجدران خشية المطر .. رمق السماء .. كان
المطر قد هدأ وعاد رذاذا، والأرض قد شبعت وامتلأت عيونها بالرضا .. اندفع إلى وسط
الطريق الغارق الذي لا يبالي بالرذاذ والبرد .. قرر التجوال في المدينة بلا هدف
لكنه كان يشعر مسبقاً أنه بالصدفة سيجد نفسه أمام بيته).
إذا كان هذا التجوال
الذي مهما تشتت سيصل إلى نفس النقطة التي يواجه فيها الفرد انعزاله الخاص، إذا كان
هذا التجوال هو التجسيد الأعنف لما يمكن أن تعنيه المبررات والتدابير القدرية
المجهولة التي تحاصر الحياة؛ فإن المتجول في هذه القصة يمثل وجهاً آخرً من
(ابراهيم المغربي) في قصة (طاقة القدر) الذي عاش في رؤيا الملائكة والنور
والأنبياء والبحار التي تعج بالحور، والطيور التي تغني على بوابات السماء .. يقف
(أحمد الزلوعي) بين كافة الأوجه الممكنة للكائنات التي تترك أصواتها كعلامات
لمواجهاتها غير المتكافئة مع القدر .. إذا لم يكن للتفاوض ـ قصصياً ـ مع الغيب،
فعلى الأقل لإعادة كتابة الماضي .. أي لخلق العالم. الاثنين، 4 أبريل 2016
دفتر النائم : يقظة القص الأوديبي
يستدعي "دفتر النائم" وهو عنوان المجموعة القصصية الجديدة
لشريف صالح، الصادرة عن قطاع الثقافة بأخبار اليوم، يستدعي تصوراً عن سجلٍ ما مخصص
لتوثيق تجارب الخاضع للنوم، ولكن ما تؤكده قصص المجموعة أن هذا الدفتر هو في
حقيقته فضاء مراوغ، تغيب الفواصل القاطعة بين التدوينات التي تبدو ظاهرياً كحالات
مستقلة تتوالي داخل صفحاته.. هذا الفضاء ليس محدداً أيضاً ببداية ونهاية، حيث
تتشابك علاقاته في مسارات غير محكومة، دون الالتزام بركائز أو غايات مستقرة تُعطل
حركة الاحتمالات التأويلية المفتوحة علي التبادل والتحوّل والتناسخ؛ أي علي اللعب
الكاشف طوال الوقت عن جموحه الخاص.. ماذا عن النوم؟ إنه لا يحمل تلك الطبيعة
التقليدية كموطن مُقفل للأحلام، بل يصبح ممراً لتحويل جسد النائم إلي أطياف
لازمنية، تتنقل فوق الحواف العالقة بين العالم والمطلق.. هذه التنقلات لا تقتصر
ضرورتها علي مراقبة الذات لتاريخها، ولوجودها كجزء من خبرة كونية أكثر غموضاً
بواسطة رؤية يصوغها خيال غرائبي ناجم عن تداخل الواقع والحلم فحسب.. تعطي هذه
التنقلات كذلك القدرة للجسد علي الاستعمال الرمزي لهويته الأوديبية المقموعة في
إعادة خلق التاريخ الذي تراقبه الذات، وتعديل الوجود داخل الحيز الغائم للنوم،
وإعطائه سردياً خواص اليقظة.
تبدأ قصة "رحلة النهار والليل" بهذه الفقرة:
(خرجنا مع بزوغ الشمس أنا وأمي وأبي. لا نحمل أي شيء في أيدينا. سرنا في طريق ترابي ممتد، علي جانبيه صف نخيل قصير إلي درجة أن السباطة المثقلة بالبلح كانت في متناول يدي تقريباً).
إن فعل الخروج مع بزوغ الشمس عند مقارنته بعنوان القصة "رحلة النهار والليل" يدعم فكرة الحركة التي تؤسس لطقس ترتبط بدايته بالبداية الزمنية لليوم الذي يتكرر، أي أنه نظام يتجاوز الأداء البشري ليصبح امتثالاً لوعي مرهون بقانون خارج الوجود.. التعاقب لا يجعل من الخروج مع بزوغ الشمس ممارسة مشروطة بالبداية المعتادة لليوم إذن بل تكليف يخص بداية الحياة ذاتها بينما تعاود الحدوث دون توقف.. الرحلة بهذا الشكل تتخذ سمة فوق طبيعية، كأنها سلسلة من المشاهد التي تسعي وراء التحوّل إلي معجزة محمية بحقيقة أشمل.. يمنع الأب طفله من أخذ بلحة قائلاً له "لما يحمر" في حين كانت أمه صامتة وتداري وجهها عنه.. تتحالف (القوة) مع (المعرفة) في سلطة الأب الذي يشد الابن من ذراعه، ثم يحدد له متي يمكنه أن يحصل علي الشيء الذي يريده.. تجسيد المجاز الأبوي الذي يتخطي امتلاك القضيب، وهو ما يجعل الأم في المقابل تخفي وجهها عن الابن الذي غادر مرحلة التصور النرجسي لقدرته علي منحها الاكتفاء إلي الكبت الأساسي الذي يدرك معه أنه لا يقدر علي استكمال موضوع نقصانها، ووضع حد لاحتياجها إلي قضيب الأب.. حتي حينما أخذته الأم في صدرها بعدما عنفه الأب بشدة، ولكزه في صدره بعدما نسي أخذ باقي الفلوس التي اشتري بها كرة ـ ينبغي هنا مقارنة الكرة بثدي الأم ـ استمرت في عدم النظر إلي وجهه.. كأنها تجبره علي تصديق أنه موضوع مستقل عنها (مرحلة المرآة عند "جاك لاكان") أي إنهاء علاقته الثنائية الاندماجية بها (العبور من الخيالي إلي الرمزي) حينما لم يكن هناك رمزاً مبتوراً عن (الأنا).. يري الطفل أمه طوال الوقت تحت تهديد المحو الذكوري من قِبل أبيه.. تُمهد لإخفائها الكامل الذي سيحدث بالفعل.. الغياب هنا يُساوي بين الإقصاء والموت، ولكنني لا أستبعد أيضاً فرضية أن الطفل هو الذي قرر محو أمه من الحلم كحل انتقامي أخير بعدما أيقن عجزه عن الاستئثار بها في مواجهة الخوف من أبيه.. يترك الطفل الكرة (الثدي) لتنزلق خلسة من يده وهو يكتم دموعه أثناء مواصلة السير كأنما يصحح خطأً علي نحو يبدو غير متعمّد.. اللكزة العنيفة (عقدة الخصاء) كانت دافعاً لمحاولة التماهي مع الأب، أي سعي العضو الصغير لأن يتوحد بالعضو الكبير، القادر علي استعادة الأم رمزياً "رآني أبي أتلفت حولي فأخبرني أن أمي قالت إنها ستلحق بنا عند النهر".
إن ما يدعم فكرة أن الرحلة هي مسيرة الحياة التي تتكرر ملاحظة الطفل لتأثير الزمن علي الأب: "كنت أري جسده يزداد انحناء، وشعره يبيض ويتساقط إلي أن وقفنا أخيراً علي حافة النهر".. هل يمكن أن يكون النهر هو المرآة التي يتعرّف الطفل بواسطتها ـ عند النظر إليه وقبل الهبوط في الماء ـ علي حتمية استقلاله بعيداً عن أمه التي اختفت؟.. نزل الطفل والأب في النهر كما أن أناساً كثيرين نزلوا ليستحموا ثم ذهبوا.. إننا إزاء حالة تشبه التعميد، وهو ما يقودنا للتساؤل عن ما يمثله النهر.. ربما كان الماء الذي هبط الطفل إليه مع الأب هو المجاز الكلي كجوهر حاكم للوجود، الذي لابد من الاستمرار إلي ما لانهاية في المجيء والغوص بداخله من أجل التطهر وتأكيد الطاعة ومخاطبة الخلاص.. المجاز الذي يُرسخ (رمزية العالم) التي أصبح الطفل عنصراً مروضاً من هيمنتها.. يري الطفل بعد اختفاء الشمس رجلاً يمر علي الشاطيء ويحمل مصباحاً في يده: "أحسست بالاطمئنان لضوء المصباح واهتزازه وانعكاسه علي سطح النهر. كلما ابتعد الضوء عنا كان قلبي ينقبض، ويزداد انقباضاً مع عتمة وسكون الماء".
إذا كان النهر هو المجاز الكلي الذي لا قاع له ـ فبالتالي لن يكون ضوء المصباح سوي المطلق الذي يبتغي السابحون في النهر الوصول إليه.. الغيب الواعد الذي خلقه المجاز، والذي يمنح الاطمئنان باقترابه، والانقباض بابتعاده.. من يحمل المصباح / الوهم إذن؟.. لاشيء سوي الغموض الذي لا يمكن للسابحين في النهر انتهاك عتمته بينما يغرقون تباعاً مثلما اختفي الأب تاركاً الطفل وهو يصرخ عليه داخل الماء.
إن الأم التي اختفت في قصة "النهار والليل" هي الفتاة التي أحبها الراوي المتقمص لشخصية (القطار) في قصة (توووووت) والتي وصلت متأخرة دقيقة واحدة إلي المحطة التي اتفقا عليها بعد أن غادرها، حيث يتمني الراوي / القطار أن تكون الفتاة مازالت جالسة في مكانها المعتاد تحت شجرة سرو تنتظر مروره في زمن آخر.. نلاحظ في هذه القصة أنه من ضمن الأشياء التي طارت بسبب السرعة الفائقة واندفاع الهواء عبر النوافذ الدفتر الذي كان يُسجل فيه أحلامه.. هنا ينبغي استعادة ما كتبته سابقاً عن حقيقة الدفتر بأنه فضاء مراوغ، وليس مجرد سجل محدد ببداية ونهاية، كما أنه مفتوح طوال الوقت علي اللعب الكاشف عن جموحه الخاص.
يتم استرجاع الأم أيضاً في قصة "كوخ ست الحسن" حيث الفتاة التي تعطيه الماء لري النبتة حتي يصيبها التعب ويشيب شعره.
"تطلعت من كوة الكوخ.. إلي الخارج.. فرأيت نفسي شاباً قادماً من بعيد".
هذه الاستعادة تقترن بأدائين متلازمين.. الأول هو جعل الزمن يتخذ نسقه المضاد بحيث يعود من (الشيب) إلي (الشباب)، والثاني هو جعل الشيب عتبة للشباب كتواصل غير منقطع في مقابل النبتة التي لم تزهر.. كأننا نتوقع أن الفتاة (الأم في شبابها مثلاً)، والتي تقدمت في العمر ـ منطقياً ـ مثل الشاب ستري نفسها ـ من مكان رقادها المتعب علي السرير ـ وهي تملأ الإبريق ـ كفتاة صغيرة ـ للشاب الذي عاد للظهور.. إنني أتصور أن الزهرة التي لم تنبت هي اللقاء الذي لم ينجح في الحدوث بين الابن وأمه.. اللقاء المحرّم الذي يستمر الزمن في الدوران دون تحقيقه.
لعل أكثر حالات الاسترجاع الأمومي سطوعاً هي تلك التي جاءت في قصة "قصر الأموات".. الراوي كعضو في فوج سياحي يشاهد داخل البهو الرئيسي لوحة زيتية عملاقة لصورة برنسيسة شاحبة وحزينة، كانت تضع يدها علي خدها.. ينتبه إلي فقده الزر الأوسط من الجاكت الذي أهدته له أمه في عيد ميلاده فيعود للبحث عنه في ردهات القصر:
"رأيت البرنسيسة الشاحبة تغادر لوحتها الزيتية وتسير أمامي. وبألفة وبساطة مدت يدها الناعمة والتقطت لي الزر من جوار مزهرية عليها نقوش صينية. ثم التفتت نحوي وابتسمت. وقفت مذهولاً وهي تقترب مني. خلعت الجاكت عني وبدأت في رتق الزر وهي واقفة أمامي. كانت تحرك أصابعها الرقيقة كخياطة متمرسة، قبل أن تجذب الخيط بجانب فمها وتقطعه. بالألفة ذاتها التي نلتقط بها صورنا التذكارية في القصور العتيقة، ساعدتني البرنسيسة الحزينة في ارتداء الجاكت وناولتني برتقالة. ثم ابتسمت لي للمرة الأخيرة قبل أن تعود إلي اللوحة التي كانت تحمل توقيع الرسام الإيطالي فرانشيسكو هايز. ولا أدري لماذا ظللت أردد اسم فرانشيسكو هايز في سري".
هذا التناسخ الذي جعل الأم تتجسّد في شخصية البرنسيسة المرسومة في اللوحة جعل الراوي بالضرورة يتجسّد في شخصية الرسام الذي ظل يردد اسمه.. حينما كان الراوي يتساءل قبل لحظة فقده لزر الجاكت عن من سيفكر في سبب حزن البرنسيسة أو حتي في مصير الرسام الذي أفني الليالي في رسم ملامحها قبل أكثر من تسعين عاماً؛ هذا التساؤل كان يتعلق بأم الراوي أكثر مما كان يتعلق بالبرنسيسة، وهو ما دفعه لخلق هذا التوحد بينهما، ويحوّل البرنسيسة إلي أمه التي ترتق له زر الجاكت الذي أهدته له في عيد ميلاده.. إنه بهذه الكيفية يصبح هو الرسام الذي يعرف سبب حزن الأم، وهو بالتالي الذي تولي توثيق هذا الحزن بواسطة الرسم.. الحزن الذي لن يعرف أحد شيئاً عن حقيقته.. اللوحة هي تعويض فني إذن بواسطة الخطوط والألوان عن الاتصال الذي لم يتوفر بين جسديهما.. بين البرنسيسة والرسام، وبين الراوي وأمه.. الأم التي سيعتذر لها الأب في صورة الممثل الكهل بقصة "حفلة عربية" بعد أن تحوّلت إلي فتاة داخل مشهد من فيلم لـ (شكسبير)، وهي القصة التي سبقت في ترتيب قصص المجموعة قصة (ابتسامة بوذا) التي يضرب فيها الأب أم الراوي في غرفة مغلقة حيث يقرر الابن قتل أبيه، ثم يطلب من (بوذا) أن يُبقي علي أبيه في هيئة (الجولوم سميجل) / بطل فيلم (سيد الخواتم) إلي الأبد، وأن يساعد أمه (سنو وايت) في العثور علي السعادة مع الأقزام السبعة.
في قصة "قطعان الليل الهائمة" تمثل المرأة البنية الصورة الأنثوية من الأب مدموجاً بالمطلق أو بالغموض الغيبي.. تسوق المرأة البنية قطعان الليل الهائمة وكأنهم هؤلاء الذين كانوا يسبحون في النهر في قصة (رحلة النهار والليل) أي أولئك الغارقين في المجاز.
"كنت خائفاً وضعيفاً حين اشتهيت تناسق ساقيها وهي تدنو مني.. كأنها تقرأني. تقرأ كل رغبة آثمة في أعماقي".
هذا الشعور بالذنب الذي يقف وراء توصيف الرغبات بالإثم هل هو راجع إلي التبديل الذي قام به الراوي بجعل أبيه (صاحب القوة والمعرفة) امرأة يلتصق بها في ممارسة جسدية تُسفر عن عشرات النسخ البنية المتكاثرة حوله؟.. تسأله المرأة البنية: "ألن تقود قطيعك؟".. كأن هذا التساؤل هو انعكاس لرغبته التي تحققت بشكل أو بآخر في التماهي مع المطلق، وهو ما يتخطي امتلاك سلطة الأبوة وإخضاعها.. هل كانت هذه الممارسة ترويضاً في اللاوعي للنسخة الموحدة التي يتطابق في داخلها الأب والمطلق عن طريق الاتصال الحسي؟.. ما هي العلامة التي يمكنها إثبات أن المرأة البنية تمثل نسخة أنثوية من الأب؟.. إنها الأفعي الرمز الفرويدي للقضيب، والتي انتبه الراوي إلي وجودها في هيئة وشم بين ثديي المرأة البنية.. هل أعاد الطفل أمه من الخفاء ككائن يمزج بين المجاز الأبوي والمطلق في فضاء غير مهدد يتيح له مضاجعتها الأمر الذي يعطي مبرراً إضافياً للشعور بالإثم؟
"قبل أن أجيب، أعطتني ظهرها وانقلبت إلي عنكبوت عملاقة راحت تتسلق جدار محطة الباص".
الموت هو العقاب الذي رآه الراوي منطقياً في حلمه أمام إدراكه للذنب.. القتل الذي تُنهي به أنثي العنكبوت (المتنكرة في صورة المرأة البنية) حياة الذكر بعد مجامعتها.. غريزة الموت التي تدفع الطفل للحاق بأمه وأبيه إلي المحو.
تبدأ قصة "رحلة النهار والليل" بهذه الفقرة:
(خرجنا مع بزوغ الشمس أنا وأمي وأبي. لا نحمل أي شيء في أيدينا. سرنا في طريق ترابي ممتد، علي جانبيه صف نخيل قصير إلي درجة أن السباطة المثقلة بالبلح كانت في متناول يدي تقريباً).
إن فعل الخروج مع بزوغ الشمس عند مقارنته بعنوان القصة "رحلة النهار والليل" يدعم فكرة الحركة التي تؤسس لطقس ترتبط بدايته بالبداية الزمنية لليوم الذي يتكرر، أي أنه نظام يتجاوز الأداء البشري ليصبح امتثالاً لوعي مرهون بقانون خارج الوجود.. التعاقب لا يجعل من الخروج مع بزوغ الشمس ممارسة مشروطة بالبداية المعتادة لليوم إذن بل تكليف يخص بداية الحياة ذاتها بينما تعاود الحدوث دون توقف.. الرحلة بهذا الشكل تتخذ سمة فوق طبيعية، كأنها سلسلة من المشاهد التي تسعي وراء التحوّل إلي معجزة محمية بحقيقة أشمل.. يمنع الأب طفله من أخذ بلحة قائلاً له "لما يحمر" في حين كانت أمه صامتة وتداري وجهها عنه.. تتحالف (القوة) مع (المعرفة) في سلطة الأب الذي يشد الابن من ذراعه، ثم يحدد له متي يمكنه أن يحصل علي الشيء الذي يريده.. تجسيد المجاز الأبوي الذي يتخطي امتلاك القضيب، وهو ما يجعل الأم في المقابل تخفي وجهها عن الابن الذي غادر مرحلة التصور النرجسي لقدرته علي منحها الاكتفاء إلي الكبت الأساسي الذي يدرك معه أنه لا يقدر علي استكمال موضوع نقصانها، ووضع حد لاحتياجها إلي قضيب الأب.. حتي حينما أخذته الأم في صدرها بعدما عنفه الأب بشدة، ولكزه في صدره بعدما نسي أخذ باقي الفلوس التي اشتري بها كرة ـ ينبغي هنا مقارنة الكرة بثدي الأم ـ استمرت في عدم النظر إلي وجهه.. كأنها تجبره علي تصديق أنه موضوع مستقل عنها (مرحلة المرآة عند "جاك لاكان") أي إنهاء علاقته الثنائية الاندماجية بها (العبور من الخيالي إلي الرمزي) حينما لم يكن هناك رمزاً مبتوراً عن (الأنا).. يري الطفل أمه طوال الوقت تحت تهديد المحو الذكوري من قِبل أبيه.. تُمهد لإخفائها الكامل الذي سيحدث بالفعل.. الغياب هنا يُساوي بين الإقصاء والموت، ولكنني لا أستبعد أيضاً فرضية أن الطفل هو الذي قرر محو أمه من الحلم كحل انتقامي أخير بعدما أيقن عجزه عن الاستئثار بها في مواجهة الخوف من أبيه.. يترك الطفل الكرة (الثدي) لتنزلق خلسة من يده وهو يكتم دموعه أثناء مواصلة السير كأنما يصحح خطأً علي نحو يبدو غير متعمّد.. اللكزة العنيفة (عقدة الخصاء) كانت دافعاً لمحاولة التماهي مع الأب، أي سعي العضو الصغير لأن يتوحد بالعضو الكبير، القادر علي استعادة الأم رمزياً "رآني أبي أتلفت حولي فأخبرني أن أمي قالت إنها ستلحق بنا عند النهر".
إن ما يدعم فكرة أن الرحلة هي مسيرة الحياة التي تتكرر ملاحظة الطفل لتأثير الزمن علي الأب: "كنت أري جسده يزداد انحناء، وشعره يبيض ويتساقط إلي أن وقفنا أخيراً علي حافة النهر".. هل يمكن أن يكون النهر هو المرآة التي يتعرّف الطفل بواسطتها ـ عند النظر إليه وقبل الهبوط في الماء ـ علي حتمية استقلاله بعيداً عن أمه التي اختفت؟.. نزل الطفل والأب في النهر كما أن أناساً كثيرين نزلوا ليستحموا ثم ذهبوا.. إننا إزاء حالة تشبه التعميد، وهو ما يقودنا للتساؤل عن ما يمثله النهر.. ربما كان الماء الذي هبط الطفل إليه مع الأب هو المجاز الكلي كجوهر حاكم للوجود، الذي لابد من الاستمرار إلي ما لانهاية في المجيء والغوص بداخله من أجل التطهر وتأكيد الطاعة ومخاطبة الخلاص.. المجاز الذي يُرسخ (رمزية العالم) التي أصبح الطفل عنصراً مروضاً من هيمنتها.. يري الطفل بعد اختفاء الشمس رجلاً يمر علي الشاطيء ويحمل مصباحاً في يده: "أحسست بالاطمئنان لضوء المصباح واهتزازه وانعكاسه علي سطح النهر. كلما ابتعد الضوء عنا كان قلبي ينقبض، ويزداد انقباضاً مع عتمة وسكون الماء".
إذا كان النهر هو المجاز الكلي الذي لا قاع له ـ فبالتالي لن يكون ضوء المصباح سوي المطلق الذي يبتغي السابحون في النهر الوصول إليه.. الغيب الواعد الذي خلقه المجاز، والذي يمنح الاطمئنان باقترابه، والانقباض بابتعاده.. من يحمل المصباح / الوهم إذن؟.. لاشيء سوي الغموض الذي لا يمكن للسابحين في النهر انتهاك عتمته بينما يغرقون تباعاً مثلما اختفي الأب تاركاً الطفل وهو يصرخ عليه داخل الماء.
إن الأم التي اختفت في قصة "النهار والليل" هي الفتاة التي أحبها الراوي المتقمص لشخصية (القطار) في قصة (توووووت) والتي وصلت متأخرة دقيقة واحدة إلي المحطة التي اتفقا عليها بعد أن غادرها، حيث يتمني الراوي / القطار أن تكون الفتاة مازالت جالسة في مكانها المعتاد تحت شجرة سرو تنتظر مروره في زمن آخر.. نلاحظ في هذه القصة أنه من ضمن الأشياء التي طارت بسبب السرعة الفائقة واندفاع الهواء عبر النوافذ الدفتر الذي كان يُسجل فيه أحلامه.. هنا ينبغي استعادة ما كتبته سابقاً عن حقيقة الدفتر بأنه فضاء مراوغ، وليس مجرد سجل محدد ببداية ونهاية، كما أنه مفتوح طوال الوقت علي اللعب الكاشف عن جموحه الخاص.
يتم استرجاع الأم أيضاً في قصة "كوخ ست الحسن" حيث الفتاة التي تعطيه الماء لري النبتة حتي يصيبها التعب ويشيب شعره.
"تطلعت من كوة الكوخ.. إلي الخارج.. فرأيت نفسي شاباً قادماً من بعيد".
هذه الاستعادة تقترن بأدائين متلازمين.. الأول هو جعل الزمن يتخذ نسقه المضاد بحيث يعود من (الشيب) إلي (الشباب)، والثاني هو جعل الشيب عتبة للشباب كتواصل غير منقطع في مقابل النبتة التي لم تزهر.. كأننا نتوقع أن الفتاة (الأم في شبابها مثلاً)، والتي تقدمت في العمر ـ منطقياً ـ مثل الشاب ستري نفسها ـ من مكان رقادها المتعب علي السرير ـ وهي تملأ الإبريق ـ كفتاة صغيرة ـ للشاب الذي عاد للظهور.. إنني أتصور أن الزهرة التي لم تنبت هي اللقاء الذي لم ينجح في الحدوث بين الابن وأمه.. اللقاء المحرّم الذي يستمر الزمن في الدوران دون تحقيقه.
لعل أكثر حالات الاسترجاع الأمومي سطوعاً هي تلك التي جاءت في قصة "قصر الأموات".. الراوي كعضو في فوج سياحي يشاهد داخل البهو الرئيسي لوحة زيتية عملاقة لصورة برنسيسة شاحبة وحزينة، كانت تضع يدها علي خدها.. ينتبه إلي فقده الزر الأوسط من الجاكت الذي أهدته له أمه في عيد ميلاده فيعود للبحث عنه في ردهات القصر:
"رأيت البرنسيسة الشاحبة تغادر لوحتها الزيتية وتسير أمامي. وبألفة وبساطة مدت يدها الناعمة والتقطت لي الزر من جوار مزهرية عليها نقوش صينية. ثم التفتت نحوي وابتسمت. وقفت مذهولاً وهي تقترب مني. خلعت الجاكت عني وبدأت في رتق الزر وهي واقفة أمامي. كانت تحرك أصابعها الرقيقة كخياطة متمرسة، قبل أن تجذب الخيط بجانب فمها وتقطعه. بالألفة ذاتها التي نلتقط بها صورنا التذكارية في القصور العتيقة، ساعدتني البرنسيسة الحزينة في ارتداء الجاكت وناولتني برتقالة. ثم ابتسمت لي للمرة الأخيرة قبل أن تعود إلي اللوحة التي كانت تحمل توقيع الرسام الإيطالي فرانشيسكو هايز. ولا أدري لماذا ظللت أردد اسم فرانشيسكو هايز في سري".
هذا التناسخ الذي جعل الأم تتجسّد في شخصية البرنسيسة المرسومة في اللوحة جعل الراوي بالضرورة يتجسّد في شخصية الرسام الذي ظل يردد اسمه.. حينما كان الراوي يتساءل قبل لحظة فقده لزر الجاكت عن من سيفكر في سبب حزن البرنسيسة أو حتي في مصير الرسام الذي أفني الليالي في رسم ملامحها قبل أكثر من تسعين عاماً؛ هذا التساؤل كان يتعلق بأم الراوي أكثر مما كان يتعلق بالبرنسيسة، وهو ما دفعه لخلق هذا التوحد بينهما، ويحوّل البرنسيسة إلي أمه التي ترتق له زر الجاكت الذي أهدته له في عيد ميلاده.. إنه بهذه الكيفية يصبح هو الرسام الذي يعرف سبب حزن الأم، وهو بالتالي الذي تولي توثيق هذا الحزن بواسطة الرسم.. الحزن الذي لن يعرف أحد شيئاً عن حقيقته.. اللوحة هي تعويض فني إذن بواسطة الخطوط والألوان عن الاتصال الذي لم يتوفر بين جسديهما.. بين البرنسيسة والرسام، وبين الراوي وأمه.. الأم التي سيعتذر لها الأب في صورة الممثل الكهل بقصة "حفلة عربية" بعد أن تحوّلت إلي فتاة داخل مشهد من فيلم لـ (شكسبير)، وهي القصة التي سبقت في ترتيب قصص المجموعة قصة (ابتسامة بوذا) التي يضرب فيها الأب أم الراوي في غرفة مغلقة حيث يقرر الابن قتل أبيه، ثم يطلب من (بوذا) أن يُبقي علي أبيه في هيئة (الجولوم سميجل) / بطل فيلم (سيد الخواتم) إلي الأبد، وأن يساعد أمه (سنو وايت) في العثور علي السعادة مع الأقزام السبعة.
في قصة "قطعان الليل الهائمة" تمثل المرأة البنية الصورة الأنثوية من الأب مدموجاً بالمطلق أو بالغموض الغيبي.. تسوق المرأة البنية قطعان الليل الهائمة وكأنهم هؤلاء الذين كانوا يسبحون في النهر في قصة (رحلة النهار والليل) أي أولئك الغارقين في المجاز.
"كنت خائفاً وضعيفاً حين اشتهيت تناسق ساقيها وهي تدنو مني.. كأنها تقرأني. تقرأ كل رغبة آثمة في أعماقي".
هذا الشعور بالذنب الذي يقف وراء توصيف الرغبات بالإثم هل هو راجع إلي التبديل الذي قام به الراوي بجعل أبيه (صاحب القوة والمعرفة) امرأة يلتصق بها في ممارسة جسدية تُسفر عن عشرات النسخ البنية المتكاثرة حوله؟.. تسأله المرأة البنية: "ألن تقود قطيعك؟".. كأن هذا التساؤل هو انعكاس لرغبته التي تحققت بشكل أو بآخر في التماهي مع المطلق، وهو ما يتخطي امتلاك سلطة الأبوة وإخضاعها.. هل كانت هذه الممارسة ترويضاً في اللاوعي للنسخة الموحدة التي يتطابق في داخلها الأب والمطلق عن طريق الاتصال الحسي؟.. ما هي العلامة التي يمكنها إثبات أن المرأة البنية تمثل نسخة أنثوية من الأب؟.. إنها الأفعي الرمز الفرويدي للقضيب، والتي انتبه الراوي إلي وجودها في هيئة وشم بين ثديي المرأة البنية.. هل أعاد الطفل أمه من الخفاء ككائن يمزج بين المجاز الأبوي والمطلق في فضاء غير مهدد يتيح له مضاجعتها الأمر الذي يعطي مبرراً إضافياً للشعور بالإثم؟
"قبل أن أجيب، أعطتني ظهرها وانقلبت إلي عنكبوت عملاقة راحت تتسلق جدار محطة الباص".
الموت هو العقاب الذي رآه الراوي منطقياً في حلمه أمام إدراكه للذنب.. القتل الذي تُنهي به أنثي العنكبوت (المتنكرة في صورة المرأة البنية) حياة الذكر بعد مجامعتها.. غريزة الموت التي تدفع الطفل للحاق بأمه وأبيه إلي المحو.
أخبار الأدب
2 / 4 / 2016
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)