الأحد، 27 ديسمبر 2020

ممدوح رزق: (سيرة الاختباء) سيرة فلسفية، وسعيد بالتعاون مع المخرج نواف الجناحي

محمد فوزي دياب

يعيش الكاتب والناقد ممدوح رزق حالة من التوهج الإبداعي اللافت حيث انتهى منذ فترة قصيرة من ورشته القصصية الثالثة، كما نشر مؤخراً أجزاءاً من مشاريع أدبية ونقدية وفلسفية يعمل عليها حالياً مثل (نصفي حجر)، (دكتور باركمان ومستر ويبستر)، (نبوءات لامرئية)، (مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور)، (البصق في البئر)، (النقد الإيروسي)، و(أحلام اللعنة العائلية). تتوزع هذه المشاريع بين المتوالية القصصية والرواية والنوفيلا، ومنها ما يوثّق اكتشافاً أدبياً، وآخر يصك مصطلحاً نقدياً جديداً. في نفس الوقت عُرض بمهرجان شيكاغو السينمائي الدولي وللمرة الأولى فيلم (مكان في الزمن) للمخرج الإماراتي نواف الجناحي عن قصة قصيرة لممدوح رزق، والذي يشارك أيضًا نخبة من الكتّاب والنقاد العرب في تحكيم جائزة أدب الخيال العلمي التي أطلقها بيت الفنون بواشنطن. في هذا الحوار يتحدث ممدوح رزق عن هذه الانشغالات المتعددة، وعن تأثير (كورونا) على مشاريعه، وكذلك توقعاته لما بعد صدورها.

ـ هل كان لـ (عزلة الجائحة) تأثير على عملك؟

بالتأكيد .. حتى شهر مارس من هذا العام كانت لدي خطة عمل مختلفة تمامًا ثم خلال مدة قليلة تغيرت كليًا .. بعد مرور ثمانية أشهر يمكنني القول إنه كان تغييرًا للأفضل، لكنني دون شك لم أكن أريده أن يحدث كنتيجة للوباء.

ـ هل لديك تصوّر معيّن حول ما سيحققه نشر (دكتور باركمان ومستر ويبستر)؟

يُفترض منطقيًا أن يحقق ما يليق باكتشاف يخص أحد أهم الألغاز الروائية في تاريخ الأدب العالمي، وهو الأصل الواقعي لرواية "دكتور جيكل ومستر هايد" .. اكتشاف يعتمد على التماثل الشامل مثلما ذكرت في الدراسة، أي أنه يتفوق على جميع الافتراضات والتخمينات الجزئية التي حاولت أن تُنسب للرواية عبر الزمن .. لكن بما أن الكتاب سيُنشر ـ حتى الآن ـ في "بلد عربي" فدعني أحتفظ بهذا التصوّر مؤقتًا لنفسي.

ـ وبالنسبة لـ (النقد الإيروسي) هل تتوقع أن يتم استخدام المصطلح في الدراسات النقدية بعد صدور الكتاب؟

في الحقيقة أنا غير مشغول بهذا .. ما يعنيني هو التطبيقات التي أمارسها بنفسي لهذا المنهج الجديد، الذي لا يخضع بالطبع للقواعد الصارمة في المناهج التقليدية .. نفس الأمر ينطبق كليًا حول أطروحتي عن شوبنهاور.

ـ ماذا عن تصنيف (سيرة الاختباء) التي تنشر حلقاتها منذ عام تقريباً؟ هل هي سيرة حياتية، أم أدبية، أم مزيج بين النوعين؟

بالنسبة لي هي سيرة فلسفية .. أولًا لأنها تستهدف الذاكرة الشخصية، التاريخ الثقافي، الحياة الأدبية المعاصرة .. ثانيًا لأنها تقوم على التشريحات التقويضية التي تستعمل موضوعات الفن والفكر المختلفة: التصوير، التحليل النفسي، السينما على سبيل المثال.

ـ يُلاحظ أن أعمالك السردية (قيد الكتابة) يجمعها تناول الماضي العائلي بطرق مختلفة، كيف ترى ذلك؟

هذا صحيح بدرجة كبيرة، ولكن بما أنها لا تزال مشاريع في مرحلة العمل سأجيب باختصار: رواية "نبوءات لا مرئية" تتعلق بالكيفية التي يمكن أن تجعل حدثًا في الذاكرة نبوءة غير مدركة لأحداث لاحقة ومتباعدة زمنيًا، أما قصص "أحلام اللعنة العائلية" فهي دمج سحري بين الذكريات وأحلامي بها ـ بالمعنى الأشمل للحلم ـ وبالمدينة بوصفها متاهة سرية للأشباح، وذلك كمطاردة تشريحية للجذور الغامضة التي أنتجت تاريخًا ملعونًا، أما رواية "نصفي حجر" فهي إعادة خلق أسطورية لحياة أخي الأكبر تبدأ من لحظة موته بين أصدقائه، واعتمادًا على اقتفاء أثر خطواته الجامحة في مرحلتي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

ـ حدثنا عن (مكان في الزمن)، التحضير للفيلم، والتعاون مع المخرج نواف الجناحي، وعرضه في مهرجان شيكاغو؟

يكفي القول أن إعداد الفيلم استغرق سنوات طويلة، وأنني سعيد بالتعاون مع المبدع نواف الجناحي، وصدقني فأنا لم أشاهد الفيلم حتى الآن، حيث أنتظر مشاهدته برفقة نواف الجناجي حين يُعرض بمصر، ولكن ما شاهدته في الإعلان الدعائي يجعلني ممتنًا لنواف حقًا.

ـ ماذا تمثل لك تجربة تحكيم جائزة الخيال العلمي التي أطلقها بيت الفنون بواشنطن؟

ككل التجارب السابقة التي شاركت فيها تحكيم الجوائز؛ أجدها فرصة جيدة للتعرّف على بصمات كتابة مختلفة بصرف النظر عن ضرورة تقييمها، خصوصًا في مجال مثل الخيال العلمي.

دورية (المساكن) الأدبية

نوفمبر 2020

 

السبت، 26 ديسمبر 2020

اختيار "اللعب بالفقاعات" للتدريس بجامعة ييل الأمريكية

اختارت الأكاديمية الفلسطينية نداء كيالي قصتي القصيرة "اللعب بالفقاعات" من مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" ضمن المجموعة القصصية التي تُدرّس لدارسي اللغة العربية، غير الناطقين بها، كنموذج للقصة العربية المعاصرة بجامعة ييل الأمريكية.
 

الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020

شرفات الذاكرة

أثناء المطر الليلي

شرفات بعيدة تُضاء

ليس بفعل أحد

النور الأصفر القديم

ينبعث من تلقاء نفسه

لعيني العجوز فقط

الذي يقف في الجهة الأخرى

داخل شرفته التي لا تُضاء على الإطلاق.

نور أصفر قديم

يعذّب عيني العجوز

الذي يتذكر الآن

أنه لم يستمتع بشيء خارج طفولته

لم يستمتع بشيء أبدًا

ولو مجرد الجلوس داخل شرفة

يضيئها ذلك النور الأصفر القديم.

الشرفات البعيدة

لم ترغب في هذا الليل

سوى أن تخبر العجوز

أنها مثل عينيه

تحدّق هناك بحكم العادة

لكنها لا تستطيع رؤية المطر.

اللوحة: Maurice Pirenne (Belgian, 1872-1968), Evening, 1929

الجمعة، 18 ديسمبر 2020

قبل أن يدخل ماركيز حمام "زهرة البستان"

يبدو على ميادة الحزن كما هو حالها أغلب الوقت خصوصًا في الأيام الأخيرة .. أسألها: مالِك؟

تنظر لي ولا ترد ثم تبدأ في المشي ببطء إلى داخل المقهى وأنا أتحرك مع خطواتها ببطء أقل متمنيًا ألا ينتهي اليوم نهاية سيئة .. نجلس فوق طاولة بعيدة إلى حد ما عن بقية الموجودين .. تقول لي بنبرة اتهامية منهكة:

ـ أنت لا تسأل إلا لتطمئن على نفسك.

ـ ألم يحن الوقت كي تتخلصي من هذه الاعتقادات؟

ترتفع نبرتها فجأة وتقول بغضب: أنت لا تساعدني على هذا.

ألتفت حولي مستكشفًا إذا ما كان صوتها قد جذب انتباه أحد من الجالسين.

أسألها مبتسمًا ومدعيًا الهدوء: ممكن نحافظ على نقاشاتنا داخل حدودنا فقط؟

ـ صوتي لم يكن عاليًا .. أنت الذي توهم نفسك دائمًا أن الناس يعيشون في تأهب مستمر لالتقاط أي خجل أو ارتباك أو توهان يبدو عليك حتى يشبعون رغبتهم في السخرية منك.

أنظر إلى رجل يبدو في بداية الخمسينيات يجلس على طاولة مجاورة لباب المقهى برفقة شاب وفتاة في منتصف العشرينيات تقريبًا بعد أن سمعته يخاطبهما بصوت جهوري:

ـ لابد على كل كاتب أن يبذل أقصى ما لديه من جهد من أجلي كقارئ.

أشخر شخرة واطئة محافظًا على ابتسامتي وأنا أعيد وجهي ناحية ميادة بملامح تكتم ألمًا مفاجئًا وأقول لها:

ـ هذا الرجل يبدأ الآن في ضرب خصيتي.

تقول ميادة بضيق ونفاذ صبر: حاول ألا تركز معه.

ـ كيف؟.. ألا تسمعين قوة صوته؟.

أسمع الرجل يصيح مجددًا:

ـ لابد أن يكرّس كل اهتمامه وحرصه على أن يجذبني لمواصلة قراءة روايته، وألا أتركها دون إكمالها.

أغمض عينيّ كأنما أجاهد لتحويل ما أسمعه إلى كابوس طارئ سأفيق منه حين أفتحهما .. أحاول الانشغال عن الرجل وأسأل ميادة بعد تبدد ابتسامتي:

ـ أخبريني، ما الذي يغضبك؟ ...

ـ كالعادة .. قلة نوم .. كوابيس .. قرف في الشغل .. صحاب ولاد وسخة.

ـ ألم نتفق على عدم الضغط أعصابك من أجل أحد؟

ـ  هل تهتم أصلا إذا كنت متضايقة أو أضغط على أعصابي أم لا؟ .. أقول لك لماذا تهتم .. لأنني حينما أكون في تلك الحالة لا أستطيع أن أكون معك .. صحيح؟!

أفكر متساءلًا: متى ستقطع علاقاتها بجميع أصدقائها حتى أضمن أنها لن تتحدث معهم عني.

أدير وجهي عنها مبتسمًا وأنا أهز رأسي بإشارة عدم التصديق أن جنونها قد وصل بها إلى هذا الظن الظالم .. أسمع الرجل ذا الصوت العالي يقول للشاب والفتاة:

يأتي كاتب عائش في الدور يتفذلك على دين أبونا، ويقول أنه يكتب لنفسه أولًا، وللقارئ الذي يمكن أن يشاركه تجربة النص بأي طريقة .. مثل هذا يكون كاتبًا فاشلًا، ويداري عجزه بالتنظير العدمي الغرائبي التفكيكي مابعد الحداثي عن القارئ النوعي الذي يتفهم أفق الإبداع ودلالات النص.

أقول لميادة وأنا أضم قبضتيّ فوق أذنيّ جازًا على أسناني: أنا فعلًا محتاج أعمل تنظير لطيظ العرص ده.

ـ أرجوك، أتركه في حاله.

ـ كيف؟ .. الخراء الذي يتبرزه من فمه يصل لغاية عندي.

ـ أنا من ساعة ماعرفتك وأنا أتأكد كل يوم أنك لا تهتم بشيء يخصني إلا إذا كان له علاقة بمتعتك.

يزعق الرجل في الطاولة الأخرى مجددًا للشاب والفتاة:

هل ماركيز كان ممكن يقول هذا؟ .. هل كان ماركيز يكتب لنفسه أو لقارئ نوعي أو أي من هذا الهراء؟ .. ماركيز كتب للجميع وأرضى الجميع وأحبه الجميع.

أقول لميادة مشيرًا إلى الرجل والشابين:

ـ أنا متأكد أن هذا الشرموط اصطاد هذين الشابين من على موقع جودريدز، وجمع بينهم حب مصطفى محمود وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، وكراهية بو وكافكا وبورخيس .. أنتِ لا تعرفين كم أنا مهتم بكِ، والمتعة التي تتكلمين عنها هي أمر يخص وجودنا معًا، حفاظ كل منا على الآخر، وليس مجرد شيء محكوم بالأنانية كما تتصورين.

تشعل ميادة سيجارة بعصبية ثم تقول بصوت مرتفع أكثر من ذي قبل كأنها تهتف في مظاهرة:

حسنًا .. أنت الملاك وأنا الشيطانة المعقدة .. أنا التي تفسّر الاختلاف بين وجودك معي في السرير، ووجودك معي خارجه تفسيرات خاطئة وسيئة .. أنا المريضة الوحيدة على هذه الطاولة، لا وفي المقهى أيضًا، وفي العالم كله .. ارتحت كده؟.

يلتفت جميع الجالسين في المقهى إلينا في صمت بما فيهم الرجل والشابين .. أشعر أن الموجودين في الممر الخارجي سيدخلون لمشاهدتنا الآن واستكمال بقية العرض .. لا أنظر في عيني أحد بل أظل ملصقًا نظرتي بوجه ميادة وأنا أقول لها بنفس الابتسامة المدعية التي تخبئ توترًا عظيمًا، وبحرص على رفع صوتي كي يسمعه الذين وصل إليهم هتافها:

لكني سمعت إن الكاتب الكبير أحمد مراد ينوي إقامة حفل توقيع في سوق الجمعة ...

أسمع الرجل يعود لمخاطبة الشاب والفتاة قائلا لهما:

ـ ماركيز كان يعرف أن القارئ دائمًا على صواب، وأن الكاتب الحق هو القادر على توصيل إبداعه لكل متلقٍ مهما كانت مستوياته الثقافية.

أقول لميادة التي وضعت رأسها بين راحتي يديها، وعيناها اللتان على وشك البكاء مجمدتان فوق سطح الطاولة:

هذا الراجل يجب الإشارة له في الأبحاث العلمية باعتباره مكوّنًا من فساء الكلاب.

فجأة ينهض الرجل مغادرًا طاولته ليتقدم نحوي وعلى وجهه مزيج من الاستياء والتعجب بينما الشاب والفتاة يتابعانه من مكانهما .. يوجّه حديثه لي بعد أن أصبح على بُعد خطوة واحدة من الكرسي الذي أجلس عليه:

هذا رأيي وأنا حر، ومن حقي ودوري في الحياة أن أساعد الشباب الصغير على معرفة الحقائق التي ستنفعهم في المستقبل.

أنهض من فوق الكرسي وأقف في مواجهته وأقول له: أي حقائق تلك التي ستنفعهم! .. إنك لو أخذت هذين الشابين إلى بيتك، واغتصبتهما ثم قتلتهما، وقطّعت جثتيهما، ورميت أشلائهما للحيوانات الضالة لكان أرحم لهما من الترهات البضينة التي قلتها عن ماركيز.

ـ ماذا تعرف عني كي تقول هذا؟ .. عليك أن تعلم أنني لست مجرد قارئ عادي بل قارئ موسوعي، كما أنني كاتب قصة وباحث في التاريخ وأكتب في النقد الأدبي لذا ما أقوله عن ماركيز ينبغي بالضرورة أن يكون صحيحًا.

ـ تعتقد أن ما قلته عن ماركيز صحيحًا؟! .. حسنًا؛ لماذا لا نسأل ماركيز نفسه عن الحماقات العميقة التي نسبتها إليه .. ها هو السيد ماركيز ...

ثم أشير إلى يساري فيلتفت الرجل الواقف أمامي ليجد غابرييل غارسيا ماركيز على وشك دخول حمام المقهى حين ناديته فتوقف .. أقترب أنا والرجل منه ثم أشير لميادة أن تأتي وتنضم إلينا فتترك الطاولة والدموع تتدفق من عينيها المملؤتين بخيبة الأمل وأطلب منها أن تترجم لماركيز ما قاله الرجل إلى الإسبانية التي تجيدها وتسأله عن رأيه .. ينصت ماركيز إلى ميادة باهتمام في حين أظل أنا و"فساء الكلاب" نتابعها حتى انتهت، وهنا بدأ ماركيز يتحدث وهو ينظر إلى الرجل بسخرية، وميادة تترجم كلامه:

هذا رأي عبيط بالطبع، فهناك كثيرين في العالم لم يحبوا "مائة عام من العزلة"، وهذا لا يعني أنني أخطأت في شيء تجاه هؤلاء، أو أنني لم أبذل جهدًا كافيًا لجعلهم يحبونها، ولو كان الأمر كذلك لكان كل الذين أصابهم النفور من "ذاكرة غانياتي الحزينات" لأسباب أخلاقية ـ وما أكثرهم ـ لديهم الحق في إدانتي لأنني لم أرض ذلك النوع من الاحتياج لديهم، أو لأنني مارست اعتداءً على ثوابتهم؛ فأنا لم أكتب لهؤلاء الذين يحاكمون العمل الأدبي بهذا الشكل .. مهما كان الكاتب مشهورًا وذا جماهيرية أو متصفًا بالعظمة عند جموع قرائية في جميع أنحاء العالم فإنه يكتب ذاته وليس خليطًا من الوصفات المشبعة للقراء كافة أو لمعظمهم كما يتخيل .. وحتى القارئ الذي يتصوّر ذلك الكاتب أنه يخاطبه أثناء الكتابة؛ هو جزء منه، يحمل سماته وهواجسه وغموضه وفقًا لإطار يحدس بإمكانية قابليته لمشاركة الآخرين الذين قد يشبهونه، أو قد يُخلق لديهم دافع ما ربما لا يكون متوقعًا للتورط معه .. الكاتب الذي يكرّس جهده لإرضاء القراء أفضل له أن يعمل قوّادًا .. أستأذنكم الآن لأنني على وشك فقدان السيطرة على مثانتي.

تنتهي ميادة من الترجمة وهي لا تزال تجفف دموعها ثم تشير لماركيز بعد عبارته الأخيرة أن يتفضل بدخول الحمام الذي يسرع إليه وهو يفتح سوستة بنطلونه بينما أحدّق مبتسمًا بشماتة إلى وجه الرجل المتجهم الذي يبدأ في التحرك بصمت ثقيل عائدًا إلى طاولته التي اختفى الشاب والفتاة منها.

من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة.

موقع "الكتابة" ـ 17 ديسمبر 2020

الأحد، 13 ديسمبر 2020

أصل العمى

أشياء بسيطة يمكنك أن تفعلها بداية المساء

وأنت وحدك في البيت:

تأكل برتقالة

تشرب شايًا

تقرأ "المحاكمة" لكافكا ...

الأشياء التي ستجعلك مسكينًا

حينما يعودون إلى البيت آخر المساء

ويجدون قشر البرتقالة

وكوب الشاي الفارغ

و"المحاكمة"

بجوار جثتك.

سيقولون في الساعات اللاحقة:

كم كان طيبًا

لأنه أكل برتقالة

وشرب شايًا

وقرأ كتابًا

ولم يكن يعرف ...

أشياء بسيطة يمكن أن تفعلها كل مساء

كل نهار

لسنوات كثيرة

أمام الجميع

ولا يراك أحد.

الصورة لـ joel peter witkin

 

الأربعاء، 9 ديسمبر 2020

ما قبل انسداد الأمعاء

اليوم ذهبت إلى الطبيب وحدي .. سألتني الممرضة وأنا أدفع ثمن الكشف إن كانت تمطر في الخارج .. أجبتها بارتباك مقتضب: "نعم" .. كأني لم أعتبره مطرًا حقًا إلا حينما سألتني .. كانت قد لاحظت بعينيها الناعستين أثر قطرات الماء على شعري وملابسي، وكان لصوتها نبرة ريفية ضجرة، وتبدو في بداية العشرينيات، وحينما انتهيت من تخيلها تؤدي "بلوجوب" بشفتيها الصغيرتين المطليتين بالأحمر الثقيل الداكن للطبيب العجوز الذي حضر إلى العيادة بعد مجيئي بلحظات؛ تصوّرت أنني نجحت مؤقتًا في ترويض عدم وجودِك على الكرسي الفارغ بجواري .. كان موعدًا تخلّفتِ عنه رغمًا عنكِ .. سنوات طويلة قضيناها في لعبة التبادل منذ كنت في الثامنة عشر تقريبًا، وأنتِ تقتربين من الستين .. كان كل منا منذورًا لاصطحاب الآخر إلى عيادات الأطباء، وأقسام الاستقبال الليلية في المستشفيات حين تداهمه نفس الأعراض فجأة .. كان مرضنا واحدًا، ولكنه انتهى منكِ منذ عشرين سنة، بينما لا يزال مقيمًا داخلي، ويستعيد ذكرياته معكِ .. خلال هذه الأعوام العشرين كبرت أنا أضعافها، ولكنه ليس العُمر الذي يحوّل طفلًا إلى كهل بل ذلك الذي يجعل الطفل يشعر بما تعنيه كهولته.

أول أمس تفاقمت عندي ظواهر المرض .. التطورات المباغتة ذاتها التي انتقلت بكِ من البيت إلى المستشفى ثم إلى القبر في خمسة أيام فقط .. حاولت التعايش معها بأمل أن تخفت حدتها ثم تختفي بتأثير الأدوية التي اعتدت تناولها على فترات متباعدة، لكنها لم تُظهر أدنى استعداد للتراجع .. أعتقد أنني وأنتِ نستطيع قبول فكرة أن المرض ليس ذاتًا تتكوّن بتراكم البصمات الطائشة للجسد، وإنما هو حلم بلا رأس .. خيال يستمر في تجسيد نفسه دون وعي كوجوه وأبدان متباينة، وحين يكتمل يكون الموت.

خرجت من الصيدلية وفي يدي كيس الأدوية التي طلب مني الطبيب المواظبة عليها لمدة شهر كامل .. فكرت في أنها أدوية كثيرة لدرجة أنها احتاجت إلى كيس، وأن هذه أطول مدة يطلب مني طبيب تناول العلاج خلالها .. دخلت من الباب الأمامي لمحطة القطارات ـ حيث أختصر الطريق إلى بيتي عندما أخرج من بابها الخلفي ـ وأنا أفكر في أنه أصبح لدي "كيس أدوية" مثلكِ، وأنني سأداوم على أخذها لفترة كبيرة كما كنتِ تفعلين .. فكرت في هذا بصيغة المخاطب .. كنت أخبرك صامتًا بالأمر بما أنكِ لا تسيرين بجانبي في تلك اللحظات، ولكنك بالتأكيد ستسمعينني حين أقوله لكِ في داخلي.

يبدو أن الأشياء تتكرر على نحو يحتّم أن تكون النسخ اللاحقة أكثر هزلًا من التي تسبقها .. كأن الزمن ليس إلا رسّام كوميكس هرِم، يواصل فقد رصانته كلما استعاد ماضيه، وذلك تحديدًا هو الشرط المضمون لبراعته .. لكنني ـ مثل أي كائن آخر ـ لست نسختي .. أنا عبد لها .. نسختي تخضعني بعفوية حصينة كي أحققها في كل لحظة، وبواسطة أبسط الأشياء، وأقلها إثارة للاهتمام: خدش صغير في سطح طاولة الطعام .. سعال خاطف لأحد العابرين أسفل الشرفة .. ظل متكسّر للافتة دكان فوق حافة رصيف .. كل شيء، مهما كانت ضآلته هو في حقيقته إلهام مُحكم تُقود به النسخة أداءاتي حتى أستمر في تنفيذها .. حتى انتهي من قتل نفسي والآخرين فتمرر حينئذ خلودها في جسد مغاير بكوابيس مختلفة تتسق مع أصلها .. لا أتعرّف على استقلالي عن نسختي إلا حينما أفكر بهذا الشكل .. لا أتذكر انفصالي عنها إلا حينما أكتبه .. وبما أنني أفعل هذا طوال الوقت فإنني أدرك نفسي دائمًا كمجرد فراغ مُستعمل .. عدم يُستخدم بصورة مؤقتة.

أثناء عبور الممر السفلي للمحطة رأيت طفلًا مع أمه .. عمره لا يتجاوز السادسة، وكان يمشي بصعوبة .. لم أكن متأكدًا بالطبع أنها أمه، ولكنني اعتبرتها كذلك بديهيًا .. بدأت تسبقه في صعود سلّم جانبي يقود إلى أحد أرصفة المحطة، وكان بقدميه المريضتين يحاول اللحاق بها .. لم تكن تحمله رغم جسده الهش، ولم تكن تُمسك بكفّه على الأقل وهما في طريقهما إلى القطار .. كانت تقطع الدرجات سريعًا، وهو بخطواته الثقيلة المترنحة يصعد ورائها، ويده الصغيرة تقبض على الحاجز المعدني المائل للسلّم .. كان الحاجز بديلًا ليدها .. وقفت في منتصف الممر مراقبًا اختفاء المرأة بعد وصولها الرصيف بينما الطفل الذي اختفت المرأة من عينيه أيضًا لا يزال يواصل الطلوع بمشقة لاهثة .. كان يرتدي حذاءً منزليًا خفيفًا، مفتوحًا من جميع جوانبه .. كأن محطة القطارات بكل امتداداتها هي منزله، حيث يجب أن تبقى قدماه ـ رغم كل شيء ـ عاريتين داخلها .. رأيت في عينيه حزنًا متحيّرًا، غمًّا لا يفهمه، ليس بسبب ابتعاد أمه عنه لأعلى واختفائها، وإنما لأنه لا يستطيع اللحاق بها .. لأنه يصعد ببطء دون أن يعرف لماذا فُرض على حركته أن تكون عسيرة هكذا .. كانت ملامحه تقول أنه يجب عليه أن يدرك أمه لا أن تتمهّل خطواتها من أجله .. لذا كانت هذه الملامح منطفئة بالتخوّف من مستقبل هذه اللحظة .. كان اختفاء أمه يبدو كما لو أنها تهرب منه .. كما لو أنها ستستقل القطار بدونه .. لكنها حتى لو انتظرته؛ يكفي تلك المسافة التي اجتازتها قبله، وتركته خلفها يخوضها وحده ليتبدد الفرق بين هروبها وانتظارها له .. انتظرت حتى اكتمل صعود الطفل واختفاؤه فوق الرصيف ثم عاودت التحرّك نحو الباب الخلفي للمحطة .. خرجت إلى الشارع وأنا أبكي .. عبرت المساحات الصغيرة المتقاطعة من باب المحطة إلى بيتي سعيدًا لأنني أبكي .. لأن جسدي ينتفض مرتعشًا مع كتمان النحيب .. لأنني قادر على البكاء في الشارع بين الغرباء .. بين بشر لا يعرفون بعضهم، وقد جعلهم بكائي أقرب إلى أطياف لازمنية تحلّق بالحركة البطيئة فوق أرض تختصر الأماكن كلها .. كان بكائي كينونتهم المنفلتة التي تتطوّح بين عمائهم .. تاريخهم الأزلي الذي يغطي أشلائهم ويدور حولها ويخترقها ثم يعود ليستقر داخل انقباضات صدري في صورة طفل بقدمين مريضتين، يصعد سلمًا طويلًا وحده .. كنت سعيدًا لأنه ربما ثمة مجهول يراقب هذا البكاء من مكان سري يرتبط بالذاكرة .. بالمدينة .. بالعالم .. كيان غامض قد يقوم بمعجزة أبدية شاملة وفقًا لهذا البكاء، أو يعتبره ـ إن لم يفعل ـ أثرًا دامغًا لسخريتي من وجوده.

وصلت إلى البيت .. ليس إلى السنتيمترات المنيعة في ركن سرير الطفولة تحت الأغطية الثقيلة في الشتاء عند سقوط المطر .. المخبأ الكوني الذي طالما حاولت الانكماش بما يسمح لي أن أسكنه برفقة ذخيرتي الملائكية من القصص والألعاب والتخيلات حيث لا أحتاج شيئًا من الخارج .. الذي مازلت أحاول الولوج إليه مع طفلتي بينما "نتشبث" بحوافه الناعمة.

وضعت كيس الأدوية في درج الكومودينو المجاور لسريري .. طفلتي رأتني أفعل ذلك فسألتني عما قاله الطبيب .. أخبرتها بالأمر مبتسمًا وأنا أراها تقف وراء النافذة الزجاجية لغرفة العناية المركزة، وتتابع خطوط الشاشة المتصلة بقلبي .. رأيتها أيضًا وهي تراقب يدي الطبيب بينما تحاولان إعادة الحياة إلى صدري ثم وهي تهبط السلم من غرفة العناية المركزة إلى حجرة المُرافِق بالمستشفى لتضع في حقيبتها كتاب "الأعمال القصصية الكاملة لتشيكوف" الذي كانت تقرأ منه كل ليلة .. رأيتها تخرج إلى الشوارع التي لن تصدّق كيف تستمر كائناتها في الوجود كما كانت .. لكنه في مقابل استيعابها بمرور الوقت أن العالم لن يعطله أي موت؛ لن يكون بمقدورها أبدًا بعد تلك اللحظة قبول أن ذلك الذي يتساقط من السماء مطر حقًا.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 9 ديسمبر 2020
اللوحة: (Dead Mother (Tote Mutter

الأربعاء، 2 ديسمبر 2020

قشرة الطلاء الصغيرة ... (مسرحية قصيرة في فصل واحد)

المكان: حجرة نوم تقليدية (نافذة مغلقة .. باب مغلق .. سرير صغير .. دولاب .. مرآة .. طاولة .. كرسي مواجه للجدار، يجلس عليه رجل في منتصف الخمسينيات، يرتدي بيچاما).

الوقت مساءً

يُفتح الباب وتدخل شابة في العشرين من عمرها.

الشابة: أبي .. هل ستظل جالسًا هكذا أمام هذا الجدار؟

الرجل: ولم لا ...

ـ إنك لم تتحرك منذ ساعات طويلة...

ـ حسنًا ...

ـ هل لم يعد لديك ما تفعله سوى ...

(يقاطعها) ـ إذا لم يكن هناك شيء تريدينه فأرجو أن تغادري الحجرة، وتغلقي الباب .. أما إذا كان هناك ما يستدعي بقاءك فعليكِ إغلاق الباب أيضًا.

ـ ولماذا لا أتركه مفتوحًا؟

ـ لأنني أريده أن يكون مغلقًا مثل هذه النافذة.

(تغلق الباب) ـ حقًا .. إنك تجيد إهدار الوقت.

ـ أشكرك.

ـ أبي .. إنك لست عجوزًا لدرجة أن تضع كرسيًا أمام جدار وتجلس أمامه كل هذا الزمن.

ـ أي زمن تقصدين؟

ـ الأيام التي لم أعد أتذكر عددها منذ بدأت في القيام بهذا الأمر الغريب .. بعد أن تستيقظ في الصباح، وقبل أن تنام في الليل .. في أي لحظة من اليوم تفعل هذا: تجلس على هذا الكرسي وتتمعّن في الجدار.

ـ وماذا في ذلك؟

ـ ما تفعله يخيفني .. لا أعرف لماذا تقوم بهذا .. لا أعرف لماذا تخليت فجأة عن كل ما كنت تحبه في حياتك : لم تعد تكتب أو تقرأ أو تتحدث معي .. لم تعد حتى تفكر شاردًا في صمت وأنت بجواري في حجرة المعيشة .. أصبح كل ما يشغلك هو التمعّن في هذا الجدار السخيف بينما تجلس كتمثال على وشك التحطّم.

ـ أو كجثة مضحكة .. أليس كذلك؟

ـ لا .. أنا لا أقصد ذلك يا أبي .. إن لي الحق في أن أكون قلقة عليك.

ـ وأنا لي الحق في أن أفعل ما أريد.

ـ نعم .. ولكن ...

ـ ولكن يبدو أنكِ ما عدتِ تملكين شيئًا آخر تقومين به .. لم يعد لديك أصدقاء .. لم يعد لديك عمل منزلي .. لم يعد لديك ما تشاهدينه على شاشة ما .. أصبح كل همّك في الحياة هو جلوسي على هذا الكرسي.

ـ أبي .. أنا أحبك.

ـ وأنا كذلك.

ـ إنك لم تحتضنني أو تقبلني منذ وقت طويل جدًا.

ـ أحيانًا يحدث هذا.

ـ إن الأمر يبدو كما لو أنك نسيت أنني ابنتك .. أشعر بأنك لم تعد تتذكر شيئًا سوى الجلوس أمام هذا الجدار الذي لا يعني أكثر من كونه جدارًا .. مجرد جدار.

ـ أنا لا أنظر إلى الجدار.

ـ لا تنظر إلى الجدار؟!

ـ نعم.

ـ إذن ما ذلك الذي تتمعّن فيه يومًا بعد آخر؟

ـ قشرة الطلاء الصغيرة.

ـ ماذا؟

ـ أنظري .. ثمة قشرة طلاء صغيرة تتدلى من الجدار .. منذ أيام عدة رأيت هذه القشرة ترتعش .. ارتعشت للحظة واحدة ثم توقفت.

ـ وبعد ذلك؟

ـ لا شيء .. هذا كل ما حدث.

(تضحك) ـ ولذلك تجلس كل يوم ولساعات طويلة أمام هذا الجدار .. أبي؛ إنني لم أعد طفلة حتى أصدق دعاباتك الكاذبة.

ـ أنا لا أكذب .. أنا فقط أريد أن أرى قشرة الطلاء الصغيرة هذه وهي ترتعش مرة أخرى.

(تواصل الضحك) ـ قشرة الطلاء الصغيرة؟ .. ترتعش؟

ـ نعم .. إنه ما أريد رؤيته حقًا، مثلما يعتبر أي أحد في العالم شيئًا ما جديرًا بالنظر إليه.

ـ أبي .. هل تظن أنه بوسعك أن تقول مثل هذه الكلمات إلى شخص غريب دون أن تشعر بالخجل؟

ـ بل بوسعي أن أؤكد لكِ أنه لا يوجد سبب يجبرني على التحدث في الأمر مع الغرباء .. إنني حتى غير مقتنع بأنه كان من الواجب عليّ أن أذكره لكِ .. ربما فعلت ذلك أملًا في أن تتوقفي عن التساؤل.

ـ إنني أسألك لأنني لا أعرف ماذا أفعل ...

ـ وأنا أريد الانتظار حتى ترتعش قشرة الطلاء الصغيرة مرة أخرى ...

(في ما يشبه الصراخ) ـ وما أهمية ذلك يا أبي؟ .. ما فائدة أن ترى قشرة طلاء صغيرة تتدلى من الجدار وهي ترتعش؟ .. هل هو حدث يستحق انتظاره إلى هذه الدرجة؟

ـ دون شك.

ـ حسنًا .. لماذا تنتظر في حين أنه يمكنك ببساطة أن تقترب منها ثم تنفث زفيرًا قويًا وينتهي الأمر؟

ـ كلا .. أريد أن أراها ترتعش وحدها.

ـ إنه شيء مستحيل تقريبًا، خاصة أنك تصرّ على غلق النافذة الوحيدة في الحجرة .. حتى الباب لا تريد أن تتركه مفتوحًا .. هذا يعني أنك تمنع أي نسمة هوائية محتملة من الوصول إلى تلك القشرة.

ـ وهذا بالضبط ما أقصده .. لم يكن هناك هواء يكفي قشرة الطلاء لأن ترتعش في المرة الأولى .. ومع ذلك ارتعشت .. كأنها فعلت ذلك من تلقاء نفسها .. وهذا ما أريد أن أراها تفعله ثانية.

ـ أبي .. ألا تعتقد أن ما تقوله وتفعله غريبًا؟

ـ بل هو بالنسبة لي أكثر الأمور منطقية وصوابًا، أما الغريب حقًا فهو وقوفك هكذا، ومحاصرتي بمثل هذه الأسئلة.

ـ إنني أسألك لأنني لا أعرف ماذا أفعل ...

ـ وأنا أريد الانتظار حتى ترتعش قشرة الطلاء الصغيرة مرة أخرى ...

ـ إذن أخبرني عن السبب .. قل لي ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لك .. أي تأثير لرعشة قشرة طلاء صغيرة في نفسك؟

ـ لا أستطيع أن أخبرك.

ـ إذن أنت لا تعرف السبب .. أنت تجهل حقيقة ما تقوم به .. كيف يمكنك إدعاء المنطق والصواب تجاه أمر لا تدركه يا أبي؟

ـ ربما أدركه على نحو يجعلني عاجزًا عن تفسيره لكِ.

ـ حسنًا .. ماذا لو لم ترتعش قشرة الطلاء الصغيرة ثانية؟

ـ سأظل جالسًا على هذا الكرسي أمام الجدار حتى نهاية حياتي.

ـ وماذا لو لم تكن قد ارتعشت في المرة الأولى؟

ـ ماذا تقصدين؟

ـ أعني أنك ربما تكون قد تخيلتها كذلك .. ربما يكون ما رأيته كان نوعًا من خداع البصر، رجفة عابرة في عينيك قد لا تتكرر مرة أخرى.

ـ بل كان ما رأيته حقيقيًا تمامًا .. لا تبدأي هذه اللعبة معي .. إذا كانت أسئلتك قد هُزمت فأي حيلة أخرى ستحاولين استخدامها لن تواجه إلا المصير ذاته.

ـ حيلة؟ .. إنني لا أستخدم أية حيل .. أنا أريد الاطمئنان عليك فحسب.

ـ إن جلوسي هنا يجب أن يكون أقوى دافع لديكِ كي تشعري بالاطمئنان.

ـ هل تظن حقًا أن ذلك أمر عقلاني يا أبي؟

ـ بالتأكيد.

ـ حسنًا .. ماذا لو ارتعشت قشرة الطلاء الصغيرة في أية لحظة؟ .. ما الذي سيحدث بعد ذلك يا أبي؟ .. ماذا ستفعل؟

ـ لا أدري .. إنني لم أفكر في هذا .. لكن منذ ساعات قليلة، وبينما كنت أحدّق كالعادة في تلك القشرة؛ انتابني هاجس مفاجئ .. خاطر مقلق، لم يتوقف عن التصاعد في داخلي حتى هذه اللحظة.

ـ ما هو يا أبي؟

ـ ماذا لو أن هذه القشرة تراني مثلما أراها؟ .. ماذا لو أنها تعرف سبب جلوسي أمامها كل هذا الوقت؟ .. لماذا لا تكون رعشتها الأولى استدراجًا متعمّدًا لي حتى أبقى هكذا في انتظار شيء لا تنوي أن تكرره ثانية؟

ـ أبي .. إنك ...

ـ أهذي .. أليس كذلك؟ .. أنا لا يعنيني حقًا ما تتصوّرينه عني .. يمكنك الاعتقاد بأنني مجنون لو كان هذا الاستنتاج السهل سيوفر عليكِ مشقة التفكير فيما أقوله .. فقط تذكري أنني لم أطلب منكِ أن تفكري في أي شيء .. لم أطلب منكِ أن تسأليني عما أفعله .. لم أطلب منكِ الوقوف بجواري .. لم أطلب منكِ شيئًا على الإطلاق.

ـ بل أنا الذي أطلب منك يا أبي .. أنا الذي أطلب منك أن تتذكر ابتساماتك لي حينما كنت طفلة صغيرة .. ضحكاتك .. حكاياتك .. يدك التي كانت تساعدني على رسم الحياة وتلوينها .. أنا الذي أطلب منك أن تتذكرني يا أبي.

ـ أنا لم أفعل أي شيء من ذلك.

ـ ماذا؟

ـ نعم .. أنا لم أفعل أي شيء من ذلك .. أنا فقط حاولت أن أبتسم .. أن أضحك .. أن أحكي .. أن أرسم وألوّن .. حاولت أن أفعل أكثر مما يمكنك تصديقه .. لكنني لم أستطع.

ـ لكنك فعلت يا أبي .. لا يمكنك أن تمحو الماضي بهذه البساطة.

ـ بل لم يكن هناك شيء أصلًا ...

ـ كيف؟

ـ ما حاولنا أن نحميه من الضياع لم يكن له وجود من الأساس .. كنا في حقيقة الأمر نحاول انتزاع أنفسنا خارج الغياب الذي يسبق كل شيء .. كنا نتوهم أننا نمتلك وجودًا أصليًا في مكان خفي من العالم .. لم يكن الماضي سوى المحو نفسه.

ـ أبي .. لا تهدم كل شيء .. إنني لا أعرف ماذا أفعل ...

ـ ـ وأنا أريد الانتظار حتى ترتعش قشرة الطلاء الصغيرة مرة أخرى ...

ـ أبي .. هل تجدني مخطئة في شيء ما؟ .. هل تعتبرني ابنة غير صالحة؟ .. هل أستحق أن تبتعد عني مثلما هجرت أصدقاءك ومعارفك والناس كلها؟

ـ لم يكن لي أصدقاء ولا معارف .. لم يكن هناك ناس .. وأنتِ لست كمثل أحد.

ـ أنا ماذا إذن يا أبي؟ .. أخبرني؟ .. هل قشرة الطلاء الصغيرة أكثر أهمية مني بالنسبة لك؟

ـ أنتِ ابنتي.

ـ أنت لم تعد تعتبرني كذلك .. لو كنت حقًا مازلت ابنتك قل لي: هل ما أرتديه يُعجبك؟ .. هل تراه جميلًا؟ .. كنت دائمًا أحب ذوقك في اختيار ملابسي .. أخبرني إذن: هل تجدني أنيقة الآن؟ .. إن لم تجيني على هذا السؤال سأؤقن حقًا أنك أصبحت تمثالًا على وشك التحطّم .. لا .. بل جثة مضحكة مثلما وصفت نفسك.

ـ ربما من الأفضل أن تكوني الآن في مكان آخر.

ـ أي مكان يا أبي؟ .. هل لم يعد يعنيك إلى أين سأذهب؟ .. من سأقابل؟ .. ما الذي يمكن أن يحدث لي؟ .. حسنًا .. يسعدني أن أخبرك بأنه لم يعد لدي مكان أذهب إليه .. نعم .. أنا أيضًا لم يعد لدي أحد في الخارج .. لم يعد لدي سوى هذه الحجرة والنظر إليك وأنت تحدّق في قشرة الطلاء الصغيرة.

ـ أرجو ألا تكرهينني بسبب هذا.

ـ كلا يا أبي .. لن أكرهك .. أنا فقط سأفعل ما يجب عليّ فعله .. (تتحرك بعصبية نحو الجدار) سأطيح بهذه القشرة اللعينة من الجدار.

(يصرخ بسعادة قبل وصولها إلى القشرة) ـ أنظري .. إنها ترتعش .. هل رأيتيها؟ .. لقد ارتعشت قشرة الطلاء ثانية .. كنت أعرف أنها ستفعل ذلك .. أنظري .. إنها ترتعش مجددًا .. هل ترين؟ .. إنها تواصل الارتعاش...

(تتوقف ساهمة وهي تحدّق في القشرة) ـ أجل .. أراها .. أراها جيدًا يا أبي .. لكن .. لكن يبدو أنها موشكة على السقوط .. أليس كذلك؟

(بصوت خافت ومتحسّر) ـ نعم .. يبدو ذلك ...

(تصرخ باكية وهي تمسك بيده وتشير إلى القشرة) ـ كلا يا أبي .. أرجوك .. لا تدعها تسقط .. إفعل أي شيء .. لا تترك قشرة الطلاء الصغيرة تسقط يا أبي .. أرجوك ...

(ظلام)

إلى ايرينيوش ايريدينسكي