اليوم ذهبت إلى الطبيب وحدي .. سألتني الممرضة وأنا أدفع ثمن الكشف إن
كانت تمطر في الخارج .. أجبتها بارتباك مقتضب: "نعم" .. كأني لم أعتبره
مطرًا حقًا إلا حينما سألتني .. كانت قد لاحظت بعينيها الناعستين أثر قطرات الماء
على شعري وملابسي، وكان لصوتها نبرة ريفية ضجرة، وتبدو في بداية العشرينيات،
وحينما انتهيت من تخيلها تؤدي "بلوجوب" بشفتيها الصغيرتين المطليتين
بالأحمر الثقيل الداكن للطبيب العجوز الذي حضر إلى العيادة بعد مجيئي بلحظات؛ تصوّرت
أنني نجحت مؤقتًا في ترويض عدم وجودِك على الكرسي الفارغ بجواري .. كان موعدًا
تخلّفتِ عنه رغمًا عنكِ .. سنوات طويلة قضيناها في لعبة التبادل منذ كنت في
الثامنة عشر تقريبًا، وأنتِ تقتربين من الستين .. كان كل منا منذورًا لاصطحاب
الآخر إلى عيادات الأطباء، وأقسام الاستقبال الليلية في المستشفيات حين تداهمه نفس
الأعراض فجأة .. كان مرضنا واحدًا، ولكنه انتهى منكِ منذ عشرين سنة، بينما لا يزال
مقيمًا داخلي، ويستعيد ذكرياته معكِ .. خلال هذه الأعوام العشرين كبرت أنا أضعافها،
ولكنه ليس العُمر الذي يحوّل طفلًا إلى كهل بل ذلك الذي يجعل الطفل يشعر بما تعنيه
كهولته.
أول أمس تفاقمت عندي ظواهر المرض .. التطورات المباغتة ذاتها التي
انتقلت بكِ من البيت إلى المستشفى ثم إلى القبر في خمسة أيام فقط .. حاولت التعايش
معها بأمل أن تخفت حدتها ثم تختفي بتأثير الأدوية التي اعتدت تناولها على فترات
متباعدة، لكنها لم تُظهر أدنى استعداد للتراجع .. أعتقد أنني وأنتِ نستطيع قبول
فكرة أن المرض ليس ذاتًا تتكوّن بتراكم البصمات الطائشة للجسد، وإنما هو حلم بلا
رأس .. خيال يستمر في تجسيد نفسه دون وعي كوجوه وأبدان متباينة، وحين يكتمل يكون
الموت.
خرجت من الصيدلية وفي يدي كيس الأدوية التي طلب مني الطبيب المواظبة
عليها لمدة شهر كامل .. فكرت في أنها أدوية كثيرة لدرجة أنها احتاجت إلى كيس، وأن
هذه أطول مدة يطلب مني طبيب تناول العلاج خلالها .. دخلت من الباب الأمامي لمحطة
القطارات ـ حيث أختصر الطريق إلى بيتي عندما أخرج من بابها الخلفي ـ وأنا أفكر في
أنه أصبح لدي "كيس أدوية" مثلكِ، وأنني سأداوم على أخذها لفترة كبيرة
كما كنتِ تفعلين .. فكرت في هذا بصيغة المخاطب .. كنت أخبرك صامتًا بالأمر بما أنكِ
لا تسيرين بجانبي في تلك اللحظات، ولكنك بالتأكيد ستسمعينني حين أقوله لكِ في
داخلي.
يبدو أن الأشياء تتكرر على نحو يحتّم أن تكون النسخ اللاحقة أكثر
هزلًا من التي تسبقها .. كأن الزمن ليس إلا رسّام كوميكس هرِم، يواصل فقد رصانته
كلما استعاد ماضيه، وذلك تحديدًا هو الشرط المضمون لبراعته .. لكنني ـ مثل أي كائن
آخر ـ لست نسختي .. أنا عبد لها .. نسختي تخضعني بعفوية حصينة كي أحققها في كل
لحظة، وبواسطة أبسط الأشياء، وأقلها إثارة للاهتمام: خدش صغير في سطح طاولة الطعام
.. سعال خاطف لأحد العابرين أسفل الشرفة .. ظل متكسّر للافتة دكان فوق حافة رصيف
.. كل شيء، مهما كانت ضآلته هو في حقيقته إلهام مُحكم تُقود به النسخة أداءاتي حتى
أستمر في تنفيذها .. حتى انتهي من قتل نفسي والآخرين فتمرر حينئذ خلودها في جسد
مغاير بكوابيس مختلفة تتسق مع أصلها .. لا أتعرّف على استقلالي عن نسختي إلا حينما
أفكر بهذا الشكل .. لا أتذكر انفصالي عنها إلا حينما أكتبه .. وبما أنني أفعل هذا
طوال الوقت فإنني أدرك نفسي دائمًا كمجرد فراغ مُستعمل .. عدم يُستخدم بصورة
مؤقتة.
أثناء عبور الممر السفلي للمحطة رأيت طفلًا مع أمه .. عمره لا يتجاوز
السادسة، وكان يمشي بصعوبة .. لم أكن متأكدًا بالطبع أنها أمه، ولكنني اعتبرتها
كذلك بديهيًا .. بدأت تسبقه في صعود سلّم جانبي يقود إلى أحد أرصفة المحطة، وكان
بقدميه المريضتين يحاول اللحاق بها .. لم تكن تحمله رغم جسده الهش، ولم تكن تُمسك
بكفّه على الأقل وهما في طريقهما إلى القطار .. كانت تقطع الدرجات سريعًا، وهو
بخطواته الثقيلة المترنحة يصعد ورائها، ويده الصغيرة تقبض على الحاجز المعدني
المائل للسلّم .. كان الحاجز بديلًا ليدها .. وقفت في منتصف الممر مراقبًا اختفاء
المرأة بعد وصولها الرصيف بينما الطفل الذي اختفت المرأة من عينيه أيضًا لا يزال
يواصل الطلوع بمشقة لاهثة .. كان يرتدي حذاءً منزليًا خفيفًا، مفتوحًا من جميع
جوانبه .. كأن محطة القطارات بكل امتداداتها هي منزله، حيث يجب أن تبقى قدماه ـ
رغم كل شيء ـ عاريتين داخلها .. رأيت في عينيه حزنًا متحيّرًا، غمًّا لا يفهمه،
ليس بسبب ابتعاد أمه عنه لأعلى واختفائها، وإنما لأنه لا يستطيع اللحاق بها ..
لأنه يصعد ببطء دون أن يعرف لماذا فُرض على حركته أن تكون عسيرة هكذا .. كانت ملامحه
تقول أنه يجب عليه أن يدرك أمه لا أن تتمهّل خطواتها من أجله .. لذا كانت هذه
الملامح منطفئة بالتخوّف من مستقبل هذه اللحظة .. كان اختفاء أمه يبدو كما لو أنها
تهرب منه .. كما لو أنها ستستقل القطار بدونه .. لكنها حتى لو انتظرته؛ يكفي تلك
المسافة التي اجتازتها قبله، وتركته خلفها يخوضها وحده ليتبدد الفرق بين هروبها
وانتظارها له .. انتظرت حتى اكتمل صعود الطفل واختفاؤه فوق الرصيف ثم عاودت
التحرّك نحو الباب الخلفي للمحطة .. خرجت إلى الشارع وأنا أبكي .. عبرت المساحات
الصغيرة المتقاطعة من باب المحطة إلى بيتي سعيدًا لأنني أبكي .. لأن جسدي ينتفض
مرتعشًا مع كتمان النحيب .. لأنني قادر على البكاء في الشارع بين الغرباء .. بين
بشر لا يعرفون بعضهم، وقد جعلهم بكائي أقرب إلى أطياف لازمنية تحلّق بالحركة
البطيئة فوق أرض تختصر الأماكن كلها .. كان بكائي كينونتهم المنفلتة التي تتطوّح
بين عمائهم .. تاريخهم الأزلي الذي يغطي أشلائهم ويدور حولها ويخترقها ثم يعود
ليستقر داخل انقباضات صدري في صورة طفل بقدمين مريضتين، يصعد سلمًا طويلًا وحده ..
كنت سعيدًا لأنه ربما ثمة مجهول يراقب هذا البكاء من مكان سري يرتبط بالذاكرة ..
بالمدينة .. بالعالم .. كيان غامض قد يقوم بمعجزة أبدية شاملة وفقًا لهذا البكاء،
أو يعتبره ـ إن لم يفعل ـ أثرًا دامغًا لسخريتي من وجوده.
وصلت إلى البيت .. ليس إلى السنتيمترات المنيعة في ركن سرير الطفولة
تحت الأغطية الثقيلة في الشتاء عند سقوط المطر .. المخبأ الكوني الذي طالما حاولت
الانكماش بما يسمح لي أن أسكنه برفقة ذخيرتي الملائكية من القصص والألعاب
والتخيلات حيث لا أحتاج شيئًا من الخارج .. الذي مازلت أحاول الولوج إليه مع طفلتي
بينما "نتشبث" بحوافه الناعمة.
وضعت كيس الأدوية في درج الكومودينو المجاور لسريري .. طفلتي رأتني أفعل ذلك فسألتني عما قاله الطبيب .. أخبرتها بالأمر مبتسمًا وأنا أراها تقف وراء النافذة الزجاجية لغرفة العناية المركزة، وتتابع خطوط الشاشة المتصلة بقلبي .. رأيتها أيضًا وهي تراقب يدي الطبيب بينما تحاولان إعادة الحياة إلى صدري ثم وهي تهبط السلم من غرفة العناية المركزة إلى حجرة المُرافِق بالمستشفى لتضع في حقيبتها كتاب "الأعمال القصصية الكاملة لتشيكوف" الذي كانت تقرأ منه كل ليلة .. رأيتها تخرج إلى الشوارع التي لن تصدّق كيف تستمر كائناتها في الوجود كما كانت .. لكنه في مقابل استيعابها بمرور الوقت أن العالم لن يعطله أي موت؛ لن يكون بمقدورها أبدًا بعد تلك اللحظة قبول أن ذلك الذي يتساقط من السماء مطر حقًا.