الأحد، 29 مايو 2022

لحظات الانسجام الموحشة

الغطاء لا يُخفي الوجه وإنما يُخفي غيابه .. لكل “غياب وجه” غطاء مستقل حيث أن ما يعنيه الغياب لا يشبه ما يعنيه غياب آخر .. الغطاء يخفي أقنعة متغيرة ومتبدلة ومتلاشية تساير حتمية الوجه .. الوجه الذي يمعن في الغياب على الأخص في اللحظات التي تطالبه بإثبات تصديقه لوجوده كالصور الرومانسية والعائلية مثلًا أو “لحظات الانسجام الموحشة” عند استرجاع يانيس ريتسوس .. الغطاء يُخفي غياب وجه المحدق إلى نفسه .. يُخفي غياب وجه “الآخر” الذي يتبادل التحديق “التلصص” معه .. يُخفي غياب الوجوه التي تبحث عن ملامحها في أقنعة الآخرين .. الغطاء يكشف عن العماء الذي يسبق المرايا كافة حيث لا وجه بدون ألوهة .. الوجه مفقود باختباء الألوهة في الغيب .. الغطاء إذن عقاب للألوهة على اختبائها .. انتقام من تغييبها “الإعجازي” للوجوه .. كل محاولة للاعتراف بالملامح تنطوي على غضب من انفصال الوجه عن سمائه .. كل محاولة لتوثيق الامتلاك الزائف للوجه هي قيامة ساخرة من السماء نفسها. 

من كتاب “الشر عاريًا ـ دراسة مقارنة بين يانيس ريتسوس ورينيه ماغريت” ـ يصدر قريبًا

الأربعاء، 18 مايو 2022

ضرورة المطر

ماذا لو أعدنا كتابة قصة (قطة في المطر) لإرنست همنجواي بطريقة أخرى؟ .. لنتخيل مثلا أن مدير الفندق العجوز هو كاتب قصة قصيرة في الأربعين، يجلس في الخامسة عصرًا عند عتبة مقهى (فينوس) بالمنصورة يوم الجمعة 30  يونيو 2017 .. لنتخيل أن القطة لم تكن تنكمش مرتجفة تحت إحدى الموائد، وإنما كانت تتحرك أمام المقهى ثم اقتربت من كاتب القصة ونظرت إليه فابتسم ثم ربت على فخذيه فاستجابت له وقفزت إلى حِجره، واستكانت هناك كأنه مخدعها الدائم .. لنتخيل أن الزوج لم يكن مستلقيًا في فراش حجرة الفندق ويقرأ، وإنما كان صديق كاتب القصة الذي يجلس معه عند عتبة المقهى، وأنه قرر جدارة هذا المشهد بالتصوير فأخرج هاتفه المحمول والتقط الصورة ثم نشرها في صفحته على فيسبوك .. لنتخيل أن الزوجة لم تكن تحدّق من شباك حجرة الفندق باحثة في الظلام والمطر عن القطة الصغيرة، وإنما كانت في مكان بعيد جدًا عن هذه اللحظة أمام شاشة اللابتوب، وأنها شاهدت صورة القطة النائمة في طمأنينة ناعسة فوق فخذي كاتب القصة صديق زوجها فأرسلت إليه طلب صداقة .. لنتخيل أن الزوجة بعثت إلى كاتب القصة بعد قبوله لصداقتها رسالة أخبرته فيها أنها أحبت نظرته المبتسمة إلى القطة وهي نائمة في حِجره، وأنها تعرف طفلة صغيرة لم يكن مرور الزمن بالنسبة لها أكثر من فقدان تدريجي لهذا الشعور الذي كان في ملامح القطة عند التقاط الصورة .. لنتخيل أن كاتب القصة أخبر الزوجة بالحقيقة: أن القطة هي التي كانت جالسة فوق كرسي المقهى، وأنه هو الذي كان نائمًا فوق فخذيها، وأنه يعرف طفلًا صغيرًا اعتاد أن يُخفي بتلك النظرة المبتسمة مثل هذا النوع من الخِدع التي تظهر دائمًا في الصور .. لنتخيل ـ رغم أننا في صيف يونيو ـ أن المطر يهطل بغزارة طوال الوقت .. المطر هو الشيء الوحيد الذي لا ينبغي أن يتغير أبدًا في قصة همنجواي.

اللوحة لـ Sohee Kim

السبت، 14 مايو 2022

سيرة الاختباء (37)

من ضمن ما يتناوله كتابي النقدي “كيف يُصنع التاريخ الأدبي” والذي أعمل عليه حاليًا تلك الاستفادات المتوالدة التي تقدمها “الشخصية الادبية” إلى الكاتب باعتبارهما هويتين منفصلتين ولكنهما متلازمتين، متقاطعتين ومتداخلتين بشكل دائم، وبكيفية يمكن تمييز صورها كأنماط معرفة أو كليشيهات ثقافية.

الشخصية الأدبية كما تحللها دراستي هي ناتج مباشر وموطِد لسلطة المدينة المركزية أي أن هذه الشخصية تحمل البصمة الواقعية والأثر الرمزي والهيمنة الخيالية للمركز.. الشخصية الأدبية هي ما يكوّن حضور الكاتب مستقلًا عن كتابته ومشاركًا في الوقت نفسه وعلى نحو حاسم في تأثير هذه الكتابة.. تُشكَّل الشخصية الأدبية بواسطة تاريخ من المداومة والإلحاح على ركائز معينة تدعم صورتها وتضمن تطورها في وعي الآخرين.. الركائز التي يمكن وصفها بالادعاءات الشكلية للاعتراف والتفوق.

ما هي هذه الركائز؟.. على سبيل المثال وليس الحصر: الارتياد المستمر للمقاهي الثقافية القاهرية الشهيرة.. مرافقة صحفيين وكتّاب ونقاد ومترجمين معروفين في الوسط الأدبي على طاولات تلك المقاهي.. نشر الصور التي تضمك بين هذه الجماعات من النخبة الثقافية على صفحات التواصل الاجتماعي.

بجانب الاستفادات البديهية الناجمة عن قضاء زمن طويل في تثبيت هذه الملامح المركزية – غير الكتابية – للشخصية الأدبية فإن تأثيرها يمتد لدى القراء بشكل عام وبالأخص لدى أولئك الذين كرسوا جهودهم لاكتساب مكانة “أرقى” وأكثر ربحًا مما يُطلق عليه القارئ العادي استغلالا للوسائط الحديثة مثل “القراء المحترفين” و”القراء النموذجيين” وغيرهم؛ فالقارئ عمومًا ومستثمر القراءة على وجه خاص لديه ذلك الميل النفسي والانتهازي للحصول على ما يُنظر لها كقيمة ثقافية أو منزلة نفعية مستمدة من الشخصية الأدبية (التي تعيش في صور المقاهي القاهرية مثلًا) ومن ثمّ تحظى إصدارات هؤلاء الذين يمتلك كل منهم (الشخصية الأدبية) بالمراجعات والمقالات الغزيرة طمعًا من كتّابها لاكتساب تقدير الذات والشهرة فضلًا عن المكسب المادي بالطبع، وكل هذا يستند بشكل أساسي على منزلة الشخصية الأدبية التي يدوّن القراء عن كتبها عبر الفضاءات المتعددة.

بسبب ذلك – وإضافة للفوائد المركزية الأخرى – تتحقق الوفرة المتراكمة لصفحات الإنترنت والأرشيفات الصحفية والكتب النقدية والأبحاث الأكاديمية التي تتضمن مقاربات لأعمال الكاتب صاحب هذه الشخصية الأدبية؛ إذ أن مقالات ومراجعات القراء الغزيرة ستنتج ما يمثل رأيًا عامًا قويًا يوحي بأهمية العمل وبالتالي يدعي بأنه يمتلك (جماليًا) ما لا تمتلكه أعمال أدبية أخرى لم تحظ ولو بنسبة قليلة من التدوينات التي تناولت هذا العمل الأمر الذي سيجعله محط أنظار ما يتجاوز التقدير القرائي الجمعي نحو البحث النقدي والأكاديمي.. هكذا يتحوّل كتاب الشخصية الأدبية من عمل إلى أيقونة سهلة الاستدعاء عند تناول تاريخ الرواية أو القصة القصيرة المصرية لأن كاتبه كان مجتهدًا في نشر صور جلساته المنتظمة داخل مقاهي القاهرة برفقة الشخصيات الأدبية الأخرى.

       موقع "الكتابة" ـ 14 مايو 2022


الثلاثاء، 10 مايو 2022

صوت المطواة في حجرة الصالون

كنا رهائن آخر كل مساء .. ترتجف قلوبهم ويتلاعب الوسواس بأدمغتهم وهم يتناولون العشاء أمام شاشة التليفزيون أو بينما يستلقون في سرائرهم انتظارًا للنوم بعدما يتحوّل صوت فتح مطواتك وإغلاقها المنبعث من ظلام حجرة الصالون المقفلة والتي جعلتها مقرًا مشتركًا للمعيشة والنوم؛ يتحوّل صوت المطواة إلى تعريف للوقت بدلًا من دقات الساعة .. بعدما يصبح صوت المطواة عدًا تنازليًا لأعمارهم أو إيقاعًا مروعًا لنهايتك الوشيكة .. لا يسترد الوقت تعريفه الطبيعي إلا حينما يتوقف صوت المطواة ويُسمع صوت ضبط المنبه .. هكذا كنا نطمئن على نحو ما بأنك لن تقتل نفسك أو تقتلنا الليلة، وأنك ستنام مثلنا حتى يوقظك المنبه باكرًا للذهاب إلى عملك.

كانت لعبة شيقة .. لعبة التحكم في الموت والزمن .. هل ستموتون حالًا أم لا؟ .. كيف تتخيلون موتكم الممكن بعد لحظة واحدة؟ .. كيف يفكر كل منكم في حياته الآن؟ .. كيف يفكر في ذلك الشبح المتوحد بالظلام المغلق لحجرة الصالون ويستمتع بتمرير النصل الصوتي فوق رقبته؟ .. هل سأقتل نفسي؟ .. هل سيكون ذلك رحمة بكم أم بنفسي أم خلاصًا للجميع؟ .. هل تتذكرون عني شيئًا خارج الفضاء المُعذِب لصوت المطواة؟ .. حسنًا .. سأمنحكم ونفسي مزيدًا من الوقت .. لكن الوقت لا يعني مزيدًا من الحياة .. سأسمح للزمن بمواصلة المرور بعدما احتجزته قليلًا في صوت مسنون .. استمروا في التظاهر إلى حين بأنكم لستم عالقين في تهديد ما .. استمروا في الادعاء بأنكم تعرفونني جيدًا .. سأتظاهر أنا الآخر بأنني أجّلت المذبحة .. بأنني لم أقدم جسدي قربانًا لروحي.

لم يكن صوت مطواة .. كان خليطًا من الوجوه والكلمات التي رأيتها وسمعتها في الخارج قبل أن تعود إلى البيت .. الفراغ المتجذر داخل تلك الوجوه والكلمات بالتواطؤ مع ذكرياتك معنا كان يوطد غياب هيمنتك الكونية الغامضة .. في حركة الفتح والقفل المتتابعة للمطواة كنت تتقمص سيادة شكلية على هذا الغياب .. ندية ظاهرية مع ضياع هيمنتك على العالم بواسطة قلوبنا المرتجفة .. السيادة التي تلهو بالحدة الصوتية للنصل في أدمغتنا باعتبارنا أسبابًا أصلية لحرمانك من السيادة الفعلية .. هل أمحو الكون الليلة أم أعطيه فرصة أخرى لتدارك الخطأ الذي يسبق تاريخه؟

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.

الثلاثاء، 3 مايو 2022

غائب بقدر ما يحدّق إلى السماء

الوجه لا يظهر كإثبات للغياب، كتوثيق لهيمنته .. لكنه يحدق إلى السماء؛ إذن هو غائب بقدر ما يحدّق إلى السماء .. بقدر ما يتلصص على ألوهته الغائبة .. البحر تأكيد على لعنتك البشرية بوصفه امتدادًا للسماء .. اللانهائية الغامضة للمطلق الذي يمتلك الحياة .. المحصن من الاحتياج الذي لا يمكنك الخلاص منه .. هو تحديق غاضب بالضرورة نحو أصل الألم .. نحو مصدر الشروط الحتمية التي فرضت الألم .. تحديق غاضب لأن هذا الأصل لا يجرّب ما هو ناجم عنه .. لأن هذا المصدر غير محكوم بما قرره .. الوجه لا يظهر لأنه عالق في ألوهته الغائبة .. لأنك مجردًا من “وجهك الإلهي” من قبل أن توجد .. تحديق “اللاوجه” نحو السماء هو توطيد لحضورك الفادح داخل العالم.

يكرس الستار لذلك التلصص على الألوهة الغائبة ..  لاحتجابها عنك .. الانفصال بين جسدك والمطلق .. ألوهتك الغائبة تسترق النظر إلى المطلق الممثل في توحد السماء والبحر .. كأنها تحلم باختراق الستار (الحاجب) لتسترد نفسها .. ومثلما جعل يانيس ريتسوس “اللحظات” في مواجهة “الأبد”؛ وضع رينيه ماغريت النظرة العابرة، المؤقتة (التي فاتها كل شيء) للوجه الغائب في مواجهة المطلق .. النظرة التي ـ بالرغم من ذلك ـ لم تعد مألوفة حيث أزاحت خضوعها واستسلامها أو ما يشكّل غفلتها لصالح إفاقة غير اعتيادية على جوهر الشر .. إفاقة ثأرية بما يعني انتزاع ألوهة مضادة .. مطلق هازئ ..  بما يعني امتلاك وجه لا يمكن للسماء أن تحدّق إليه.