الجمعة، 22 مايو 2020

مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور

يتأمل شكسبير شر الدنيا والخوف من الموت على لسان "هاملت" .. يتحرك من العذاب الشخصي لهاملت إلى جعله يفكر في هذا العذاب .. من كيفية مواجهته إلى تعيينه كسؤال للكينونة .. السؤال الذي يتضمن تجاوزًا لعلة يشملها ذلك الألم: الذين يجابهون آثام الحياة بحنكة، ويتغلبون على أوجاعهم  بمهارة، ولا يدفعون أي ثمن .. يتجاوز سؤال الكينونة هذا المرض الشاغل .. شكسبير يدفع هاملت للمراوحة بين العجز وتشريحه .. بين الرغبة الضمنية في حيازة الذكاء اللازم لمقاومة الواقع وغموض ما بعد الموت من جهة، والتفحص الضمني للضعف، والقدرة الماكرة من جهة أخرى .. بين الاحتياج إلى "الإدراك"، وبين تضليله من أجل التحديق في الأثمان التي يدفعها الجميع .. إنه التضاد الذي قامت عليه فلسفة شوبنهاور بين الإرادة والتأمل، وما تأسست عليه نظرته الأفلاطونية الكانطية إلى الفن بوصفه إعادة إنتاج للصور الخالدة، وتوسلًا إلى الكلي بالجزئي، وكغرضية بلا غرض،  مع الانتباه إلى الفرق بين المُثل الأفلاطونية والشيء في ذاته عند كانط .. سؤال الكينونة هو انتهاك لها .. يجابه هاملت ما يُحتمل أن يكون قانونه الخاص للتأمل في شر الدنيا والخوف من الموت .. هكذا يكون التفكير في العذاب هو تمزيق للعذاب نفسه.
كانت لغة شوبنهاور تتسم بالوضوح والنقاء والدقة، وتجنّب التعقيد والغموض، وكان يرى أن الأسلوب هو "تقاطيع الذهن وملامحه، وهو منفذ إلى الشخصية الأكثر صدقًا ودلالة من ملامح الوجه"، ممتدحًا الصراحة والمباشرة وبساطة التعبير وعدم إخفاء "السذاجة"، مستهجنًا في المقابل إفساد الفهم الذي تمارسه فنون البلاغة .. كان يعتبر أن "قانون السذاجة" ينطبق على جميع أشكال الكتابة والفن، لذا فهو جوهر التأمل.
يجسّد أسلوب شكسبير سؤال الكينونة بواسطة الوضوح اللغوي التام الذي يؤكد غياب "فطنة الإرادة" عند هاملت .. عدم المواراة أو الإضمار البلاغي، والأقرب إلى البوح الطفولي لتثبيت الانتفاء المحكم للبراعة الخبيثة من سماته الخاصة .. أسلوب يمثّل مراوغة النضوج كرجاء متعذّر حينما تتم مراقبة النضوج نفسه كإرادة متسلّطة ومهلكة سواء في حضوره أو في احتجابه.
يعتمد هذا الأسلوب على دفع مراوغة الإدراك لتأمل خطواتها .. كأن الوضوح اللغوي هو بمثابة إيمان أوّلي بالتعهدات الميتافيزيقية للإرادة، أي تصديق مؤقت لوعودها الكونية، الأمر الذي يٌظهر هاملت على وشك بلوغ توافق دائم ومرتقب مع ما تضمره كسلطة .. حينئذ يبرز الصراع ناصعًا مع تلك الإرادة بتوظيف شكسبير لـ "عدم المواراة" في تخريب الإيمان الميتافيزيقي .. يصبح غياب الإضمار تجسيدًا لخيبة أمل هاملت، كما يصبح البوح الطفولي استغاثة ممتدة .. يرسل شكسبير تلويحات شاقة ليس عن الحرمان من البراعة الخبيثة، وإنما عن الحرمان المتجذّر من الاستقرار داخل الكلمات .. الكلمات كمسوخ لامعة .. من الممكن تصوّر أن النضوج ومراوغته في بصيرة هاملت هما تطوّح بين التعذّر اللغوي "الذي يكشفه الصياغة الواضحة"، ومراقبة هذا التعذّر "التي يكشفها الوجه المطابق للصياغة ذاتها" .. كأن شكسبير يكشف عن أن اللغة هي سر الحصانة المتمنّعة، ولهذا لن يكون تأمل الإرادة انتزاعًا للحماية بل أشبه باحتفاء جدلي متغيّر بالخسران .. أشبه بالرقص الممتن مع الإخفاق المتراكم والمتنقل، المحسوم أزليًا، أي من قبل أدنى جاهزية للاعتقاد الفردي بأنه من الوارد حيازة شيء ما داخل اللغة .. نحن لم نفقد لأننا لم نمتلك من الأصل .. لن يكون تأمل الإرادة إيقافًا لزمن، أو قبضًا على معرفة سواء كانت "صورًا خالدة" أو "حقائقً كلية".
موقع "الكتابة" ـ 21 مايو 2020
من كتاب "مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور ـ مقاربات نقدية لشكسبير .. تولستوي .. فاغنر" ... يُنشر قريبًا.

الاثنين، 18 مايو 2020

قطع غيار مستعملة

في منتصف المسافة بين مكان أجهله، وبيت أعيش فيه مع زوجتي وطفلتي؛ قررت أمي أن نتوقف حتى تعطيني كل ما كانت تحمله، بالرغم من أن ما بين يديّ كان ثقيلًا بما فيه الكفاية .. كان صديق طفولتي الذي حاولت قتله مرارًا يرافقنا دون أن يتكلم أو يحمل أي شيء، فقط يبتسم طوال الوقت بسماجة هادئة، كأنه يتابع في ثقة لامبالية مشهدًا رآه كثيرًا من قبل .. أخبرت أمي بأنني لن أقدر، لكنها أصرت أن تضيف لحمولتي جميع الأشياء التي كانت معها، وأن تسبقني بصحبة صديقي ملتذة بخفتها .. راقبتهما وهما يبتعدان في الطريق المؤدي إلى منزلي، بينما أحاول التحرّك ورائهما بتلك الأثقال الأشبه بقطع غيار مستعملة لماكينات قديمة لا أعرف ماهيتها.
استغرق وصولي أيامًا طويلة، تفتت خلالها جسدي، وتمزقت ملابسي، وتراكمت الأوساخ داخل جروحي العارية .. ظل العابرون وأهل الشوارع يتفحصونني بذهول ساخر وأنا أجر قدميّ الحافيتين، في حين بقي كل ما كنت أحمله محتفظًا بسلامته من الخدش أو النقصان .. تصاعدت ارتجافاتي أثناء اجتياز السلالم درجة بعد أخرى حتى بلغت باب الشقة بأنفاس شبه معدومة، وعينين ضبابيتين، ووعي متخاذل، على وشك الفقدان .. وجدت أمي جالسة مع زوجتي في سكينة ونقاء كما يليق بشخص تخلّص من أثقاله، واستقر منذ وقت بعيد في مكان آمن .. ألقيت بحمولتي على الأرض، ورحت أصرخ في وجه أمي، وأشتمها بأبويها، ساردًا لزوجتي ما فعلته بي .. ظلت أمي جالسة بفم مطبق، وملامح شاردة، ونظرة أقرب لنصف إغماضة يتجمد الاستسلام داخلها .. حاولت زوجتي تهدئتي لكنها لم تنجح .. فجأة انتبهت إلى أن الأرض قد أصبحت خالية من الأشياء المبهمة التي ألقيتها منذ لحظات، وحينما التفت مجددًا لأمي وجدت إغماضتها قد اكتملت، ورأسها مُلقى فوق مسند الكرسي، وصدرها هامدًا تمامًا .. نظرت إلى زوجتي، وسألتها في هلع عن طفلتي فقالت بصوت مرتعش أن صديق طفولتي قد اصطحبها للتنزه.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 17 مايو 2020

الأربعاء، 13 مايو 2020

كورونا في مكان آخر

لن تدرك الزمن الذي أهدرته حقًا إلا حينما يصبح الموت أقرب من خطوة واحدة صغيرة، وليس مجرد احتمال ضروري، متناثر في الأشياء كافة .. يأس الماضي حينئذ سيكون في جوهره رجاءً شاحبًا، ذلك لأن هذه اللحظة هي موعدك مع اليأس الفعلي، في كامل نقائه .. محاولاتك المرجأة لاستدراك ما لا يمكن تصحيحه، وتعويض ما لا يمكن استعادته؛ كلها ستنتفض فجأة لتبدأ في قضم روحك بشكل متزامن، كمن ظل يربي أشباحًا في جسده أطول مما يجب دون أن يطلقها.
لم أخرج من بيتي منذ الإعلان عن اكتشاف الحالة الأولى المصابة بفيروس كورونا .. أعني بذلك أنني توقفت عن الزيارة الأسبوعية لشقيقتي الكبرى المقيمة وحدها في منزل العائلة، والتي كان يعقبها عادة المرور على بائع الجرائد، ومكتبة هيئة الكتاب ثم عدم الاستجابة لرغبة بائسة ومعتادة في تناول فنجان قهوة بأحد المقاهي التي أمر عليها في طريق عودتتي إلى البيت .. كنت حينئذ أعمل على كتاب جديد عن "شوبنهاور"، بجانب متوالية قصصية، ومراجعة مخطوط دراستي عن الأصل الواقعي لرواية "القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد" .. بعد أيام قليلة، ومع تزايد عدد الإصابات، واستمرار خروج زوجتي من المنزل ـ مصطحبة طفلتي بالطبع ـ للاعتناء بأمها المريضة، وقضاء احتياجاتها؛ توقفت عن كل ما كنت أكتبه، بما في ذلك المقال الأسبوعي من "سيرة الاختباء"؛ إذ أصبح تحليل التاريخ الشخصي داخل ما يُسمّى بـ "الحياة الأدبية" طقسًا أكثر مسالمة مما يحتمل الخطر المتفاقم، حتى لو كان منطويًا بصورة أساسية على تصفية الحسابات القديمة .. قررت التفرّغ لاستكمال "وصية كلنكسر" في أسرع وقت ممكن، والبدء أيضًا في ورشتي القصصية الجديدة .. هذا فقط ما كان بوسعي القيام به على نحو عاجل من ضمن تدابير عدة كنت أتمنى أن تنتهي حياتي داخل أحلامها السرية.
لم يكن بمقدوري منع زوجتي من الذهاب لأمها، كما لم أستطع أن أطلب منها الإقامة برفقتها، لأن ذلك كان سيُبعد طفلتي عني .. كان وجها زوجتي وطفلتي قد تحوّلا، كما يشيع في الكوميكس المعاصر، إلى مجسّمين للفيروس وهما يعبران يومًا بعد آخر باب الشقة أمام عينيّ، بينما أجلس في مواجهة شاشة اللابتوب، أكتب سطورًا متلاحقة من النوفيلا التي عليها أن تُغني بصورة حاسمة عن كل انتقام لم أنفّذه، أو أراجع مشروعًا قصصيًا لأحد طلاب الورشة التي أردتها ككل مرة، وعبر القصص المستقبلية لأعضائها، أن تكون بعد اختفائي عودًا أبديًا لذاكرتي .. الذاكرة التي يمكن تلخيصها الآن في شهوانية ذابحة أعيد بها مشاهدة التسجيل المصوّر لممرضة في مستشفى العزل بالمدينة التي أسكنها، وهى تشرح كيف ترتدي زي الوقاية المعقّم قطعة بعد أخرى.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 8 مايو 2020

الثلاثاء، 5 مايو 2020

مجرد وقت

كان يمكن لهذا الوقت أن يكون مساءً بالفعل لو لم يكن سوى أثر متغيّر لأحلام الذاكرة .. كان يمكن لهذا الصمت أن يكون وحدة حقًا لو أنك انتهيت من قطع الخيوط النارية المربوطة في أصابع الدُمى التي تُحرّك موتك .. لكنه مجرد وقت، حيث يمعن الزمن في الانتهاء من قبل أن يبدأ .. مجرد صمت، حيث تتلاشى قدرة روحك على نبش القبر الذي لم تغادره الحياة مطلقًا.
ليس لقلبي دقات، بل ريح ممسوسة بشبق مناقض؛ فهي لا تزيح الحوائط، وإنما بوحشيتها الأكثر نعومة تشيّدها في كل فراغ يمضغ ظلامه البصر .. كأن الحوائط إيماءات الفناء المتراكمة في القلب .. لذا يخبّئ "الخوف" ميوعته المنتشية من أجنحة الغيب السوداء الكثيفة التي تحوم في عماء اللغة.
هل الأفكار هي ما يشكّل جثتي، أم الغياب المستقر في أغوارها؟ .. ما أريد كتابته، أم ما أريد الاستسلام له؟ .. البقاء مستيقظًا، أم قضاء اللحظات الأخيرة في نوم متنقل ببن أطياف الماضي؟.
ثلاث وأربعون .. لا يعرف شيئًا عن هذا الرقم الذي يشير لسنوات عمره أكثر من شعور جذري، متزايد الثقل والحدة بتجويف صغير لندبة منفصلة عن ملامح غامضة، وملقاة في قاع معتم، فائضة بقذارة لا تنجم إلا عن وجود مجهول لم يتحقق .. ندبة كانت ترجو لو تمكنت من الحركة في القاع، كما لو أنها في عمق نهر مثلًا، لكنها فقط صورة متكررة وراء الزجاج نفسه. 
ثمة ثقوب في كل كلمة أكتبها .. ثقوب لانهائية يمر منها ما لا يمكنني كتابته نحو الكلمة التالية .. نحو القصة التالية .. نحو خطوة أخرى في الخرائب الضبابية بعيدًا عن رأسي المقطوع.
موقع "الكتابة" ـ 2 مايو 2020
اللوحة: Jeune homme au chapeau melon by André Derain