في منتصف المسافة بين مكان أجهله، وبيت أعيش فيه مع زوجتي وطفلتي؛
قررت أمي أن نتوقف حتى تعطيني كل ما كانت تحمله، بالرغم من أن ما بين يديّ كان ثقيلًا
بما فيه الكفاية .. كان صديق طفولتي الذي حاولت قتله مرارًا يرافقنا دون أن يتكلم
أو يحمل أي شيء، فقط يبتسم طوال الوقت بسماجة هادئة، كأنه يتابع في ثقة لامبالية
مشهدًا رآه كثيرًا من قبل .. أخبرت أمي بأنني لن أقدر، لكنها أصرت أن تضيف لحمولتي
جميع الأشياء التي كانت معها، وأن تسبقني بصحبة صديقي ملتذة بخفتها .. راقبتهما
وهما يبتعدان في الطريق المؤدي إلى منزلي، بينما أحاول التحرّك ورائهما بتلك
الأثقال الأشبه بقطع غيار مستعملة لماكينات قديمة لا أعرف ماهيتها.
استغرق وصولي أيامًا طويلة، تفتت خلالها جسدي، وتمزقت ملابسي، وتراكمت
الأوساخ داخل جروحي العارية .. ظل العابرون وأهل الشوارع يتفحصونني بذهول ساخر
وأنا أجر قدميّ الحافيتين، في حين بقي كل ما كنت أحمله محتفظًا بسلامته من الخدش
أو النقصان .. تصاعدت ارتجافاتي أثناء اجتياز السلالم درجة بعد أخرى حتى بلغت باب
الشقة بأنفاس شبه معدومة، وعينين ضبابيتين، ووعي متخاذل، على وشك الفقدان .. وجدت
أمي جالسة مع زوجتي في سكينة ونقاء كما يليق بشخص تخلّص من أثقاله، واستقر منذ وقت
بعيد في مكان آمن .. ألقيت بحمولتي على الأرض، ورحت أصرخ في وجه أمي، وأشتمها
بأبويها، ساردًا لزوجتي ما فعلته بي .. ظلت أمي جالسة بفم مطبق، وملامح شاردة، ونظرة
أقرب لنصف إغماضة يتجمد الاستسلام داخلها .. حاولت زوجتي تهدئتي لكنها لم تنجح ..
فجأة انتبهت إلى أن الأرض قد أصبحت خالية من الأشياء المبهمة التي ألقيتها منذ
لحظات، وحينما التفت مجددًا لأمي وجدت إغماضتها قد اكتملت، ورأسها مُلقى فوق مسند
الكرسي، وصدرها هامدًا تمامًا .. نظرت إلى زوجتي، وسألتها في هلع عن طفلتي فقالت بصوت
مرتعش أن صديق طفولتي قد اصطحبها للتنزه.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 17 مايو 2020