السبت، 26 فبراير 2022

المحاكمة

لابد وأن أحدهم كان يشعر بشيء سيء وصادق تمامًا تجاه (م)؛ لأنه حينما فعل ما لم يكن يعتقد أنه خطأ؛ قُبض عليه في صبيحة يوم مشمس.

كان (م) قد فتح عينيه ثم اعتدل فوق حافة السرير، ولكنه عندما نظر إلى وجهه في مرآة الدولاب الكبيرة، وقبل أن يقول لنفسه كالعادة: (عجوز فاشل، يقترب أكثر من الموت) رأى رجلًا يقف عند باب الحجرة.

لم يكن (م) يعرف هذا الرجل أو كيف دخل إلى بيته، ومع ذلك التفت إليه بدهشة معتدلة كمن كان يتوقع حضوره بطريقة ما .. هل هو رجل واحد؟ .. نعم .. هكذا يقول جسده، أما وجهه فكان يعطي شعورًا مناقضًا .. في الأحوال العادية كان على (م) أن يغلق الأغنية أو التمثيلية الإذاعية الكلاسيكية أو محطة الراديو التي كان يستمع إليها أثناء النوم، ثم ينزع (الهاند فري) من الموبايل، ويضعهما فوق الكومودينو المجاور للسرير بجانب الأباجورة ذات المصباح المحترق، وزجاجة الماء .. كان عليه أن يتوجّه إلى الحمام الملحق بغرفة النوم، ثم يخرج إلى المرآة ليمشط شعره ويرتدي الروب ويضع الموبايل في جيبه ثم يخرج من الحجرة قاصدًا المطبخ ليعد الشاي والقهوة ونصف رغيف من الجبن الأبيض .. لكنه اليوم لن يفعل كل هذا.

نهض (م) واقفًا داخل تلك المساحة الضيقة بين السرير ومرآة الدولاب، دون أي أثر للنوم، والذي كان قد تبدد تمامًا من رأسه قبل أن يرفعه عن الوسادة بوقت طويل .. لم يكن يفكر في مغادرة هذا الحيز الضئيل الذي تشغله قدماه، ومع ذلك قال له الرجل بنبرة هادئة، ثقيلة وحاسمة:

(من الأفضل أن تلزم مكانك).

ـ من أنت؟

وبالرغم من أنه لم يكن يعرف هذا الرجل، أو ما الذي جاء به إلى بيته إلا أن (م) شعر وهو يوجِّه إليه هذا السؤال أنه يؤدي واجبًا يتطلبه الموقف أكثر مما هو استفهام حقيقي .. ربما كان لهذا الشعور علاقة بعبارات كتبها في مكان ما .. حسنًا .. كان (م) متأكدًا تمامًا من هذا وهو ينظر إلى صورته المعلقة على الحائط فيما بين الدولاب وباب الحجرة .. رأى عينيه داخل البرواز تتنقلان بينه وبين الرجل كأنهما عينان لوجه ثالث يتأمل مصيرًا لابتسامته الباهتة، التي ظلت عالقة وراء المستطيل الزجاجي لسنوات كثيرة.

ـ دعه يخرج.

سمع (م) هذا الأمر الموجّه حتمًا إلى الرجل الذي لم يرد على سؤاله .. أمر بصوت رجل آخر موجود في الصالة .. صوت أكبر عمرًا، وأقل حدة، وأكثر لامبالاة .. تخيّل (م) فورًا أنه صوت رجل جالس، يضع ساقًا فوق الأخرى، على ملامحه تحضير دائم لابتسامة لا تتشكل، ولا ينظر من مكانه نحو باب الحجرة المغلق بل يتفحص بقعًا غامضة، تخصه وحده، بين زهور السجادة.

فكًر (م) في أن هذا ليس أمرًا إلى ذلك المتجهم الواقف أمامه، ويحدّق في وجهه بنظرة عدائية بقدر ما هو استدعاء له شخصيًا بالحضور إلى رجل الصالة .. الحضور الذي سيجعله يتأكد من الصورة الذهنية التي كوّنها الصوت.

تقدّم (م) بخطوات سريعة، كأنها دمج يائس بين الهروب والاستسلام، دون أن يحرّك عينيه نحو الترصد المقبض للرجل الذي فتح باب الحجرة .. كان كل ما تصوّره صحيحًا عدا شيء واحد .. لم يكن الرجل الجالس واضعًا ساق فوق الأخرى يتفحص بقعًا غامضة داخل زهور السجادة وإنما كان يقرأ في رواية مطبوعة كتبها (م) .. بعد لحظة واحدة بدا أن الرجل لا يقرأ في الكتاب بقدر ما يراجع بثقة ما سبق وأن قرأه من قبل .. شعر (م) أن الروح التهديدية لرجل الحجرة تحاصر الهواء خلف ظهره، بينما رفع رجل الصالة الجالس فوق الكرسي المقابل للردهة القصيرة المؤدية إلى حجرة النوم وجهه من الرواية لينظر إليه.

جزء من رواية قيد الكتابة

الأربعاء، 23 فبراير 2022

سيرة الاختباء (35)

في منتصف التسعينيات وتحديدًا عام 1994، وبعد انتهاء أحد اجتماعات الملحق الأدبي لجريدة “المساء”، وبينما كنت أجلس مع د. فتحي عبد الفتاح رئيس مركز الأبحاث في مكتبه؛ دخل موظف أمن بدار التحرير إلى المكتب وأخبر د. فتحي بأن هناك صحفيًا كان يجلس بطريقة غير لائقة في صالة الاستقبال أثناء دخول “الريّس” إلى الدار صباح اليوم، وأن “الريّس” غضب جدًا من هذا المشهد، وأجرى اتصالات من مكتبه لمعرفة أين يعمل هذا الصحفي داخل المؤسسة، وأنهم علموا بأنه أحد المحررين بالقسم الأدبي “للمساء” الذي يشرف عليه د. فتحي.

قبل أن يجيب د. فتحي عبد الفتاح على موظف الأمن بكلمة واحدة أخبرته بأنني المحرر المقصود.. سألني د. فتحي عن حقيقة ما حدث فحكيت له بأنني كنت أجلس في صالة الاستقبال لقراءة الجرائد والمجلات كالعادة قبل موعد الاجتماع وأنني كنت أضع ساقًا فوق الأخرى حينما دخل “سمير رجب” وحاشيته من باب الدار ونظر لي متوقعًا أن أُنزِل ساقي لكني لم أفعل واستمررت في تصفح الجريدة دون اكتراث قبل يواصل طريقه إلى مكتبه.. ابتسم د. فتحي أمام تفاهة الموقف ومغتبطًا في نفس الوقت من جرأة ابن السابعة عشرة الجالس أمامه ثم على الفور وبجدية حاسمة قال لموظف الأمن بالحرف: “ممدوح أكتر حد محترم شغّال معايا ومش هسمح لأي شخص يوجّه له كلمة مهما كان الشخص ده”.. رد عليه موظف الأمن بلهجة المعتذر بأنه لا توجد مشكلة تتعلق بي، وأنه لا يطلب فقط سوى أن أطيّب خاطر موظف الاستقبال قبل مغادرتي الدار لأن هذا الموظف هو من وقعت الأزمة كلها على رأسه.

 بعد انصراف موظف الأمن قلت لـ د. فتحي بأن سمير رجب (أو أي إنسان آخر) لو كان قد توجّه إليّ لكي يصافحني كنت أنزلت ساقي ونهضت من مكاني وبادلته التحية بالطبع لأن هذه هي أخلاقي بصرف النظر عن رأيي في شخصه.. أجابني د. فتحي بأنه متأكد من هذا ثم طلب مني أن أقول “كلمة حلوة” لموظف الاستقبال وأنا في طريقي للخارج وهو ما قمت به بالفعل.

من السهل أن أصف انتهاء فترة عملي بـ “المساء” تحت إشراف رجل كـ د. فتحي عبد الفتاح بأنه خسارة فادحة خصوصًا أن هذه الفترة كانت مبكرة جدًا من حياتي.. مؤسسة كدار التحرير، وإنسان عظيم كـ د. فتحي الذي لا يمكن لأي كلمات أن تصفه كما يستحق حيث لم تكن تلك الذكرى التي سردتها إلا مجرد مثال لخصاله الطيبة.. أستعير هذه السطور من مقال “باقة ورد على ضريح فتحي عبد الفتاح” للأستاذ “سعد هجرس” بموقع “الحوار المتمدن”:

“ولم يكن الدكتور فتحي عبدالفتاح. الذي ساهم في تأسيس هذا المركز رئيساً تقليدياً. بل كان صديقاً للجميع. الصغير قبل الكبير. له قدرة عجيبة علي كسر الحواجز مع الآخرين. واجتذاب الموهوبين واكتشاف أصحاب الكفاءات المجهولين. الذين أصبح كثير منهم فيما بعد من نجوم الصحافة.. والسياسة”.. “والمدهش حقاً أن رجلاً بكل هذه الصفات يكون علي الأرجح فظاً غليظ القلب. وعبوساً ومتجهماً. علي النحو الذي تصوره الثقافة الشعبية السائدة والمسلسلات التليفزيونية السطحية. لكنه كان علي النقيض من ذلك تماماً. عاشقاً للحياة. يجعلك تقبل عليها وتفرح بها باعتبارها أعظم منحة حصل عليها الإنسان”.

من السهل أن يصف شاب لم يُكمل العشرين بعد هذا الأمر بأنه خسارة فادحة؛ لكن عن أي خسارة أتحدث؟.. يوجد في “المنصورة” شخصيات تماثل د. فتحي عبد الفتاح، لكن لا توجد مؤسسة كدار التحرير للطبع والنشر.. يوجد في “المنصورة” من يمتلك تاريخًا من الأدوار النبيلة التي أدّاها د. فتحي عبد الفتاح، لكن لا توجد ماكينة إعلامية وثقافية من تلك المعيّنة لكتابة التاريخ الأدبي الرسمي.. هذا ما أتحدث عنه طوال الوقت وما أؤكد عليه وما أواجه به كل الأنطاع المسليين الذين يهربون من الاعتراف بفضل المركز على انتشار أعمالهم ورواجها النقدي وفوزها بالجوائز والترجمات إلخ.. لو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما اعتبر الشاب الصغير أن انتهاء فترة عمله بـ “المساء” كان خسارة فادحة.. ذلك لأنه حُرم مما يستحقه دون تعويض نزيه لا يحتم عليه مكابدة الفراق لما لا يريد التخلي عنه، والانتقال بحياته من مدينة إلى مدينة أخرى والكفاح من أجل فرصة جديدة بالغة الصعوبة لكي يحفر بصمته الخاصة ضمن حدود الفضاء العام “الرسمي” المكلّف بديهيًا بالنبذ والإقصاء والتعتيم على أي بصمات خارجه مقارنة بالتوطيدات السهلة والمجانية لخطوات أبنائه.

 في مقال سابق قمت بتلخيص “المسيرة المبهرة” لإحدى الشاعرات “الشهيرات” المضحكات: “كاتبة متعجرفة، توزّع هشاشتها عداوات كوميدية، اعتمادًا على مكانة في الوسط الأدبي لم تكن لتبلغها لو كانت قد كتبت كل ما كتبته وهي لا تزال مقيمة في قريتها أو حتى في المركز الذي تتبعه قريتها أو حتى في عاصمة المحافظة التي تتبعها قريتها”.. حقيقة بسيطة ومختصرة ووافية لا يخدشها صراخ المركزيين ولا يجرحها عويل المكرسين ولا يضللها الهراءات التزييفية للمغتلين.. لو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما كان هناك فرق بين المسارات التي يقطعها النص أو الدراسة النقدية أو العمل المترجم إذا ما كان الكاتب يسكن في بلد ما أو في بلد آخر، لو كان يدرس في مكان ما أو في مكان آخر، لو كان يعمل في وظيفة ما أو في وظيفة أخرى.. يحق لأي أحد أن يتباهى بأي مما يرى أنه يستحق التباهي به، لكن حينما تتغاضى عمدًا أو جهلًا عن فضل وتأثير الإمكانيات المتوفرة في “جغرافيتك”، والتي حرُمت منها “جغرافيا” أخرى فأنت إما جبان أو غبي.

هذه السطور من نوفيلا “جرثومة بو” الصادرة عن دار عرب 2018 : 

“انغمس ذهني في استعادة التاريخ القصير لهذه اللحظة، وتحديدًا منذ يوم الثلاثاء 29 يونيو عام 1993 حيث نُشرت قصتي الأولى “انكسار” بالملحق الأدبي لجريدة المساء مع تقديم لي برفقة كاتبين آخرين هما إيناس وجيه ومحمد محفوظ.. كانت الورشة الإبداعية لمركز الأبحاث بدار التحرير الذي يديره د. فتحي عبد الفتاح قد عقدت ندوتها الأسبوعية التي تستكتشف من خلالها المواهب الأدبية الجديدة في مصر بنادي أدب قصر ثقافة المنصورة مساء الخميس 24 يونيو أي قبل خمسة أيام من تاريخ النشر.. كنت في السادسة عشر حينها، وكنت أنا وإيناس ومحمد أصغر من قرأوا أعمالهم في تلك الندوة، أما لحظة فتح جريدة “المساء” أمام بائع الجرائد في ميدان المحطة، ورؤية قصتي التي قرأتها في الندوة منشورة وبجوارها صورتي تحت تصدير للصفحة بأننا كنا مفاجأة الورشة الإبداعية، وأن الساحة الأدبية في مصر قد أُضيفت إليها من اليوم وبقوة أسماؤنا، مع التأكيد على القرّاء في نهاية التصدير بعدم نسيان هذه الأسماء ثم قطعي للمسافة بين بائع الجرائد وبيتي جريًا كي أُطلع أمي وأبي عليها فقد كانت من أجمل لحظات عمري.. كأن بابًا كبيرًا للسعادة قد فُتح فجأة داخل حياتي، ولم تتوقف خطواتي المحلقة بعد عبوره عن التقدّم لأعلى.. خلال سنة كاملة بعد هذا اليوم واصل د. فتحي عبد الفتاح نشر قصصي القصيرة التي أعطيتها في يوم الندوة للأستاذة عزة شلبي المحررة بالقسم الأدبي في “المساء”، وكانت هذه السنة هي عام الثانوية العامة بالنسبة لي.. بعد نجاحي والتحاقي بكلية الآداب قسم اللغة العربية سافرت إلى القاهرة وقابلت د. فتحي بمكتبه في دار التحرير، وطلبت منه أن أتدرّب على العمل الصحفي بالقسم الأدبي معه.. رحّب د. فتحي على الفور مُشيدًا بموهبتي، وأخبرني أن أعتبر المكان مكاني.. ستظل هذه الفترة التي قضيتها في العمل مع د. فتحي عبد الفتاح محفورة في ذاكرتي كواحدة من أروع أوقات حياتي المهنية.. أستعيد البهجة الممتنة والرائقة التي عشتها مع سفر القاهرة يوم الخميس من كل أسبوع.. السير من رمسيس أو أحمد حلمي إلى دار التحرير.. طعم سجائر البوسطن واللايت وهوليود الذي لم يتكرر.. تناول ساندويتشات الفول والطعمية وشرب الشاي والقهوة على كرسي وطاولة صغيرة أمام مقهى في شارع عماد الدين تجاوره واحدة من السينمات المهجورة منذ زمن طويل، ويظهر أفيش أحد الأفلام العربية القديمة ملصقًا على حائط داخل ظلامها المغلق ببوابة صدئة.. قراءة الجرائد والمجلات في صالة استقبال دار التحرير حتى الثانية عشر ظهرًا.. صعود السلالم.. دفع الباب الزجاجي لمركز الأبحاث.. برودة التكييف ورائحتها الممتزجة برائحة الكتب وأوراق الكتابة الصفراء.. المشي داخل المكتبة حتى الوصول إلى صالة الاجتماعات الملحق بها مكتب د. فتحي.. الجلوس فوق طاولة الاجتماعات، ومراجعة أوراق العمل.. توافد الزملاء.. خروج د. فتحي عبد الفتاح وجلوسه على رأس الطاولة.. المناقشات حول مواد الملحق الأدبي الذي يُنشر يوم الثلاثاء قبل أن يتغيّر موعد صدوره إلى الإثنين.. جلوسي مع د. فتحي في مكتبه بعد انتهاء الاجتماع.. كان كل شيء مثاليًا.. لم أكتب حرفًا واحدًا إلا وتم نشره على الفور سواء في الملحق الأدبي لجريدة المساء، أو في الصفحة الأدبية بجريدة الجمهورية التي كان يُشرف عليها د. فتحي أيضًا.. لم أصدق يوم أن نُشر مقال لي في باب “خواطر”، والذي كان معروفًا أنه مخصص لكبار الأدباء.. كان المقال عن رواية فؤاد حجازي “الأسرى يقيمون المتاريس”، وحينما رأى د. فتحي دهشتي الفرحة ابتسم وقال لي أنني أستحق أكثر من ذلك.. استمر أيضًا نشر قصصي القصيرة في “المساء” و”الجمهورية”، ونتيجة لكل هذا لم أتعجب حينما صارحني أحد الزملاء في القسم أثناء التمشية ليلًا بعد خروجنا من ندوة مناقشة “الحب في المنفى” لبهاء طاهر في أتيليه القاهرة بأن المحررين كانوا يقولون لبعضهم عند انضمامي للقسم الأدبي أن المشرحة لا ينقصها القتلى، ثم أدركوا تدريجيًا بأنني لست واحدًا من هؤلاء القتلى، خاصة بعد نشر مقالي في باب “خواطر”.

لكن باب السعادة أغلق فجأة مثلما فُتح؛ إذ أخبرني د. فتحي عبد الفتاح ذات يوم عقب انقطاعي فترة عن الحضور لسبب لم أعد أتذكره، وربما يرجع في الأغلب لخسارة جديدة استغرقت وقتًا طويلًا في صراعي الدائم ضد أسرتي للحصول على المال من أكياسهم الممتلئة؛ أخبرني أن سمير رجب أثناء غيابي قرر عقد اختبارات مفاجئة للمتدربين من أجل تصفيتهم، وبالطبع، ولأنني لم أكن متواجدًا من الأساس فقد تم إقصائي من الجريدة.

لم أشعر بمدى محبة د. فتحي عبد الفتاح وتقديره لي أكثر من هذه اللحظة التي أخبرني فيها دون أن ينظر أسفه العميق في عينيّ بأن الجريدة ستظل مفتوحة لقصصي ومقالاتي ولكن بشكل غير رسمي.. صافحني بقوة مواسية ثم أخبرني بوجود مستحقات مالية لي، يتعيّن أن أمر على الخزانة لاستلامها.. خرجت من مكتبه، وألقيت نظرة أخيرة على طاولة الاجتماعات ثم غادرت الجريدة دون مجرد التفكير في التوجّه إلى الخزانة”.

       موقع "الكتابة" ـ 23 فبراير 2022

الجمعة، 18 فبراير 2022

نبوءات لا مرئية

أشعر كذلك وعلى نحو قاطع بأنه أيضًا لا يعرفني .. أنه يتفحص ملامحي في كل مرة أنظر خلالها إلى هذه الصورة، ويقول من وراء صمته أن تفاصيل هذا الوجه الذي يتطلع إليه تخص شخصًا مجهولًا تمامًا .. أشعر أن وجهي يظهر أمامه هو الآخر داخل إطار مرآة مزخرف، وذلك ما يفرض على بصره مشقة مماثلة .. ربما لديه نفس الإحساس المبهم المستقر في اضطرابي الأزلي بأن هناك فجوة مظلمة بيننا .. انقطاعًا غامضًا في الزمن، خلق هذه المسافة الملغزة بين غفلتي كل منا .. كأنما تم إيقاف خطواته وفصله عن المستقبل الذي سيحاصرني وحدي مثلما سيظل هو مسجونًا في لحظته، في واقعه الخاص الذي يتجسّد في لقطة غير مثالية لابن يحتاجها أب مغترب.

أعتقد أن كلًا منا لا يحب التطلع في وجه الآخر .. النظر إلى ملامح هذا الطفل هو لحظة الإحساس بالضآلة القصوى، بأبعد حد من الضعف، أو بتعبير أدق من انعدام الحيلة .. هي اللحظة التي تعني دون تفاوض أو رحمة أنني لا أمتلك الماضي الجدير بالتطلع إليه .. أنني لا أستحق أن أتأمل ملامحه .. هو أيضًا يبدو عليه الشعور بذنب ما، بخيانة أُرغم عليها، أو بمصير لم يفهم كيف كان يجب أن يتوقعه .. كأن النظر المتبادل هو لحظة عقاب ذاتي يحاول كلانا تفاديها .. موعد متناثر للحسرة، بعد أن فشل كل منا في التعرّف على الآخر .. صراع على تحاشي أن يكره كلانا الآخر، كأنما كل منا قد انتقم فعلًا من الآخر بطريقته.

أنا أخاف من التطلع إليه، لأنني حينما أفعل هذا أرى لعينيه اللتين تلمع الدموع المتجمدة فيهما نظرة تقتحمني، وتعبر جسدي لتراقب شيئًا مرعبًا، مخفيًا تمامًا وراء ظهري .. حينما أتطلع إلى هذا الطفل لا أرى بداية، وإنما نهاية تندفع في مسارها الثابت، وربما هذا ما يضاعف البكاء المكتوم في صدره .. جميع صوري الفوتوغرافية سواء كانت فردية أو جماعية تنتمي إلى نفس الانعزال؛ فالأطفال والصبية والشباب والرجال الذين يظهرون فيها مع تعاقب السنوات ويدّعون أنهم يمثلونني ليس لهم أي علاقة بي، أو بالطفل في صورة الأبيض والأسود، وحتمًا ليست لهم أي علاقة ببعضهم .. كأن كل نسخة مني في كل صورة تفصلها فجوة مظلمة عن الأخرى بطريقة ما.

جزء من رواية قيد الكتابة

“كوكسال بابا” طفولتي: الكوميديا غضب .. الغضب ليس كوميديًا

كان شابًا بالغ القصر والنحافة، بشعر بني أجعد طويل، وشارب كث، وبملامح وصوت يشبهان الكوميديان اللبناني الشهير “شوشو” .. لابد أنه كان عاملًا فقيرًا في مكان ما بالقرب من الشارع الذي أسكنه، أما عبوره ذلك الشارع كقنفذ ممسوس، بتقافزات سريعة متأرجحة ومختالة لشراء الخبز من الفرن المواجه لشرفتي أو ساندوتشات الفول والطعمية من أحد المطاعم الصغيرة المتقاربة أو علب السجائر من دكاكين البقالة أو أي غرض آخر من السوق القديم؛ كان ذلك العبور أشبه باستعراض متكرر .. كان يمر كقافلة من البذاءات الطائشة يطلقها بنبرة حادة ذات صدى انتقامي نحو الكل .. العابرين والجالسين في المقهى أسفل شرفتي والواقفين في طابور المخبز .. شتائم فاحشة بضمير المخاطب للجمع، لا تستثني أحدًا، ولا تعطلها الضحكات الساخرة والعبارات الاستهزائية التي تحاصر مروره كـ “قزم معروف لا يحتمل جنونه الشك” .. من مكاني في الشرفة (حيث كانت تعيش طفولتي) لم يكن الأمر مضحكًا .. كانت لحظات وجوده المؤقتة في الشارع تزعجنى، وكان ما يثقل هذا الانزعاج أن سر ذلك الشاب كان عاريًا كفضيحة سخية .. كان ما يتحتم أن يكون خفيًا أصبح متاحًا للتداول في المجال الخاطئ؛ الأمر الذي حوّله إلى مزاح تحقيري شهي بين أفواه المتربصين وهو ما لم أكن أرضاه لأحد .. كنت أكره الضحكات المقترنة بالإهانات الماجنة التي يلاحقون بها جسده الضئيل .. بالنسبة لي كان كائنًا غاضبًا للغاية، بل لا يحمل ولاءً إلا لغضبه، ربما بسبب تكوينه الجسماني وفقره أو حياته البائسة بشكل عام، ولم يكن ما يفعله إلا عقابًا لفظيًا عاتيًا لبشر لا يتحملون ذنب معاناته، غير أن التهكم على (علّته) كان يحمّلهم الذنب بالفعل .. فكرت في هذا لأنني كنت طفلًا يربي منذ لحظاته المبكرة خبرة انعزالية للغضب .. الخبرة التي لا تعتمد على الإحساس التقليدي والتنامي المتدرّج للمعرفة به فحسب وإنما على تأمل أغواره واكتشاف الآثار المتعددة والمتغيّرة لتحريره وكتمانه .. كانت خبرة قائمة على التلصص للكيفية الملغزة التي لا تُبقي تلك المراقبة من خلالها الغضب محكومًا بالشروط المباشرة للواقع وإنما تضاعفه وتحفّزه على التمادي خارج نفسه ليتمثل حتى في أكثر الانحيازات براءة للذات .. كان التأمل يجعل الغضب في أطواره البدائية أشبه بالإلهام الشهواني الذي يحرّضه على التناثر بين الأجساد كافة، وعلى اجتياح المسافات والحدود والنفاذ عبر الحياة والموت نحو مجابهة القدر كأصل لا أخلاقي ..  لكن ذلك العقاب في وعيي بدا أنه يستهدف ما هو أبعد من مخلوقات ذلك الفضاء المكاني الذي يخترقه ككرة لهب مسنونة .. كنت أشعر أن شبق شتائمه مصوّبًا إلى ما يتجاوز المدينة والعالم نفسه .. إلى غموض محصّن لا يتجلى إلا من خلال الشقاء .. هذا هو (الجنون) كما فهمته ـ ولو بصورة مبهمة ـ في طفولتي.

لم أعترف أبدًا بشخصية “الكوميديان الغاضب” .. الممثل الذي يعتمد في خلق الضحكات على مشاعر الحنق الثائرة التي تتملّكه أمام الكاميرا .. عبد السلام النابلسي على سبيل المثال بالنسبة لي هو أي شيء آخر غير أن يكون ممثلًا كوميديًا .. قد يكون ممثلًا فقط (سيئًا كما أراه)، أما لحظات غضبه التي يُفترض أن تسبب “الضحك” فهي مزيج من السخافة وثقل الدم .. حتى إذا نتج عن أدائه ابتسامة على الأقل فذلك سيكون بعيدًا عما اشتهر به أي “الغضب الكوميدي” .. ذلك ينطبق عندي على ما يماثلونه بمن فيهم “كوكسال بابا” الذي لا تضحكني تصرفاته الغاضبة على الإطلاق؛ إذ أنه مع التدقيق النقي في ما تنجم عنه الضحكات حقًا لدى “الكوميديان الغاضب” ربما سندرك أنها منفصلة عن غضبه في الحقيقة، وأن ما يجعلنا نعتبرها كذلك هو تداخلها مع الظواهر المعتادة للغضب .. يمكننا حينئذ أن نطلق على تلك اللحظات المضحكة التي تتخلل الغضب أي تسمية أخرى: حقد ـ غيظ ـ عتاب ـ سخرية ـ ذهول … إلخ .. أي تسمية عدا الغضب .. الكوميديا ـ كأي ممارسة أخرى ـ دافعها غضب ما، بصرف النظر عن طبيعة تجسّدها، لكن الغضب الخالص ـ كما أعرفه ومثل الحزن والألم ـ ليس مضحكًا .. الشخصية الكوميدية الوحيدة التي أضحكني غضبها هي “بطوط” .. لأنه كان كارتونيًا، ولم يكن غاضبًا حقًا مهما أظهر ذلك .. “بطوط” كان يستخدم عصبيته لترسيخ إيمانه المسالم بالحياة .. الحياة كما يمكن أن تكون في “مدينة البط”.

بنهاية طفولتي اختفى الشاب الغاضب .. لم أعد أراه مطلقًا لا من الشرفة ولا في أي مكان آخر داخل المدينة .. كأنه كان علامة مرهونة بتلك الطفولة المنتهية .. كان الموت تفسيرًا بديهيًا لهذا الاختفاء .. لم أفكر في أنه قد يكون مريضًا على النحو الذي يجعله عاجزًا عن الخروج من بيته .. كان بالنسبة لي أن يتوقف عن ممارسه طقسه الثأري المعهود فذلك لا يعني سوى أنه أصبح ميتًا .. ما يقرب من ثلاثين عامًا كان عمر ذلك الاختفاء أو ما تصوّرت أنه غياب أبدي عن العالم قضيتها في توزيع أكثر اللعنات فحشًا على الذين يجثمون على أنفاسي في كل مكان، مرورًا بالدنيا كمدفن استباقي للجميع ووصولًا لحفّار القبور الوضيع المختبئ في المطلق .. أحيانًا بالصوت الباطني، وأحيانًا في همسات غير مسموعة لأحد غيري، وأحيانًا بوضوح نادر مروّع ـ ما صرت أرضاه لنفسي بداهة بل وأؤمن بحتميته ـ  كتحدٍ للغيب أن يتسم ـ ولو لمرة واحدة فقط ـ بشيء من الشرف، ويخوض نزالًا حقيقيًا متكافئًا ضدي .. ما يقرب من ثلاثين عامًا قضيتها في سب المارة من حولي في الشوارع والعابرين أسفل شرفتي دون أن يدركوا ذلك، حتى رأيت ذلك الشاب الغاضب فجأة يسير وحيدًا في شارع بعيد عن المنطقة التي كنت أسكنها وشهدت الجولات الروتينية لسبابه الصادح نحو عابريها .. صار رجلًا عجوزًا، بشعر أبيض وتجاعيد متهدلة، كما كان صامتًا ويمشي ببطء .. كان لا يزال ذلك الكائن بالغ القصر والنحافة، لكن دون شتائم نابية أو خطوات مهتاجة .. مررت بجانبه ونظرت في عينيه اللتين تحدقان في موضع سيره .. كان فيهما من الحيرة الراضخة وعدم التصديق المتحسر ما جعلني أوقن أنه قد وصل إلى ذروة غضبه .. كنت في طريقي إلى البيت حيث سأغلق بابه على نفسي وأتوقف لسنوات طويلة عن الخروج ومقابلة الآخرين .. حيث سيكون مجرد الوقوف في الشرفة جحيمًا .. كأنه كان يجب أن نلتقي ـ نحن الذين لا يعرف أي منا اسم الآخر ـ في هذ الموعد بالذات بعدما وصلنا إلى الاعتراف الختامي بأنه لم تكن هناك صلاحية للعالم من الأساس حتى نوثق نهايتها في الخطوة الأخيرة لكفاحنا المتداعي نحو الخلاص .. كانت تلك اللحظة وداعًا بيننا.

الخميس، 17 فبراير 2022

1994 / لوسيل كليفتون ـ ترجمة: ممدوح رزق


 كنت أغادر سنتي الثامنة والخمسين

عندما ختم إبهام الجليد نفسه بقوة

قريبًا من قلبي.

لديكِ قصتك الخاصة

تعرفين المخاوف السرية للدموع

ندبة الكُفر

تعرفين أن أكثر الأكاذيب تعاسة

تلك التي نقولها لأنفسنا.

تعرفين مدى خطورة

أن تولَدي بثديين

مع ارتداء البشرة الداكنة.

كنت أغادر سنتي الثامنة والخمسين

عندما استيقظت في الشتاء

بجسم بارد وميت

تتدلى منه أحلام جليدية

الحلمة المجنونة الوحيدة تبكي

ألم نكن أطفالًا صالحين

ألم نرث الأرض حقًا …

يجب أن تعرفي كل شيء عن هذا

من حياتِك المرتجفة.

الخميس، 3 فبراير 2022

سهرك وحكايتك وحواديتك

صدر شريط “شبابيك” سنة 1981 .. كان عمرك عشرين عامًا وكنت أنا في سن الرابعة .. تنقلت معك أغنياته من غرفة نومك إلى حجرة الصالون عبر المسجّل “باناسونيك” القديم، ورافقتك حتمًا أينما ذهبت خارج البيت عبر أصدائها المستقرة في روحك .. لكن ما كان يُسكر طفولتي في تلك الأيام البعيدة من “شبابيك” تم اختزاله في إغواءات محددة، اعتمد تسللها إلى وجداني على أوقات استماعك لها وهو ما كان يحدث أحيانًا دون انقطاع، أي على نحو جارف .. أنت تعرف؛ لم يكن مسموحًا لي أن أمد يدي الصغيرة نحو خزانة الشرائط الخشبية الزرقاء الخاصة بك والتي كانت معلّقة على حائط غرفة نومك، أو إلى معرض الألبومات المتفاخر الذي كنت تقيمه فوق السُفرة داخل حجرة الصالون كي ألتقط شريطًا منها ثم أديره في الكاسيت لأستمع إلى أغنياته مثلما كان يمكن أن يفعل أي أحد آخر داخل البيت أو مثلما كنت تفعل أنت تحديدًا .. لذا لم يكن بمقدوري أن أستمع أو أسترق الإنصات بشكل أدق إلى “شبابيك” إلا في اللحظات التي كنت تستمع فيها أنت إلى أغنياته .. لكن في كل مرة ـ مع السخاء النقي لتلك اللحظات ـ لم تكن تُمرَر إلى أذنيّ إلا مقاطع ثابتة، جزئيات لا تتغيّر أبدًا وتطغى على ما سواها، نفس الغنائم السمعية تُعاد دائمًا في ما يشبه رسائل انتقائية مبكرة، كأنه كان ثمة نوع من التواطؤ القدري يكشف عن نفسه أو انسجام سحري يتدبر ذاتيًا بين جماليات معينة في هذا الشريط، والوجدان الآخذ في تشكله البدائي: موسيقى “الليلة يا سمرة” ـ مقدمة “شجر الليمون” ـ كلمات “دي عينيك شبابيك” .. حتى أنه عندما أتيح لي الاستماع لأغنياته كاملة باستقلالية التجاوز لطفولتي بدا كأنني أتعرّف عليها للمرة الأولى.

لكل شخص سره الخاص في الأغنية التي يحبها (الحب الذي قد يٌدرك بتشريح ما يمكن أن تعنيه الرومانسية المضادة) .. التفصيلة الصغيرة التي تجعل الأغنية كأنما خُلقت من أجله تحديدًا: كلمة .. عبارة .. كوبليه .. نغمة .. مقطع موسيقي .. لازمة متكررة .. أحيانًا تكون مجرد إشارة بالغة الضآلة .. وخزة لحنية عابرة كأنها تلويحة غيبية غامضة تقصد نفسك كما تجهلها، ترنّحك الأعمى والهازئ في متاهات المدينة، فتنة التبدد المتلاحق لجسدك من ظلام العالم .. السر الذي لن يعرفه أحد مطلقًا إلا إذا كشف صاحبه عنه بنفسه .. لم أملك إذن سوى أن أختار واحدة مما تبقى من مذبحة صورك لكي أحاول من خلال سكونها المهترئ والخبيث العثور على ذلك المكان المبهم الذي كان محل إقامتك داخل “شبابيك”.

أتأمل في صورة تبدو عناصرها المكانية الباهتة كأنما اٌلتقطت في مطعم فندق “القاهرة”: الحوائط .. الستائر .. المقاعد .. الطاولات .. المفارش .. مطافئ السجائر .. لكن ذلك ليس مؤكدًا بما أنني أعتمد على ذاكرتي الجامحة في استرجاع المكان ذاته .. ربما يكون فندق “مكة” أو “أبو شامة” أو مطعم آخر .. لكن المؤكد أنك أنت الذي تجلس على جانب طاولة، وتنظر إلى صديقين لك يتخذ جلوسهما المتجاور وضعية المعانقة اللائقة بالتصوير على الجانب الآخر منها .. المؤكد أنك لا تنظر إلى العدسة التي تلتقط الصورة، كأنك تدرك أن الكادر الموشك على التمثل لا يقصدك، وإنما يتركز هدفه على تثبيت لحظة رائقة بين صديقين متقاربين في ابتسام ماكر، وفي يد كل منهما سيجارة مارلبورو على الأغلب (تظهر العلبة بوضوح تام فوق الطاولة)، بينما عيونهما تخاطب العدسة بطمأنينة لاهية، ثقة يوطدها دهاء مرح في أن الصورة توثق انتصارًا بديهيًا لهما، لا تنقصه الهيبة، ولا ينعزل عن مٌلتقط الصورة حتمًا .. انتصار عليك أنت .. وجودك على هامش الكادر ينبئ بهذا .. ذراعاك المستندين على الطاولة والمرفوعين كأنهما في حالة توسل، محاولة واهية لإرجاء مصير محتوم، استسلام لخيبة أمل دامغة .. أصابعك التي ـ رغم رخاوتها الظاهرة ـ تعتصر السيجارة التي قاربت على الانتهاء من التهام نفسها دون أن تنتبه .. نظرتك المحطمة بعدم تصديق مكتوم لهزيمة متوقعة، حيث عينيك لا تحدقان في وجهي الصديقين المتلاصقين، المبتسمين للعدسة التي تلتقط صورتهما، وإنما في اتجاه هذين الوجهين، في الامتداد الذي يتجاوزهما، كأنما بصرك الذاهل كان يتمعن في خيانة اعتيادية متجذرة داخل ملامحهما قبل التقاط الصورة بلحظة واحدة، ثم تحرك مثقلًا باعترافه القهري بتلك الخيانة متخطيًا هذه الملامح المتناغمة نحو الفراغ الشيطاني المحيط بها عند التقاط الصورة .. ما كان يجب أن يؤديه بصرك بعفوية خالصة ليتحسس لغزًا شهوانيًا جديدًا ومضجرًا في الدعابة الصامتة لاحتضارك .. الطرطور المنتصب على الطاولة أمامك (كأنها فيما يبدو كانت ليلة الاحتفال برأس السنة)، جعل الصورة تجسيدًا لحلم قاتل، كابوس كوميدي، عمرك القصير يمر أمام عينيك الساهمتين بعتاب مذبوح في خفاء الكادر حيث يتساوى كل شيء: أن تضع الطرطور فوق رأسك وترقص به كأنه قطعة ضرورية لعرض ستربتيز .. أن تتفحص ألوانه المتوعدة بين يديك كطفل غافل .. أن تتلصص على بهجته المشؤمة بشغف واجم بينما يعتلي رأس شخص آخر .. أن تتبادله الضحكات الماجنة حتى يصل لذروة التآلف مع تمزقه الوشيك .. أن يظل ساكنًا في حياد مروّع بجانب ذراعيك المرفوعين كشاهد قبر متنكر، يخبّئ نشوته بأنفاسك المتحجرة.

أتملى في وجهك المسجون للأبد داخل هذه الصورة يا مجدي .. أتملى مرارًا كأنني أتحسس لعنتي التي لن تغادر هذا الإطار مطلقًا .. شرودك المرتجف ينظر لي من داخل الصورة، إلى فجيعتك الكونية العارية التي لا تتوقف عن النزف من أشلاء عينيّ .. أبصر في هذه اللقطة الأقدم بكثير من زمنها راية ترفرف تحت المطر الغزير بقوة الرياح الشتوية الباردة فوق سطح بنك مصر عصرًا .. “موسيقى الليلة يا سمرة” .. بيوت “طلخا” على جانب النهر المقابلة لكوبري “الهابي لاند” فيما بين عصر ومغرب الصيف والشتاء .. “الصدى الرجائي لصوت محمد منير في إعادة (الليلة يا سمرة)” .. الورد البلدي الأحمر على الضفة الأخرى من النيل أمام جامع “السنجق” عصرًا .. “قلبي ولا البحر الهادر” .. الخطو داخل المساحة الصغيرة المشمسة “عصرًا أيضًا” من ناصية شارع البحر بجوار السنترال نحو منتصف شارع بنك مصر .. “شميت هواكي لقيت نفسي” .. العبور على الجانب الموازي لفندق “أبو شامة” قرب المغرب الشتائي الغائم نحو السكة الجديدة .. “والسهر والحكاية والحواديت” .. التحرّك لمسافة قصيرة من داخل ما يشبه محطة سيارات أجرة نحو جانب طريق عمومي مزدحم إلى حد ما بالمارة والعربات، يعادل اتساعه شارع “بورسعيد” أمام المساكن الشعبية في العصر شتاءً .. “أنا بعت الدموع، الدموع والعمر، طرحت جنايني في الربيع، في الربيع الصبر” .. سماء المغرب الشتوية وأسطح ونوافذ المنازل القديمة المغلقة بسكينة بنفسجية صافية من شباك جانبي يطل على شارع خلفي في منطقة “سيدي عبد القادر” .. “الخفقة النغمية المتحسّرة قبل إعادة (أنا بعت الدموع، الدموع والعمر، طرحت جنايني في الربيع، في الربيع الصبر)” .. الأضواء الصفراء والبيضاء الساطعة لمحلات وعواميد إنارة “ميت حدر” المتوحدة برائحة الاحتراق المعطّر للنسيم الشتوي البارد في بداية المغرب أثناء المرور من ناصية شارع سينما أوبرا نحو امتداد مبنى المدرسة الابتدائية .. “وقلت أنا عاشق سقوني كتير المُر، ورا الشبابيك” .. بداية المساء الشتائي حيث لا أحد في بيت الأسرة إلا أنا وأمي؛ مصباح النيون الأبيض للصالة مضاءً “أتحرك وحدي بجسدي الضئيل داخلها والتليفزيون يعرض بصوت مكتوم حلقة من المسلسل العربي”، وكذلك مصباح “طبق الإضاءة الأحمر” في سقف حجرة والديّ، أمي تجلس ممددة تحت أغطية فراشها في صمت، الكل في الخارج “أبي وإخوتي وجدتي” عدا أنا وأمي وحدنا، وبقية الحجرات مطفأة الإضاءة، شرفة حجرتي المظلمة تقريبًا مفتوحة بكامل اتساعها، ولا ينبعث من الشارع إلا نور أبيض شاحب مصدره المقهى أسفل البيت، يمكنني من مكاني في منتصف الصالة أن أرى انعكاسه على الواجهة العتيقة للمنزل المقابل .. “شجر الليمون من البداية للنهاية” .. أنت الذي تتملى في وجهي المسجون للأبد داخل هذه الصورة يا مجدي .. تتملى مرارًا في كل صور جثتي مع أصدقائي .. موتك ينظر إلى الثمانينيات في هيمنتها خارج تخومها الوقتية.

بعد أربعين عامًا من “شبابيك”، أقف في شرفة غريبة تحت مطر غريب مراقبًا وجوه غرباء .. أتأكد أكثر أن الاستماع للأغنية ليس فقط ما يخلق الذكرى، وإنما الاستعادة الذهنية الخرساء لها أيضًا .. التفكير في كلماتها واسترجاع نغماتها في قلبك يجعلان واقع اللحظة منتميًا لها: الأشياء والبيوت والأجساد .. الشتاء الآن .. كل كائنات الحاضر تصبح ذكرياتك .. تصبح ذكرياتنا المغدور بها من قبل أن توجد .. ليس الاستماع للأغنية فقط، وإنما الاستعادة الذهنية الخرساء لها أيضًا هي ما ترسخ لدينا الإيمان بأن ذكرياتنا لم تحدث من الأصل.  

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.