الخميس، 3 فبراير 2022

سهرك وحكايتك وحواديتك

صدر شريط “شبابيك” سنة 1981 .. كان عمرك عشرين عامًا وكنت أنا في سن الرابعة .. تنقلت معك أغنياته من غرفة نومك إلى حجرة الصالون عبر المسجّل “باناسونيك” القديم، ورافقتك حتمًا أينما ذهبت خارج البيت عبر أصدائها المستقرة في روحك .. لكن ما كان يُسكر طفولتي في تلك الأيام البعيدة من “شبابيك” تم اختزاله في إغواءات محددة، اعتمد تسللها إلى وجداني على أوقات استماعك لها وهو ما كان يحدث أحيانًا دون انقطاع، أي على نحو جارف .. أنت تعرف؛ لم يكن مسموحًا لي أن أمد يدي الصغيرة نحو خزانة الشرائط الخشبية الزرقاء الخاصة بك والتي كانت معلّقة على حائط غرفة نومك، أو إلى معرض الألبومات المتفاخر الذي كنت تقيمه فوق السُفرة داخل حجرة الصالون كي ألتقط شريطًا منها ثم أديره في الكاسيت لأستمع إلى أغنياته مثلما كان يمكن أن يفعل أي أحد آخر داخل البيت أو مثلما كنت تفعل أنت تحديدًا .. لذا لم يكن بمقدوري أن أستمع أو أسترق الإنصات بشكل أدق إلى “شبابيك” إلا في اللحظات التي كنت تستمع فيها أنت إلى أغنياته .. لكن في كل مرة ـ مع السخاء النقي لتلك اللحظات ـ لم تكن تُمرَر إلى أذنيّ إلا مقاطع ثابتة، جزئيات لا تتغيّر أبدًا وتطغى على ما سواها، نفس الغنائم السمعية تُعاد دائمًا في ما يشبه رسائل انتقائية مبكرة، كأنه كان ثمة نوع من التواطؤ القدري يكشف عن نفسه أو انسجام سحري يتدبر ذاتيًا بين جماليات معينة في هذا الشريط، والوجدان الآخذ في تشكله البدائي: موسيقى “الليلة يا سمرة” ـ مقدمة “شجر الليمون” ـ كلمات “دي عينيك شبابيك” .. حتى أنه عندما أتيح لي الاستماع لأغنياته كاملة باستقلالية التجاوز لطفولتي بدا كأنني أتعرّف عليها للمرة الأولى.

لكل شخص سره الخاص في الأغنية التي يحبها (الحب الذي قد يٌدرك بتشريح ما يمكن أن تعنيه الرومانسية المضادة) .. التفصيلة الصغيرة التي تجعل الأغنية كأنما خُلقت من أجله تحديدًا: كلمة .. عبارة .. كوبليه .. نغمة .. مقطع موسيقي .. لازمة متكررة .. أحيانًا تكون مجرد إشارة بالغة الضآلة .. وخزة لحنية عابرة كأنها تلويحة غيبية غامضة تقصد نفسك كما تجهلها، ترنّحك الأعمى والهازئ في متاهات المدينة، فتنة التبدد المتلاحق لجسدك من ظلام العالم .. السر الذي لن يعرفه أحد مطلقًا إلا إذا كشف صاحبه عنه بنفسه .. لم أملك إذن سوى أن أختار واحدة مما تبقى من مذبحة صورك لكي أحاول من خلال سكونها المهترئ والخبيث العثور على ذلك المكان المبهم الذي كان محل إقامتك داخل “شبابيك”.

أتأمل في صورة تبدو عناصرها المكانية الباهتة كأنما اٌلتقطت في مطعم فندق “القاهرة”: الحوائط .. الستائر .. المقاعد .. الطاولات .. المفارش .. مطافئ السجائر .. لكن ذلك ليس مؤكدًا بما أنني أعتمد على ذاكرتي الجامحة في استرجاع المكان ذاته .. ربما يكون فندق “مكة” أو “أبو شامة” أو مطعم آخر .. لكن المؤكد أنك أنت الذي تجلس على جانب طاولة، وتنظر إلى صديقين لك يتخذ جلوسهما المتجاور وضعية المعانقة اللائقة بالتصوير على الجانب الآخر منها .. المؤكد أنك لا تنظر إلى العدسة التي تلتقط الصورة، كأنك تدرك أن الكادر الموشك على التمثل لا يقصدك، وإنما يتركز هدفه على تثبيت لحظة رائقة بين صديقين متقاربين في ابتسام ماكر، وفي يد كل منهما سيجارة مارلبورو على الأغلب (تظهر العلبة بوضوح تام فوق الطاولة)، بينما عيونهما تخاطب العدسة بطمأنينة لاهية، ثقة يوطدها دهاء مرح في أن الصورة توثق انتصارًا بديهيًا لهما، لا تنقصه الهيبة، ولا ينعزل عن مٌلتقط الصورة حتمًا .. انتصار عليك أنت .. وجودك على هامش الكادر ينبئ بهذا .. ذراعاك المستندين على الطاولة والمرفوعين كأنهما في حالة توسل، محاولة واهية لإرجاء مصير محتوم، استسلام لخيبة أمل دامغة .. أصابعك التي ـ رغم رخاوتها الظاهرة ـ تعتصر السيجارة التي قاربت على الانتهاء من التهام نفسها دون أن تنتبه .. نظرتك المحطمة بعدم تصديق مكتوم لهزيمة متوقعة، حيث عينيك لا تحدقان في وجهي الصديقين المتلاصقين، المبتسمين للعدسة التي تلتقط صورتهما، وإنما في اتجاه هذين الوجهين، في الامتداد الذي يتجاوزهما، كأنما بصرك الذاهل كان يتمعن في خيانة اعتيادية متجذرة داخل ملامحهما قبل التقاط الصورة بلحظة واحدة، ثم تحرك مثقلًا باعترافه القهري بتلك الخيانة متخطيًا هذه الملامح المتناغمة نحو الفراغ الشيطاني المحيط بها عند التقاط الصورة .. ما كان يجب أن يؤديه بصرك بعفوية خالصة ليتحسس لغزًا شهوانيًا جديدًا ومضجرًا في الدعابة الصامتة لاحتضارك .. الطرطور المنتصب على الطاولة أمامك (كأنها فيما يبدو كانت ليلة الاحتفال برأس السنة)، جعل الصورة تجسيدًا لحلم قاتل، كابوس كوميدي، عمرك القصير يمر أمام عينيك الساهمتين بعتاب مذبوح في خفاء الكادر حيث يتساوى كل شيء: أن تضع الطرطور فوق رأسك وترقص به كأنه قطعة ضرورية لعرض ستربتيز .. أن تتفحص ألوانه المتوعدة بين يديك كطفل غافل .. أن تتلصص على بهجته المشؤمة بشغف واجم بينما يعتلي رأس شخص آخر .. أن تتبادله الضحكات الماجنة حتى يصل لذروة التآلف مع تمزقه الوشيك .. أن يظل ساكنًا في حياد مروّع بجانب ذراعيك المرفوعين كشاهد قبر متنكر، يخبّئ نشوته بأنفاسك المتحجرة.

أتملى في وجهك المسجون للأبد داخل هذه الصورة يا مجدي .. أتملى مرارًا كأنني أتحسس لعنتي التي لن تغادر هذا الإطار مطلقًا .. شرودك المرتجف ينظر لي من داخل الصورة، إلى فجيعتك الكونية العارية التي لا تتوقف عن النزف من أشلاء عينيّ .. أبصر في هذه اللقطة الأقدم بكثير من زمنها راية ترفرف تحت المطر الغزير بقوة الرياح الشتوية الباردة فوق سطح بنك مصر عصرًا .. “موسيقى الليلة يا سمرة” .. بيوت “طلخا” على جانب النهر المقابلة لكوبري “الهابي لاند” فيما بين عصر ومغرب الصيف والشتاء .. “الصدى الرجائي لصوت محمد منير في إعادة (الليلة يا سمرة)” .. الورد البلدي الأحمر على الضفة الأخرى من النيل أمام جامع “السنجق” عصرًا .. “قلبي ولا البحر الهادر” .. الخطو داخل المساحة الصغيرة المشمسة “عصرًا أيضًا” من ناصية شارع البحر بجوار السنترال نحو منتصف شارع بنك مصر .. “شميت هواكي لقيت نفسي” .. العبور على الجانب الموازي لفندق “أبو شامة” قرب المغرب الشتائي الغائم نحو السكة الجديدة .. “والسهر والحكاية والحواديت” .. التحرّك لمسافة قصيرة من داخل ما يشبه محطة سيارات أجرة نحو جانب طريق عمومي مزدحم إلى حد ما بالمارة والعربات، يعادل اتساعه شارع “بورسعيد” أمام المساكن الشعبية في العصر شتاءً .. “أنا بعت الدموع، الدموع والعمر، طرحت جنايني في الربيع، في الربيع الصبر” .. سماء المغرب الشتوية وأسطح ونوافذ المنازل القديمة المغلقة بسكينة بنفسجية صافية من شباك جانبي يطل على شارع خلفي في منطقة “سيدي عبد القادر” .. “الخفقة النغمية المتحسّرة قبل إعادة (أنا بعت الدموع، الدموع والعمر، طرحت جنايني في الربيع، في الربيع الصبر)” .. الأضواء الصفراء والبيضاء الساطعة لمحلات وعواميد إنارة “ميت حدر” المتوحدة برائحة الاحتراق المعطّر للنسيم الشتوي البارد في بداية المغرب أثناء المرور من ناصية شارع سينما أوبرا نحو امتداد مبنى المدرسة الابتدائية .. “وقلت أنا عاشق سقوني كتير المُر، ورا الشبابيك” .. بداية المساء الشتائي حيث لا أحد في بيت الأسرة إلا أنا وأمي؛ مصباح النيون الأبيض للصالة مضاءً “أتحرك وحدي بجسدي الضئيل داخلها والتليفزيون يعرض بصوت مكتوم حلقة من المسلسل العربي”، وكذلك مصباح “طبق الإضاءة الأحمر” في سقف حجرة والديّ، أمي تجلس ممددة تحت أغطية فراشها في صمت، الكل في الخارج “أبي وإخوتي وجدتي” عدا أنا وأمي وحدنا، وبقية الحجرات مطفأة الإضاءة، شرفة حجرتي المظلمة تقريبًا مفتوحة بكامل اتساعها، ولا ينبعث من الشارع إلا نور أبيض شاحب مصدره المقهى أسفل البيت، يمكنني من مكاني في منتصف الصالة أن أرى انعكاسه على الواجهة العتيقة للمنزل المقابل .. “شجر الليمون من البداية للنهاية” .. أنت الذي تتملى في وجهي المسجون للأبد داخل هذه الصورة يا مجدي .. تتملى مرارًا في كل صور جثتي مع أصدقائي .. موتك ينظر إلى الثمانينيات في هيمنتها خارج تخومها الوقتية.

بعد أربعين عامًا من “شبابيك”، أقف في شرفة غريبة تحت مطر غريب مراقبًا وجوه غرباء .. أتأكد أكثر أن الاستماع للأغنية ليس فقط ما يخلق الذكرى، وإنما الاستعادة الذهنية الخرساء لها أيضًا .. التفكير في كلماتها واسترجاع نغماتها في قلبك يجعلان واقع اللحظة منتميًا لها: الأشياء والبيوت والأجساد .. الشتاء الآن .. كل كائنات الحاضر تصبح ذكرياتك .. تصبح ذكرياتنا المغدور بها من قبل أن توجد .. ليس الاستماع للأغنية فقط، وإنما الاستعادة الذهنية الخرساء لها أيضًا هي ما ترسخ لدينا الإيمان بأن ذكرياتنا لم تحدث من الأصل.  

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.