لم أعترف أبدًا بشخصية “الكوميديان الغاضب” .. الممثل الذي يعتمد في خلق الضحكات على مشاعر الحنق الثائرة التي تتملّكه أمام الكاميرا .. عبد السلام النابلسي على سبيل المثال بالنسبة لي هو أي شيء آخر غير أن يكون ممثلًا كوميديًا .. قد يكون ممثلًا فقط (سيئًا كما أراه)، أما لحظات غضبه التي يُفترض أن تسبب “الضحك” فهي مزيج من السخافة وثقل الدم .. حتى إذا نتج عن أدائه ابتسامة على الأقل فذلك سيكون بعيدًا عما اشتهر به أي “الغضب الكوميدي” .. ذلك ينطبق عندي على ما يماثلونه بمن فيهم “كوكسال بابا” الذي لا تضحكني تصرفاته الغاضبة على الإطلاق؛ إذ أنه مع التدقيق النقي في ما تنجم عنه الضحكات حقًا لدى “الكوميديان الغاضب” ربما سندرك أنها منفصلة عن غضبه في الحقيقة، وأن ما يجعلنا نعتبرها كذلك هو تداخلها مع الظواهر المعتادة للغضب .. يمكننا حينئذ أن نطلق على تلك اللحظات المضحكة التي تتخلل الغضب أي تسمية أخرى: حقد ـ غيظ ـ عتاب ـ سخرية ـ ذهول … إلخ .. أي تسمية عدا الغضب .. الكوميديا ـ كأي ممارسة أخرى ـ دافعها غضب ما، بصرف النظر عن طبيعة تجسّدها، لكن الغضب الخالص ـ كما أعرفه ومثل الحزن والألم ـ ليس مضحكًا .. الشخصية الكوميدية الوحيدة التي أضحكني غضبها هي “بطوط” .. لأنه كان كارتونيًا، ولم يكن غاضبًا حقًا مهما أظهر ذلك .. “بطوط” كان يستخدم عصبيته لترسيخ إيمانه المسالم بالحياة .. الحياة كما يمكن أن تكون في “مدينة البط”.
بنهاية طفولتي اختفى الشاب الغاضب .. لم أعد أراه مطلقًا لا من الشرفة ولا في أي مكان آخر داخل المدينة .. كأنه كان علامة مرهونة بتلك الطفولة المنتهية .. كان الموت تفسيرًا بديهيًا لهذا الاختفاء .. لم أفكر في أنه قد يكون مريضًا على النحو الذي يجعله عاجزًا عن الخروج من بيته .. كان بالنسبة لي أن يتوقف عن ممارسه طقسه الثأري المعهود فذلك لا يعني سوى أنه أصبح ميتًا .. ما يقرب من ثلاثين عامًا كان عمر ذلك الاختفاء أو ما تصوّرت أنه غياب أبدي عن العالم قضيتها في توزيع أكثر اللعنات فحشًا على الذين يجثمون على أنفاسي في كل مكان، مرورًا بالدنيا كمدفن استباقي للجميع ووصولًا لحفّار القبور الوضيع المختبئ في المطلق .. أحيانًا بالصوت الباطني، وأحيانًا في همسات غير مسموعة لأحد غيري، وأحيانًا بوضوح نادر مروّع ـ ما صرت أرضاه لنفسي بداهة بل وأؤمن بحتميته ـ كتحدٍ للغيب أن يتسم ـ ولو لمرة واحدة فقط ـ بشيء من الشرف، ويخوض نزالًا حقيقيًا متكافئًا ضدي .. ما يقرب من ثلاثين عامًا قضيتها في سب المارة من حولي في الشوارع والعابرين أسفل شرفتي دون أن يدركوا ذلك، حتى رأيت ذلك الشاب الغاضب فجأة يسير وحيدًا في شارع بعيد عن المنطقة التي كنت أسكنها وشهدت الجولات الروتينية لسبابه الصادح نحو عابريها .. صار رجلًا عجوزًا، بشعر أبيض وتجاعيد متهدلة، كما كان صامتًا ويمشي ببطء .. كان لا يزال ذلك الكائن بالغ القصر والنحافة، لكن دون شتائم نابية أو خطوات مهتاجة .. مررت بجانبه ونظرت في عينيه اللتين تحدقان في موضع سيره .. كان فيهما من الحيرة الراضخة وعدم التصديق المتحسر ما جعلني أوقن أنه قد وصل إلى ذروة غضبه .. كنت في طريقي إلى البيت حيث سأغلق بابه على نفسي وأتوقف لسنوات طويلة عن الخروج ومقابلة الآخرين .. حيث سيكون مجرد الوقوف في الشرفة جحيمًا .. كأنه كان يجب أن نلتقي ـ نحن الذين لا يعرف أي منا اسم الآخر ـ في هذ الموعد بالذات بعدما وصلنا إلى الاعتراف الختامي بأنه لم تكن هناك صلاحية للعالم من الأساس حتى نوثق نهايتها في الخطوة الأخيرة لكفاحنا المتداعي نحو الخلاص .. كانت تلك اللحظة وداعًا بيننا.