مساء الخير يا عزيزي .. أشكرك لقبول الصداقة، ولو أن الشكر سيوضع
حتماً في مكانه الصحيح لو ساعدتني على بلوغ الغاية التي طلبت من أجلها صداقتك ..
الموضوع باختصار أن زوجتك أرسلت لي منذ فترة قصيرة طلب صداقة، وقبلته .. بعد ذلك
كتبت لي رسالة تفيد بأنها معجبة جداً بنصوصي خاصة الايروتيكية منها، وطلبت نسخاً
إلكترونية من كتبي فأرسلتها إليها ممتناً .. كان بديهياً أن آخذ جولة في صفحتها
فاكتشفت أنها لم تنشر سوى صورة شخصية واحدة صدقني لم أستطع أن أحدد من خلالها هل
هي جميلة أم لا .. طبعاً ما أقصده هو جمال جسمها إذ كان وجهها نسخة محسّنة من
(إنعام سالوسة) .. اكتشفت أيضاً أنها كاتبة، وأنها نشرت على صفحتها بعض النصوص
الايروتيكية القصيرة التي تستعرض فيها هياجها، وهوسها أن تُعامل في السرير كعاهرة
عاشقة للعنف والبذاءة وتسمية الأشياء بأسمائها .. كان هذا جميلاً بالطبع، وكان
جميلاً أيضاً أن نتبادل حوارات قصيرة لم تتجاوز الحدود المسالمة لصداقة تقطع بتمهل
خطواتها الأولى .. بدا لي حينئذ أن عبارة (أعتذر عن التعارف الشخصي) التي وضعتها
زوجتك بين قوسين تحت اسمها تعني مزاجية الانتقاء، التي تتولى بنفسها مهمة التحديد والاقتراب
ومد اليد للمصافحة، وليس رفضاً لفكرة التعارف ذاتها .. كان يبدو أحياناً أن زوجتك
لديها الرغبة في التحرر من تلك الحدود، لكنني في كل مرة كنت أحاول الاستجابة
لتلميحاتها كانت تتراجع ثانية إلى مخبأها المنضبط .. من الواجب، وحتى أكون أميناً
معك أن أخبرك بأن استجاباتي لم تتسم بالاندفاع، وإنما كانت على قدر كبير من التحفظ
.. إن أبعد ما يتصف به سلوكي في لحظات كهذه ياعزيزي هو التهوّر إذ أن الفيس بوك من
الوارد جداً أن يشتعل فجأة بحفل فضائحي تُزينه سكرين شوت لـ (إنسانة فاضلة انتهكت
براءتها حيوانية سافل كانت تظنه مُتحضراً) .. لاشك أنه من السهل عليك تخيّل كيف
تحوّلت تلك العلاقة من مجرد عبء غامض إلى أرق ثقيل مع استمرار زوجتك في نشر نصوصها
الشبقية، وصورها التي لا تحسم هل هي جميلة أم لا، بالتزامن مع أحاديث الشات
المقتضبة التي لا تخرج عن كونها لغة بائسة تحك نفسها في الفراغ .. أردت بواسطة
مراقبة علاقاتها مع أصدقائها، أو بشكل أدق القشور الطافية من صلاتها بالآخرين
الحصول على معرفة تُمكنني من تشكيل يقين عن ما لم أنجح في التوصّل إليه من
طبيعتها، ولأكن أيضاً أكثر دقة: استنتاج الآماد المحتملة التي هي على استعداد أن
يمتد إليها نشاطها العاطفي مع الرجال .. ظل كل شيء عادياً ومبهماً لدرجة الخصاء
ياعزيزي.
إن حياتي لا تنقصها زوجتك؛ ففيها من تقتله النفسنة، اللزج الذي اعتقد
منذ زمن بعيد أن علاج حروقه مشروط بمواصلة تقيوء الذم المائع والشتائم المتنكرة
على فيسبوك للأبد كربة منزل خاب أملها، ولم تساعدها الظروف في العمل كمومس .. هناك
أيضاً الغيور المجهول الذي تتجلى تعاسته على نحو غير متوقع عندما يكتب تعليقاً
بضيناً معشماً جحيمه أن يقدر على إفساد أوقاتك السعيدة .. فيها الحروب والمعايرات
بين الفاشي الإسلامي والفاشي الماركسي، والأصحاب الذين يتهكمون على مآسي بعضهم،
والفاشل الذي لم يسبق له على الأقل تبادل قبلات في الهواء مع معزة، ويجاهد
للاختباء من هياجه بواسطة التنظير المادي للجمال كاستمناء أكثر وقاراً .. حياتي
فيها تأكيدات مستمرة من نفسي إلى نفسي بأنه لا أحد يعرف الآخر، وأنه لا يوجد أحد
كتب كل شيء .. هناك أيضاً من يتأجل انتحاره كلما توهم أن المحبة تُزِيدُني،
والجفاء يُنقِصني، وكذلك من أُدربهم بقصصي القصيرة على الكتابة، وتخبرني نصوصهم
أنني مُعلم جيد .. إنني أعترف يا عزيزي أن الجوهر الحقيقي للمشكلة مرتبط بخوفي،
ولهذا كان على زوجتك أن تساعدني بعزمٍ أشد .. ربما تجد معاونة كريمة على فهم علاقة
كتاباتي وخاصة رواية (الفشل في النوم مع السيدة نون) بأصدقائي من خلال هذه السطور
القليلة لـ (هنري ميلر) في ثلاثية (الصلب الوردي): (عندما يحاول الإنسان أن يُنجز
عملاً يتجاوز قدراته المعروفة فمن العبث السعي وراء نيل استحسان الأصدقاء.
الأصدقاء يكونون في أحسن حالاتهم في لحظات الهزيمة - علي الأقل هكذا تقول لي
تجربتي. ومن ثم إما يخذلوك كليًا أو يتجاوزون أنفسهم. والحزن هو أوثق رباط - الحزن
وسوء الحظ. ولكن أثناء اختبارك لقواك, وأنت تحاول أن تنجز عملاً جديداً, فإن أفضل
صديق جدير بأن يثبت أنه خائن. وتكفي طريقته في تمني حسن الحظ لك, وعندما تطرح
أمامه أفكارك الخيالية, لكي تثبط همّتك. إنه يؤمن بك فقط مادام هو يعرفك, أما
احتمال أن تصبح أكبر مما تبدو فأمر يثير قلقه, ذلك أن الصداقة تقوم علي أساس
التبادلية. ويكاد يكون من قبيل القانون الثابت أنه حين ينطلق إنسان في مغامرة كبري
يتعين عليه أن يقطع كل روابطه ويجب أن يرحل الي البرية, وبعد أن ينتهي من مصارعتها
يجب أن يعود ويختار له مريداً).
لا أعرف يا عزيزي لماذا يبدو غريباً لي الآن وبكيفية مجحفة ومضحكة حد
الإهانة أن أعوامي الأربعين ـ إلا ثلاث سنوات ـ لم يعبرها حتى بطريق الخطأ صديق
كان يمكن لي استخدام شقته في النوم مع النساء ولو بمشاركة من رفاق الجوع .. إنني
لا أجد تفسيراً منطقياً سوى وحشية الحظ خصوصاً مع الوفرة العظيمة المتنوعة من
الأصدقاء الذين يتكدسون في الماضي .. لكنني والتزاماً بالأمانة التي حرصت عليها
منذ بداية كتابتي إليك أخشى التمادي في التنقيب داخل الذاكرة، والتفتيش عن مبررات
حقيقية خشية العثور على مشاهد مدفونة تثبت عند استعادتها أنني كنت أتفادى التورط
في ذلك النوع من المواجهات بحيث لم أكن أمر أصلاً بالقرب من الاحتمالات الضعيفة
التي يمكن تنتهي بي في السرير مع غريبة.
أي معنى سيخطر في ذهنك حين أقول لك أن من أكثر العادات التي تبعث
السرور والألم في قلبي هو تصفّح موقع (كايرو زووم) كل ليلة؟ .. في حياتي من لا
يترك ثقب إبرة يصادفه حتى يباهي فيه بأنه مجنون وقادر على ارتكاب أي جريمة، وحين
تقرأ نصوصه لا تشم ـ على أقل تقدير ـ رائحة خدش لجسده أو لأجساد محارمه .. إن
متعتي الكبرى هي نصب أفخاخ من الثقة الزائفة بيني وبين القارىء مما يوصم كل إرادة
للتوقع أو التصديق بلعنة الغفلة .. يصبح كل التزام بتأويل بمثابة موافقة ضمنية على
أخذ دور الفريسة التي حُطم رجاءها سلفاً .. لست وحدي من أقول هذا بل الغرباء الذين
لا يعرفون شيئاً عن حياتي الخاصة، ولكن حدث أن اعترضت دعاباتي اللغوية طريقهم ذات
يوم وهم سائرون في الظلام.
هناك أيضاً يا عزيزي من يؤكد على أنه قتل رقيبه الداخلي، وحين تقرأ
كتاباته (الجريئة) لا يكون بوسعك التفرقة بينها وبين ما تنتجه بصيرة فتاة خجولة أو
ولد أحسن أبواه تربيته .. إنني أكره المصطلحات، وأحتقر التعبيرات الشائعة لكنني لا
أجد ضرراً هائلاً لو قلت لك الآن أنني مريض فعلاً بما يُعرف بـ (الرهاب الاجتماعي)
حتى لو كنت معتاداً على السخرية من تفاهة الوصف .. هذا النوع من الرعب لا يتجسد
بصورة واضحة على عكس المنتظر في مجزرة الواقع التقليدي بل يظهر أكثر حدة على
فيسبوك مثلاً حيث يُفترض ـ كإحدى إمكانياته ـ أن تتاح لك فرص أقل تهديداً في
التواجد وسط الأشباح .. لكنني اكتشفت ـ ولك أن تتصور فداحة اليأس الكامن في هذا
الاكتشاف ـ أنني لا أمتلك الشجاعة للكتابة عن السخافات المملة أو المفارقات
الوضيعة لتعاقب أيامي، التي لا تقل غرابتها أو روحها الكوميدية عن (الأعاجيب
المبهرة) التي يُدونها دجاج الفريند ليست .. الفرق أنهم لا يرون مشكلة في التطفل
على حواس غيرهم بسيول لا تهمد من الثرثرة الشخصية الفارغة التي لا تهم أحداً ..
إنني حتى أجد حرجاً بالغاً في النشر النادر لمواد فنية تنتمي إلى ذائقتي فقط
لإدراكي أنها تخص انحيازاتي الجمالية، وليست بالضرورة ذات جدوى لغيري .. أنت لن
تجد أغلب ما في صفحتي إلا ما هو حتمي: نصوصي، ومقالاتي، وأخباري أو بقول آخر:
حياتي الانتقامية.
ذات يوم طلبت زوجتك رقم موبايلي فأعطيته لها بسعادة من يعطي عنوان
بيته لراقصة ستربتيز .. لم يخطر في بالي أن المكالمة الهاتفية التي استغرقت أكثر
من ساعتين ستكون امتداداً لتعاسة الشات بل كنت متأكداً من هذا .. لا تسألني لماذا
يا عزيزي حيث أتصور أنه أصبح من اليسير التخلي عن الحاجة لطرح السؤال بعد الدروس
المختصرة التي أعطيتها لك عن انكماشي .. ظلت اللغة بيني وزوجتك متمسكة ببؤسها، وإن
كان حضورها هذه المرة كصوت أعطاها صورة المهزلة الخرافية .. حافظنا بمنتهى الإخلاص
على المراوغة، والالتباس، والتلميحات الشاحبة التي أسالت الدم من عضوي .. لم تأتِ
سيرتك في المكالمة سوى مرة واحدة بالصدفة حين أخبرتني كمعلومة عابرة بأنك لست
نشطاً على فيسبوك، ولا تجلس أمامه إلا كل فترة طويلة .. تذكرت بعد انتهاء المكالمة
أنها سبق أن كتبت عنك على صفحتها أنها تعشق التراب الذي تمشي عليه، ولو وضعنا هذه
العبارة بجوار نصوصها التي لابد أنك قرأتها، وتحلم فيها بجنس غير رحيم أشرس مما
يمكن يعطيه لها زوج أو حبيب أو رجل واحد فإننا سنصل إلى مستوى من العماء لن يصبح
من العبث عنده أن أكتب إليك هذه الرسالة.
حياتي يا عزيزي صدئة كمشهد أمواج البحر في بداية الحلقة الأولى لمسلسل
تدور أحداثه في الاسكندرية .. مطفأة كفيلم لصحفي يتحمّل النزوات العدائية لكهل
متصعلك كان مشهوراً في يوم ما حتى يكتب حكايته .. حياتي صارت عجوزاً، وأكثر ما
ثبّت هذا الإيمان ليس الغبار الأبيض المتزايد الذي لا سبيل لإزاحته من شعري، ولا
تصدّع جسدي من الداخل بل عندما ضبطت نفسي عاجزاً عن الابتسام بلذة التشفي المعهودة
أمام المنظر السينمائي المُضجر لغضب رجل أخطأ الجرسون حين قارن بين شيخوخته وشباب
زوجته الجميلة وسألها: (هتطلبي زي بابا؟).
إنني لا أريد أكثر من الإجابة على هذا السؤال: هل لديك علم حول إذا ما
كانت زوجتك تنقل أحلامها الشهوانية العاتية من الكتابة إلى الحياة أم لا؟ .. أما
ما سيُعد برهاناً على أقوى أنواع الإيثار كرماً لو استفسرت منها وأخبرتني عن ما
إذا كان لديها استعداد لأن أشارك في هندسة الري تحت بطنها.
وأخيراً فإنني مؤمن تماماً بأن الكتابة مثلما تحتاج للأصدقاء، ولخبرة
العداء الثمينة التي تمنحها الصداقة فإنها تتطلب أيضاً دهس المعركة بقدميك في لحظة
معينة تكتمل عندها الخبرة المنتصرة .. الوعي الذي تتحالف بين تخومه الكتابة مع
التفاصيل التي تكسر عيون الأصدقاء، والمحفوظة في سجلاتهم السوداء الراقدة بأمان
داخل رأسي .. لهذا يا عزيزي لا أجد تعبيراً عن امتناني لاستجابتك التي لا أشك
مطلقاً في أنك لن تبخل عليّ بها أجمل من هذه الكلمات المقدسة لـ (تشاك بولانيك):
“Have
your adventures, make your mistakes, and choose your friends poorly -- all
these make for great stories.”
من المجموعة القصصية (دون أن يصل إلى الأورجازم الأخير) ـ مؤسسة
المعبر الثقافي 2015