الثلاثاء، 29 أكتوبر 2019

حوار قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الأقصى مع الكاتب ممدوح رزق

حوار أجراه أ.د. عصام شحادة مع الكاتب والناقد المصرى ممدوح رزق لصفحة قسم اللغة الانجليزبة بجامعة الأقصى حول قصة وليام فوكنر "وردة إلى أميلى "، و كيف شكلت القصة علامة بارزة فى الوعى الأمريكى الأدبى.
لماذا اخترت هذه القصة للكتابة عنها؟
ـ لجدارتها بالتحليل ضمن مشروعي النقدي عن كلاسيكيات القصة القصيرة سواء بالنسبة لكتابات وليام فوكنر أو لتاريخ القصة بشكل عام .. تكمن هذه الجدارة بشكل أقوى في التوعّد الخفي للغة الذي دبّره فوكنر حتى يصل بالقصة إلى مشهد اقتحام غرفة أميلي بعد موتها .. هو واحد من أروع مشاهد القصة القصيرة بالنسبة لي، ولا يرجع هذا إلى مكوّناته الصادمة فحسب، وإنما أيضًا إلى ما يمكن تسميته بالغفلة الخبيثة المصطنعة التي جهّزت منذ بداية السرد لاكتشافه.
كيف وجدت أسلوب وليام فوكنر؟
ـ يعتمد أسلوب فوكنر على المراكمة الكاشفة للمعطيات السردية، ولكنها ليست مجرد تمرير عفوي لمعرفة واضحة من التفاصيل والأحداث الضرورية، وإنما تتميز هذه المراكمة بخاصيتين أساسيتين .. الأولى: إنها تقوم على التكوين الوصفي الذي يخلق إيقاعًا متزنًا من النبرات المحايدة .. يدمج هذا الإيقاع بين الملامح المتنامية للقصة وإحالات مخاتلة، غير معلنة، تتصاعد تدريجيًا في توحّد صامت، كأنما تشيّد بنية سرية من الصراخ المكتوم داخل الفراغات، لن تكشف عن نفسها إلا عند اقتحام حجرة أميلي بعد دفنها واكتشاف ما تبقى من جثة هومر بارون في سريرها، ولهذا فالقصة ليست رصدًا مجرّدًا لمشاهد انتقائية بل بديلا إيحائيًا للواقعية المفترضة لهذه المشاهد .. الخاصية الثانية: إن هذه المراكمة لا تعتمد على التعاقب المنطقي للأحداث، وهذا يؤدي إلى التداخل بين الأزمنة، حيث تستدعي اللحظة ما تنطوي عليه من لحظات أخرى باعتبارها مساهمة في تشكيلها أي مستمرة في الحدوث، لا ينقطع وجودها، ومستشرفة لما تنشأ عنه ولما تمتد إليه، وهذا ما يمنح القصة طابع الحلم، أي ذلك الزمن الداخلي الذي يمتلك ترتيبه الخاص أو مشيئته الذاتية داخل التاريخ.
وردة الى أميلى تعبر عن روح عصر الاعمار بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية ما هو منظورك؟
ـ حسنًا؛ إذا كان من الممكن قراءة القصة ـ كما يحدث أحيانًا ـ في ضوء المقاومة الاستعلائية "القاتلة" للبيض الجنوبيين لمتغيرات ما بعد الحرب، وتمسّكهم الانتقامي بالسيادة الزائلة أمام الحقوق والحريات التي حصل عليها السود في حماية الشمال، وإذا كان من الممكن قراءتها على نحو مناقض في إطار التعاطف مع الجنوبيين البيض بعد تضاعف المأساة الاجتماعية نتيجة "الخيانة السوداء"، فإنني أعتبر القصة متخطية لذلك .. إن الأمر لا يتعلق بالازدراء أو الشفقة تجاه أثر سياسي ما أو تحولات طبقية معيّنة، بقدر ما يرتبط بالكيفية الغامضة التي تنتج بها الأوهام أجسادنا عبر الزمن، ومن ثمّ تحدد المسارات الحتمية لخطواتنا المخذولة، غير المتوقعة، حتى أثناء ما نفترضه صراعًا مع بداهتها .. الأكاذيب القهرية، الأشبه بالقبور ـ التي تتخذ أحيانًا شكل البيوت الأرستقراطية ـ حيث تتعفّن الأرواح في ظلامها الذي لا يمكن انتهاكه .. يتعلق الأمر بأن الثمن يُدفع دائمًا، مهما حدث، كحياة كاملة دون نقصان.
كيف تعقب على قصة وردة الى اميلى كعمل فنى يتراوح بين الرمزية والحداثة والحنين الى الماضى و التطلع القلق نحو المستقبل؟
ـ أود الإشارة أولًا بصورة مختصرة إلى أن "الكلاسيكية" المقصودة في مشروعي النقدي الذي تضمن تحليل قصة "وردة إلى أميلي" ليست حكمًا جماليًا، أو تصنيفًا ثقافيًا، وإنما رؤية ذاتية للتاريخ، غير متورطة في الاختزال أو التقييم أو الانحياز، لكنها لا تستبعد الاشتباك مع ما يُنظر لها أحيانًا كسمات للأدب الكلاسيكي .. لهذا لا أجد مانعًا في منح صفة "الحداثة" إلى القصة من زاويتين: الأولى تتعلّق بالأسلوب نفسه، حيث الاقتصار على الضرورات اللغوية، الإشارية، المقتضبة، التي تتجنب الاستطرادات الحكمية الشارحة، أو التبريرات المقحمة، أو الفضح التقريري للدوافع والأحكام والانفعالات الوصفية، بمعنى آخر ثمة استبدال لليقين البلاغي بالتكتّم المراوغ الذي يتودد إلى كل الاحتمالات .. الزاوية ثانية ترتبط بمقاربة فوكنر لموضوع "الحنين إلى الماضي"؛ فهو يضعه في نطاق التشريح والاستجواب، لا التأكيد على مفهوم مطلق، وما يبرهن على ذلك طبيعة الاستخدام الرمزي في القصة: التكوين الجسدي لأميلي .. متعلقاتها الشخصية .. منزل العائلة من الداخل والخارج .. اللوحة التي تناولتها في قراءتي للقصة، والتي يمكن لهذه السطور التي أستعيرها منها الآن أن تضيء تجاوز الحنين لقالبه الرومانسي المجرّد إلى محاكمته، لا كوعد مهدر فحسب، بل كمستقبل مغدور به أيضًا:
"كانت (الآنسة أميلي) طوال هذه السنوات تعانق جثة (بارون)، وجثث أبيها، والحبيب الذي هجرها، والرجال الذين لم يُسمح لهم أن يدخلوا حياتها .. علينا استعادة كيف رفضت (الآنسة أميلي) تصديق موت أبيها .. ربما معالجة للذاكرة أي تصحيح الماضي بما يدفع الحياة للحدوث مرة أخرى بطريقة مغايرة .. ربما تقديراً لذكرى (القوة الذكورية) التي حاولت (الآنسة أميلي) أن تمتلكها ـ لنسترجع كيف كانت تعامل الآخرين بجفاء أعمق من كونه راجعاً لغرور ارستقراطي يتمسك برفاهية مجد زائل ـ بعد أن أخفقت في الحصول على الرحمة من هذه القوة .. الاندماج مع فحولة راضخة بفنائها في غرفة معدة لليلة (عُرس) .. امتلاك سوط أبيها بعد أن أصبح خامداً .. ربما النوم مع جثة الرجل هو الرغبة في الامتزاج مع ظلام الذاكرة .. الاحتفال به كعالم حقيقي، سري، يخص (الآنسة أميلي) وحدها رغم كل شيء، ومنفصل عن الحياة التي تصورها البشر .. الناس الذين سيعودون بعد ترك غرفة الطابق العلوي لنسج الأفكار والعواطف والاستفهامات التي تخلق أزمنة ـ يقينية ـ عن آخرين لا علاقة لهم بها".
هل تعتقد بموت اميلى ماتت حقبة تاريخية تتمثل بقيم الجنوب و انتصار العلم على التقاليد؟
ـ موت إميلي هو محرّض للتفكير في القيم نفسها بشكل عام .. في سرها الغيبي الذي يسبق تاريخ ما، أي في وجوبها المتغيّر الذي يستعمل حيواتنا كتدليل للموت .. أيضًا فكرة "انتصار العلم" لا تعادل دائمًا بالنسبة لي انتصارًا "بشريًا"، ولكنها ملهمة للتساؤل عن كلمات كالهيمنة أو الأخلاق أو الخلاص مثلًا .. حول الفروق الممكنة بين "التقاليد" و"العلم" .. هل هذه الفروق حقيقية بالفعل أم أنها ظنون لغوية تستهلك ما تُصدّقه، ولا تتوقف عن رسم وجوه متبدّلة للسلطة القيمية بحسب تعريفها الفردي أو لدى جماعة ما في حقبة محددة.
ماذا نتعلم من قصة وليام فوكنر, و كيف نستطيع أن نعمل مقاربة مع واقعنا؟
ـ ربما تلخص هذه الفقرة من مقالي عن القصة ما يمكن أن يجيب على هذا السؤال: "لا يشكّل البشر يقيناً عن الآخر ـ خصوصاً غير المتورط في خطواتهم الجماعية ـ من الأفكار والعواطف والاستفهامات فحسب بل إننا نراقب مع (فوكنر) كيف تشيد تلك الركائز موضوع الزمن عند هذا الآخر: كيفية مرور الوقت داخل عزلته، وتأثير الذاكرة في حركة الانتقال عبر مراحل العمر المختلفة، والنتائج المحسومة التي لابد أن ينتهي إليها مصيره .. لكن هناك زمن آخر تُشكّله ركائز أخرى مغلقة على نفسها .. وجود كامن في نطاق من العماء، مستغرق في حقيقته غير المكتشفة .. الوقت الآخر، الذي تحكمه ذاكرة معادية، وحركة بعيدة عن التصورات والقرارات المتطفلة، التي تحفر في الخارج معرفة زائفة عن أجسادنا".
موقع "الكتابة" ـ 29 أكتوبر 2019

"مكان في الزمن"... قريبًا


السبت، 12 أكتوبر 2019

Doodlebug للمخرج كريستوفر نولان: جريجور سامسا مُطاردًا ظلاله

كوجه محنّط في العتمة، لا يكشفه سوى عينين تتلفتان داخل عمائها .. مجرد شخبطة طفولية، رُسمت خطوطها الباهتة بضمير هازئ؛ هي فقط كل ما تتطلبه إضاءة هذا التعريف المنكمش لكينونة على وشك الاختفاء ثانية، أو أن ظهورها المؤقت لم يكن إلا جزءًا من غيابها الخارق .. تتشكل الحروف بما يشبه اللامبالاة الكاريكاتورية، كأنها بلاغة بصرية مضادة لا تُستعمل لقراءة الكلمة، وإنما لملامسة التوحد الأزلي بشبحيتها .. تنقسم Doodlebug إلى شطرين يجسّدان اختزالًا منطقيًا للملامح في هذه اللحظة: Doodle / شخبطة تحدد أعلى الوجه، حيث تأخذ العينان المتلفتتان محل حرفي الـ O ، وأسفلها bug / حشرة لتكوّن موضع الفم .. إذن الكلمة ورسمها يؤكّد كل منهما الآخر .. حقيقة مستقلة، تثبت نفسها ذاتيًا دون حاجة لاستناد إلى علة خارجها .. ملامح يتخيلها المحو لحشرة تكتم صراخها .. هكذا نتعرّف على سر تحنيط الوجه في العتمة .. لكن ما هي العتمة؟ .. إنها ليست بيتًا يقبع الجسد المتصلّب برجفة الهلع داخله ـ قام بدوره الممثل جيرمي ثيوبالد ـ كما سيبدو أنها تعلن عن مكوناتها الظاهرية .. الأشياء الجديرة بتعبئة الفراغ المقبض حول المسوخ الشبقة في لوحات جان روستن .. ليست مكانًا يقع خارج هذا البدن المرتعش بالخوف والترقب بل تكمن تحت جلده حيث يتأصّل العماء وراء العينين .. ظلال عتمة الباطن هي ما يحاصر الجسد: فردة الحذاء في اليد كسلاح متأهب في رحلة المطاردة لكائن ضئيل، مبهم ومراوغ داخل الفضاء الباهت، المختنق، كزنزانة صغيرة لم تتبدّل تفاصيلها منذ أن شُيّدت في بداية العالم .. رداء كالح، ممزق ومتسخ كآثار لمعركة طويلة، منهِكة، لم يزل يخوضها سوى فرد واحد، مغلق عليه بإحكام .. دقات الساعة المتلاحقة كمزحة زمن لم يبدأ من الأساس، ولكنه رسّخ يقينًا زائفًا بقرب انتهائه كمهلة خائنة .. الآخر، الذي يدّعي أنه ليس أنت، فكرة الحياة والموت مجسّدة في صوت بشري عبر الهاتف، لا تجيبه كأنها بالتأكيد ليست المرة الأولى، كأنك تعرفه تمامًا، وتتوقع بالضرورة ما الذي سيقوله، الصوت أيضًا يدعم ذلك بخطاب أقرب إلى الرسالة الآلية المسجلة، تقرير إخباري، تحذير ما زال يُعيد نفسه؛ إذ لا يكفي إغراق سماعة الهاتف في ماء الدورق لتعطيل الإيمان الذي يختبئ العدم داخل كلماته المترصّدة .. ضربات متعاقبة، تخطئ في سحق "الحشرة" المستمرة في الهروب، تقترن باحتضان الحيلة المنعدمة لفردة الحذاء في الصدر، كأنما يتم تحفيز المواساة نحو جميع الخطوات الخاسرة لماضٍ يجب تصفيته، والتعلّق اليائس بإمكانية اجتيازها لخيبة الأمل المعاندة .. محاولة دهس النسخة الضئيلة بقدمين حافيتين للجسد الممسوس تتخذ شكل الرقصة البدائية بينما يواصل ممارسة الطقس الأقدم في التاريخ على الإطلاق، مكافحًا في الوقت نفسه لاسترداد طبيعة ما قبل الخبرة، أي حينما كان هناك احتمال لحماية الغفلة، أو لاكتساب الألوهة، أو لفهم اللعنة على الأقل .. الصورة التي يتم ملاحقتها، المتمثلة للجسد الأكبر وهي تقوم بالأمر ذاته "الرقصة البدائية" كقردٍ يؤدي صلاة عفوية للخلاص، كأنما تنعكس هذه الصورة في مرآة تصغيرية، بينما تجاهد لاستدعاء الأصل الغامض كبداية متطهرة، يمكنها أن تخلق نفسها على نحو متكرر .. مطاردة النسخة الضئيلة لنسختها الأكثر ضآلة أثناء ملاحقة النسخة الأكبر لها، كأنما "جريجور سامسا" بطل رواية "المسخ" لفرانز كافكا يطارد تمثلاته المتفاوتة، وصولًا للحظة السحق المتوالي حيث النسخة الضئيلة تضرب الأكثر ضآلة بفردة الحذاء، قبل أن تتلقى هي الأخرى ضربة منتشية مماثلة من الجسد الذي تصوّر نسخته الأصغر، والتي يعقبها ظهور وجه هائل يحمل الابتسامة ذاتها للنسخة الأضخم من هذا الجسد ممسكة بفردة حذاء عملاقة كي تسحقه بها.
بما أن ظلال عتمة الباطن هي ما يحاصر الجسد؛ فإن تناسخات جريجور سامسا غير منفصلة بل متماهية، دائمة التبدّل، أي تتغيّر مستويات التفاوت بين أشكال انمساخها وفقًا لما تظنه الذات عن وجودها، عن تدرّجات القوة والضعف، أو المعايير المجسّمة للضآلة، وما تعنيه المقاومة ومجابهة الاضمحلال في لحظة معينة .. لم تكن المراوغة هروبًا للصورة الضئيلة من صورتها الأكبر، وإنما فقط ملاحقة للأكثر ضآلة .. الصورة المنطوية على جوهر الأخرى "الأضخم" التي تطاردها .. لا يقتصر الجوهر على ما اكتمل حدوثه، وإنما يشتمل على التهديد بالتضاؤل، بمصير ينبغي إزاحته قبل أن يطغى كواقع .. لكن جريجور سامسا في توهمه انتصارًا على ضآلته، يوطد خضوعه البديهي لنسخة أخرى أكبر له .. نسخة كانت تلاحقه أيضًا لتفسد هذا الانتصار باعتباره أكثر انمساخًا منها، وبالتالي تمتلك الدافع لسحقه .. هكذا يظل جريجور سامسا عالقًا في هويته المتفاقمة كحشرة، دون حد نهائي يتوقف حين يصل إليه عن أن يكون ضئيلًا مقارنة بنموذج ذاتي آخر يسعى للتخلّص منه .. سيقودنا امتداد المسيرة الحتمية للسحق كلما تعملقت النسخة أو تضاءلت إلى العدم الذي يحلم بجريجور سامسا .. العتمة التي لم يدهسها أي حذاء بوصفها المادة الخام للسحق، أو العماء المتأصّل وراء العيون التي تتلفت حولها .. تتحرك تناسخات جريجور سامسا كمدركات غائمة، احتمالات تمر في الوعي كتأكيدات مؤقتة، كتفسيرات عابرة للإرادة .. لهذا تبدو حياة جريجور سامسا، كما يختصرها الفيلم كابوسًا لا ينقطع من التوهمات المتزامنة، من السحق المتبادل، حيث النسخة الأصغر تدهس هي الأخرى نسختها الأكبر بما أن وجودها الأكثر ضآلة يضمن حضور النسخة الأضخم من تلك التي تفوقها حجمًا أو "قوة".
الانمساخ هنا والآن مثل الموت حيث لا يمكن أن ينوب أحد عن الآخر أو يحمله عنه بتذكير مارتن هيدجر .. الانمساخ هو الموت؛ انمساخ الوجود ليس إلا هذا الجسد المتناثر في شحوب الأسود والأبيض والرمادي كمفترق كاشف لنسيج كوني لم يُخدش مطلقًا منذ امتداده كغطاء للجحيم .. تتحرك الكاميرا كما لو أنها تحدد مواضع التورّط المتغيرة للمتفرج لحظة بعد أخرى: المُطارِد .. النسخة التي يتم ملاحقتها .. النسخة الأكبر المخفية التي تتبّع المُطارِد .. هذا لا يثبت التماهي فحسب، بل يجعل المتفرج كذلك منتجًا للحركة، وليس متلقيًا لها، وبالتالي تتنوع أدوار العناصر الساكنة وفقًا للأثر الجسدي لهذا المتفرج، أي البصمة التخييلية للصراع بين عمائه وأشباحها .. مع هذه التبدلات تتغير مساحات الخفوت والسطوع عبر المشاهد، ودرجات حدتها، كأنما الإضاءة تكتشف الأشلاء التي تكوّن الجسد وتشرّحها من زوايا متباينة، لكنها لا تتخلّى عن البهتان في جميع الأحوال؛ إذ أن هذا الجسد لا يتسم بيقين "المرئي"، وإنما يُتصوّر وجوده كـ "شخبطة" يمررها الغياب .. يتلازم "الصمت الشخصي" الدائم لجريجور سامسا، الذي يقدّم الامتناع عن الرد على المكالمة التليفونية إقرارًا دامغًا به؛ يتلازم مع موسيقى لا تتوقف عن ترسيخ "عدم النطق" ـ قام بتأليفها ديفيد جوليان ـ باعتبار أن ثمة أمرًا غير عادي على وشك الحدوث، ومع ذلك يتكرر باستمرار .. كأن الموسيقى هي التي تغلق الفم، أي تمنع الكلمات من الخروج ـ لنسترجع الآن الكيفية التي كُتب بها اسم الفيلم في البداية ـ حيث لا يجب أن تتحوّل الصرخة المكتومة إلى لغة .. هذا ما يجعل النسخة الضئيلة في وعي الجسد الذي يطاردها مُصاغة من الكلمات .. اللغة سر انمساخها، ولذا ينبغي أن تُسحق ـ كالخطاب المنبعث عبر سماعة الهاتف قبل "إغراق كلماته" في ماء الدورق ـ حتى يتمكن الخيال من الاستحواذ على الحقيقة، التي هي كل ما لا نعرفه، كما يشير جاك لاكان، وحتى يتجرّد جريجور سامسا من الخطأ مع كل فهم تحت سلطة العلامات بما أن الكلمات ـ وفقًا للاكان أيضًا ـ هي موت الأشياء .. المطاردة إذن كأنها محاولة للعثور على الأشياء خياليًا خارج موتها اللغوي .. كأن اللاوعي يكشف مسرح حروبه الأبدية من خلال هذا الحلم، وبالضرورة يفسّر الأحلام كلها، وبهذا تكون تلك المجابهة مع "الرمزية" هي التي ترسم حركة التبدّل الدائمة بين التناسخات مثلما تؤشر لدقات الوقت السريعة بوصفها خطوات طائشة ومحمومة لقلب جريجور سامسا المتوقف من قبل أن يعتقد بوجود موعد ما.
موقع "الكتابة" ـ 10 أكتوبر 2019