الاثنين، 28 يناير 2019

شيء غامض يضيء في الأفق

أخذ أخي نظارتها ذات العدستين السميكتين، واحتفظت أختي بعكازها، أما أنا فعدت إلى بيتي بدفتر قديم من طفولتها، كانت قد كتبت فيه سطورًا قليلة من بداية حكاية لم تُكملها .. وضعت داخل الدفتر شريطًا ورقيًا مطويًا عدة مرات لرسم القلب الأخير الذي أجرته قبل دخولها غرفة العمليات .. لم أكن قد تمكنت من النوم بعد حينما سمعت آخر الليل صوت دقات خافتة تنبعث وراء باب حجرتي .. نهضت في الظلام نحو الخارج متتبعًا الصوت الذي يزداد وضوحه تدريجيًا .. فتحت درج المكتبة، ورأيت غلاف الدفتر القديم يرتفع ويهبط بانتظام مع الدقات المتتابعة التي أصبح صوتها واضحًا تمامًا .. فتحت الدفتر، وأخرجت الشريط الورقي ثم فردت ثنياته الصغيرة .. رأيت خطوط القلب تتحرك بين يديّ .. أعدت طوي الشريط بحذر كي لا تتوقف الخطوط ثانية، وحينما وضعته في مكانه داخل الدفتر القديم رأيت سطورًا جديدة قد أضيفت للحكاية .. أغلقت درج المكتبة على الدفتر الذي يحتوي الشريط الورقي النابض ثم عدت إلى حجرتي .. داخل الظلام؛ وضعت رأسي فوق الوسادة ثم أغمضت عينيّ وبدأت أفكر في السطور القادمة من حكاية البنت التي كانت تجلس في شرفتها، ورأت ذات يوم شيئًا غامضًا يضيء في الأفق، لم يتمكن بصرها الحاد من تبيّنه؛ فقررت أنه إذا استمر عجزها عن رؤيته، سوف تخرج من بيتها وتجري نحوه لتعرف ماذا يكون.
اللوحة لـ فان جوخ
أنطولوجيا السرد العربي ـ 26 يناير 2019

الخميس، 24 يناير 2019

صدور "المطر في كارمينا بورانا"

صدرت اليوم مجموعتي القصصية الجديدة "المطر في كارمينا بورانا" عن دار ميتا للنشر والتوزيع .. تقع المجموعة في 75 صفحة، وتضم 40 قصة قصيرة كُتبت خلال الأعوام الثلاثة الماضية، قامت برسم وتصميم الغلاف الفنانة المبدعة غادة خليفة، وستكون نسخ المجموعة متوفرة في معرض القاهرة للكتاب.
من سطور المجموعة:
"تجلس المرأة والطفلة على أريكة بجوار الشجرة .. تبدأ بعض القطرات الخفيفة في التساقط من السماء؛ فيقرر الدخول إلى الحديقة لاستقبال المطر هناك .. تبدأ الطفلة في الجري والتقافز حول أمها التي تدعمها بابتسامة لامعة .. يجلس على الأريكة الثانية بجوار الشجرة .. تنظر إليه .. يراقب الطفلة وقد بدأت تلاحق بكفيها القطرات الخفيفة المتساقطة من السماء .. ليس هناك في الحديقة سوى ثلاثتهم .. سيخبر الرجل المرأة بعد قليل أنه حزين من أمر ما، أما هي فستخبره أن هذه الطفلة التي تلعب أمامهما بلا أب .. سيحكي لها أنه يعيش بمفرده في منزل يضيق لحظة بعد أخرى، وستحكي له عن الأسباب التي تجعلها غير راغبة في الزواج ثانية .. سيبنعث رنين هاتف كلا منهما في نفس اللحظة، وسيكتشفان أن كليهما قد خصص نغمة "كارمينا بورانا"، وسيجد كل منهما أيضًا حين يرد على هاتفه أن المتصل قد طلب رقمًا خاطئًا .. لكنهما لن يتوقفا على الإطلاق أمام هذا التطابق، وسيكملان حوارهما كأن شيئًا لم يحدث".

الثلاثاء، 15 يناير 2019

شباب رواية

لم ينظر إمام بلتاجي حسنين في وجه طالب النقد الأدبي بعيني أستاذ دار العلوم الذي صار إليه بعد سنوات طويلة من مغادرة حجرته في حي القلعة .. كانت نفس النظرة القديمة التي اجتاحتها ملامح شفاعات عندما احتجزت قبضته القوية يدها المرفوعة بالشبشب فوق رأسه، وتلاصق جسديهما للمرة الأولى .. قبل أن يدفع ليونتها الباطشة عن عذريته، كطفل يطفئ على الفور نارًا أشعلها دون قصد: الرجاء المرتعش في عينيها المتجبرتين وهما تلتهمان وجهه الغافل .. الانفراجة المتوعّدة لشفتيها الباذختين أمام بصره المهزوم .. الأنفاس المستعرة التي تدوي من صدرها المهجور، ويدها تتراخى داخل صلابة كفه ليبزغ البريق الفردوسي لكتفيها العاريتين ..  قرأ طالب النقد الأدبي تأويله لـ "رواية" ما، ولكن على نحو أيقظ تاريخ أستاذ دار العلوم مع "الرواية" ذاتها .. التاريخ الذي بدأ بسلبة فارغة تجرجرها أم باكية على فراق الجاموسة التي باعتها بخسًا كي تعود لابنها المغادر إلى القاهرة بمصروفات العيش .. طالب العلم، العاقل، الذي لا يُخشى عليه، وهو يبدأ رحلته إلى المستقبل المرموق سالكًا طريق الرشاد، ومتجنّبًا مواطن الذلل .. يتذكر إمام بلتاجي حسنين وصايا وأدعية الأنقياء التي ودّعت طهارته القروية قبل أن يسلمه القطار للزحام والضجيج والبنايات الشاهقة .. قبل أن يقوده الحنطور إلى الرواية المتربصة كي يكتشف شبابها المخبوء .. ينظر أستاذ دار العلوم في وجه طالب النقد الأدبي ويفكر في أنه منذ تحركت خطواته خارج السرجة للمرة الأخيرة لم يعد يطرق الأبواب الخاطئة، أو يتردد في طرق الأبواب الصحيحة، أو يفرد منديله الكبير على الأرائك قبل جلوسه، أو يضع إصبعه في أكواب العصير ليتأكد من غياب الخدعة، أو يفتح العلب المغلقة بخوف من المفاجآت، أو تنطلي على أذنيه الأصوات المزيفة، كما أن ذراعه توقفت عن خيانته .. يفكر في حياته المسالمة مع سلوى؛ الزوجة الرومانسية، ومعلمة الموسيقى التي تربي الأطفال  داخل الإيمان المنغّم بالعقيدة والوطن والقيم الإنسانية الأصيلة، مثلما يفعل هو تمامًا بالكتّاب والقراء وطلاب النقد الأدبي .. حبيبة الطفولة، التي توّج معها ذكريات الغيطان والسواقي وشجر الجميز والتوت بالنهاية المنطقية السعيدة .. يفكر في أن كل شيء ينتمي لحياته الآن يؤكد خروجه سالمًا من الجحيم الطارئ .. كل شيء يثبت نجاة الجذور من مغامرة "النجاسة" المؤقتة التي حاولت اقتلاعها في الماضي: العفوية الريفية المتسامحة أمام الابتسامة الشبقية الممتنة للرواية حين عرفت أنه أقام عند غلافها الموصد .. الحياء المرتبك أمام التلهف الشهواني ليديها المتحججتين بتنظيف فانلته المتسخة .. الوضوء وصلاة الفجر في المسجد وتلاوة ألفية بن مالك على لمبة الجاز أمام التلصص الجائع لعيني الرواية المفتونتين على البكارة الذكورية المكشوفة لجسده الممشوق، المضاء بالعرق، ذي الشعر الكثيف في الصدر، عبر لوح زجاجي، كان بفضل الغبار السميك المتراكم امتدادًا للجدار .. الحشمة المرتعشة أمام الصوت الخبيث لبكائها، الممتزج بتهيئة دروبها الوحشية لعبور قضيبه المنتظر نحو كوة الخلاص .. الاضطراب المتوسل أمام النعومة الفخمة لأشواقها العارية التي لم ينجح في طمسها .. الهروب العابر كأنه مسار دائري لذكر الحمام الذي فر من حصار الشباك مع صوت الآذان أمام تسلل الرواية نحو ارتجاف جناحيه المنكمشين في الظلام بعد عودته الحتمية .. الخوف المتآكل أمام سخريتها المتوارية في خطابها الهامس عن الشيطان والحب والطهارة والبراءة والحرمان والعطف والحنان والقلوب النظيفة وعيون الناس والكلمات الحلوة والكراهية وانعدام البخت وهي تقبّل جبينه ويده قبل أن تضم رأسه المتطاير لثدييها الأموميين، ويحترق العالم بالقبلة الأولى غير المصدقة في عينيها قبل إغماضهما.
ينظر إمام بلتاجي حسنين في وجه طالب النقد الأدبي ويفكر في أن القدر أنقذ مصيره من أن يكون "حسبو" آخر .. القارئ الملعون، الذي تبدّل قلبه بعصفورة مذبوحة، المشرّد بين توبة كالموت، ومعنى مُرجأ دائمًا .. لكن أستاذ دار العلوم يتساءل أيضًا في نفسه: هل قتل حسبو شفاعات حقًا بعدما بلغ ذروة اليأس من امتلاكها؟ .. هل تخلص القارئ الممسوس من الرواية بعدما أهلكه الغياب التام لحقيقة شبابها؟ .. هل ما سحقته الطاحونة هو جسد تلك السوقية، "الكبيرة واللذيذة"، أم اليقين الهزلي لكل "بغل" عن العلامات المراوغة لجسدها؟ .. يفكر إمام بلتاجي حسنين في أن قتل شفاعات لم يكن سوى حلم التخلص منها ..  هكذا يخبره تأويل طالب النقد الأدبي لرواية ما .. أمنية الانعتاق من لطمات الكرباج المتواصلة في يدها حيث المدلول لا يتوقف عن التحوّل إلى دال في لعبة تشتيت أبدية.
غضب نوستالجي ذلك الذي كان في عيني أستاذ دار العلوم .. يتأكد الآن أنه منذ مغادرة حجرته في حي القلعة لم يفعل أكثر من مطاردة شفاعات في جميع الروايات .. محاولة اعتقالها داخل الحلم الذي تخلص فيه حسبو من شرها .. الكفاح المستمر لتحويل كاتب الرواية وقارئها إلى حسبو جديد كي لا يفطن أحد إلى رغبة إمام بلتاجي حسنين في معاودة الامتثال لها .. يتأكد الآن أن شفاعات هي التي تطارده .. يعلم أنها الزمن وخارجه .. ظلام الليالي البعيدة .. الشبح الذي أراد الاعتناء به في غموض الغابات والبراري ليحميه من تصديق الغايات المتعالية، والرضوخ للأصول المترفعة للإدراك .. من التحوّل إلى "بغل حقيقي" يدور في سياقات المُثل المعرفية التي تكتسب مزيدًا من القداسة حين تُنطق باللهجة الريفية .. العلم الشرعي .. النقد الملتزم .. الشفاء سريعًا من اللعنة الإلهية قبل أن ينتهي كـ "حسبو" الذي لم يدمره التعب أو التمنّع .. كان حسبو يعرف أن مضاجعة الرواية الوحشية تحصّنه من المرض والموت .. أنه كلما حفر في جسدها تعمّق اكتشافه لنفسه كسيزيف مستمتع بشقائه .. كبروميثيوس متلذذ بإطفاء المعرفة كي يضيء الإبهام الذي يحرقه .. كنرسيس يتبول سعيدًا على انعكاس صورته في الماء .. حسبو أراد أن تكون الرواية الوحشية من أجله وحده، حتى في أقصى حالات تعذرها على خياله .. أن يكون المستأثر بنشوة الهلاك الناجمة عن انفلاتها الدائم .. لكن حينما وصل به فقدان الأمل إلى الحد الأخير؛ قرر القارئ الملعون أن ينتحر بالوهم المروّض لقتلها .. أن يطحن قسوتها تحت السلطة المطلقة للحقيقة والمعنى .. أن يتخلص من ثمالة الشك في البراهين، واقتفاء الحضور المتصدّع للأثر بالاستسلام القانط لهيمنة اللغة التي طالما كانت اللعبة الهازئة لشفاعات.
ينظر إمام بلتاجي حسنين أستاذ دار العلوم في وجه طالب النقد الأدبي كمن يتأمل الملك الصبي النائم في طفولية كل منا، والذي أشار إليه الطالب نفسه في تأويله لرواية ما مقتبسًا كلمات جوليا كريستيفا عن النظرية الجنسانية لفرويد .. الذي لن يحلم بقتل شفاعات، وإنما في تدمير نفسه داخل اللعنة إلى آخرها، إلى نهاية الفضول الذي لن يشبع، والتجاوز المحطم للذات حيث يكمن خلوده في قلب هذا الاختيار المتعمّد للفناء .. كان إمام بلتاجي حسنين ينظر إلى الصورة المنتهكة لانتصابه الشخصي داخل كوة الخلاص التي طُرد منها.

الثلاثاء، 1 يناير 2019

تحميل كتابي النقدي "تشارلز بوكوفسكي .. ما وراء اللعنة ـ وقراءات نقدية أخرى"

يضم الكتاب مجموعة من القراءات النقدية في أعمال تشارلز بوكوفسكي وضياء جبيلي وبوب ديلان وخوسيه إميليو باتشيكو وعبد الحكيم قاسم ومينيكه شيبر وأيمن الدبوسي ومريم شريف وصفاء النجار وبوهوميل هرابال وكازو إيشيغورو وسعيد خطيبي ولؤي حمزة عباس ووليد علاء الدين وتايشي يامادا وعزة رشاد، وغيرهم.
تحميل الكتاب