الخميس، 16 مارس 2023

سيرة الاختباء (38)


 تسعة شهور مرت منذ نشرت آخر مقال في “سيرة الاختباء”.. لكن هذا لا يعني أنني توقفت عن كتابتها خلال هذه الفترة.. ككل كتابة أخرى؛ كنت أكتب “سيرة الاختباء” طوال الوقت، ولكن ـ مثلما يمكن أن تكون عليه أي كتابة أخرى أيضًا ـ لم يكن هناك الوقت الملائم لفعل ذلك بشكل متعيّن.

هذا “بعض” مما حدث خلال هذه الشهور، وبالترتيب الزمني:

ـ نُشرت قصتي القصيرة “الموت العجيب لطائر” في موسوعة القصة العربية المعاصرة باللغة الإسبانية، والصادرة عن دار مؤسسة أبجد.

ـ نُشرت محاضرة لي عن كتابي “نقد استجابة القارئ العربي / مقدمة في جينالوجيا التأويل” في قناة “فسحة تفكير” على يوتيوب تلبية لدعوة صاحبها الباحث المغربي د. يوسف هريمة.

ـ حصلت على جائزة مؤسسة ناجي نعمان الأدبية بلبنان تكريمًا عن الأعمال الكاملة.

ـ فاز فيلم “مكان في الزمن” للمخرج نواف الجناحي عن قصتي القصيرة “الذي يستحق” بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان الداخلية السينمائي الدولي بسلطنة عمان.

ـ ناقش موقع “صدى / ذاكرة القصة المصرية” قصتي القصيرة “بين السابعة والتاسعة مساءً” في إحدى أمسيات “قصة أونلاين”.

ـ عدت لكتابة قراءة نقدية شهرية بجريدة “أخبار الأدب”.

ـ أقمت ورشة للقصة القصيرة بقصر ثقافة الطفل في المنصورة.

ـ نشر الكاتب والصحفي شريف الشافعي مقالًا عن ترجمتي لمختارات الشاعرة الأمريكية “لوسيل كليفتون” في “اندبندنت عربية”.

ـ أعادت مؤسسة “أدب” نشر ترجمتي كاملة لمختارات الشاعرة الأمريكية “لوسيل كليفتون”.

ـ نشر الناقد الكبير الأستاذ شوقي عبد الحميد دراسة نقدية عن مجموعتي القصصية “مكان جيد لسلحفاة محنطة” بموقع “الكتابة” الثقافي.

ـ نُشرت مجموعة من نصوصي في كتاب “أوكسجين” الأول، والصادر عن “محترف أوكسجين للنشر” في بودابست.

ـ أعادت مجلة “الكلمة” نشر قصتي القصيرة “Facebook” من مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة”.

ـ نُشرت قصتي القصيرة “اللعب بالفقاعات” من مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة” / القائمة القصيرة لجائزة ساويرس 2013 في كتاب “أصوات معاصرة” لطلاب المستوى المتقدم عن مطبعة جامعة جورج تاون الأمريكية.

إنها لحظة مناسبة لإعادة التذكير بما يعرفه الجميع: أسكن في مدينة “إقليمية”.. لا أغادر بيتي إلا على فترات متباعدة.. منفصل تمامًا عن أي “حراك” أدبي أو فني أو ثقافي بالمدينة (ندوات ـ مناقشات ـ مهرجانات ـ مؤتمرات ـ أمسيات ـ حفلات ـ لقاءات) مكتفيًا كل أعوام عدة بورشتي الإبداعية فحسب.. لا أسافر إلى “العاصمة” إلا كل بضعة سنوات ولمدة نصف يوم على الأكثر في كل مرة، لا أقابل خلاله أحدًا من “الوسط الأدبي”، ولا أجلس حتى على أي من “مقاهي المثقفين”.. لا أرتبط بأي صداقة قوية أو علاقة وطيدة داخل “الحياة الأدبية” سواء في الواقع أو عبر منصات التواصل الاجتماعي.. لا أخوض معارك ترويجية، ولا أشترك حتى في مجرد نقاشات دعائية على السوشيال ميديا.. لا أخاطب أحدًا للنشر في صحيفة أو مجلة أو موقع، أو لإصدار كتاب لي مع دار نشر.. لا أكتب تحديدًا سوى في موقع “الكتابة”، وجريدة “أخبار الأدب” ومنصة “أراجيك” وبالطبع مدونتي الشخصية فقط منذ سنوات طويلة.. لا أنتهز الفرص التي تُستغل جماعيًا على نحو تلقائي، ولا أستجيب للدعوات المبطنة أو الإغراءات المباشرة التي تضمن وتستثمر الشهرة أو تسليط الضوء أو على الأقل الاهتمام ولفت النظر.. لا أتوارى داخل شخصية هجومية ساخرة بشكل بليد وأجوف، تفتعل العداوات المجانية، وتلهث بالوصاية التحقيرية تجاه كاتب أو ناقد أو قارئ أو نص لكي أختلس مكانة “مرموقة” في “المجتمع الثقافي”.. عدا كتابين مع مؤسسة “أبجد” العراقية ومنذ سنوات طويلة أيضًا؛ أنشر كتبي بنفسي إلكترونيًا، بأغلفة رديئة وتنسيق سيء ـ وفقًا للمعايير التقليدية ـ حتى لا يفكر أي ناشر أن يضع “راسه براسي”.. لا أثرثر على فيسبوك عن أي شيء في أي اتجاه بشعبوية قيمية وعاطفية لزجة وبائسة لكي أروّج لكتاباتي ضمنيًا لدى “قطعان المدجنين” دون أن أنسى انتقاد “الشعبوية” نفسها حفاظًا على الرونق.. لست واحدًا من أبناء “المحروسة” الذين يعرف كل منهم أي دار نشر ستصدر كتابه، وأسماء من سيكتبون عنه، والجائزة التي سيحصل عليها من قبل أن تتكوّن لديه فكرته.

قصة واحدة من مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة” باختيارها في كتاب “تعليمي” لطلاب اللغة العربية بجامعة أمريكية حصلت على ما لم تحققه مجموعات قصصية منحتها دور النشر التي أصدرتها جائزة ساويرس.. “مكان جيد لسلحفاة محنطة” كانت من ضمن الأعمال الكاملة التي حصلتُ على جائزة مؤسسة ناجي نعمان الأدبية بلبنان تكريمًا عنها.. الجائزة التي لم أسع إليها وتشرفت بها.

إنها لحظة مناسبة لإعادة التذكير بما كتبته سابقًا في “سيرة الاختباء”:

“لكن في المقابل فإنني أستحق بصورة جوهرية ما يليق بي فعلًا، أي ما كنت، وما زلت عليه حتى الآن.. أن أكون وحدي، مستقلًا بفرديتي الطائشة، خارج المتن، منفصلًا عن سلطة المركز، مجرّدًا من أفضال “الصداقة”، مغتنمًا المكاسب الأنقى.. لأنني أكثر الجديرين بأن أكون لاعبًا بـ “التاريخ الأدبي”، لا قطعة من ألعابه”.

“يسهل عليّ مجرد التذكير بما يتداول عني أيضًا ـ ومن أبناء المركز أنفسهم ـ بأن ما حصلت عليه أقل بكثير مما أنا جدير به، ويحظى به من يتميزون فقط بالاستقرار في المكان (المناسب)”.

كل ما في الأمر أنني لا أتوقف عن النشر فحسب.. لا شيء ابن عاهرة يحدث في عالم “الزومبي” الأدبي يمكنه أن يمنعني من الاستمرار.. ونتيجة لهذا فإن “الغنائم تأتيني بإرادتها، دون امتلاك سلطة” كما كتبت من قبل.. أحصل على “شيء” مما أستحقه وسط “الضجيج الاحتيالي” دون أن أطلبه.

إنني لا أسمّي ما صرت إليه خلال السنوات الست الماضية اكتمالًا لانقطاع تدريجي عن “الحياة الثقافية” بدأ منذ خطوتي الأولى داخلها؛ فما كنت عليه حتى عام 2017 لم يكن حضورًا فعليًا مقارنة بـ “المقيمين”، وإنما كان اختبارًا “كتابيًا” مؤقتًا لهذه الحياة.. لعبًا جماليًا وفلسفيًا بـ “الاختباء”:

“منذ المرة الأولى التي حضرت فيها “ندوة”، والتقيت بـ “أدباء” كي “أقرأ محاولاتي القصصية” أمامهم وأنا مازلت طالبًا في المرحلة الإعدادية، وحتى التوقف بعد ما يقرب من ثلاثين سنة عن حضور الندوات، والامتناع عن عقد مناقشات أو حفلات توقيع لأعمالي، والاتجاه منذ فترة لنشر كتبي إلكترونيًا عدا الاستثناءات المحتومة.. الاختباء الذي طالما أثبته كل “ظهور”، ولم يفارقه مطلقًا الوعي بأنه بديل عدائي لما هو أكثر استحالة أي “الاختفاء”.. أن تكافح من أجل الاختباء بكل ما يضمره من تمنّع ومشقة وخسائر؛ فهذا يعني أنك تستوعب جيدًا عدم القدرة على بلوغ الغاية الأصلية؛ أي أن تختفي تمامًا”.

هذا ما كتبته في المقال الأول من “سيرة الاختباء”، وهو ما يعني بالضرورة أن ما كان يبدو في الماضي تواجدًا لي في “حراك المدينة” أو “الأماكن الأدبية” أو “صداقات الكتّاب”، أو ما كان يبدو تواصلًا مع الآخرين من أجل النشر؛ فضلًا عن الشحوب البالغ لذلك “التواجد” أو “التواصل”؛ فإن ما يبدو هكذا كان في حقيقته الحد الأدنى من الامتثال القهري ـ بالعودة أيضًا إلى مقال سابق في “سيرة الاختباء” ـ لما تصفه هذه السطور:

“أتحدث عن المسافة الفاصلة بين النص / الكتاب، والقارئ. الطريق الذي يتحتم أن تقطعه تلك الكتابة التي “تزحزح العالم”.. التي لن ترسم “الفوضى” فقط ملامح ما سيتعيّن عليها مجابهته.. الاهتمام الذي ستُجبر عليه إذا أردت لما كتبته أن يعبر بطريقة عادية مما تعتبره مخبأً طفوليًا إلى حيث يتواجد “الناس”.. الطريق الممتلئ بالمحررين والناشرين؛ إذ أن الكتابة في حد ذاتها لن تمثّل إلا جانبًا من صفقة تتداخل فيها كل العوامل “غير النصّية” التي لا يصدّق البعض مدى تأثيرها، أو مجرد وجودها في تلك المسافة الفاصلة.. لا يتعلق الأمر بلجلجتك التي سيسمعها الآخر عبر الهاتف، أو بارتباكك الذي سيبدو عاريًا تمامًا حينما يلتقيك وحسب، بل كذلك بالحد الأدنى من هذه الضرورة، وهي اضطرارك إلى تمرير كتابتك إلى ممثلين لفضاء “ثقافي” لا تعتبر نفسك واحدًا من أبنائه.. إلى وكلاء نموذجيين لـ “وضع أدبي” معاصر أنجبتهم مراكمة تاريخية لطالما كانت محل سخريتك.. هذا ما يجعل امتنانك لكل ما هو استثنائي، منفلت من هذه الطبيعة المتجذرة، يندرج في نطاق الاضطراب الشخصي، غير المفهوم، الذي تصافح به الجميع حينما تتحرك خطوات نادرة خارج مخبأك”.

هذا ما يعني بالضرورة أيضًا أن ما حصلت عليه خلال ذلك الماضي لم يكن ناجمًا عن ما يبدو “تواجدًا” أو “تواصلًا”، وإنما على النقيض كان ناجمًا عن “اختبائي”، وهو ما تناولته في قصتي القصيرة “بطوط”:

“لاشك أن التأثير الناجح لهذا الانقطاع عن الآخرين كان سببًا جوهريًا لهذه السعادة؛ فقد تزايد الاهتمام والاحتفاء بكتاباتي، وانتشرت الاقتباسات من نصوصي في كل مكان، كما كثرت الكتابة عن أعمالي، وإعادة نشرها، فضلًا عن التدفق الذي لا ينقطع لمخطوطات وإصدارات الآخرين إلى بريدي، والآملين في مراجعتي لها وتقديم النصائح، والكتابة عنها، وكذلك الدعوات المتواصلة لمناقشة الأعمال الأدبية في ندوات ومؤتمرات، ولتدوين وإلقاء الشهادات عن الكتابة، وللمساهمة في ملفات بالصحف والمجلات والمواقع، أو لكتابة مقالات ثابتة في مطبوعات ثقافية، أو للحوارات الصحفية والمقابلات الإذاعية والتليفزيونية، إلى جانب ترجمة كتاباتي، وتحويل قصصي إلى أفلام قصيرة، وحصولي على جوائز، مع العروض التي تقدمها دور النشر لإصدار كتبي.. أما حالة الهوس العام التي بدأت منذ سنوات طويلة على الإنترنت بهذا المقطع من قصيدة “عنكبوت مسكين يقيس زاوية الحائط”.

لا تخف

ليس معنى الوقوف في النافذة

أنك ستسقط

ليس معنى السعال

أنك مصاب بالسرطان

ليس معنى ضيق التنفس

أن قلبك به شريان مسدود

الحياة فقط هي التي معناها

أنك ستموت.

هذا الهوس العام مازال في تصاعد مستمر على مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات والمنتديات والمواقع الأخرى، والذي جعل هذه الكلمات من أكثر الاقتباسات تداولاً على الإنترنت، إن لم تكن الأكثر شهرة. جموع بشرية هائلة تتزايد عبر الزمن في كل مكان بأعمار وجنسيات مختلفة يواصلون نشر هذا المقطع، ويضيفون إليه الصور واللوحات، ويستخدمونه كتوقيع يُعبّر عن وجودهم في العالم”.

كتب ج. د. سالينجر “الحارس في حقل الشوفان” في مرحلة تاريخية وبين عوامل “ثقافية” عامة أتاحت لروايته أن تحقق هذا النجاح الجماهيري على مستوى العالم.. في فيلمRebel in the Rye للمخرج الأمريكي داني سترونغ والمقتبس من كتاب J. D. Salinger: A Life لكينيث سلاوينسكي؛ سأل وايت بورنيت أستاذ الكتابة الإبداعية ومؤسس مجلة “ستوري” سالينجر إذا كان على استعداد لتكريس حياته لكتابة القصص مع معرفة أنه لن يجني شيئًا في المقابل.. أجابه سالينجر بعد أعوام، وبعد نشر الرواية التي أصبحت إعلاميًا من “أهم الروايات في القرن العشرين” بأنه ينوي أن يفعل ذلك لبقية حياته.. لكن الاستفهام الحقيقي بالنسبة لي: هل كان يمكنك أن تواصل الكتابة منعزلًا قبل نشر “الحارس في حقل الشوفان” وقبل أن تعيش كل ما حازته من احتفاء؟.. إن سالينجر الذي كان يمكن أن يغلق الأبواب على نفسه قبل نشر الرواية ليس هو سالينجر الذي اعتزل العالم بعد نشر الرواية.. الأبواب أصبحت مختلفة.. العزلة مختلفة.. الجميع يتذكر دائمًا سالينجر باعتباره كاتب رواية أسطورية تحوّل إلى زاهد أسطوري.. لكن من يفكر في ما يقع خارج الرواية وجعلها تحتل هذه المنزلة في “التاريخ الأدبي”؟.. من يفكر في توقيت اتخاذ سالينجر لقرار الابتعاد عن الناس والتوقف عن النشر؟

إن سالينجر ـ ببساطة ـ كان يريد أولًا أن يتحسس بصمته في “الخارج” قبل أن يبقى في “الداخل” حتى نهاية عمره.. لم يكن للحظة أن تسبق الأخرى.. يتعلق الأمر بالغضب الذي سيقوده إلى تلك العزلة وكان عليه أن يمر أولًا بـ “حقل الشوفان”.. يتعلق الأمر بما كان “مضطرًا” إليه ولم يكن هناك سبيل لتجنبه أو التفاوض معه حتى يخلق “اختباءه”.. أيقن سالينجر أن رواية واحدة حققت “انتقامه” من كل سلطة اعتبرها جديرة بتقويضه الساخر.. لكن على جانب آخر ثمة من يعيش في “مرحلة تاريخية” أخرى، وعوامل “ثقافية” مغايرة لتلك التي خرجت من بينها “الحارس في حقل الشوفان”، وهو ما يقتضي أن يواصل الغضب حفر بصماته في “الخارج” مهما كان مدى بقائه في “الداخل”.. الغضب الذي تنطوي مشاهده الانتقامية على تفكيك ما يمكن أن تعنيه “البصمة”، “الداخل” و”الخارج”.. على تفكيك “الاختباء” نفسه.

       موقع "الكتابة" ـ 13 مارس 2023

لافاش كيري

لم تكن أغنية إعلان لافاش كيري تجعلني أحلم بأن نتحوّل إلى تلك الأسرة السعيدة التي تعدو بمرح نقي داخل المرعى الفردوسي وسط الأبقار في ظهيرة حانية، ويفترشون العشب بألفة آمنة ليتناولوا شطائر جبنة “البقرة الضاحكة”، وإنما كانت تعدني بأننا من الممكن أن نكون كذلك بالفعل .. ألم نكن نأكل نفس نوع الجبن يا مجدي؟ .. ألم تكن نفس البقرة تضحك في وجوهنا ـ رغم كل شيء ـ من غطاء العلبة كلما أخرجناها من الثلاجة ووضعناها فوق طاولة العشاء؟ .. ألم نكن بشرًا مثلهم؟ .. كانت الأغنية تؤكد الاحتمالات المخبوءة للخلاص في كل شيء جميل جربته في طفولتي يا مجدي، وكانت دلالته بالضرورة تتجاوز في نفسي كونه شيئًا جميلًا إلى كونه وعدًا بنجاة كاملة، أبدية، محصنة، تشبه تلك التي تعيش عند حافتها المنغّمة هذه الأسرة في إعلان لافاش كيري .. كل الأشياء الجميلة كانت كذلك .. كانت وعودًا متجذرة في نفسي .. مبررات بديهية للأمل تتخطى حدودها الملموسة .. هل كل الأطفال كذلك يا مجدي؟ .. ربما الفرق أن هناك طفلًا يستسلم لتبدد هذه الاحتمالات من حياته مع كل لحظة تمر في مغادرة الطفولة، ينسى أن الأشياء الجميلة في الماضي لم تكن مجرد أشياء جميلة، يتعايش مع فقدان الوعود بذاكرة مطموسة، ببدائل مكرسة لمحاولة تخفيف آلام الاحتضار وحسب .. لكن وعيي لم يستسلم يا مجدي .. عدم الاستسلام حماني من النسيان ولعنني بغيابه، منعني من التعايش مع الفقدان، الخيانة وحدها هي ما أبقت ذاكرتي حية .. لهذا أنا لا أريد أن أعود لكي أكون ذلك الطفل الذي تحلق روحه بنشوة رائقة حينما يُعرض إعلان لافاش كيري فقط، وإنما أريد الحصول على ما كانت هذه النشوة تنبئ به أيضًا .. لا أريد أن نعود كأسرة تعيش في الثمانينيات أمام التليفزيون، ولا حتى أن نكون تلك الأسرة السعيدة وراء شاشته فقط، وإنما أريد أن نعود إلى ما كانت الثمانينيات طريقًا له أيضًا .. الطريق المقطوع من قبل أن نوجد يا مجدي.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة. 

الأحد، 5 مارس 2023

طائر إثر طائر: مخاتلة الوجود

ثمة كاتب في سعيه للتعرّف على تجارب وشهادات الكتّاب الآخرين حول "الكتابة"، ربما خاصة المقترنة بـ "تدريسها"؛ فإنه يستهدف مسبقًا الحصول على تأكيدات للرؤى والأفكار التي استقرت في وعيه خلال رحلته الشخصية مع الكتابة، لاسيما بالطبع لو استخدم ذلك الكاتب الآخر نفس الصيغ اللغوية التي تشكلت داخل هذا الوعي في تعبيره عن تلك الرؤى والأفكار .. أما إذا كانت هذه التجارب والشهادات تحمل اختلافًا أو تنافرًا مع ما سعى هذا الكاتب للحصول عليه، أي أنها لم تقدم الدعم المنتظر لـ "المفاهيم" الثابتة في قناعاته حول الكتابة، فإنه قد يرجو ألا ينطوي هذا الاختلاف أو التنافر بأي حال على تهديد حقيقي أو على الأقل على نوع من التحدي لتلك المفاهيم التي تستحوذ عليه، وإلا سيجد نفسه مضطرًا لمجابهتها باعتبارها "أخطاءً" .. هل "خطأ" هي الكلمة المناسبة هنا، خاصة حينما نتحدث عن حيوات متباينة ومن ثمّ عن مسارات غير متماثلة للكتابة؟

إن معيار الإجابة عن هذا السؤال يتحدد في الإجابة على سؤال آخر: ما الذي يُفترض مجادلته حقًا؛ الكاتب أم ما يستحوذ عليه؟ .. الذات في حقل الاختبار الأدبي أم ما تتحدث عنه حين ترغب في سرد تجربتها أو تدوين شهادتها؟ .. الفرق واضح للغاية: أن "تقيّم" مفاهيم الكاتب، وأن تفكك السلطة التي تنتج هذه المفاهيم .. من "يقيّمون" مفاهيم الكاتب هم أنفسهم الذين يقرأون أعماله مثلما يطالع المعلم موضوعات مدرسية لأحد طلابه: "أحسنت .. هذا سيء .. كان ينبغي أن تفعل كذا .. ما كان يجب عليك كتابة ذلك" .. أما الذين يطاردون هيمنة "المعرفة" التي توظف أحكام الوصاية والتفضيل والإدانة عبر أجساد الكتّاب فإنهم لا يقاربون المختلف أو المتنافر بوصفه "اعتداءً" على ذواتهم أو عقائدهم وإنما بوصفه "آخر" فحسب.

"وهكذا ترعرعت بالقرب من هذا الرجل الذي جلس إلى مكتبه طوال النهار وخط كتبًا ومقالات عن الأماكن والأشخاص الذين رآهم وعرفهم. قرأ الكثير من الشعر، وسافر في بعض الأحيان. استطاع أن يسافر إلى حيث يشاء بدافع من الشعور بالغاية. إذ من مزايا العمل في الكتابة أنها تمنحك عذرًا لفعل أشياء بعينها وزيارة أماكن بعينها واستكشافها. والميزة الأخرى أن الكتابة تحفزك على النظر عن كثب إلى الحياة، الحياة بكليتها في غمار تخبطها وتأرجحها".

في كتابها "طائر إثر طائر" الصادر عن دار "أثر" بترجمة إيمان معروف؛ تسترجع الكاتبة الأمريكية آن لاموت خطواتها نحو "تعليم الكتابة": مطالعات الكتب في الطفولة بين والدين يقرآن طوال الوقت .. علاقة أبيها الكاتب بأصدقائه من المؤلفين الذين كانوا يحضرون إلى المنزل للشرب وتناول العشاء .. إرشادات أبيها للسجناء في برنامج الكتابة الإبداعية .. اتسامها في الصغر بالتوتر والخجل وغرابة المظهر .. كتابة قصائد مبكرة تشبه الأغاني الشعرية الإنجليزية القديمة .. الانغماس في الكتابة بالمرحلة الثانوية .. التنقل بين الجماعات الأدبية والسياسية والعرقية المختلفة لاكتساب الخبرات والأفكار .. كتابة المقالات لصحيفة الكلية .. هجران الدراسة والحصول على وظيفة كاتبة طابعة .. الكتابة في المقاهي .. العمل في تدريب التنس وتنظيف المنازل ..  إصابة والدها بورم في الدماغ .. نشر كتاب قصصها القصيرة الأول حول مرض أبيها .. تعاقب نشر كتبها .. البدء في ورشتها للكتابة.

"إن رؤية نفسك في عالم النشر تبدو فكرة رائعة: يمكنك الفوز بكثير من الاهتمام دون الحاجة إلى الظهور فعليًا في مكان ما. ففي حين يتعين على الآخرين الذين لديهم ما يقولونه أو يريدون أن يكونوا مؤثرين مثل الموسيقيين أو لاعبي البيسبول أو السياسيين، أن يخرجوا أمام الملأ، فإن الكتّاب الذين يميلون بطبعهم إلى الخجل، يمكنهم البقاء في المنزل وتحقيق الشهرة في الآن نفسه. ثمة العديد من المزايا الواضحة لهذا؛ إذ لست مضطرًا للتأنق على سبيل المثال، ويمكنك تجنب سماع استهجانهم لك وجهًا لوجه".

لكن ما كان جديرًا بالاهتمام بالنسبة لي من بين كل ما كتبته "لاموت" عن ضرورة الإصغاء، والتحلي بالجرأة والأصالة، والسماح للنفس بارتكاب الأخطاء، والكتابة كل يوم لبعض الوقت  كعزف السلم الموسيقي على البيانو أو كإعادة ترتيب الأشياء مسبقًا مع النفس، والكتابة كعهد شرف والالتزام بإنهائها، والتقاط كل ما يُسمع وتدوين كل شيء، والكتابة كحالة ثورية من الصبر، وعدم إعطاء أولوية الاهتمام للنشر، والتخلي عن الإيمان بتحقيق الكتابة للنجاح المالي وراحة البال والفرح والمكانة المُرضية؛ ما كان جديرًا بالاهتمام بالنسبة لي هو تلك الصفات التي أطلقتها على الكتابة بدءً من نصوصها الأولى وحتى تلك التي استخدمتها كنماذج لشرح أفكارها .. الصفات الخاضعة لـ "سلطة التقييم": "القصص الفظيعة"، "جملة سيئة للغاية"، "المسودات التافهة" إلخ .. إنها لا تستخدم تعبيرات مثل "غياب التوافق" أو "فقدان الملاءمة" أو "عدم التناسب" مثلًا في حديثها عن "الكتابة"، وإنما تستعمل دون تردد مقاييس "الجودة والرداءة"، "الجمال والقبح"، "الصواب والخطأ"، وهو ما يشير إلى رضوخ أفكارها بشكل مطلق إلى "سلطة التقييم"، إلى عدم محاكمتها أو مسائلتها، حتى لو كنا نتحدث عن محاولات بدائية أو مخططات تجريبية للكتابة.

في إحدى "المحاضرات الصغيرة" التي تضمنها كتابي "استراقات الكتابة" كتبت هذه السطور:

"يكاد الندم على كلمات أو سطور أو ربما صفحات تحوّلت من تلصص على اللغة داخل مسودة سرية إلى يقين عارٍ في أوراق مطبوعة أمام عيون الآخرين؛ يكاد هذا الندم أن يكون تاريخًا جوهريًا للكتابة .. لكن عن أي ندم أتحدث؟ .. إنها لحظة الألم الخالدة التي لا تنفصل أبدًا عن حكمة تخديرها المؤقت في اللحظة التالية .. الجرح المزمن الناجم عن الشعور بارتكاب حماقة لا سبيل لمحوها، والذي كلما نزف مجددًا يعيد إليه إدراك بديهي التئامه: لم يكن الأمر كذلك وقت كتابته.

كل ما يبدو خاطئًا، قبيحًا، سيئًا يستند في حقيقة الأمر لأحكام لا تخصني، وإنما تنتمي إلى شخص عليه أن يمنح تلك الصفات العقابية للكتابة ـ أي كتابة ـ نتيجة عدم انسجامها مع ما يؤمن به، أو ما يعتقد لحظة القراءة أنها الأفكار الأكثر صوابًا عن العالم .. تخص معايير ما قبل الوجود الناشئة عن الزيف الأعظم (الخير والشر) والمتجذرة في أرواح كائناته .. في كل شخص يوجد هذا الإحساس بالتنافر .. الغريزة التي تحكم على هذا التنافر بأنه اعتداء على الذات .. تهديد للحياة والموت كما تستقر صورة كل منهما في الوعي .. هذه الأحكام تخص ذلك الشخص الكامن في داخلي والذي تتماثل عفويته (التقييمية) مع الآخرين بكيفية عابرة .. القارئ الذي يقرر بأن ما كان ضروريًا أو في أقرب احتمال لوجوبه وقت الكتابة ربما لم يعد ملائمًا في الحاضر .. الإنقاذ الاعتيادي من تلك الحسرة يرجع لتذكير بالغ البساطة والمشقة معًا بأن لكل لحظة كتابتها دون مقارنات تفاضلية مع لحظة أخرى تسبقها أو تخلفها .. كل لحظة مختلفة وغير منتهية حين تكون نصًا، أي تخلق مبرراتها أو دوافعها اللغوية المستقلة عن لحظات أخرى.

لم أتوقف منذ قصتي الأولى في عمر الثالثة عشر عن نشر كل نص أكتبه مهما كانت رؤيتي له حينئذ، والتي قد تتباين مع ما كنت أختبره مع ذلك النص في الماضي .. ذلك لأن النص بصمة غير خاضعة لتصنيف الجودة في سيرتي .. السيرة التي لا تقاس بذلك الذي يسمى (التطور) وإنما بما كانت تجسده كل خطوة منها عند حدوثها .. بالزمن الخاص الذي توثّقه والذي لن يكون هو نفسه حين تعاود كتابته مصححًا أو مستدركًا ما تظن ـ كقارئ ـ أنها عيوب تكشفت بعد فترة طويلة من الاستقرار عليه كحصيلة من الكلمات الجديرة بتمريرها خارج عزلتك كتاريخ شخصي  .. ما تفعله في النصوص اللاحقة ليس معالجة لقبح مستقر في نص سابق وإنما تأكيد على اتساق كل كتابة مع مراوغة اللغة في مفترق طرق ما .. الاتساق الذي يحرم التصحيحات والاستدراكات من أي نهاية حاسمة .. كل كتابة هي تجانس مع ما يبصره عماؤك من الملامح المتبدلة لليأس".

ما كان جديرًا أيضًا بالاهتمام بالنسبة لي هو علاقة السخرية التي تعرضت لها "آن لاموت" في طفولتها بسبب مظهرها وطريقة سيرها بالكتابة .. ليس كل من يتعرضون إلى السخرية في طفولتهم أو في حياتهم بشكل عام يصبحون كتّابًا .. لكن بعضهم يتخذ هذا القرار لدافع ما أو بمزيج من الدوافع الواضحة أو الغامضة، لكن ستكون للسخرية جذور فيها .. أحيانًا كرد اعتبار للذات، كتصفية حساب مع أناس بعينهم، أو كثأر شامل دون تحديد، لكن ما أفكر فيه هو ذلك الغضب ـ الذي يمكن استشعاره في كلمات لاموت حول خجلها وتوترها ـ الذي يوجّه الانتقام إلى ما وراء مصادر الأذى الملموسة دون أن يغفل ـ بالطبع ـ عن المرور من ظلامها .. أفكر في خلخلة الحدود المباشرة للثأر باعتبارها مجرد عتبات وليست غايات .. أنفاق في باطن العالم للتسلل نحو الغيب .. هذا ما يمكن تسميته أيضًا بمحاولة فهم الانتقام .. تشريحه كتدبير ضروري لتصفية الحساب مع جوهر الأذى.

"كان من الواضح أنني الشخص الذي سيكبر ليصبح قاتلًا متسلسلًا، أو يحتفظ بالعشرات من القطط؛ ولكن بدلًا من ذلك أصبحت فكاهية. نعم لقد أصبحت فكاهية لأن الأولاد والأولاد الأكبر سنًا الذين لم أكن أعرفهم حتى، كانوا يمرون بجانبي على ظهر دراجاتهم ويسخرون من مظهري الغريب. وشعرت في كل مرة كأن أحدهم يطلق النار عليّ من سيارة مسرعة. أعتقد أن هذا ما جعل طريقتي في المشي تشبه نيكسون؛ إذ كنت على الأغلب أحاول سد أذنيّ بكتفيّ، لكنهما لم يصلا تمامًا. لذا عملت في البداية فكاهية ثم شرعت في الكتابة، على الرغم من أنني لم أكتب دائمًا أشياء فكاهية".  

بدأت منذ فترة في دراسة نقدية حول "المهانة" في حياة الكاتب ولدى شخصيات أعماله .. هذه الدراسة هي مواصلة لمشروع سبق أن نُشر منه كتابي "الغفلة والإدراك / مدخل تفكيكي لفلسفة شوبنهاور" .. تتناول الدراسة نماذج عديدة: تشيخوف .. كافكا .. دوستويفسكي .. غوغول .. بورشرت وغيرهم ..  لكل كاتب تجربته الخاصة مع "المهانة" ومن ثمّ فإن لكل منهم شخصياته الأدبية التي تشكلها هذه التجربة .. هذا التشكيل لتجربة المهانة في الشخصية القصصية أو الروائية لا يقدم تأويلًا لإنسانية الكاتب وحسب، وإنما يطرح كذلك صورة "الكتابة" لديه .. ما يمكن أن تعنيه، ما تنحاز إليه كخبرة جمالية وفلسفية، ما ينبئ بالأثر الذي تريد أن تخاتل به الوجود.   

جريدة "أخبار الأدب" ـ 4 مارس 2023