الخميس، 30 نوفمبر 2017
الأربعاء، 29 نوفمبر 2017
الروائي ممدوح رزق بين فرحتين
تم اختيار ابنة الروائي ممدوح رزق الصغيرة لتكون مطربة الحفل الدينى الذى ستقيمه مدرستها للاحتفال بالمولد النبوى وقد عبر الروائي الذى صدر له حديثا روايته الجديدة "إثر حادث أليم " عن الهيئة العامة للكتاب عن سعادته باختيار مطربته الصغيرة لتغني فى حفل مدرستها.
ممدوح رزق هو كاتب وناقد مصري. صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة. حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي. ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.
جمال فتحي
بتانة نيوز ـ 29 نوفمبر 2017
ممدوح رزق هو كاتب وناقد مصري. صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة. حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي. ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.
جمال فتحي
بتانة نيوز ـ 29 نوفمبر 2017
الاثنين، 27 نوفمبر 2017
البرد
لا ينامون في الليل بسبب صوته .. الصوت الذي كان مرعبًا جدًا حينما سمعوه للمرة الأولى منذ عدة أسابيع .. الذي لم تكن كلماته مفهومة ثم أصبحت مستوعبة بالتدريج .. الذي صار مألوفًا ولكنه لا يزال مزعجًا .. صوت الطفل الخفي الذي يتحرك في الشقة آخر كل ليل، ويقول بحروف متكسرة وشبه مطموسة إنه يشعر بالبرد رغم ملابسه الثقيلة، وإنه يحتاج فقط ليدين كبيرتين ترتبان الثياب الكثيرة التي يرتديها فوق بعضها، وتحكمان إدخال أطرافها تحت بنطلون بيچامته .. لا ينامون في الليل لأنه طفل مزعج، ولا يستطيع أن يفهم رغم محاولاتهم المتواصلة لإخباره بأنهم موتى.
اللوحة لـ arthur bianchini
موقع (الكتابة) 26 نوفمبر 2017
اللوحة لـ arthur bianchini
موقع (الكتابة) 26 نوفمبر 2017
السبت، 25 نوفمبر 2017
الناقد المخصي
في روايتي (خلق الموتى) الصادرة عام 2012 كتبت هذه الفقرة:
(يؤكد "أمبرتو إيكو" على أننا نكتب لقاريء، وأننا بالكتابة نريد أن نقول شيئاً ما لشخص ما، وهذا ما يدفعني للتفكير دائماً في أن الكتابة ليست ـ ولا يجب أن تكون ـ فعلاً مسالماً أبداً، بل تمثّل طريقة مضمونة لاكتساب أعداء جدد بقدر الآخرين المحتملين الذين سيعتبرون النص صديقاً يمكن قبوله في حياتهم بشكل ما. على الكاتب أن يعتبر العداوة مكسباً يتساوى أو قد يفوق أحياناً الصداقة).
أثناء كتابة (الفشل في النوم مع السيدة نون) كان بديهياً بالنسبة لي تحديد أعدائها .. النوعية المعروفة من القراء والكتّاب والمحررين الأدبيين الذين تستفزهم كتاباتي عموماً، بالإضافة إلى نماذج أخرى ستنضم إليهم بفضل تفاصيل خاصة بموضوع الرواية .. ماذا عن مدرسي اللغة العربية، وشيوخ الجوامع، وأمناء الشرطة؟ .. الذين ينقذون العالم بقدر موضوعات التعبير التي يصححونها، والخُطب التي يلقونها من فوق كل منبر، وتشوهات الحياة التي يعالجونها في أقسام البوليس؟ .. ماذا عن النقاد؟ .. يبدو أنني قلت ما فيه الكفاية عن هذه الفصيلة التي كان متوقعاً بالطبع أن تحرق دماءهم (الفشل في النوم مع السيدة نون).
يكاد يكون من باب القانون الأدبي أن (الناقد) ـ خاصة لو كان أكاديمياً ـ هو كائن أعلى شأناً، وأرقى مكانة، وأرفع منزلة ممن يسمى بـ (القاريء العادي) .. فلتذهب الجذور التاريخية التي رسخّت لهذه السلطة إلى الجحيم؛ فما يعنيني الآن أن هناك كتابة أدبية يضاف لمنجزاتها قدرتها على فضح الوهم الفاصل بين (الناقد)، ومن يسمى بـ (القاريء العادي) .. بين رسول كليات الآداب، المنتفخ بفاشية قيم وأخلاق (السيد أبو العلا البشري)، والمكلف بإخضاع البشرية للثوابت التي لا صحيح غيرها للسمو والجمال، وبين الشاب الذي يعتبر نفسه (قارئاً عادياً)، ولم يخطر في باله وهو يكتب ريفيوهات للكتب على (جودريدز) أو (أبجد) أن يسمي نفسه (ناقداً)، رغم أنه يبحث أيضاً في كل رواية عن (الحكاية)، وعن (المغزى النبيل)، ويرفض (البذاءة).
لكنني لو أردت تعيين فروق ـ ربما لن تكون جوهرية مقارنة بالحد الأساسي الفاصل الذي لا وجود له ـ فإنني سأضع الانتقام من الكاتب كاحتياج مركزي في سلطة الناقد .. الشعور بالدونية الذي يعاقب الكاتب لكونه كاتباً .. ماذا لو كان الكاتب ناقداً أيضاً، وتناول في عمله الروائي ما حققه من نجاحات نقدية؟ .. هل يمكن تخيّل أي سواد سيواجه به الناقد هذه الرواية؟! .. إن فرص ظهور هذه الحالات بين من يسمون بـ (القراء العاديين) أجد احتمالاتها أقل ولسبب بسيط في تصوري، أنهم لا ينتمون أصلاً إلى هذا الجزء من المرحاض العمومي.
الفرق الآخر هو امتلاك الناقد الأكاديمي لما يظنه قوة تخدمه في الهجوم على (خصومه)، وإرهابهم، وتحميه في نفس الوقت من شرهم .. القوة التي يسميها (العلم) خصوصاً لو كانت مدعومة بقدر ولو بسيط من التزمت الديني .. كأنه لا توجد معرفة أدبية أخرى يمكن للكاتب أن يُدرسها لذلك الناقد، وكأنه لا توجد معرفة نقدية أخرى يمكن لناقد آخر أن يُدرسها له، وكأنه لا يوجد روائي وناقد ـ مثلاً ـ يمكنه أن يُدرس لذلك الناقد نفس المقررات التي يحشرها داخل عقول طلبته في المحاضرات والكتب، ولكن بشكل لم يسبق له استيعابه من قبل .. من يُسمى بـ (القاريء العادي) لا يمتلك سكين داعش الهزلي المعروف بحرف الـ (د) قبل اسمه.
ذات يوم طلب مني الأصدقاء في نادي أدب المنصورة إعداد دراسة نقدية عن مجموعة قصصية ستتم مناقشتها في النادي .. لم أجد منذ الصفحة الأولى ما يدفعني لتكوين أي علاقة مع ما أقرأه .. رغم ذلك أكملت المجموعة منتظراً العثور على طرف خيط لكن هذا لم يحدث على الإطلاق حتى الكلمة الأخيرة .. اتصلت بصديقي المسؤول عن الندوة، واعتذرت عن الحضور، ولم أتحدث عن هذه المجموعة أبداً.
هناك في رصيدي كناقد ما يستحق أن أتباهى به، ولكن يكفيني القول الآن أنني لم أحكم من قبل على عمل أدبي بعد ثلاث صفحات، وأن أطلب من صاحبه ألا يحاول الكتابة ثانية، متعللاً بمنطق (مزاجنجي) في فيلم (الكيف) حين قال للريس (ستاموني): (الجواب بيبان من عنوانه) .. لم أعيّن نفسي وصياً على القراء، وأحذرهم من قراءة كتاب ما .. لم أطلب من كاتب أن (يتعلّم) مني، ولم أقل في يوم من الأيام أن نقدي هو (الحالم والصادق الوحيد في هذا العالم، يطمح لبناء عالم واسع جميل) .. يالضحك السنين.
موقع (الكتابة) ـ 31 أكتوبر 2014
(يؤكد "أمبرتو إيكو" على أننا نكتب لقاريء، وأننا بالكتابة نريد أن نقول شيئاً ما لشخص ما، وهذا ما يدفعني للتفكير دائماً في أن الكتابة ليست ـ ولا يجب أن تكون ـ فعلاً مسالماً أبداً، بل تمثّل طريقة مضمونة لاكتساب أعداء جدد بقدر الآخرين المحتملين الذين سيعتبرون النص صديقاً يمكن قبوله في حياتهم بشكل ما. على الكاتب أن يعتبر العداوة مكسباً يتساوى أو قد يفوق أحياناً الصداقة).
أثناء كتابة (الفشل في النوم مع السيدة نون) كان بديهياً بالنسبة لي تحديد أعدائها .. النوعية المعروفة من القراء والكتّاب والمحررين الأدبيين الذين تستفزهم كتاباتي عموماً، بالإضافة إلى نماذج أخرى ستنضم إليهم بفضل تفاصيل خاصة بموضوع الرواية .. ماذا عن مدرسي اللغة العربية، وشيوخ الجوامع، وأمناء الشرطة؟ .. الذين ينقذون العالم بقدر موضوعات التعبير التي يصححونها، والخُطب التي يلقونها من فوق كل منبر، وتشوهات الحياة التي يعالجونها في أقسام البوليس؟ .. ماذا عن النقاد؟ .. يبدو أنني قلت ما فيه الكفاية عن هذه الفصيلة التي كان متوقعاً بالطبع أن تحرق دماءهم (الفشل في النوم مع السيدة نون).
يكاد يكون من باب القانون الأدبي أن (الناقد) ـ خاصة لو كان أكاديمياً ـ هو كائن أعلى شأناً، وأرقى مكانة، وأرفع منزلة ممن يسمى بـ (القاريء العادي) .. فلتذهب الجذور التاريخية التي رسخّت لهذه السلطة إلى الجحيم؛ فما يعنيني الآن أن هناك كتابة أدبية يضاف لمنجزاتها قدرتها على فضح الوهم الفاصل بين (الناقد)، ومن يسمى بـ (القاريء العادي) .. بين رسول كليات الآداب، المنتفخ بفاشية قيم وأخلاق (السيد أبو العلا البشري)، والمكلف بإخضاع البشرية للثوابت التي لا صحيح غيرها للسمو والجمال، وبين الشاب الذي يعتبر نفسه (قارئاً عادياً)، ولم يخطر في باله وهو يكتب ريفيوهات للكتب على (جودريدز) أو (أبجد) أن يسمي نفسه (ناقداً)، رغم أنه يبحث أيضاً في كل رواية عن (الحكاية)، وعن (المغزى النبيل)، ويرفض (البذاءة).
لكنني لو أردت تعيين فروق ـ ربما لن تكون جوهرية مقارنة بالحد الأساسي الفاصل الذي لا وجود له ـ فإنني سأضع الانتقام من الكاتب كاحتياج مركزي في سلطة الناقد .. الشعور بالدونية الذي يعاقب الكاتب لكونه كاتباً .. ماذا لو كان الكاتب ناقداً أيضاً، وتناول في عمله الروائي ما حققه من نجاحات نقدية؟ .. هل يمكن تخيّل أي سواد سيواجه به الناقد هذه الرواية؟! .. إن فرص ظهور هذه الحالات بين من يسمون بـ (القراء العاديين) أجد احتمالاتها أقل ولسبب بسيط في تصوري، أنهم لا ينتمون أصلاً إلى هذا الجزء من المرحاض العمومي.
الفرق الآخر هو امتلاك الناقد الأكاديمي لما يظنه قوة تخدمه في الهجوم على (خصومه)، وإرهابهم، وتحميه في نفس الوقت من شرهم .. القوة التي يسميها (العلم) خصوصاً لو كانت مدعومة بقدر ولو بسيط من التزمت الديني .. كأنه لا توجد معرفة أدبية أخرى يمكن للكاتب أن يُدرسها لذلك الناقد، وكأنه لا توجد معرفة نقدية أخرى يمكن لناقد آخر أن يُدرسها له، وكأنه لا يوجد روائي وناقد ـ مثلاً ـ يمكنه أن يُدرس لذلك الناقد نفس المقررات التي يحشرها داخل عقول طلبته في المحاضرات والكتب، ولكن بشكل لم يسبق له استيعابه من قبل .. من يُسمى بـ (القاريء العادي) لا يمتلك سكين داعش الهزلي المعروف بحرف الـ (د) قبل اسمه.
ذات يوم طلب مني الأصدقاء في نادي أدب المنصورة إعداد دراسة نقدية عن مجموعة قصصية ستتم مناقشتها في النادي .. لم أجد منذ الصفحة الأولى ما يدفعني لتكوين أي علاقة مع ما أقرأه .. رغم ذلك أكملت المجموعة منتظراً العثور على طرف خيط لكن هذا لم يحدث على الإطلاق حتى الكلمة الأخيرة .. اتصلت بصديقي المسؤول عن الندوة، واعتذرت عن الحضور، ولم أتحدث عن هذه المجموعة أبداً.
هناك في رصيدي كناقد ما يستحق أن أتباهى به، ولكن يكفيني القول الآن أنني لم أحكم من قبل على عمل أدبي بعد ثلاث صفحات، وأن أطلب من صاحبه ألا يحاول الكتابة ثانية، متعللاً بمنطق (مزاجنجي) في فيلم (الكيف) حين قال للريس (ستاموني): (الجواب بيبان من عنوانه) .. لم أعيّن نفسي وصياً على القراء، وأحذرهم من قراءة كتاب ما .. لم أطلب من كاتب أن (يتعلّم) مني، ولم أقل في يوم من الأيام أن نقدي هو (الحالم والصادق الوحيد في هذا العالم، يطمح لبناء عالم واسع جميل) .. يالضحك السنين.
موقع (الكتابة) ـ 31 أكتوبر 2014
الأربعاء، 22 نوفمبر 2017
رواية (ملك)
يتغير الطموح الإبداعي من لحظة إلي أخري، ويظل عنوان المنجز الذي أريد تحقيقه - مهما كان - اسما لحلم أعرف أنه سيتم تجاوزه نحو أفق غير قابل للتحديد، الحلم الذي أفكر فيه الآن هو رواية بطلتها طفلتي ملك، تضم كل ما في حياتها الصغيرة، وهو حلم أقرب إلي التطهر الشخصي.
عن الطموح الإبداعي في ملف (أحلام شباب المبدعين) للكاتب (محمد سرساوي) في جريدة (الأخبار) المصرية.
الثلاثاء 21 نوفمبر 2017
عن الطموح الإبداعي في ملف (أحلام شباب المبدعين) للكاتب (محمد سرساوي) في جريدة (الأخبار) المصرية.
الثلاثاء 21 نوفمبر 2017
الثلاثاء، 21 نوفمبر 2017
قالي كلام
ماذا تريد (شادية) أكثر من أن توقف امرأة في الستين، تعيش وحدها منذ
سنوات طويلة شقيقها الأصغر فجأة وهو عند باب شقتها في نهاية زيارته الأسبوعية لها
بعد أن سمعت أن (الدلوعة) تحتضر ثم تطلب من آخر من تبقى في الحياة من أسرتها أن يُحضِر
على هاتفه المحمول في زيارته القادمة لها أغنية (قالي كلام) كي تنقلها إلى هاتفها
الذي لا يرن إلا نادرًا.
«عندما كنا يتامى» لكازو إيشيغورو ... مطاردة لا تنتهي
تمثل رواية «عندما كنا يتامى» لكازو إيشيغورو (بترجمة طاهر البربري) خطوة أخرى داخل الهاجس الجمالي الذي يسيطر على معظم أعمال الكاتب، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب، والذي يمكن أن نطلق عليه «الفقدان الذي يعيد اكتشاف الذاكرة». يواصل إيشيغورو في هذه الرواية استخدام النبرة السردية الهادئة نفسها، التي تميز كتاباته، وتجلت على نحو ساطع في روايته «بقايا اليوم»، والتي تعتمد على التأمل والتفكير المتزن مع تغير الطبائع المحكية، كأنها قناع ثابت من الحياد الظاهري يمكن للسرد من ورائه أن يتجاوز واقعيته المنضبطة نحو أرقه الغيبي. وهو الأثر الذي يبدو أن إيشيغورو يتعمّد توظيفه كبصمة ذاتية، تتخطى أي فكرة واضحة عن صوته الخاص في رواياته.
يمنح كازو إيشيغورو لكل منا عدسة مكبرة كي يحرّضه على حل لغز (الاختفاء) الذي يعتقد أن نسخاً منه تعيش داخل الجميع؛ فإذا كانت القضية المعقدة التي كان يسعى كرستوفر بانكس في «عندما كنا يتامى» إلى حلها تتعلق باختفاء أبويه، فإن لدى كل منا حصيلة من الاختفاءات- أقل وضوحاً ربما- جديرة بأن تُطارد. هناك رجل بوليس سري يستحق أن يُكشف أو أن يُخلق في الوعي عند لحظة ما قد تكون مفترق الطرق للحياة، أو الفرصة الأخيرة قبل النهاية. وعلى رجل البوليس السري هذا أن يبحث عن المفقودين الذين أسس حضورهم ذاكرته قبل أن يبتلعهم الغياب حتى- وهو ما يجعل الأمر أكثر صعوبة- أولئك الذين يدعون أنهم ما زالوا يحتفظون بوجودهم في عالمه.
لكن الاستفهام الجوهري الذي ربما لديه الحق في أن يسبق هذا البحث: ما هي هذه العدسة المكبرة حقاً؟ هل هي الفهم المجرد، أم الاستدراك، أم التعويض، أم استكمال المسارات وفقاً لمشيئة الدوافع الأولى؟ لماذا نريد أن نعثر على من فقدناهم، أو على أسرار اختفائهم؟ هل لنعرف فقط، أم لنصحح أوضاعاً قديمة، أم لنقدم بدائل عن أشياء لن يمكن استردادها، أم لنواصل الحكاية وننهيها كما حددتها رغبات الغائبين؟
«وبدأت على الفور في تجريبها على بعض بقع الزبد التي كانت تلطخ مفرش الطاولة. صرت مستغرقاً للغاية لدرجة أنني كنت ألحظ في شكل باهت فقط أصدقائي وهم يضحكون بهذه الطريقة المبالغ فيها التي تعبر عن نكتة على شخص ما. عندما نظرت لأعلى، مستعيداً وعيي أخيراً، كانا قد سقطا في مغبة صمت غامض. حينئذ كان ثورنتون براوني قد أطلق ضحكة مكتومة وفاترة وهو يقول: «ما دمت ستصبح رجل بوليس فقد فكرنا أنك ستحتاج هذه الأداة».
إن كازو إيشيغورو يخبرنا بواسطة كرستوفر بانكس أن العدسة المكبرة تتعلق بنا دائماً أكثر مما تخص الآخرين الذين نبحث عنهم. إنها ترتبط بعلاقتنا الملتبسة بالذاكرة، أي بضرورة ترويض الماضي، تعديل الزمن بدفعه لاتخاذ صور أقل حدة، أو للتخلي في شكل كامل عن حقيقته. نحن بهذه العدسة المكبرة نقود أحلاماً معينة نحو الصدارة، ونستبعد ما نؤمن بأنها كوابيس راسخة، أو نحاول التخفيف من وطأتها. كأننا بالضبط نستخدم (الاختفاء)، وتتبع آثار المفقودين للعثور على أنفسنا في حياة أخرى. أو لو شئنا الدقة كأن هذه العدسة المكبرة هي وسيلة كل منا للهروب مما يجسّده في الرواية أحد سادة الحرب الأقوياء الذي كان يُنقل في الزحام على مقعد متحرك، ويصحبه عملاق يحمل سيفاً، وعندما يشير أحد سادة الحرب هذا إلى أي شخص يريد؛ يتحرك هذا العملاق ويقطع رأسه أو رأسها.
بطريقة ضمنية أيضاً يؤكد كازو إيشيغورو أن التوحد برجل البوليس السري هو نوع من الوفاء للطفولة، لجذبها نحو الامتداد في الحاضر، وبالتالي لتنقيتها، وتحويل خيالاتها من اختلاسات معدومة الحيلة على هامش الواقع إلى أصل مغاير للعالم.
«نحن الأطفال مثل المفصلة التي تحفظ ارتباط الألواح ببعضها. ذات مرة أخبرني بهذا راهب ياباني. غالباً ما نفشل في إدراك هذا، لكن نحن الأطفال لا نوثق عرى الأسرة فقط، بل والعالم كله معاً. لو لم نلعب دورنا، فسوف تسقط الألواح وتتداعى على الأرض».
ماذا لو أن هذه العدسة المكبرة هي السبيل الأكثر ضراوة للتيقن من أن كل طموح تعلق بواجبها سيفضي إلى نتائج مضادة؟ ماذا لو أن محاولات حل ألغاز الاختفاء هي الكيفية الأعمق للتعرّف إلى الألم كهوية للذاكرة، لا تقبل التفاوض في طغيانها الذي يتعدّى الحدود الشخصية عبر الزمن، وكمصير حتمي مدعوم بالخبرات الخاسرة كافة لإزاحته؟ ماذا لو أدركنا أن الكوابيس التي تهيمن على عالمنا قد حصلت على طاقة إضافية لرسوخها بفضل ارتكابات رجل البوليس السري؟
إن هذه الأحكام لا تشترط في تأثيرها أن تعادل الاكتشافات المفاجئة التي حصل عليها (كرستوفر بانكس) في نهاية الرواية، والتي أدى تغييرها للماضي إلى امتلاكها السلطة على الحاضر لدى الراوي وعلاقاته، بل يمكن للنتائج المضادة أن تحدث من دون ما يمكن اعتباره أحداثاً مباغتة أو صدمات مزلزلة.
«ربما يكون هناك من الناس مَن يستطيعون عيش حياتهم وهم متحررون تماماً من مثل هذه الهموم. لكن بالنسبة لأمثالنا، فمصيرنا أن نواجه العالم كيتامى، يطاردون لسنوات طوال ظلال الآباء الغائبين، ليس ثمة من شيء حيال ذلك سوى المحاولة والاهتمام حتى النهاية، بقدر ما نستطيع، لأنه لن يُسمح لنا بأي قدر من الهدوء إلا حين ننتهي من مهمتنا».
ربما يعرف كازو إيشيغورو أن المطاردة لا تنتهي أبداً مهما بدا غير ذلك، وأنه في مقابل الألم والكوابيس؛ لا يتحرر اليتيم من التشابه مع الآخرين إلا بحكايته الخاصة والمختلفة التي سيدونها عن آباء دائمي الغياب.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 21 نوفمبر 2017
يمنح كازو إيشيغورو لكل منا عدسة مكبرة كي يحرّضه على حل لغز (الاختفاء) الذي يعتقد أن نسخاً منه تعيش داخل الجميع؛ فإذا كانت القضية المعقدة التي كان يسعى كرستوفر بانكس في «عندما كنا يتامى» إلى حلها تتعلق باختفاء أبويه، فإن لدى كل منا حصيلة من الاختفاءات- أقل وضوحاً ربما- جديرة بأن تُطارد. هناك رجل بوليس سري يستحق أن يُكشف أو أن يُخلق في الوعي عند لحظة ما قد تكون مفترق الطرق للحياة، أو الفرصة الأخيرة قبل النهاية. وعلى رجل البوليس السري هذا أن يبحث عن المفقودين الذين أسس حضورهم ذاكرته قبل أن يبتلعهم الغياب حتى- وهو ما يجعل الأمر أكثر صعوبة- أولئك الذين يدعون أنهم ما زالوا يحتفظون بوجودهم في عالمه.
لكن الاستفهام الجوهري الذي ربما لديه الحق في أن يسبق هذا البحث: ما هي هذه العدسة المكبرة حقاً؟ هل هي الفهم المجرد، أم الاستدراك، أم التعويض، أم استكمال المسارات وفقاً لمشيئة الدوافع الأولى؟ لماذا نريد أن نعثر على من فقدناهم، أو على أسرار اختفائهم؟ هل لنعرف فقط، أم لنصحح أوضاعاً قديمة، أم لنقدم بدائل عن أشياء لن يمكن استردادها، أم لنواصل الحكاية وننهيها كما حددتها رغبات الغائبين؟
«وبدأت على الفور في تجريبها على بعض بقع الزبد التي كانت تلطخ مفرش الطاولة. صرت مستغرقاً للغاية لدرجة أنني كنت ألحظ في شكل باهت فقط أصدقائي وهم يضحكون بهذه الطريقة المبالغ فيها التي تعبر عن نكتة على شخص ما. عندما نظرت لأعلى، مستعيداً وعيي أخيراً، كانا قد سقطا في مغبة صمت غامض. حينئذ كان ثورنتون براوني قد أطلق ضحكة مكتومة وفاترة وهو يقول: «ما دمت ستصبح رجل بوليس فقد فكرنا أنك ستحتاج هذه الأداة».
إن كازو إيشيغورو يخبرنا بواسطة كرستوفر بانكس أن العدسة المكبرة تتعلق بنا دائماً أكثر مما تخص الآخرين الذين نبحث عنهم. إنها ترتبط بعلاقتنا الملتبسة بالذاكرة، أي بضرورة ترويض الماضي، تعديل الزمن بدفعه لاتخاذ صور أقل حدة، أو للتخلي في شكل كامل عن حقيقته. نحن بهذه العدسة المكبرة نقود أحلاماً معينة نحو الصدارة، ونستبعد ما نؤمن بأنها كوابيس راسخة، أو نحاول التخفيف من وطأتها. كأننا بالضبط نستخدم (الاختفاء)، وتتبع آثار المفقودين للعثور على أنفسنا في حياة أخرى. أو لو شئنا الدقة كأن هذه العدسة المكبرة هي وسيلة كل منا للهروب مما يجسّده في الرواية أحد سادة الحرب الأقوياء الذي كان يُنقل في الزحام على مقعد متحرك، ويصحبه عملاق يحمل سيفاً، وعندما يشير أحد سادة الحرب هذا إلى أي شخص يريد؛ يتحرك هذا العملاق ويقطع رأسه أو رأسها.
بطريقة ضمنية أيضاً يؤكد كازو إيشيغورو أن التوحد برجل البوليس السري هو نوع من الوفاء للطفولة، لجذبها نحو الامتداد في الحاضر، وبالتالي لتنقيتها، وتحويل خيالاتها من اختلاسات معدومة الحيلة على هامش الواقع إلى أصل مغاير للعالم.
«نحن الأطفال مثل المفصلة التي تحفظ ارتباط الألواح ببعضها. ذات مرة أخبرني بهذا راهب ياباني. غالباً ما نفشل في إدراك هذا، لكن نحن الأطفال لا نوثق عرى الأسرة فقط، بل والعالم كله معاً. لو لم نلعب دورنا، فسوف تسقط الألواح وتتداعى على الأرض».
ماذا لو أن هذه العدسة المكبرة هي السبيل الأكثر ضراوة للتيقن من أن كل طموح تعلق بواجبها سيفضي إلى نتائج مضادة؟ ماذا لو أن محاولات حل ألغاز الاختفاء هي الكيفية الأعمق للتعرّف إلى الألم كهوية للذاكرة، لا تقبل التفاوض في طغيانها الذي يتعدّى الحدود الشخصية عبر الزمن، وكمصير حتمي مدعوم بالخبرات الخاسرة كافة لإزاحته؟ ماذا لو أدركنا أن الكوابيس التي تهيمن على عالمنا قد حصلت على طاقة إضافية لرسوخها بفضل ارتكابات رجل البوليس السري؟
إن هذه الأحكام لا تشترط في تأثيرها أن تعادل الاكتشافات المفاجئة التي حصل عليها (كرستوفر بانكس) في نهاية الرواية، والتي أدى تغييرها للماضي إلى امتلاكها السلطة على الحاضر لدى الراوي وعلاقاته، بل يمكن للنتائج المضادة أن تحدث من دون ما يمكن اعتباره أحداثاً مباغتة أو صدمات مزلزلة.
«ربما يكون هناك من الناس مَن يستطيعون عيش حياتهم وهم متحررون تماماً من مثل هذه الهموم. لكن بالنسبة لأمثالنا، فمصيرنا أن نواجه العالم كيتامى، يطاردون لسنوات طوال ظلال الآباء الغائبين، ليس ثمة من شيء حيال ذلك سوى المحاولة والاهتمام حتى النهاية، بقدر ما نستطيع، لأنه لن يُسمح لنا بأي قدر من الهدوء إلا حين ننتهي من مهمتنا».
ربما يعرف كازو إيشيغورو أن المطاردة لا تنتهي أبداً مهما بدا غير ذلك، وأنه في مقابل الألم والكوابيس؛ لا يتحرر اليتيم من التشابه مع الآخرين إلا بحكايته الخاصة والمختلفة التي سيدونها عن آباء دائمي الغياب.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 21 نوفمبر 2017
الأحد، 19 نوفمبر 2017
عن أغلفة الكتب
يمثل الغلاف بالنسبة لي بصيرة افتراضية للخطو عبر فضاءات الكتابة، أو إلهامًا
مقترحًا لحفر مسارات الجدل والتناغم داخل النصوص .. أظن أن مرور الكاتب بتجربة
مؤسفة أو أكثر مع أغلفة كتبه يعتبر أمرًا طبيعيًا .. أن تفرض أحيانًا سلطة النشر
غلافًا لا يعدو بالنسبة لصاحب العمل الأدبي أكثر من مأساة ملونة سيتحتم عليه تحمّل
العبء الأكبر من انتشارها .. لكن بعيدًا عن الكيفية التي يمكن بواسطتها اعتبار هذه
التجارب ـ من منظور آخر ـ جانبًا جوهريًا من فلسفة ذاتية للكاتب، أو طبيعة مهيمنة
لمزاج جمالي يخصه؛ فإن لحظات التوافق بين الكاتب وغلاف كتابه أشبه بغنيمة لا يمكن
فقدانها .. ربما يكون هذا الاتساق بديهيًا حينما يمتلك الكاتب الحق في اختيار
غلافه، ولكنه سيكون أكثر سحرًا حينما يكون هذا الاتساق ناجمًا عن علاقة العمل الأدبي
بخيال المصمم.
هذا ما يدفعني للإشارة إلى الكتب التي لم أختر أغلفتها بنفسي،
وإنما أنجزها فنانون أجادوا تشكيل أبواب الجسور، أو ظلال الملامح التي يجدر
ملامستها، وإعادة تكوينها .. أتحدث عن غلاف ديوان (بعد صراع طويل مع المرض) لهاني
مصطفى،غلاف رواية (الفشل في النوم مع السيدة نون) لعبد العزيز السماحي، وغلاف المجموعة
القصصية (هفوات صغيرة لمغيّر العالم) لتامر فتحي .. يتحوّل الغلاف في مثل هذه
الحالات من مجرد وظيفة ـ تمارس أحيانًا
بطريقة سيئة ـ إلى ضرورة مماثلة لعنوان الكتاب، وللنص ذاته .. يتحوّل العمل الأدبي
ـ وهنا تتجلى الأهمية الجمالية للغلاف ـ إلى ضوء مسلّط على اللوحة أو الفوتوغرافيا
.. ينشأ هذا التوازان، أو يكشف هذا التبادل عن تحققه عندما يصبح النص هو الآخر
محرّضًا على التنقيب في الغلاف كعمل فني له استقلاليته.بالنسبة للكتب التي اخترت أغلفتها بنفسي ـ كان للوحات سلفادور دالي نصيب كبير منها ـ يبدو الأمر كرهان على تواطؤ بين خبرتين، لديهما أسباب مقنعة للقيام بذلك .. هذا التحريض المشترك لبناء الاحتمالات وهدمها يتم وفقًا لانسجام معين أو صراع ممكن بين هواجس لا تتوقف عن خلق أرواحها عبر الزمن.
شهادتي ضمن ملف (غلاف الكتاب ستارة أنيقة تحجب أكثر مما تظهر) للكاتبة (خلود الفلاح) في صحيفة (العرب).
18 / 11 / 2017
ملحوظة:
كتبت هذه الشهادة قبل نشر غلاف روايتي الجديدة (إثر حادث أليم) الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب، وهو للمبدعة هند سمير، ويُعد واحدًا من أجمل أغلفة كتبي، ويستحق شهادة مستقلة احتفاءً بفنياته وعلاقتها بالرواية.الخميس، 16 نوفمبر 2017
خارج الذاكرة
امرأة لم تعد تعيش بالبيت، ولا بأي مكان آخر في الدنيا .. لكن الولد الصغير يسهر كل يوم ليشاهد أباه وهو يحاول استعادتها من كتلة حجرية كبيرة قد تشبه الموت .. كان الولد يستمع دائمًا إلى موسيقى ساحرة تنبعث من النافذة المفتوحة برفقة النسمات الليلية المتلاحقة، وعندما كشفت يدا الأب بالإزميل والمطرقة عن الشعر القصير؛ تذكر الولد نعومته الطفولية، وهي تمشطه ثم تعقصه خلف رأسها .. حينما برزت عيناها استرجع ضعف بصرها، ونظرتها الحريرية المسالمة .. مع ظهور يدها أحس بدفء احتضانها الرقيق لكفه، وهي تأخذه إلى المدرسة، أو تصحبه معها إلى السوق .. كان يجلس وينتظر، ويتأمل الحنين وهو يقاوم التعب الذي يثقل ملامح أبيه، ويفرح مثله كلما تخيل الوجه الوديع على وشك أن يتكلم بصوتها الخافت المعهود.
كل ليلة بعد أن ينام الأب كي يحلم بما لم ينتزعه بعد من الكتلة الحجرية الكبيرة، يذهب الولد الصغير إلى التمثال، ومعه كراسة الرسم وعلبة الألون ليجلس أمامه على نحو أقرب مما كان يفعل أثناء انشغال أبيه بالنحت .. يواصل بأصابع مرتعشة رسم مشهد المرأة الجميلة التي تجلس مبتسمة في سعادة فوق أرجوحة واسعة، محاطة بالأشجار والزهور، بجوار بحيرة مستكينة بصفاء لامع.
بعد سنوات كثيرة .. جلس الولد الذي لم يعد صغيرًا أمام التمثال الحجري ومعه كراسة رسم قديمة .. كانت الدموع التي حبسها طويلًا تتساقط من عينيه، وهو يضيف الرجل الذي نحت التمثال إلى الأرجوحة بجوار المرأة الجميلة.
حينما أصبح الولد كبيرًا جدًا، وبعد أن أصبح لديه طفلة صغيرة، تحب النظر إلى الغيوم، واستقبال قطرات المطر في راحتي يديها، وتتساءل طوال الوقت عن الحياة والموت، وبعد أن فشل في القيام بما يفعله الآخرون الذي يحاصرون عزلته: أن يتكلم بهدوء، وبراحة أعصاب ثابتة، وأن يتجهم ويبتسم ويضحك برصانة أخّاذة، وأن يعرف بشرًا كثيرين، وأن يعيش في أماكن رائعة، وأن ينظّم خطواته على نحو يحميه من الندم، وأن يبتكر دعابات تاريخية تتيح لذكرياته ـ على الأقل ـ أن تهيمن على مدينته؛ لم يُعلّم طفلته الصغيرة كيف ترسمه بعد الموت جالسًا بين المرأة والرجل فوق الأرجوحة، بل رسم نفسه أولًا على هيئة طائر هزيل، يحاول الخروج من اللوحة بعيدًا عن الأرجوحة المحاطة بالأشجار والزهور بينما تنعكس صورة هروبه فوق سطح البحيرة .. كانت تبدو السماء في اللوحة مع محاولة انفلاته كأنما تحوّلت إلى سقف أزرق صلب، مزيّن بدوائر وخطوط بيضاء غير منتظمة .. علّم الولد الكبير جدًا ابنته الرسم، ثم طلب منها الاحتفاظ باللوحة القديمة، كي تُعيد بعد موته الطائر المحلّق، الذي ظل يحاول الخروج بعيدًا إلى النوم بين الرجل والمرأة المبتسمين فوق الأرجوحة، وأن تجعل أيديهما تحتضن جسده المنكمش.
كل ليلة بعد أن ينام الأب كي يحلم بما لم ينتزعه بعد من الكتلة الحجرية الكبيرة، يذهب الولد الصغير إلى التمثال، ومعه كراسة الرسم وعلبة الألون ليجلس أمامه على نحو أقرب مما كان يفعل أثناء انشغال أبيه بالنحت .. يواصل بأصابع مرتعشة رسم مشهد المرأة الجميلة التي تجلس مبتسمة في سعادة فوق أرجوحة واسعة، محاطة بالأشجار والزهور، بجوار بحيرة مستكينة بصفاء لامع.
بعد سنوات كثيرة .. جلس الولد الذي لم يعد صغيرًا أمام التمثال الحجري ومعه كراسة رسم قديمة .. كانت الدموع التي حبسها طويلًا تتساقط من عينيه، وهو يضيف الرجل الذي نحت التمثال إلى الأرجوحة بجوار المرأة الجميلة.
حينما أصبح الولد كبيرًا جدًا، وبعد أن أصبح لديه طفلة صغيرة، تحب النظر إلى الغيوم، واستقبال قطرات المطر في راحتي يديها، وتتساءل طوال الوقت عن الحياة والموت، وبعد أن فشل في القيام بما يفعله الآخرون الذي يحاصرون عزلته: أن يتكلم بهدوء، وبراحة أعصاب ثابتة، وأن يتجهم ويبتسم ويضحك برصانة أخّاذة، وأن يعرف بشرًا كثيرين، وأن يعيش في أماكن رائعة، وأن ينظّم خطواته على نحو يحميه من الندم، وأن يبتكر دعابات تاريخية تتيح لذكرياته ـ على الأقل ـ أن تهيمن على مدينته؛ لم يُعلّم طفلته الصغيرة كيف ترسمه بعد الموت جالسًا بين المرأة والرجل فوق الأرجوحة، بل رسم نفسه أولًا على هيئة طائر هزيل، يحاول الخروج من اللوحة بعيدًا عن الأرجوحة المحاطة بالأشجار والزهور بينما تنعكس صورة هروبه فوق سطح البحيرة .. كانت تبدو السماء في اللوحة مع محاولة انفلاته كأنما تحوّلت إلى سقف أزرق صلب، مزيّن بدوائر وخطوط بيضاء غير منتظمة .. علّم الولد الكبير جدًا ابنته الرسم، ثم طلب منها الاحتفاظ باللوحة القديمة، كي تُعيد بعد موته الطائر المحلّق، الذي ظل يحاول الخروج بعيدًا إلى النوم بين الرجل والمرأة المبتسمين فوق الأرجوحة، وأن تجعل أيديهما تحتضن جسده المنكمش.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 14 نوفمبر 2017
الاثنين، 13 نوفمبر 2017
هايكو الحنين
(1)
الغيوم تتحسس
ملامح الأعمى.
(2)
ظل تجمّد
في طريق ليلي
بعد انطفاء النجوم
في كراسة رسم.
(3)
عصافير الصباح الباكر
ترش الأغنيات عبر شباك المطبخ.
تنمو زهور البيچاما الصغيرة.
(4)
العامود أمام البيت
يُريح ضوءه الأصفر
فوق السرير المظلم.
(5)
الملابس فوق الحبال
تُعطّر الضباب.
(6)
مطر يلوّن
الصمت وراء النافذة
برائحة الحصة الأولى.
(7)
البرد يتظاهر
بأن جسدي لا يزال ملونًا
ويعوم في السماء
بالخيط الذي في يده.
(8)
قلب برتقالي
يمحو خطوط الرصاص
فتذبل الوردة الحمراء
النائمة بداخله.
(9)
جسر يطير
كأن شمس العصر
تتبادلها أقدام صغيرة
في نهايته.
(10)
يهطل النهار من الثلج.
الليل ينبعث من أوراق الفل.
تعود الشرفات من التمشية
إلى أحلام الشتاء.
(11)
يستيقظ الأرنب بجوار القضبان.
يدق على طبوله
فتدور عجلات القطار.
قلب يسافر
عبر شقوق الشيش.
(12)
كأن الحديقة
إبنة صغيرة للنهر.
كأننا القطط البيضاء
التي تربيها الحديقة.
(13)
كنا أرواحًا
تحاول الاختباء من أجسادها
وهي تلعب (الغميضة)
مع شجرة عجوز.
(14)
يتظاهر أحدنا أنه الموت
ويقف في منتصف البحر
ليمنعنا من العبور بين شاطئين
فتضحكنا خيبته.
(15)
تمتد السماء
من قصة مصورة
إلى ما وراء البيوت.
هناك
ينتظرني كوخ أزرق.
(16)
عينان فوق الوسادة
تُحضران طبقًا طائرًا
لهذه السماء البرتقالية.
(17)
زرقة السماء
على وشك الغياب.
أمشي فوق البيوت
كأن الأسطح الصامتة
مربعات رصيف.
(18)
أصعد السلالم المغلقة
في ضوء النهار
لأصل إلى البحر.
(19)
أخرج في الليل
من الصخب الملوّن
لحفلة المدينة
إلى ظلام جانبي.
(20)
ساحات مزدحمة
لكرنفال الظهيرة الشعبي.
بيوت وشوارع قديمة
تسبح في عينيّ النائمتين.
(21)
لا تزال المصابيح
تومض في الليل.
بعد ذهابهم
أجلس على جانب الطريق.
(22)
فوق الشاطئ
يقفزون من قلبي.
تدفعهم جبال الأمواج عاليًا
فيعيدهم الصدر المهيب للأفق.
(23)
هواء الشتاء
يُهيّئ الفراغ الواسع
لمطر العصر.
أحلّق فوق شريط القطار.
(24)
الظلام يطغي تدريجيًا.
تتحوّل البيوت
إلى مصانع شاحبة
للدُمى الكبيرة.
(25)
المطر المسائي
في نهاية الرصيف.
تسكن الأضواء الخافتة
ويتمطّى النهر.
(26)
ليل يمطر
أعبر شارعا خاليًا
قادما من ظلام غريب
نحو بيت لا أعرفه.
(27)
مدينة تختبئ في اليقظة.
تظهر في أحلامي
لتبحث عن طفل مفقود.
اللوحة لـ Pierre Auguste Renoir
الغيوم تتحسس
ملامح الأعمى.
(2)
ظل تجمّد
في طريق ليلي
بعد انطفاء النجوم
في كراسة رسم.
(3)
عصافير الصباح الباكر
ترش الأغنيات عبر شباك المطبخ.
تنمو زهور البيچاما الصغيرة.
(4)
العامود أمام البيت
يُريح ضوءه الأصفر
فوق السرير المظلم.
(5)
الملابس فوق الحبال
تُعطّر الضباب.
(6)
مطر يلوّن
الصمت وراء النافذة
برائحة الحصة الأولى.
(7)
البرد يتظاهر
بأن جسدي لا يزال ملونًا
ويعوم في السماء
بالخيط الذي في يده.
(8)
قلب برتقالي
يمحو خطوط الرصاص
فتذبل الوردة الحمراء
النائمة بداخله.
(9)
جسر يطير
كأن شمس العصر
تتبادلها أقدام صغيرة
في نهايته.
(10)
يهطل النهار من الثلج.
الليل ينبعث من أوراق الفل.
تعود الشرفات من التمشية
إلى أحلام الشتاء.
(11)
يستيقظ الأرنب بجوار القضبان.
يدق على طبوله
فتدور عجلات القطار.
قلب يسافر
عبر شقوق الشيش.
(12)
كأن الحديقة
إبنة صغيرة للنهر.
كأننا القطط البيضاء
التي تربيها الحديقة.
(13)
كنا أرواحًا
تحاول الاختباء من أجسادها
وهي تلعب (الغميضة)
مع شجرة عجوز.
(14)
يتظاهر أحدنا أنه الموت
ويقف في منتصف البحر
ليمنعنا من العبور بين شاطئين
فتضحكنا خيبته.
(15)
تمتد السماء
من قصة مصورة
إلى ما وراء البيوت.
هناك
ينتظرني كوخ أزرق.
(16)
عينان فوق الوسادة
تُحضران طبقًا طائرًا
لهذه السماء البرتقالية.
(17)
زرقة السماء
على وشك الغياب.
أمشي فوق البيوت
كأن الأسطح الصامتة
مربعات رصيف.
(18)
أصعد السلالم المغلقة
في ضوء النهار
لأصل إلى البحر.
(19)
أخرج في الليل
من الصخب الملوّن
لحفلة المدينة
إلى ظلام جانبي.
(20)
ساحات مزدحمة
لكرنفال الظهيرة الشعبي.
بيوت وشوارع قديمة
تسبح في عينيّ النائمتين.
(21)
لا تزال المصابيح
تومض في الليل.
بعد ذهابهم
أجلس على جانب الطريق.
(22)
فوق الشاطئ
يقفزون من قلبي.
تدفعهم جبال الأمواج عاليًا
فيعيدهم الصدر المهيب للأفق.
(23)
هواء الشتاء
يُهيّئ الفراغ الواسع
لمطر العصر.
أحلّق فوق شريط القطار.
(24)
الظلام يطغي تدريجيًا.
تتحوّل البيوت
إلى مصانع شاحبة
للدُمى الكبيرة.
(25)
المطر المسائي
في نهاية الرصيف.
تسكن الأضواء الخافتة
ويتمطّى النهر.
(26)
ليل يمطر
أعبر شارعا خاليًا
قادما من ظلام غريب
نحو بيت لا أعرفه.
(27)
مدينة تختبئ في اليقظة.
تظهر في أحلامي
لتبحث عن طفل مفقود.
اللوحة لـ Pierre Auguste Renoir
الأحد، 12 نوفمبر 2017
عزاءات الراوي
مازلت أفكر حتى الآن: هل رأى الرجل العائد من العمل زوجته تطل من
البلكونة شبه عارية، وعشيقها يقف إلى جوارها بملابسه الداخلية ويدخن سيجارة حقًا؟
.. هل ماتت الزوجة العجوز بالفعل بعدما طلبت أن يرد أحد على التليفون الذي رن جرسه
في فيلم الأبيض والأسود؟ .. هل ازداد الابن طولا أم أن الأب هو الذي بدأ يقصر؟ ..
هذه الاستفهامات ليست أقل من أن تكون هوية قصصية لابراهيم أصلان، ولذلك فهي غير
خاضعة للنسيان .. إنها أشبه بصندوق موسيقى داخل الذاكرة لا يحتاج أكثر من مرور
العينين على أرغفة العيش الطازج، أو شرب كوب من الشاي في البلكونة، أو النظر إلى
مرآة مكسورة حتى يُفتح.
(إلا أن هذا لم يمنع أنه فى بعض الأيام، خصوصا عندما كان يراها تتربع
على الكنبة فى ضوء الشباك وقد عرَّت ركبتيها وبان شىء داخلى من لحمها العارى ترفع
قطعة المرآة المكسورة أمام وجهها بينما تمسك الملقاط الصغير بين إصبعيها تنتف جذور
الشعر من تحت حاجبها المقوس بعناية، أو عندما كان يلاحظ امتلاء جسدها من الخلف وهى
تخطر أمامه فى الصالة، عندما كان يحدث شىء من هذه الأشياء وربما أشياء أخرى قليلة،
لم يكن يملك إلا أن يقضى الفترة القادمة يغلبه القلق سواء كان يشرب الشاى أو لا
يشربه).
قصة (الرجل الذي عاد).
تبدو شخصيات ابراهيم أصلان كأنها تختبر أشكالا متعددة للتوتر الوجودي المشابه
لذلك التشظي الذي يمثل طبيعة أساسية للأحلام .. لكن هذه الشخصيات لا تحلم بقدر ما
تواجه إفاقة مباغتة من نفس الحلم المُسمى بالماضي .. استيقاظ غير متوقع داخل الصدأ
المتدفق للواقع يستدعي التأمل في العتمة التي تم الانتباه إليها .. ربما هذا ما
يبرر الشعور بأن جميع الشخصيات القصصية تبدو كأنها تردد طوال الوقت تساؤلات ثابتة
بصيّغ مختلفة: (ما الذي حدث؟ .. من نحن؟ .. لماذا حدث ذلك؟ .. كيف؟ .. إلى أين
سينتهي بنا؟) .. إنها لحظة الإدراك بأن هذه العتمة كانت هنا منذ البداية، تنمو
داخل الأرواح، وتسحق العظام في اندفاعها التدريجي نحو الخارج.
(قامت قالت وهي قاعدة في الأقوضة: حد يرد علي التليفون يا أولاد، في
اللحظة دي، عباس فارس قام لبس الطربوش وراح رد علي التليفون، كأنه سمعها وهي
بتنادي.
أنا بقي قمت من مكاني ودخلت أقول لها، إن عباس فارس سمعها ورد علي التليفون، من باب الهزار يعني، لقيت السر الإلهي طلع.
ومسح وجهه بكفه وقال: مفيش، زي ما بكلمك كده، يمكن دقيقة واحدة، وجايز تكون أقل. وهو بعد ما ينتهي من الحكاية، كان يتجه بوجهه إلي أقرب الجالسين، يتطلع إليه بعينيه الدامعتين، ويبتسم ).
أنا بقي قمت من مكاني ودخلت أقول لها، إن عباس فارس سمعها ورد علي التليفون، من باب الهزار يعني، لقيت السر الإلهي طلع.
ومسح وجهه بكفه وقال: مفيش، زي ما بكلمك كده، يمكن دقيقة واحدة، وجايز تكون أقل. وهو بعد ما ينتهي من الحكاية، كان يتجه بوجهه إلي أقرب الجالسين، يتطلع إليه بعينيه الدامعتين، ويبتسم ).
قصة (أبيض وأسود).
تخلق هذه الصدمة المنطق العجائبي الخاص بها: هل الرجل بالملابس
الداخلية والسيجارة هو الزوج نفسه؟ .. هل تخيل الأب موت زوجته العجوز، وأن دعابة
عباس فارس الذي سمع كلامها ورد على التليفون هي السبب في هذا التخيل؟ .. هل توهم
الأب لتضاؤله الجسدي سيفضي به إلى تضاؤل فعلي مثل غياب الشمس مع ارتجافة أخيرة من
ضوء النهار في الأفق البعيد؟.
(ظل واقفاً يتطلع الى الهدوم المرصوصة كأنه يبحث عن شيء ما، وبينما
كان يغلق الدولاب لمح العجوز وهو يأتي مرة أخرى مع حركة المرآة وينظر اليه غاضباً،
حينئذ غادر المكان وعبر الصالة الى المطبخ، فتح الثلاجة وأغلقها، ورفع غطاء الحلة
الموجودة على البوتاجاز ووضعه، ثم ترك المطبخ ودخل الشرفة الصغيرة واستند بجسده
الى سورها الحجري القصير، ورأى اسطح البيوت الخالية، وهناك، كانت الشمس تغيب، مع
ارتجافة أخيرة من ضوء النهار في الأفق البعيد).
قصة (آخر النهار).
لا يزال ابراهيم أصلان حاضرًا هناك .. في وعي كل راوٍ يقود شخصياته من
العماء إلى الاحتمالات الممكنة للموت داخل ما هو قريب ومألوف ومسالم .. عزاءات
متفاوتة التجسّد، تنتظر دائمًا فوق الجسور المشيّدة بين الذات والرعب .. بين
تاريخها الغامض، ومصيرها المجهول .. يقف ابراهيم أصلان كذخيرة من الرفقاء ذوي
الملامح المختلفة، الذين يعبرون بالأجساد المتهالكة داخل الزمن، خصوصًا حينما تكون
النهايات وشيكة للغاية، كأصدقاء لا يفسرون الخيانة، ولا يذيبون القلق والارتباك،
وإنما يحاولون الحفاظ بقدر ما يستطيعون على الطابع الحريري للموجودات التي مر
الغدر منها .. الإبقاء على قدر من الانسجام الحميمي المبهم بين العناصر الحسية التي
تبدلت دون حرج أو تفاوض بوصفها سرًا للحكايات المنذورة للضياع.
مجلة (عالم الكتاب) ـ أغسطس 2017
السبت، 11 نوفمبر 2017
"هفوات صغيرة لمغيّر العالم": كابوسية الزمن النفسي
عقدت مؤسسة "بتانة" الأحد الماضي حفل توقيع ومناقشة المجموعة القصصية "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" للكاتب ممدوح رزق، وأدارها الكاتب والناقد عمر شهريار. في البداية أكد د. شاكر عبد الحميد أن "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" من أهم المجموعات التي قرأها في الفترة الأخيرة، مشيرًا إلى حضور كابوسية كافكا، وإلى هيمنة المكان على الشخصيات، وإلى تحوّل الزمن الكرونولوجي إلى زمن دائري في قصصها. تحدث د. شاكر عن الروح الروائية للمجموعة التي اعتمدت على توظيف التقنيات السينمائية سواء فيما يتعلق بالقطع والمزج والمونتاج، وهو ما حوّل العالم إلى حدث يُشاهد عبر شاشات عديدة، ورغم ما قد تحمله هذه المشاهد من كوارث أو دمار إلا أنها تُصنّف كتسلية للشخصية التي لن تؤثر عليها هذه الأحداث، وهي الشخصية التي تتكرر عبر القصص. أشار د. شاكر إلى أن هذا ما يُسمى في دراسات المسرح بالخبرة البديلة؛ فالعالم هو حالة مسرحية يمكنك أن تشعر بالتعاطف تجاه ما بها من مشاهد القتل أو التعذيب أو ما شابه التي تتضمنها، لكنك في الوقت نفسه تستمتع بالأمان الذي يمنع عنك هذه الأحداث. تحدث د. شاكر عبد الحميد عن العديد من سمات المجموعة؛ فهي إلى جانب استخدامها للرصد السينمائي، تقوم قصصها أيضًا على سوء الظن والشكوك والأشياء الخفية الغامضة والمشاهد الكابوسية العنيفة وفقدان الشغف حيث كل شيء أصبح كما لا ينبغي أن يكون. أكد د. شاكر كذلك على لعبة الضوء والزمن التي يستعملها ممدوح رزق، وعلى اعتماده على عالم الصورة، والحياة المستقلة للصور التي يمكن من خلالها رصد التحولات التي تطرأ على حياة الكائنات عبر صور شبحية غامضة، وصور فوتوغرافية واضحة، وصور متحركة، وخيالات، وأحلام، وصور من عالم فيسبوك.
تحدثت بعد ذلك د. هويدا صالح التي أكدت أن المجموعة على صغر حجمها تقترح العديد من المداخل لاكتشاف جماليات قصصها وعوالمها، كما تناولت أيضًا الحالة الكابوسية للمجموعة من الغلاف إلى التصدير بمقولة لكافكا إلى النصوص، وأشارت إلى أن "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" أقرب إلى المتوالية القصصية نظرًا للوشائج التي تجمع بين النصوص مثل السارد أو التاريخ الشخصي للسارد الذي بدأ في قصة "الأربعون"؛ هذا الرجل الذي وصل إلى الأربعين، وحينما فوجئ بأن الزمن قد سرقه وأوصله إلى هذه العتبة النفسية كان عليه أن يعود إلى حياته ليتأملها أي أن يستغل الذاكرة في تثبيت مشاهد الماضي لأنه لا يريد أن يعاني مصير الأب الذي أكله النسيان أو الزهايمر. تصبح الذاكرة هي المقابل للنسيان، والتي لا تعني تأمل حياة السارد فقط، وإنما حياة أبيه كذلك. تحدثت د. هويدا عن السارد الذي كان طفلا، وحينما وصل إلى الأربعين وجد نفسه يعاني من نفس الأزمة النفسية التي كان يعاني الأب منها فيلجأ إلى طفلته التي تقوم معه بنفس الدور الذي كان يؤديه حينما كان يلجأ أبوه إليه، وهو ما جعل هناك تماهي مع الأب لهذه الشخصية التي تنتقل إلى كل القصص. السارد الذي لديه زوجة وإبنة، ويعاني من القلق الوجودي والتهميش. أشارت د. هويدا صالح أيضًا إلى امتداد الوشائج في المكان والزمن، وأن ممدوح رزق يعمل على الزمن النفسي طوال الوقت كما في قصة "الكراهية المطلقة"، الزمن الذي هو ليس تتابعيًا حقيقيًا، وإنما زمن نفسي أي ليس كما يبدو بالنسبة لنا أو للشخصيات في المجموعة. تحدثت كذلك عن أن العودة بالزمن دائمًا هي وسيلة الذات القلقة المنفصلة عن العالم، والتي تعيش في عالم يخصها أو عالم مغلق أو داخل الصور. الذات التي ـ بحسب تصدير كافكا ـ تحاول أن تنصت إلى نفسها لتحتمي من عدائية المكان وانسحاقها أمام الزمن، وأن ترى انعكاساتها في المرآة. هذا الإنصات إلى الذات من أهم الهموم التي قالت د. هويدا أن السارد يطرحها ومن ورائه ممدوح رزق في هذه المجموعة. أشارت كذلك إلى توظف تقنيات السينما والفن التشكيلي واستدعاء طرق للسرد تناسب الزمن النفسي، والاعتماد على توزيع مساحات الضوء والعتمة، واستخدام لغة مشهدية بصرية كما في قصة (ليلة حب) التي تجعلنا نشاهد التفاصيل وأن نعيد تشكيل الحكاية عبر الإشارات والفراغات عن هذه المرأة التي فقدت شغفها بالحياة. أكدت د. هويدا صالح أن ممدوح رزق يدرك تمامًا فلسفة الزمن، أي أنه يريد أن يطرح لنا فلسفة ما عن لماذا يمر الزمن هكذا؛ فالسارد في قصة "الكراهية المطلقة" المكتوبة بلغة كابوسية من منطقة تيار الوعي لا يريد أن يموت بل يستنجد بالذاكرة حتى تُعيد إليه الحياة فيبحث عن أكثر اللحظات دفئًا في حياته لأنه يرغب في استدعاء اللحظات التي كان فيها سعيدًا ذات يوم، يريد أن يحتمي بالذاكرة. أشارت أيضًا إلى ثيمة افتقاد الرغبة في الحياة، وإلى جدل الثنائيات: بين الذات والعالم أو الصراع بين الأنا والآخر (الزوجة ـ الأصدقاء ـ الأب)، بين الحياة والموت، بين الموت والخلود حيث تثبيت الصورة التي تحل محل الحياة من أجل هذا الخلود. الصراع بين الافتقاد والجمود والعادية، بين الحضور والغياب، أو بين الحب والكراهية. تحدثت د. هويدا كذلك عن أن ممدوح رزق يطرح سؤال الكتابة؛ فالمؤلف الضمني في قصص المجموعة هو كاتب، وفي قصة (ورشة الكتابة) لا يتحدث عن الكتابة فقط أو عن كيفية كتابة القصة أو عن تثبيت اللحظة القصصية بل عن هموم الذات التي طُرحت على مدار المجموعة، الخوف من الآخر، القلق الوجودي الذي يسيطر على الشخصيات، كما أن سؤال الكتابة أيضًا في القصة الذي يطرحه ممدوح رزق يتعلق بأسئلة الكتابة المرتبطة بما هو إحالي وتخييلي وواقعي. في النهاية أكدت د. هويدا صالح إلى أن الهفوات الصغيرة هي أسئلة كلية للوجود: سؤال القلق النفسي، سؤال فلسفة الزمن، سؤال العلاقة بين المكان والزمان، وأن عنوان المجموعة هو دلالة ضدية ما بعد حداثية مقصودة من ممدوح رزق يريد منها أن يسخر من فكرة تغيير العالم، وأنه أراد من هذا العنوان الساخر أن يهدم هذه السردية الكبرى.
تحدثت بعد ذلك د. هويدا صالح التي أكدت أن المجموعة على صغر حجمها تقترح العديد من المداخل لاكتشاف جماليات قصصها وعوالمها، كما تناولت أيضًا الحالة الكابوسية للمجموعة من الغلاف إلى التصدير بمقولة لكافكا إلى النصوص، وأشارت إلى أن "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" أقرب إلى المتوالية القصصية نظرًا للوشائج التي تجمع بين النصوص مثل السارد أو التاريخ الشخصي للسارد الذي بدأ في قصة "الأربعون"؛ هذا الرجل الذي وصل إلى الأربعين، وحينما فوجئ بأن الزمن قد سرقه وأوصله إلى هذه العتبة النفسية كان عليه أن يعود إلى حياته ليتأملها أي أن يستغل الذاكرة في تثبيت مشاهد الماضي لأنه لا يريد أن يعاني مصير الأب الذي أكله النسيان أو الزهايمر. تصبح الذاكرة هي المقابل للنسيان، والتي لا تعني تأمل حياة السارد فقط، وإنما حياة أبيه كذلك. تحدثت د. هويدا عن السارد الذي كان طفلا، وحينما وصل إلى الأربعين وجد نفسه يعاني من نفس الأزمة النفسية التي كان يعاني الأب منها فيلجأ إلى طفلته التي تقوم معه بنفس الدور الذي كان يؤديه حينما كان يلجأ أبوه إليه، وهو ما جعل هناك تماهي مع الأب لهذه الشخصية التي تنتقل إلى كل القصص. السارد الذي لديه زوجة وإبنة، ويعاني من القلق الوجودي والتهميش. أشارت د. هويدا صالح أيضًا إلى امتداد الوشائج في المكان والزمن، وأن ممدوح رزق يعمل على الزمن النفسي طوال الوقت كما في قصة "الكراهية المطلقة"، الزمن الذي هو ليس تتابعيًا حقيقيًا، وإنما زمن نفسي أي ليس كما يبدو بالنسبة لنا أو للشخصيات في المجموعة. تحدثت كذلك عن أن العودة بالزمن دائمًا هي وسيلة الذات القلقة المنفصلة عن العالم، والتي تعيش في عالم يخصها أو عالم مغلق أو داخل الصور. الذات التي ـ بحسب تصدير كافكا ـ تحاول أن تنصت إلى نفسها لتحتمي من عدائية المكان وانسحاقها أمام الزمن، وأن ترى انعكاساتها في المرآة. هذا الإنصات إلى الذات من أهم الهموم التي قالت د. هويدا أن السارد يطرحها ومن ورائه ممدوح رزق في هذه المجموعة. أشارت كذلك إلى توظف تقنيات السينما والفن التشكيلي واستدعاء طرق للسرد تناسب الزمن النفسي، والاعتماد على توزيع مساحات الضوء والعتمة، واستخدام لغة مشهدية بصرية كما في قصة (ليلة حب) التي تجعلنا نشاهد التفاصيل وأن نعيد تشكيل الحكاية عبر الإشارات والفراغات عن هذه المرأة التي فقدت شغفها بالحياة. أكدت د. هويدا صالح أن ممدوح رزق يدرك تمامًا فلسفة الزمن، أي أنه يريد أن يطرح لنا فلسفة ما عن لماذا يمر الزمن هكذا؛ فالسارد في قصة "الكراهية المطلقة" المكتوبة بلغة كابوسية من منطقة تيار الوعي لا يريد أن يموت بل يستنجد بالذاكرة حتى تُعيد إليه الحياة فيبحث عن أكثر اللحظات دفئًا في حياته لأنه يرغب في استدعاء اللحظات التي كان فيها سعيدًا ذات يوم، يريد أن يحتمي بالذاكرة. أشارت أيضًا إلى ثيمة افتقاد الرغبة في الحياة، وإلى جدل الثنائيات: بين الذات والعالم أو الصراع بين الأنا والآخر (الزوجة ـ الأصدقاء ـ الأب)، بين الحياة والموت، بين الموت والخلود حيث تثبيت الصورة التي تحل محل الحياة من أجل هذا الخلود. الصراع بين الافتقاد والجمود والعادية، بين الحضور والغياب، أو بين الحب والكراهية. تحدثت د. هويدا كذلك عن أن ممدوح رزق يطرح سؤال الكتابة؛ فالمؤلف الضمني في قصص المجموعة هو كاتب، وفي قصة (ورشة الكتابة) لا يتحدث عن الكتابة فقط أو عن كيفية كتابة القصة أو عن تثبيت اللحظة القصصية بل عن هموم الذات التي طُرحت على مدار المجموعة، الخوف من الآخر، القلق الوجودي الذي يسيطر على الشخصيات، كما أن سؤال الكتابة أيضًا في القصة الذي يطرحه ممدوح رزق يتعلق بأسئلة الكتابة المرتبطة بما هو إحالي وتخييلي وواقعي. في النهاية أكدت د. هويدا صالح إلى أن الهفوات الصغيرة هي أسئلة كلية للوجود: سؤال القلق النفسي، سؤال فلسفة الزمن، سؤال العلاقة بين المكان والزمان، وأن عنوان المجموعة هو دلالة ضدية ما بعد حداثية مقصودة من ممدوح رزق يريد منها أن يسخر من فكرة تغيير العالم، وأنه أراد من هذا العنوان الساخر أن يهدم هذه السردية الكبرى.
موقع (الكتابة) ـ 9 نوفمبر 2017
الأربعاء، 8 نوفمبر 2017
هفوات "ممدوح رزق" الكبيرة لتغيير العالم
اقامت مؤسسة بتانة اليوم حفل توقيع ومناقشة المجموعة القصصية
"هفوات صغيرة لمُغير العالم" للكاتب ممدوح رزق، الصادرة مؤخرا عن
المؤسسة، واشترك في مناقشة المجموعة الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق،
والدكتورة هويدا صالح استاذ النقد الادبي، وأدار الندوة الشاعر والناقد عمر
شهريار.
تحدث شهريار في البداية عن التنوع الكتابي للمؤلف بين القصة والرواية
والشعر والكتابة النقدية، فيما قرأ رزق علي الحضور بعض من القصص المختارة كـ
"الغرق، حكايات متواطئة، كأننا كاذبان".
وأكد الدكتور شاكر عبد الحميد في مُداخلته بأن المجموعة كانت مفاجأة
بالنسبة له حين قرأها؛ من حيث الزخم المعرفي والفني الواضح ضمن السياق السردي،
والذي يدل علي إمتلاك الكاتب لأدوات القص الحديث، مستفيدا من الإرث القصصي
العالمي.
وأشار، إلى تيمة الشخصية الواحدة المتواترة عبر قصص المجموعة علي طول
السرد، والتي تحمل صوت الراوي، فيما حملت شخصيات المجموعة الطابع الكابوسي
أو"الكافكاوي" بداية من تصدير الكاتب بمُقتطف لكافكا: "كل إنسان
يحمل في داخله غرفة. هذه الحقيقة يستطيع المرء التأكد منها عند إصاخته السمع.
فعندما يسير أحدهم بسرعة ويُصيخ السمع بدقة في الليل مثلا، عندما يكون كل شيء
حولنا صامتا، فإن المرء سيسمع مثلا، خشخشة مرآة حائط ليست مُثبتة بشكل جيد".
وأوضحت الدكتورة هويدا صالح أن المدخل الأبرز لقراءة هذه المجموعة هو
المدخل النفسي؛ مؤكدة علي ملمح الكابوسية الذي اشار اليه د. شاكر عبد الحميد،
والذي يُكمله غلاف الكتاب الأسود؛ من حيث قراءة عتبات النص.
كما رأت أن روح المُتتالية يغلب علي قصص المجموعة، حيث السارد واحد
تقريبا في معظم القصص. تنتقل شخصيته وإن اختلفت أو تنوعت من قصة لقصة، حاملة في
سماتها الثقل العمري والزمني للراوي، ومضيفة في كل قصة بُعدا آخر للشخصية.
وأشارت الى التكنيك السينمائي الذي اتبعه الكاتب بالاضافة الي اللجوء
الى مفردات الفن التشكيلي، من حيث توزيع مساحات الضوء والعتمة في النص، الأمر الذي
كان له دور كبير في إظهار الهم الإنساني العام الذي تُقدمه القصص، وهو محاولة
الإنصات إلى الذات.
واستمرارا في قراءة عتبات النص؛ اوضحت د. هويدا بأن الكاتب قدم هذه
الكابوسية والعالم السوداوي من خلال السخرية منه؛ حيث لم تطرح المجموعة تلك
الهفوات الصغيرة كما في العنوان، بل كانت أسئلة كبيرة ووجودية.
وائل سعيد
بتانة نيوز ـ 5 / 11 / 2017
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)