لا يحتفظ صوت الراوي العليم بنبرة ثابتة بل إن هذه النبرة دائمة
التغير وفقا للوعي القرائي أي بناءً على تحوّل الرواية من كيان مستقل للكاتب إلى
سردية خاصة بمن سيعيد كتابتها .. حينئذ ستمثل هذه الرواية وثيقة حكائية لشخص آخر
في زمن معين قد يكون مؤقتًا، وبهذا لا يتم اعتبار ما يمكن تصوره النبرة الأصلية
للرواية أي تلك التي تنتمي إلى كاتبها أكثر من مجرد اقتراح، أو نوع من الإلهام
القابل للتوافق أو الاشتباك أو التجاهل؛ فالراوي العليم يُمكن أن يُسمع بنبرة أخرى
تختلف عما يسعى صوته السردي للانحياز إليه سواء كان تعاطفًا أو غضبًا أو شفقة أو
أي شعور آخر.
(هذا العام تكرر ما يحدث دوما، منذ زواجها، وهو أن تجبر على قضاء
مناسبة رأس السنة في المنزل، تشعر بالسخط لأنها لا تستطيع تنفيذ حلمها البسيط،
وتتوقع كما في بقية المناسبات أن ترضى بما هو متاح، دون أن يخرج سخطها في صورة
مشاجرة زوجية. منذ أن تركت العمل أصبحت تقضي وقتها على الإنترنت، حدث ذلك في منتصف
نوفمبر من العام الفائت، مر شهر ونصف قررت وقتها ألا تلتحق بعمل تالٍ حتى تأخذ
هدنة تستعيد فيها قواها، وتفكر ماذا تريد أن تفعل بحياتها، العمل كصحافية مجهد
بالنسبة لها، يتطلب ابتكارا وتفكيرا ومحاولة دائمة للتطوير. في ظروف أخرى يكون هذا
العمل مثاليًا بالنسبة لها أما في ظروفها الحالية يمثل عبئًا، ذلك لعدة أسباب
أهمها محاولات زوجها المستميتة لتشتيت أفكارها، وإرباكها حتى لا تحقق أي نجاح،
ومشاجراته العنيفة التي تصل لحد منعها من الذهاب للعمل، والتي قد تنتهي بتفاوض
بينهما فتذهب إلى العمل مجهدة، ولا تستطيع التركيز في أي شيء، أيضا ساعات النوم
القليلة التي تحصل عليها عبء آخر، وشعورها الدائم بالذنب لأنها لا تقضي مع أطفالها
وقتا، ولم تعد تقص عليهم الحكايات، أو تعلمهم الحروف والكلمات كما كانت تفعل في
السابق).
في رواية (وشم الروح) لسماح عادل الصادرة عن دار ابن رشد، يصلح الراوي
العليم بالنسبة لي وبشكل مثالي لأن يكون الغيب أو القدر أو الموت متقمصًا أو
متنكرًا في صورة بديلة، ولهذا فالنبرة الأكثر ملائمة لصوته هي السخرية .. هذه
الإرادة الكونية المجهولة التي تحكي معاناة جوليا مع زوجها، وتطور علاقتها بغسان
المطلق الذي يعيش وحيدًا حتى لقاءهما في النهاية؛ هذه الإرادة ـ وفقًا لوعيي الخاص
ـ لا ينبغي أن يحكم سرديتها إلا التهكم .. كأن هذا النبرة لصاحب عين محلقة
ومتوارية، يراقب ويشرح ويحلل سلوك وردود أفعال كائنات موظفة لتجارب استعراضية،
يدرك تمامًا طبائعها ومصائرها ويدوّن تقريرًا بذلك من باب التسلية الهازئة مدعيًا
الحياد أو ما يشبهه.
(فهمت معه أن العشق أقصى مراحل الحب، وأنه لا يحتاج لوجود الجسد بقدر
ما يخاطب الأرواح، تركت عقلها جانبا واستسلمت لتلاقي أرواحهما في هدأة الليل، وعرفت
أنه هو من ستعشقه ما تبقى لها من العمر. قال لها إنه سيوشم عينيها على صدره،
اندهشت، أكد لها أنه يعشقها، وقرر أن يحفر عينيها على جسده لتبقى ملتصقة به للأبد،
أحست أنها في حلم فهما لم يتكلما عن الحب سوى هذه الليلة، حاولت ثنيه عن فعل ذلك،
مبررة ذلك بأن أدوات الوشم تنقل أمراضا، وأنه سيتألم كثيرا، وأنها خطوة مجنونة
منه، لكنه لم يهتم، نامت وهي تفكر في أنه مجنون وأنه يقترب إليها بسرعة تدهشها).
كان يمكن للتكنيك الروائي الذي اتبعته سماح عادل أن يكون دون مبرر جمالي،
وأقصد به تبادل حكي نفس الأحداث من خلال حياة جوليا مرة، ثم من خلال حياة غسان مرة
أخرى كتثبيت لحالة التباعد والانفصال وانعزال كل شخصية داخل سجنها الخاص، وتمهيدا
للامتزاج بينهما في نهاية الرواية، ذلك لأن الراوي العليم كان يقدم أثناء السرد
لعالم جوليا حصيلة لم يضف إليها السرد لعالم غسان ما يمكن وصفه بالانقلابات
الفارقة في الرواية .. كان الحكي الخاص بجوليا يعطي ويكتشف ويستنتج ويتوقع ويؤكد
عن غسان نفس المعطيات التي سيثبتها الحكي الخاص به عند الانتقال إلى فقرته
السردية، أي أنه لم تكن هناك تناقضات حادة أو أسرار خفية في حياة غسان تُعارض بقوة
تلك التي تُذكر في حياة جوليا، وتستحق بالتالي أن تخصص فقرات مستقلة من أجلها، وبهذا
كان من الممكن ـ دون التنازل عن هذه التفاصيل ـ استبدال ذلك التقسيم الذي تبدأ
وحداته بالحرف الأول من إسمي كلٍ منهما بمتن روائي واحد يضم الشخصيتين، ويجسد في
الوقت ذاته الوحشة التي تجمعهما.
(جهز غسان زجاجة الويسكي، سوف يقضي سهرته اليوم في منزله وحده، ليس
لديه رغبة في صحبة أحد اليوم، غالبا ما يقضي أوقاته مع أصدقائه، لكنه هذه الأيام
أصبح يميل إلى تقضيتها بمفرده، مع حلول العام الجديد انتابته أفكار اكتئابية، فها
هو عام جديد يأتي وهو على وحدته، يعيش وحيدا في منزله، ولا تزال علاقته بأهله
متوترة، ما عدا أمه التي تزوره بشكل منتظم وتبقي على تواصلها معه. تزوج مرة منذ 7 سنوات ولم يستمر زواجه طويلا، ومن وقتها لم يستطع أن يحب مرة
أخرى، دخل في علاقات إعجاب متبادل لكنها لم تتطور لعلاقة حب حقيقية، وفي النهاية
قرر أن يعيش حياته دون امرأة، واستطاع أن ينفذ ذلك).
كان يمكن لهذا التكنيك السردي أن يكون دون مبرر جمالي فعلا ولكن ما أعطى
ضرورته عندي هو نبرة السخرية في صوت الراوي العليم؛ فالإرادة الكونية المجهولة
حينما تحكي عن آلام امرأة تعيش حياة ظالمة مع زوجها، وعن قتل المجتمع لحريتها، وعن
رجل يشعر بالوحدة، ويبحث عن الخلاص من أزماته، وحينما يحكي عن صراعات الروح
والجسد، وعن الشوق والتوحد والغيرة والفقد والتسامح والتضحية والإيذاء بين المحبين
فإن جانبًا جوهريًا من الدعابة التي تسردها سيدعمها هذا التبادل في حكي الموقف
الروائي الواحد بين حياة جوليا مرة، وحياة غسان مرة أخرى لتؤكد أن المشهد هنا أو
هناك أزلي ومتكرر ومعروف ويخلو حتما من المفاجآت كأنه سيظل يعيد نفسه إلى ما
لانهاية، وأن هذا الاعتياد هو مصدر اللذة .. بالضبط كأن الراوي العليم حينما ينتقل
من جوليا إلى غسان يقول لنا: ألم أخبركم بأن ما كانت عليه هذه الشخصية في عالم آخر
هو ما ستكون عليه حقًا في عالمها المنعزل، وأنني أدرك ذلك كله، وأستمتع به لأبعد
حد.
(استمر جنونها، مرات تهدده بالابتعاد، ومرات تشكو حنينها إليه، ومرات
تطلب منه إنهاء البعد الإرادي الذي حكم عليهما به، ومرات تثور عليه ولا توقف
غضبها، بعد نوبة غضب بعد أن رأت صورة له في فرح صديق وذراعه مخفية تحت المنضدة شكت
أنه لم يقم بعمل عملية كما قال لها، اتهمته باتهامات كثيرة، واحتدت عليه، بعث لها
بصورة وذراعه مربوطة، وقام بحظرها، عرفت أن غضبها زاد عن حده هذه المرة، لكنها
محقة فهي لا تعرف عنه شيئا إلا من خلال "فيسبوك").
بالنسبة لي فقد وصل تهكم الراوي العليم إلى ذروته مع الإيروتيكية
البارعة التي وصفت بها سماح عادل تحضير جوليا لذهابها إلى بيت غسان ولقائهما
الجنسي الأول .. كأن الغيب أو القدر أو الموت هو الذي يضاجع في الحقيقة تلك الغفلة
الشهوانية التي تستعمل جسدي جوليا وغسان .. كأنه احتفال مخبوء بما يظنانه بداية
جديدة، وبالعلم الكامل لذلك الحديث بينهما الذي لن ينته حتى بنهاية عمرهما.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 4 / 11 / 2017