الاثنين، 20 يناير 2020

سيرة الاختباء (8)

في تلك الزيارة الوحيدة لمنتدى عروس النيل الأدبي بداية التسعينيات، أي المرة الأولى التي أحضر فيها "ندوة"، والتقي بـ "أدباء" كي "أقرأ محاولاتي القصصية" أمامهم؛ في تلك الزيارة قابلت شعراء فصحى وعامية وكتّاب قصة ونقادًا وباحثين في التاريخ والتراث، معظمهم بشيبٍ متحفّز، وكأنهم يرتدون الماضي طوال الوقت: ملابس قديمة، أقرب إلى الزي الرسمي لهيئة قطاع عام، ونظارات معتمة تحاول فلترة العالم، وساعات عتيقة مازالت تحسب الوقت رغمًا عنها .. حقيبة مهترأة تحت إبط أحدهم، خرج بها تقريبًا مع نهاية الخدمة في إحدى حكومات ما بعد يوليو 52، داخلها أوراق صفراء ـ منتزعة ربما من الدفاتر الوظيفية أيضًا ـ ومدوّن عليها قصائد عمودية بحروف كبيرة، مشكّلة بوضوح، ومرسومة بالمهارة التقليدية التي تؤهلها للمنافسة في مسابقات الخط العربي .. نسخة من عدد لمجلة "الهلال"، صدر منذ سنوات بعيدة، يتضمن قصيدة ربما لن يتوقف كاتبها مع كل معركة تدور في ندوة ما عن إشهارها كبطاقة هوية في وجه شاعر آخر سيتّهم بأنه شيوعي في معظم الأحوال .. حناجر تزعق لحماية الشعر كما نزل من السماء، وكما تتمثّل في تقاليده الأسس القومية التي يتلاعب بها شواذ قصيدة النثر، أبناء السفاح، الملحدون غالبًا، وعملاء الغرب عن قصد أو غفلة بكل تأكيد .. وجوه لا تحتاج لعلامة السجود، وأجساد لا ينقصها رداء الداعية، وأيدٍ لا يعوزها سبحة حجازية.
في هذه الليلة حصلت ـ كطالب في المرحلة الثانوية ـ على اكتشافات عدة: أن الطابع العدائي الذي يشملهم سيقف حائلّا أمام صداقتهم لي، وهذا يعني أن أيًا منهم لن يصلح لمشاركتي في تكوين جماعة من المغامرين على غرار أبطال سلاسل الروايات البوليسية، والتي كان من الممكن أن يكون موضوعها هذه المرة مرتبطًا بالكتابة والنقد الأدبي والحكايات التراثية، مثلما حاولت دائمًا من قبل مع رفاق المرحلتين الابتدائية والإعدادية .. أن وجودي في هذا المكان، وفي تلك اللحظة، وبالرغم من عدم التعرّض لاستهداف شخصي، يثقلني بخسارة جديدة، يمكن تلخيصها في أن مجرد الحضور في هذا الظرف الخاطئ يُعد خدشًا للكرامة، ستتوزع لذته في أرواح أولئك الذين أجلس بينهم، حتى لو كان هذا في حقيقته شعورًا متوهمًا يخصني فحسب، ولكنه مع ذلك يكفي لأن يكون الجوهر الثابت للأمر، الذي تتبدد معه أي اعتبارات أخرى .. أن بإمكاني الثأر مما حدث، وإعادة كل شيء إلى موضعه الصحيح باستخدام الطريقة ذاتها التي تعوّدت أن أعيش بها حياتي وهي الكتابة .. لهذا ستكون "المصفقون" هي القصة القصيرة الأولى التي أكتبها بتعمّد أساسي لرد الأذى تجاه شخص أو مجموعة بشرية، وذلك بالتأكيد ضمن أغراض بديهية أخرى.
لكن هذه القصة القصيرة لم تكن محض سخرية من أشخاص بقدر ما كانت خطوة مبكرة في محاولة اكتشاف مصدر الرغبة في حضور ملتقى أدبي، والتعرّف على كتّاب آخرين، وقراءة النصوص تحت أبصارهم .. في محاولة فهم الدوافع التي تقف وراء تصديق الضرورة في هذا الأداء الاعتيادي، والإيمان بأن ثمة مكسبًا يمنحه الالتزام به .. كانت خطوة مبكرة في محاولة اكتشاف ذلك الرجاء العفوي الخبيث الذي يُخلق مع بدايات الكتابة وينمو مع استمراريتها لحيازة الإقرار من الآخرين بـ "جودتها" .. الرجاء الذي دائمًا ما كان اللعبة الأثيرة لذلك الكائن الخرافي، العابر للعصور، المُسمّي بـ "الحياة الثقافية".
موقع "الكتابة" ـ 19 يناير 2020

السبت، 18 يناير 2020

مهمة روتينية

يجلس الشاب هادئًا، مبتسمًا بثقة اعتيادية، لا يتحدث كثيرًا، بل يكتفي طوال الوقت بإيماءات حاسمة، وعبارات مقتضبة، تهيمن دون جهد على المساحة الصغيرة التي يشغلها مع الفتاة الجالسة بجواره .. ملامح الفتاة بالنسبة لي أقرب إلى الجمال الشهواني منه إلى الرومانسي؛ أي ذلك الذي يمنح المتعة مع إيقاعات المضاجعة أكثر مما يفعل مع نغمات الموسيقى الناعمة .. يدخل المقهى بخطوات سريعة رجل يبدو على نحو غامض أكبر عمرًا مما يحدده وجهه، يمسك في يده كتابًا لم أتمكن من تبيّن عنوانه ثم يجلس على طاولة مقابلة للشاب والفتاة .. كأن وسامة الشاب هي مصدر الاطمئنان العفوي الذي يتحكم به في لقاء تكرر حتمًا بينه وهذه الفتاة داخل أماكن أخرى .. تتكلم الفتاة كثيرًا، وتضحك بصوت مرتفع على وتيرة متقاربة،، وبالطبع لا تتوقف يدها عن الإمساك بكف الشاب وجذبها لتنشيط انتباهه، أو وضعها فوق ذراعه لتأكيد كلماتها في وعيه، كأنما تُكمل الحكايات المتعاقبة، أو المزاح المتغيّر، أو الجدل المُداعب بهذه الملامسات التلقائية، التي هي أقصى ما يُسمح للشبق أن يجسّده الآن .. الرجل يفتح الكتاب، ويبدأ في القراءة، لكن حركة عينيه اللتين لم تنظرا في وجه أحد منذ دخوله المقهى تكشف عن أنه لا يحب القراءة، أو أنها على الأقل لا تحتل مكانة متقدمة في قائمة هواياته .. الشاب والفتاة يُظهران إيمانًا مشتركًا بأن هذه اللحظة ليست مؤطرة بالعناصر التقليدية للحياة بل تخلق امتدادًا استثنائيًا لها في زمن وشيك .. يقلّب الرجل صفحات الكتاب كأنما لا يعنيه أكثر من الشعور بنفسه كقارئ، وأن يدرك الآخرون هذه الحقيقة عنه، لكن هذا لا يعني عدم الاكتراث بالحصول على معرفة يجهلها، وإنما يمرر الأسلوب الذي يتصفح به الكتاب يقينًا بأن مضمونه لن يمثل إضافة لما يعلمه بالفعل، وهذا ما يجعله يغادر المقهى بعد وقت قصير، كأنه أنجز مهمة روتينية، بينما لا يزال الشاب مبتسمًا بثقة، والفتاة تضحك بصوت مرتفع.
اللوحة لـ Kenne Grégoire

الأحد، 12 يناير 2020

الطبيبة النفسية الحزينة

في الثامنة مساءً، خارج قاعة (دار الضيافة) بالمنصورة حيث يجتمع أعضاء مختبر السرديات؛ وقفت أمام الطبيبة النفسية التي حضرت خصيصًا من أجلي .. ربما عرفت من فيسبوك أنني سأكون حاضرًا بنسبة كبيرة، لكنها لم تدخل القاعة، وإنما اتصلت بي على الموبايل ـ لا أتذكر حتى الأن أنني أعطيتها رقمي ـ ثم أخبرتني أنها في الخارج، وتريد التحدث معي .. توجهت إليها سريعًا وعلى وجهي ابتسامة تنطق بسعادة عفوية، كأن هذه المفاجأة غير المتوقعة إطلاقًا لا يجب أن تثير في نفسي ذرة قلق .. بدأت هذه الابتسامة في التلاشي تدريجيًا مع اقترابي من الغضب العارم والمتحفز الذي يكسو ملامحها تمامًا .. قبل أن أمد يدي لمصافحتها أو أتفوّه بكلمة مُرحّبة؛ فاجئتني بسؤال ازدرائي ـ لم يتطلب الارتفاع بنبرة صوتها ـ حول فكرتي عن نفسي؟ .. بدا وهي تضغط على كل حرف كأنها تتمنى لو أن عظامي هي التي بين أسنانها، خاصة حينما تكفلت بالإجابة على استفهامها المجازي؛ معتبرة أنني شخص ـ كما قالت بدقة ـ معدوم الأخلاق، وبلا ضمير .. أعقبت هذا المديح غير المنتظر بسؤال حقيقي ينتظر إجابة فعلية عن كيف أسمح لنفسي بالتشهير بها مستخدمًا ـ بحسب وصفها ـ مثل هذا الشكل المبتذل .. لم يكن بمقدوري سوى تصنّع الغفلة فأخبرتها كاذبًا بأنني لا أفهم عن أي شيء تتحدث .. أجابت بتلقائية حازمة بأنني أعرف جيدًا ما الذي تتكلم عنه: "مريض مطيع يتسلى بالكيتش" .. القصة التي كتبتها عنها مثلما تقول .. سألتني مجددًا إذا ما كانت هي "الكيتش" الذي أتسلّى به .. كان صوتها قد بدأ يرتفع قليلًا فطلبت منها أن تخفضه ثم سألتها كأنني أتعمّد إشعال المزيد من النار في جسدي عن سبب اعتقادها بأن القصة عنها .. قالت أنها ستبقي صوتها منخفضًا احترامًا لنفسها فقط، لأنها ـ كما ترى ـ ليست "متبجحة" مثلي، مؤكدة على أنها لن تقتنع أبدًا بأن القصة لا تتعلق بها: طبيبة نفسية .. من المنصورة .. طلّقها زوجها لعدم قدرتها على الإنجاب .. تكتب في مدونتها عن التصوف والروحانيات .. تعاني من الزملاء الحمقى داخل المستشفى القذر الذي تعمل به، ومن المرضى النفسيين الذين تحاول علاجهم .. لا تعرف لماذا اختارها الله لمهنة بائسة كهذه .. في حقيبتها روشتات أطباء النساء والتوليد أو (رغبة الأمومة) التي تشهرها في وجه الصيادلة .. أصدرت كتابًا في الطب النفسي للأطفال، تم استضافتها لمناقشته على قناة ..(otv) تسألني بسخرية مريرة حول إذا كان كل هذا ليس كافيًا لأن تكون القصة عنها؟.
كأنه لم تعد هناك طريقة للتراجع عن استفزازها، والاستمرار في دفع التوتر نحو الحافة؛ قلت لها بأنني ربما أكون قد استعملت بعض التفاصيل التي تخصها، لكنها ليست كل القصة؛ إذ أن ثمة عناصر أخرى لا تتعلق بها، وهو ما يجعل موضوعها عن حياتي أكثر من حياة أي شخص آخر .. أمعن وجهها المتورد في التقطيب وتصاعدت الحدة في صوتها وهي تقول لي بأنه لا توجد تفاصيل أخرى، ولا داعي لمحاولة اللعب بالكلمات .. أخبرتني ـ حيث شعرت باقتراب الحافة أكثر ـ بأنني تعمّدت أن أعرّف القرّاء بأنها المقصودة تحديدًا في القصة .. لماذا؟ .. لأن الكاتب المحترم ـ وفقًا لتفسيرها المتهكم ـ أراد أن ينتقم من المرأة التي قطعت علاقتها به ـ كما اعترف هو نفسه في قصته الدنيئة ـ حتى أنه عندما كتب في نهايتها بأن كل ما جاء فيها كان كذبًا؛ فإنه كان يسعى لتثبيته وتأكيد صحته لدى قارئها.
كنوع من مسايرة الغرق أكثر من مقاومته سألتها إذا كانت تتصوّر أن كل من سيقرأ القصة سيعتقد ذلك؛ فردت على الفور بأنها لا تتصوّر، وإنما تمتلك يقينًا كاملًا .. عاودت التساؤل بسخرية حول الذي ينقص ما كتبته، قبل أن تجيب بنفسها ـ كالمعتاد ـ بأنه ليس هناك سوى أن أذكر اسمها صراحة مقترنًا بصورتها .. كأنها تختتم ميلودراما مرتجلة قالت بأن إحساسها كان محقًا حينما أجبرها على الابتعاد عني ـ مثلما كتبت في القصة ـ وأنه من الجيد بالفعل أنني أعرف نفسي، وأعلم أن ما قمت به لا يمكن تسميته سوى بالانتقام الرخيص كما وصفت في قصتي أيضًا .. أخبرتني بأنها نادمة للغاية لأنها فتحت قلبها لي ذات يوم، وحكت عن أشياء لم تبح بها لأحد آخر طوال عمرها.
لا أظن أنها كانت تصدّق أنني جاد حقًا بينما أقول لها أن بوسعها كتابة قصة تتضمن كل ما تود أن تخبر به الآخرين عني، أي أن تستخدم الأسلوب ذاته في شفي غليلها .. انتبهت حينئذ إلى أن الابتسامة المتلاشية كانت قد عادت إلى ملامحي بمجرد معرفتي بالدافع وراء حضورها، وأن هذه الابتسامة كانت طوال الوقت أشبه بقناع مرتعش، تحوّل إلى وجه حقيقي وأنا أنطق بتلك الكلمات التي بدا في نظرتها المحتقنة لي كأنما رأتها نوعًا من الاستهانة المتنكرة، أو محاولة هازئة لإنهاء الورطة ـ بالضبط مثلما يجرّب البالغون إسكات الأطفال بإرضاء مخادع ـ ليس نتيجة الشعور بالذنب، وإنما بسبب الملل .. قالت أنها ليست حقيرة مثلي حتى تفعل ذلك، بل إنسانة محترمة، عندها ضمير، ولا تقابل الإساءة بمثلها، وأنها فقط أرادت أن تخبرني بأنني مهما كتبت من قصص، ومهما كتب الآخرون كلمات الإعجاب عنها؛ فإن هذا لن يغيّر شيئًا من حقيقتي كإنسان شهواني، ليس لديه مبدأ، ولا يراعي أي قيمة.
كانت خلال هذا الزمن القصير للقاء المباغت ـ بالرغم من كل شيء، وربما كأثر له ـ أجمل من أي وقت مضى .. أجمل مما كانت حينما كنا نتحدث دون ضغينة .. أجمل مما كانت حينما كنت أفكر فيها، وأتملّى صورها، وأتخيلها في مشاهد وحكايات منقذة ـ تدور جميعها في الشتاء ـ دون أن أكشفها لها .. أجمل مما كانت حينما كان اليأس يبلغ ذروته من حصولي عليها .. كانت خلال هذا الزمن أقرب ما تكون إلى تلك المرأة التي في القصة بحق .. لذا كنت أشعر أيضًا بأنني لست نادمًا على كتابتها أكثر من أي وقت مضى .. هل الطبيبات النفسيات يصبحن أجمل دائمًا عندما يكن حزينات أو خائبات الأمل إلى هذه الدرجة؟.
انصرفت من أمامي بخطوات عصبية معهودة، كأن ذاكرتي تجسّد الإيقاع السريع الناقم والمقبض لأقدام أمي وأختي وزوجتي بقدمي امرأة أخرى .. ظللت واقفًا، أراقب ابتعادها، متمعنًا في مؤخرتها الرائعة، التي بدت في هذه اللحظة ككائن آخر، يلوّح لي سرًا بالصعود والهبوط المتلاحق لجانبيه الممتلئين بإحكام كوداع متحسّر.
سمعت أحد أعضاء مختبر السرديات يناديني عبر الممر المؤدي إلى القاعة كي أنضم لهم في الصورة الجماعية .. تحركت إلى الداخل ثانيةّ نسختي المضللة؛ التي تصافح وتتحدث وتضحك وتبتسم في الصور بين أولئك الذين لن يساورهم الشك على الإطلاق في كوني موجودًا حقًا.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 10 يناير 2020
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة.
الصورة لـ  jean noel duru

الأربعاء، 8 يناير 2020

"شارع الخلا" لفؤاد حجازي: ضوء خافت من شباك بعيد

هناك واقعة قتل في رواية "شارع الخلا" .. واقعة قتل لم تظهرها الرواية .. يمكننا القول أن "شارع الخلا" هي ستار سردي لهذه الواقعة، أو من ناحية أخرى شفرة لاكتشافها.
"بعد منعطف سوق الحدادين بقليل يتقاطع شارعي الخلا والعباسي، وفي الزاوية اليسرى لهذا التقاطع يقع محلنا الشريف".
ما الذي يدل على وجود هذا القتل؟ .. نسخة الرواية نفسها: الأوراق الصفراء الخشنة .. السطور الباهتة التي يتفاقم شحوبها في مواضع شتى لدرجة الاختفاء .. الكلمات المكتوبة بخط اليد داخل المتن المترنح .. تدرجات وضوح الكلمات المطبوعة .. رائحة زمن قديم، يتوارى سر حي داخل وعورتها الثقيلة .. نحن إزاء ما يشبه مخطوطة إذن أكثر منها رواية مطبوعة بشكل تقليدي، ولا أقصد هنا "مخطوط رواية" بل مخطوطة أثرية، أي وثيقة عتيقة، مكوّنها المادي جزء أصيل مما تخبئه لغتها.
"فالشارع منطقة تتركز فيها محلات البقالة والعطارة والجزارة، والشارع يؤدي إلى منطقة المدارس على شاطئ النيل، أو كما يسميه أهل مدينتنا شارع البحر".
لنناقش خيوط الواقعة التي لم تعلنها الرواية: من هو القاتل؟ .. يسهل القول أنه "فوزي" مثلما يسهل القول أن المقتول هو المعلم "بدير" أو "حندق" مثلًا، ولكن الأمر ليس كذلك .. إن "فوزي" هو مدبّر القتل وفقًا لركائز أساسية عدة: التمازجات الغامضة دائمة التبدّل بين الشوارع والدكاكين والبيوت .. الشخصيات التي يعرفها فوزي ويتحرك بينها وتدور من حوله .. المدينة كفضاء شامل .. ذاكرة فوزي .. البشر الذين لا يدري عنهم شيئًا ولكنهم يعيشون في تخيلاته .. الواقع الشخصي لفوزي كفرد وحيد ينطوي داخل انعزال معتم من الغضب المتحسّر والمتزايد .. التاريخ الغيبي الذي يقبض على ماضي المدينة، ويسكن خفائها.
"والمقاهي تنتشر على طول الشارع، فالتي تقع أول الشارع جهة النيل يرتادها الأفندية والموظفون وزوار المدينة ونزلاء الفنادق الفخمة في هذه الناحية، وتقع المقاهي البلدية بالقرب منا، يؤمها الباعة الجائلون وحوذية الكارو والحدادين وطوائف النجارين ومبيضو النحاس والفلاحون وأولاد البلد وتجار المخدرات وصبيانهم".
فوزي هو مدبّر القتل على نحو يجعله يتخطى أن يكون قاتلًا عاديًا .. ذلك لأن القتل الذي خطط له لا يتخذ نسقًا محددًا بل يتوزع إلى مسارات مختلفة، تضمر في حقيقتها نوعًا من التماثل، أو يمكن اعتبار أنها تمتلك تطابقها الخاص: نسق استكشافي؛ أي رغبة فوزي في التوصّل إلى قتل معيّن تم بالفعل ولديه ارتباط بالأماكن التي تمزج بينها خطواته، وبالمدينة ككل .. نسق استشرافي؛ أي التنبؤ بهذا القتل، والحدس بأطرافه وملابساته من خلال الشخصيات الثابتة التي تحاصر فوزي، وكذلك البشر المجهولين بالنسبة له .. نسق تحريضي؛ أي أن يقود فوزي بصورة مبهمة شخصًا أو جماعة بشرية لتنفيذ هذا القتل بحيث تجسّد عناصره التداخل الملتبس بين ذاكرة فوزي، وكراهيته الحاضرة، وبدائية العالم التي خلقت المدينة، وما زالت محتجبة وراء وأسفل جدرانها.
"استمر أبو جبل:
ـ الشارع كان زمان أحسن شارع في البلد .. أمال .. التفاح اللي على أصوله .. الفواكه اللي عمرها ما تنزل البر تلاقيها موجودة هنا .. دكاكين وورد .. أنوار .. شارع سهران طول الليل .. شارع ما ينامش وأولاد الحظ كتير.
ـ لكن سموه ليه شارع الخلا؟
ـ معاك حق .. لأن الشارع كان حدود المنصورة .. طوّل بالك عليّه...
وأشار بيده إلى جامع الكناني:
 ـ كل دا كان فضا .. كله كان خلا .. والعمار بدأ هنا .. كله كان جنب الشارع يعتبر خلا .. أي شارع جنب شارعنا لازم يكون خلا".
ما الذي يدل أيضًا على واقعة القتل؟ .. الرصد التشريحي للأيدي:
"وكنت في جلستي هذه أستطيع أن أخمن مهنة الرجل، وأحيانًا جنسيته إن كان فلاحًا أو بندريًا، من مجرد مطالعة يده، أو حتى رؤية أصابعه، فأيدي صبية العمال القادمين من سوق الحدادين، ملطخة بسواد ثقيل، جعل فوق ظهورها طبقات من الوسخ، اكتسبت صفة الأصالة، ولا يؤثر فيها الاغتسال. أيدي الفسخانية والسماكين، تعلق بها قشور الأسماك. والفرق بين هذه وتلك أن أيدي السمًاك مبتلة ورطبة، وكأنها مبطرخة في حين إن الأخرى جافة حتى ولو كانت مبلولة، كالصدأ، وأنا أعرف هذه الأيدي من رائحتها الزفرة دون النظر إليها. أما أيدي المدرسات وأصحاب المهن التعليمية فعليها بقع الحبر الأحمر والأزرق بخلاف كتبة المحاكم وموظفي الحكومة، على أيديهم بقع الكوبيا. أما أيدي الفلاحين فهي غليظة خشنة يكفي إصبع منها لتفصيل ثلاثة من أصابع أي ممرضة، تنفذ إلى أنفك من أياديهن رائحة الكحول وصبغة اليود، وكأن هذه المطهرات تبري أصابعهن فتبدو رفيعة دائمًا. وكنت أستطيع أحيانًا أن أعرف هواية صاحب اليد، فالرسامون والخطاطون أصابعهم طويلة نحيلة فضلًا عن أصباغها الخاصة. أما يد المقامر فهي متشنجة عصبية تلح في طلب الماركة بسرعة ولا صبر لها. أما أيدي الأفيونجية والحشاشين فهي نحيلة محروّقة، مقوسة كأذرع (أبو جلمبو) أحيانًا تلح لإجابة طلبها بسرعة وأحيانًا تصبر وتفضّل غيرها عليها".
إنه أقرب لتفحص البصمات المختلفة، التي ستكسب واقعة القتل هويات بشرية ومكانية عديدة، ومتواطئة فيما بينها.
"عرجت على شارع جامع القهوجي المؤدي إلى شارع الخلا. وشارع جامع القهوجي يتفرع من منتصفه إلى شارعين، يستمر أحدهما حاملًا نفس الاسم، يتوجه إلى جامع الكناني عند التقائه بشارع العباسي، والفرع الآخر يسمى شارع سيدي عبد القادر يتقاطع أيضًا مع شارع العباسي، وامتداده يسمى شارع سيدي ياسين والمعروف عند الناس بشارع الخلا".
من هو المقتول؟ .. هو كائن لا يعرفه فوزي، ولكنه يشعر به كشبح، أو متناثرًا في أشباح لانهائية مختفية داخل المدينة .. كائن واقعي، ولكنه لازمني في الوقت نفسه، يدمج بين كل ما هو أزلي وأبدي في تناغم لا يمكن إدراكه .. يستعمل الموجودات كرموز وطلاسم مخادعة، تثبّت حضوره، وتؤكد أيضًا التمنّع الدائم لهذا الحضور ومراوغته .. لهذا فهو لا يعيش داخل أماكن مألوفة فحسب، بل يمر كذلك عبر الأجساد المتعاقبة داخل هذه الأماكن .. كائن يفرض عماءًا كليًا وراسخًا في عيني فوزي .. هذا العماء هو الدافع لتدبير القتل .. القتل الذي يجعل القاتل مقتولًا بالضرورة، ولذلك فالقتل حين يحدث، لا يتم بشكل حقيقي.
"إنه يغادرنا في العاشرة مساء بعد أن يمكث معنا ساعة أو بعض ساعة إلى مجلسه، أو يحضر أصدقاؤه لاصطحابه، واعدين إياه بجلسة من الأنس لم يسبق أن رأى مثلها. ثم لا يراه أحد بعد ذلك إلا عند التشطيب وأحيانًا لا يحضر بالمرة وتأبى أريحيته إلا أن يرسل في طلبنا لإكمال السهرة معه خاصة إذا كان هناك فرح. فيسر العمال لذلك ويشاركونه الأنفاس، وأقنع أنا بمراقبتهم. وإن كان تسلل الدخان إلى أنفي يخدر أعصابي وبسعادة أن أنهل من رقص غازيات الفرح، ومحاولة تعريتهن في خيالي".
ما الذي يدل أيضًا على واقعة القتل؟ .. الحلم بالشر أو بماهية الاعتصار:
"رأيت فيما يرى النائم أني أعصر على العصارة، اعتراني سرور لبعدي عن البنك المواجه للمارة. بينما أعصر تحولت يداي إلى عيدان من القصب، دخلت بين اسطوانتي العصارة. تدفق الدم غزيرًا لطخ العصارة كلها. نظرت في الخارج فإذا السماء تمطر عصير قصب وتمر هندي. حولت بصري إلى العصارة فوجدت عجبًا. وجدت عمودي العصارة قد تحوّل أحدهما إلى رأس ثور خطير، والآخر إلى حمار بليد. الثور ينظر إليّ في شراهة، يريد أن يلتهمني، وقد فغر فاه يلوك أشياء غريبة .. قطع حديد صدئة، عقلة قصب، نقود فضية، وورق سجائر مفضفض، وأشياء أخرى لم أستطع تذكرها عندما أفقت من النوم. أما الحمار فكان ينظر إليّ في غباء وهو يمضغ الزعازيع. فجأة وجدت كلا منهما يهم بافتراسي. حاولت الجري فلم أستطع. اكتشفت بعد أن تملكني الذعر أن أصابع قدمي مثبتة في قاعدة العصارة بمسامير قلاووظ. اقترب الرأسان مني، في كل ثانية يتغير رسمهما إلى حيوانات غريبة شاذة لم أرها من قبل، أبرز صفاتها الوحشية والبشاعة، أنيابها طويلة، يسيل من أفواهها لعاب مقزز، أعينها مغلفة بالقذارة، لها قدرة فذة على الفتك والالتهام".
إنها مشاهدة الحياة نفسها، والجسد كخليط ممسوخ، متغيّر الملامح، من المهانة الخاضعة والشبق العاصف، يمزق الباطن، وينبغي توجيه انتقامه نحو الهدف الصحيح.
"وتذكرت بسرعة غرامنا أنا وزملائي الطلبة بفتاة الكيس في أجزاخانة ميدان المحطة. كنا نمر أمامها يوميًا، نحاول مغازلتها بشتى الطرق . هذا مفضلًا عينيها الخضراوين .. وهذا مطريًا جمال صدرها النافر .. وكل منا يظن أنها تنظر له دون سواه. وبعضنا كان يفضل فتاة الكيس في محل بنزايون، معتبرًا إياها أكثر رشاقة. وكنت كلما قابلت صديقًا لي، وجاءت سيرة الفتيات، تطرق الحديث إلى فتيات الكيس، وكيف أن كثيرين منا يحاولون الوصال. وكان دائمًا يدور همس عن علاقات غريبة بينهن وبين شخصيات مجهولة .. فتيات الكيس كن باستمرار حديث شباب المدينة".
ما هي أداة القتل؟ .. إنها القصة التي تتنفس وراء ضجيج وصمت الشوارع والدكاكين والبيوت .. التي تذيب القشور التضليلية عن الذوات المعطّلة .. التي تبوح بالعلامات المنقذة في صدوع المدينة التي تركها موت الأسلاف .. القصة التي تُخمد الألم في ذاكرة فوزي، وتمنحه توحدًا خارقًا بالغرباء، وتحوّل الغضب المتحسّر إلى ضوء كوني مهيمن على الزمن.
"أين ذهب هؤلاء الناس؟ .. نائمون .. مضاجعون لزوجاتهم ... صائدون للنساء ... ومدبرون لمكائد .. ولاح لعيني نور مصباح وردي خافت، يشع من شباك بعيد".
ما هي كيفية القتل؟ .. إنها تمرير ضمني بوجود القصة حقًا .. إيحاء بهذا الوجود للآخرين .. مطالبتهم على نحو مستتر بالإفصاح عن خطاباتهم المتوارية حولها .. إما أن يعثر فوزي على القصة بواسطة شخص أنجز الأمر بالفعل، أي نجح في التسلل إلى مركز المتاهة التي تنتشر دهاليزها وأقبيتها أسفل العِمارة المعلنة .. أو يتمكن من توقع القادر على إيجاد القصة كروح مفقودة لا تخص فوزي فقط، بل تنتمي أيضًا إلى ذلك الذي تمكن من استخراجها بعد دفن طويل .. أو يدفع الذين ربما بوسعهم هذا لتجميع أشلاء القصة من ذاكرته، والمقت المتصاعد، وفكرة الحياة والموت كخام للجحيم.
يجدر بالقصة أن تقتل الشبح، أو ربما قتلته بالفعل في ماضِ ما لم يحس به أحد، أو تنتظر فقط العوامل الملائمة لذلك .. القتل الذي لا يميت الشبح، وإنما يعيد بعثه على نحو مغاير .. إحياء مختلف لواقعيته .. تحصين كاشف لطبيعته اللازمنية .. القتل الذي يجعله ضامنًا لحصول الموجودات على الانسجام بين ما هو أزلي وأبدي، بنقاء تام من الألم .. الذي يحوّل رموزه وطلاسمه إلى أداءات عفوية لا تختل لاسترداد الموتى .. الذي تصبح الأجساد والأماكن على إثره أحلامًا لصيرورة من المرح المتوالد، المجرّد كليًا من العمى.
تحدث واقعة القتل كل لحظة داخل لاشعور فوزي .. تتكرر بشغف غير مستوعب .. الكل يؤدي المهمة داخل ذاته، لذا ثمة انتحار يتم ـ منطقيًا ـ كل لحظة دون أن يترك جثة ملموسة .. القتل الخيالي الذي جعل من "شارع الخلا" ستارًا أو شفرة من الأوراق الصفراء الخشنة والسطور الباهتة، المختفية أحيانًا، والسطور المكتوبة بخط اليد، والكلمات المطبوعة، متفاوتة الوضوح، والرائحة الوعرة، الثقيلة، لزمن قديم يتوارى سر حي داخلها .. القتل الخيالي الذي جعل الرواية مخطوطة أثرية، أي وثيقة عتيقة عن بداية العالم، وليس عن جذور الشقاء الاجتماعي لفوزي فحسب.
المشهد السردي في الدقهلية ودمياط واختلاف المكان
مؤتمر النقابة الفرعية لاتحاد الكتاب فرع الدقهلية ودمياط .

الاثنين، 6 يناير 2020

سيرة الاختباء (7)

لماذا لم تعتذر ـ ببساطة ـ عن الإجابة حينما سألتك إحدى القارئات في ندوة نادي أدب رامتان عام 2017 عن الكيفية التي كتبت بها قصة "الغيب" من مجموعة "هفوات صغيرة لمغيّر العالم"؟ .. هل لأنك لابد أن تجبر نفسك على منح الإرضاء المطلوب للغرباء كما تعوّدت دائمًا، خاصة في لحظة تبدو ودودة ظاهريًا؟ .. هل لأنك كنت ترجو مثل كل مرة، وبالتناقض مع ما تؤمن به، أن تساهم إجابتك في خلق علاقة مثالية ـ حتى في طابعها العدائي ـ بين قصتك وقارئها؟ .. هل لأن الكتابة موضع الاستفهام تحوّلت تلقائيًا إلى "كلام" ينبغي أن يؤكد موضوعه، ويدافع عنه بمجرد قبولك لدعوة المناقشة، وحضورك كشخص يمكن استيعابه حسيًا؟.
تعرف جيدًا أن هذا القبول النادر لدعوات المناقشة لا يستهدف أكثر من مساعدة كتابك على الخطو لأبعد مدى قرائي ممكن حيث تتسع إمكانية اللقاء بالقارئ المحتمل، فضلًا عن الحصول على وجاهة شكلية جديدة، تكمن ـ كما تظهرها صور إثبات التفوق ـ في كاتب يجلس وراء منصة ما، وأمامه جماعة من قراء يحملون نسخًا من كتابه، ولذة ثقافية جادة ترتسم على الوجوه .. الغاية التي تعرف أيضًا أنها سترتعش، وتمعن في الشحوب حتى تتبدد أمام الجزاء المتوقع الذي يلخصه هذا السؤال: كيف كتبت قصة "الغيب"؟.
تعود إلى البيت مترنحًا برد فعلك القانط، الذي بدأ بصمت متحيّر، ومر باختيار أحد مسارات التفسير القاصرة جميعها، وانتهى بكومة متضخمة من الآثام التي ظلت تتراكم مع كل محاولة لاستدراك الأمر .. يعرف اليأس كيف يسترد توازنه حينما تكتب تلك القصة القصيرة التي ـ وفقًا لكلماتها ـ "توثّق اعترافك من جهة، وتطهّر القصة الأصلية من جانب آخر" ..  كأنك ترسل من داخل عزلتك ما يشبه نداء استغاثة، يعيد التذكير برجاء دوستويفسكي: "قد يكون في أعماق المرء ما لا يمكن نبشه بالثرثرة، إياك أن تعتقد أنك تفهمني لمجرد أنني تحدثت إليك".
لم تكن إذن كلمات مايلز في فيلم  Sideways عن ما تم الاعتياد على تسميته بـ "الاعتراف الأدبي" فحسب: "لقد انتهيت .. أنا لست كاتبًا، أنا مجرد أستاذ لغة انجليزية للإعدادي .. العالم لا يهتم البتة بما لدي لأقوله .. وجودي ليس ضروريًا .. أنا تافه لدرجة أنني لا أستطيع حتى أن أقتل نفسي .. لقد انتهى نصف حياتي، وليس لدي شيء يعبر عنه، لا شيء" .. إنها كلمات تخص حياة مايلز نفسها أيضًا .. علاقته بهذه الرواية قبل علاقة الآخرين بها .. تخص موضوع روايته الذي تلمّح له بعض كلمات الرسالة الصوتية لـ "مايا" في نهاية الفيلم: "هل حقًا مررت بكل هذا؟ .. لابد أن هذا كان مريعًا .. وشخصية الأخت، يا إلهي، يالها من مدمرة .. هل ارتكب الأب الانتحار أم لا؟ .. إن هذا يقودني إلى الجنون".
إنه الفراغ الغامض والمقبض بين نص وآخر، أو ما يمكن تسميته بالوعي الثابت بالخذلان المبهم الذي يكمن دائمًا في المسافة بين الانتهاء من كتابة والبدء في كتابة أخرى .. المسافة التي يشعر خلالها الكاتب نفسه أحيانًا بالرغبة القهرية في تحويل "النص" إلى "كلام" كأنما يحاول بعماء متحسّر أن يملأ الفجوات المحتملة بين الكتابة والعالم المتمثل في "قرّاء" .. الكفاح العفوي المؤقت، وحتى الشروع في نص جديد، لمجابهة الإدراك المهيمن بأن ثمة أمرًا لم يكتمل بعد .. المجابهة التي لا تتوقف أبدًا عن مضاعفة الأمور غير المكتملة.
موقع "الكتابة" ـ 5 يناير 2020

السبت، 4 يناير 2020

دكتور باركمان ومستر ويبستر

الأصل الواقعي لرواية "القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد"
أقدم في هذا المقال عرضًا مختصرًا لدراستي التي تصدر قريبًا حول الأصل الواقعي لرواية "القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد" لروبرت لويس ستيفنسون، والذي يتناول بعضًا من الأسس التي قامت عليها، أما الدراسة نفسها فقد اشتملت على استقصاء دقيق لحياة ستيفنسون، وملابسات كتابة كل عمل من أعماله، وكل ما تم توثيقه حول أحلام ستيفنسون عن هذه الرواية، وعلاقة زوجته الأمريكية بمسودتها، وجميع العوامل التي أحاطت بكتابتها عام  1885وكذلك كل ما يتعلق بقضية مقتل دكتور باركمان على يد صديقه دكتور ويبستر عام 1849 بكلية الطب جامعة هارفارد في مدينة بوسطن الأمريكية.
منذ صدورها عام 1886 نُسبت إلى رواية "الحالة الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد" خلفيات واقعية عديدة، وتحديدًا الشخصية الحقيقية التي كانت مصدر إلهام روبرت لويس ستيفنسون لتحويلها إلى شخصية دكتور جيكل: ديكون برودي، العضو المحترم في مجلس مدينة إدنبرة، السارق ليلاً، والذي تم القبض عليه وشنقه .. يوجين شانتريل المعلم الفرنسي الذي أدين وأعدم بتهمة قتل زوجته بالسم .. جون هنتر الجرّاح الاسكتنلدي الذي يُشار إلى منزله أحيانًا كالبيت نفسه الذي كان لدكتور جيكل في الرواية.
لكن الدراسة التي أقدم عرضًا مختصرًا لها تطرح أصلًا واقعيًا لا يعتمد على التقارب الجزئي مثل الاحتمالات السابقة، وإنما على التماثل الشامل، أو ما يشبه المطابقة الكلية بين الرواية وقضية (باركمان ـ ويبستر) .. خلفية حقيقية تتضمن كل شيء: الشخصيات وماضيها وعلاقاتها، وأداءاتها الجسدية، وكذلك الأماكن والأحداث والتصاعد الدرامي والعناصر المادية وطبيعة المجتمع.
كان الدكتور جورج باركمان (
1790ـ 1849) والدكتور جون ويبستر (1793 ـ 1850) متشابهين في نواح عديدة .. كانا صديقين منذ الطفولة، وزميلي دراسة في المرحلة الجامعية .. كان باركمان طبيبًا للأمراض النفسية والعقلية، اعتزل الطب، وتفرغ لإدارة أملاكه الموروثة، كما كان مُحسنًا معروفًا، وخصص تبرعات لمساعدة المرضى النفسيين وتوفير سُبل ملائمة للعناية بهم، ومن ضمن ما كان يتحدث به وفقًا لدراسته للأمراض العقلية والنفسية أن أي شخص مهما كانت طباعه الودودة، المسالمة، يستطيع أن يرتكب فجأة أكثر الأفعال فظاعة، وهذه العبارة التي تم تداولها بعد مقتله باعتبارها كانت بمثابة نبوءة للطريقة التي سيُقتل بها؛ تعد تلخيصًا لحالة دكتور جيكل .. أما ويبستر فكان أستاذًا للكيمياء بكلية الطب، جامعة هارفارد بمدينة بوسطن الأمريكية، وخبيرًا في التشريح، وكان بارعًا في مهنته، وصاحب فضول علمي كبير، ولكنه كان يعاني من المشكلات المادية وتراكم الديون بسبب حرصه على حياة الرفاهية لعائلته، والتي
كانت تفوق إمكانياته، فضلًا عن الإنفاق على ما تتطلبه تجاربه وأبحاثه العلمية .. نستطيع القول أن روبرت لويس ستيفنسون قد خلق شخصية دكتور جيكل كمزيج من الشخصيتين: الطب .. تخصص الكيمياء .. المعرفة بالطب النفسي وعلم التشريح .. الثراء الذي يرجع لأصول عائلية .. المكانة المرموقة والسمعة الطيبة .. الاستضافة الحميمة للأصدقاء في حفلات العشاء .. الإحسان للآخرين .. التحوّل من "الخير" إلى "الشر" .... نستطيع القول أن جورج باركمان وجون ويبستر كانا شخصًا واحدًا اسمه دكتور جيكل.
سافر روبرت لويس ستيفنسون (1850ـ 1894) إلى أمريكا عام 1877 من أجل الزواج بحبيبته الأمريكية التي كانت على وشك إتمام إجراءات طلاقها .. لم يكن ستيفنسون بحاجة إلى هذه الرحلة كي يتعرّف على قضية "باركمان ـ ويبستر" إذ أن تفاصيلها كانت منتشرة في العالم كله، وأصبحت من المراجع القانونية المعروفة والهامة خصوصًا في علم الأدلة الجنائية، وكان من السهل على ستيفنسون الاطلاع عليها أثناء دراسته للقانون، لكن هذه الرحلة قد ساهمت بالتأكيد في دعم هذه المعرفة.
في السطور التالية طرح موجز لبعض تفاصيل هذه القضية الشهيرة التي استخدمها روبرت لويس ستيفنسون في كتابة رواية "القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد".
المكان
تقع حجرة مكتب ومعمل دكتور جيكل في الرواية في طابق علوي حيث توجد سلالم يقود إليها ممر أو فناء مغلق بالباب الخلفي للمنزل، والذي كان مخصصًا لعبور "هايد" بعكس الباب الأمامي، وهذه الغرفة ملحقة بقاعة تشريح قديمة .. كان مكتب ومعمل دكتور ويبستر في كلية الطب ـ حيث حدثت جريمة القتل ـ في طابق علوي إذ كانت توجد سلالم يقود إليها ممر أو فناء الكلية والتي استخدم ويبستر بابها الخلفي بحسب رؤية الشاهد الأساسي في القضية بعد تنفيذ الجريمة، وكان لهذا المعمل باب خلفي يتيح له ـ أي دكتور ويبستر ــ الدخول والخروج من المعمل، كما كان ملحقا أيضًا بغرفة تشريح مثل معمل دكتور جيكل.
اللعب بالاختفاء
أخبر دكتور جيكل  صديقه ومحاميه "أترسون" في وصيته بأن ثروته تؤول في حالة "اختفائه" إلى مستر هايد، وكانت كلمة "الاختفاء" هذه غامضة تمامًا بالنسبة للمحامي، وظل طوال الرواية غير قادر على فهم معناها، كما أنها تكررت مع الطبيب لانيون الصديق المشترك لجيكل والمحامي، وكان الدكتور جيكل يقصد بذلك أن يضمن احتفاظه بما يملك إذا ما فقد القدرة على العودة إلى شخصيته المعروفة، وتحتم عليه العيش للأبد بشخصيته الأخرى "هايد" .. في نهاية الرواية أيضًا حينما تم فتح باب المختبر وجد الخادم والمحامي جثة هايد، بينما كان جيكل مختفيًا، وظلا يبحثان عن جثته التي قررا أن هايد قد أخفاها في مكان سري .. ولهذا ففعل الاختفاء من ضمن الركائز الأساسية التي قامت عليها الرواية .. في قضية (باركمان ـ ويبستر) لم يتم اكتشاف الجريمة على الفور، بل كان هناك "اختفاء" لشخصية جورج باركمان لأن جون ويبستر قد أخفى جثته بعد قتله .. أثار اختفاء باركمان حيرة بالغة لدى الجميع، وأعلنت عائلته عن مكافأة مالية لمن يعثر عليه، كما لم تتوقف الشرطة عن البحث حتى اكتشاف بقايا الجثة .. هنا كان جيكل هو باركمان الذي يختفي لصالح ظهور هايد / ويبستر، وقد تم إخفاء جيكل بفعل هايد مثلما تم إخفاء باركمان بفعل ويبستر، كما أن اختفاء جيكل كان مقترنًا بتأكد لدى المحيطين به من أنه يرجع إلى أن هايد قد قام بقتله، بالضبط مثلما اكتشف الجميع أن ويبستر قد قام بقتل باركمان.
مراقبة الخادم
في الرواية وقبل اكتشاف حقيقة دكتور جيكل ومستر هايد؛ راقب خادم دكتور جيكل المدعو بول سيده، وتابع أصواته، وكذلك خطواته المتوترة التي تروح وتجيء، الصادرة من وراء الباب المغلق للمعمل من أجل اكتشاف الحقيقة، خاصة أن المدة التي أغلق فيها دكتور جيكل باب المعمل على نفسه كانت كبيرة، وكان لديه شك يرتقي لمرتبة اليقين في أن مستر هايد قد قتل دكتور جيكل وأنه اتخذ حجرة المعمل بدلا منه .. نفس الأمر كان يفعله تمامًا خادم كلية الطب المدعو ليتليفيلد الذي كان لديه شك أيضًا يرتقي لمرتبة اليقين في أن دكتور ويبستر قد قتل دكتور باركمان، وكان أيضًا يقوم بالتصنت على ويبستر بعدما انتبه إلى أنه يغلق باب المعمل على نفسه لفترات طويلة بعد اختفاء دكتور باركمان، وكان يراقب خطواته المتوترة التي تروح وتجيء داخل المعمل، ويحاول التقاط الإشارات الغريبة الصادرة من وراء الباب المغلق .. علينا هنا أن نقارن أيضًا بين مشهدين: في الرواية وأثناء اختفاء دكتور جيكل داخل معمله كان من ضمن الدوافع عند الخادم لمراقبة سيده هو أن الخادم رأى دكتور جيكل أسفل سلالم المعمل في هيئة غير معتادة، أي أنه أصبح قصيرًا ونحيلًا وذابلًا، بمعنى آخر كان متحولًا إلى هايد، وحينما رأى الخادم أسرع مذعورًا بالصعود إلى المعمل وأغلق الباب .. في كلية الطب وكما جاء في أقوال خادم الكلية أنه في ليلة اختفاء دكتور باركمان؛ رأى دكتور ويبستر يخرج من الباب الخلفي للكلية، وحينما رآه شعر بالارتباك وأسرع بالهروب من أمامه مثلما فعل دكتور جيكل عند رؤية خادمه.
أداة القتل
كانت جريمة القتل في رواية القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد هي مقتل السير دانفرز كارو على يد مستر هايد بواسطة الضرب بعصا خشبية فوق الرأس، وهي نفس الأداة التي استخدمها دكتور جون ويبستر في قتل دكتور جورج باركمان داخل مختبره بكلية الطب.
مكتشف الجريمة
في الرواية كان الخادم هو من اكتشف عدم وجود دكتور جيكل وحضور مستر هايد وراء باب المختبر المغلق، وهو ما دفعه لاستنتاج أن مستر هايد قد قام بقتل دكتور جيكل، وأخفى جثته في مكان ما، وهو ما جعله أيضًا يسرع إلى المحامي أترسون صديق دكتور جيكل لإبلاغه بالجريمة ثم في النهاية قاما بطلب الشرطة .. كان خادم كلية الطب هو أيضًا من اكتشف الجريمة بعدما لاحظ السلوك الغريب لدكتور ويبستر، وكذلك الشواهد الأخرى التي أثارت ارتيابه، الأمر الذي جعله يشك بقوة في أن دكتور ويبستر هو من قتل دكتور باركمان، وأخفى جثته في مكان ما، وعلى هذا قام بالحفر تحت المختبر، واكتشف بقايا جثة باركمان التي قام دكتور ويبستر بتقطيعها وإحراق بعض من أجزائها ثم أسرع بإبلاغ الشرطة عما وجده.
الوصول إلى الجثة
في الرواية والقضية كانت الجثة وراء حاجز مغلق استدعى معه الأمر القيام بهدم / كسر لباب / حائط، وهو نتيجة منطقية لـ "الاختفاء" السابق في الحالتين، ويأتي ذلك بعد عبور ممر ما، وحمل مصدر إضاءة .. جيكل وراء باب معمله المغلق حيث اضطر الخادم لاستعمال الفأس من أجل كسر الباب حتى يصل إليه بعد اجتياز الممشى بين سلم المعمل والفناء حاملًا شمعدان .. باركمان وراء جدار تحت معمل ويبستر المغلق حيث اضطر خادم كلية الطب لهدم جزء من الجدار حتى يعبر إليه بعد اجتياز قبو حاملًا فانوس .. هنا علينا أيضًا أن نتذكر أن الخادم بول أعطى احتمالًا في حديثه للمحامي أترسون أثناء بحثهما عن جثة دكتور جيكل بأن يكون هايد قد دفنها أسفل الممر الذي يقود للمعمل، ولو رجعنا لقضية كلية الطب لوجدنا أن دكتور ويبستر قد أخفى بقايا جثة دكتور باركمان داخل قبو أسفل المعمل الخاص به.
توظيف الخطابات
سيلاحظ قارئ رواية القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد أن الخطابات تمثل أهمية رئيسية في الرواية، وهنا أتحدث تحديدًا عن الخطابات المرسلة من دكتور جيكل لصديقه المحامي أترسون، والتي تلائم حالة الاختفاء وعدم الرغبة في المواجهة، كما أنها تنقسم بين الوصية والتبرؤ والاعتراف .. في قضية مقتل دكتور باركمان كان هناك وجود للخطابات المرسلة من دكتور ويبستر وهو داخل السجن إلى المحامين والأصدقاء وعائلته .. هذه الخطابات انقسمت بين التحدث عن نشأته وحياته العائلية والأوضاع المالية لأسرته، وأيضًا اعترافه في النهاية بقتل دكتور باركمان .. في الخطابات التي أرسلها دكتور جيكل لصديقه المحامي أترسون حكى له أيضًا عن نشأته وشبابه مستعرضًا حياته بشكل كامل قبل أن يعترف بحقيقة مستر هايد .. من الجدير بالانتباه أيضًا أن هناك رسالة ادّعى جيكل للمحامي أترسون أن هايد قد بعث بها إليه كي يخبره بأنه لن يسبب له القلق بعد ذلك، لأنه هرب إلى خارج المدينة ولن يعود ثانية، ولكن تم اكتشاف بواسطة تشريح خط اليد أن هذا الخطاب مكتوب بيد دكتور جيكل وقصد به حماية هايد، وهذا يقودنا إلى أن هناك خطابات تم إرسالها إلى الشرطة من أشخاص مجهولين يدعون فيها أنهم شاهدوا دكتور باركمان في أماكن مختلفة بما يعني أنه لا يزال حيًا، ثم تم اكتشاف ـ بتشريح خط اليد أيضًا ـ أن هذه الخطابات مكتوبة بخط ويبستر كي يُبعد الشبهة عن نفسه حينما اختفى دكتور باركمان وبدأ الجميع في البحث عنه .. إذن في الحالتين كان هناك استغلال للخطابات في محاولة إنقاذ هايد / ويبستر، وفي الحالتين يتم اكتشاف هذا الاستغلال وبنفس الطريقة.
الفرق التشريحي
كان جيكل رجلًا طويلًا، متين البنية، بينا كان هايد أشبه بالقزم، ولو عدنا إلى ملفات القضية سنجد أن ثمة فرقًا تشريحيًا مشابهًا بين دكتور باركمان ودكتور ويبستر؛ إذ أن باركمان كان أكثر طولًا بكثير من ويبستر، كما أن وصف "بول" خادم دكتور جيكل للفرق بين بنية سيده ومستر هايد تم في إطار استنتاجه لوجود جريمة قتل لم يتأكد منها بعد، كأنما يعطى وصفًا تشريحيًا عن أن الرجل القصير (تخلص من الرجل الطويل وأخفى جثته)، وهذا معادل لما فعله ويبستر تمامًا في دكتور باركمان بعدما قتله وقطّع جثته وأخفاها، هذا بالإضافة إلى أن جميع الشخصيات كانت في مرحلة الخمسينيات من العمر.
استعمال الانتحار والشنق
في نهاية الرواية يتحدث دكتور جيكل في اعترافه المكتوب لصديقه المحامي أترسون عن طريقين محتومين لمصيره: الانتحار أو المشنقة .. في قضية مقتل دكتور باركمان حاول دكتور ويبستر / هايد بعد القبض عليه الانتحار "بنفس الطريقة"، ولكن تم إنقاذه قبل أن ينتهي مصيره إلى المشنقة؛ أي أن روبرت لويس ستيفنسون قد جمع بين النهايتين: التي حدثت بالفعل، والأخرى التي لم تكتمل.
النزوات المشتركة
يجتمع في شخصيتي دكتور جيكل ودكتور ويبستر ممارستهما في مرحلة الشباب لما يمكن تسميته بـ "الطيش الشبابي" وهذا ما ترك لديهما أثرًا بعد ذلك، يتمثل عند جيكل في الرغبة في التحرر من المحظورات بعد سن الخمسين، والخروج عن التقاليد والقوانين بمختلف أشكالها، وعند ويبستر في تصرفات مستهترة وخطيرة، تكشف عن رغبة مماثلة، كالاستخدام المبالغ فيه للألعاب النارية في أحد الاحتفالات الأمر الذي أدى لتوجيه تحذيرات من إدارة الكلية له، وكذلك قتل جرو في واحدة من التجارب أثناء شرح درس ما في محاضرة أمام الطلاب على سبيل المثال.
قي مقابل أن هذا الكشف يحدد أصلا واقعيًا يتضمن جميع عناصر الرواية، بل والكيفية التي كوّنت الأحداث وتصاعدها حتى النهاية؛ لم تخرج الافتراضات السابقة عن الإشارة إلى عنصر واحد يحمل تشابهًا ما مع أحد معطيات الرواية، وهو بهذا من شأنه أن يقدم إفادات عديدة عن الكيفية التي يستلهم بها الكاتب حدثًا واقعيًا لإنتاج عمل خيالي سواء بالنسبة لروبرت لويس ستيفنسون وذاكرته الإبداعية أو بشكل عام، وأيضًا حول الطريقة التي تلقي بها الرؤية الفنية ضوءًا تفسيريًا على جريمة تاريخية، أو استثمارها لتناول موضوع فلسفي أو مسألة وجودية خاصة فيما يتعلق بالتساؤلات الممكنة حول السلطة والعلم والأخلاق والجسد والازدواجية والمجتمع والغرائز.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 5 يناير 2020