الأربعاء، 8 يناير 2020

"شارع الخلا" لفؤاد حجازي: ضوء خافت من شباك بعيد

هناك واقعة قتل في رواية "شارع الخلا" .. واقعة قتل لم تظهرها الرواية .. يمكننا القول أن "شارع الخلا" هي ستار سردي لهذه الواقعة، أو من ناحية أخرى شفرة لاكتشافها.
"بعد منعطف سوق الحدادين بقليل يتقاطع شارعي الخلا والعباسي، وفي الزاوية اليسرى لهذا التقاطع يقع محلنا الشريف".
ما الذي يدل على وجود هذا القتل؟ .. نسخة الرواية نفسها: الأوراق الصفراء الخشنة .. السطور الباهتة التي يتفاقم شحوبها في مواضع شتى لدرجة الاختفاء .. الكلمات المكتوبة بخط اليد داخل المتن المترنح .. تدرجات وضوح الكلمات المطبوعة .. رائحة زمن قديم، يتوارى سر حي داخل وعورتها الثقيلة .. نحن إزاء ما يشبه مخطوطة إذن أكثر منها رواية مطبوعة بشكل تقليدي، ولا أقصد هنا "مخطوط رواية" بل مخطوطة أثرية، أي وثيقة عتيقة، مكوّنها المادي جزء أصيل مما تخبئه لغتها.
"فالشارع منطقة تتركز فيها محلات البقالة والعطارة والجزارة، والشارع يؤدي إلى منطقة المدارس على شاطئ النيل، أو كما يسميه أهل مدينتنا شارع البحر".
لنناقش خيوط الواقعة التي لم تعلنها الرواية: من هو القاتل؟ .. يسهل القول أنه "فوزي" مثلما يسهل القول أن المقتول هو المعلم "بدير" أو "حندق" مثلًا، ولكن الأمر ليس كذلك .. إن "فوزي" هو مدبّر القتل وفقًا لركائز أساسية عدة: التمازجات الغامضة دائمة التبدّل بين الشوارع والدكاكين والبيوت .. الشخصيات التي يعرفها فوزي ويتحرك بينها وتدور من حوله .. المدينة كفضاء شامل .. ذاكرة فوزي .. البشر الذين لا يدري عنهم شيئًا ولكنهم يعيشون في تخيلاته .. الواقع الشخصي لفوزي كفرد وحيد ينطوي داخل انعزال معتم من الغضب المتحسّر والمتزايد .. التاريخ الغيبي الذي يقبض على ماضي المدينة، ويسكن خفائها.
"والمقاهي تنتشر على طول الشارع، فالتي تقع أول الشارع جهة النيل يرتادها الأفندية والموظفون وزوار المدينة ونزلاء الفنادق الفخمة في هذه الناحية، وتقع المقاهي البلدية بالقرب منا، يؤمها الباعة الجائلون وحوذية الكارو والحدادين وطوائف النجارين ومبيضو النحاس والفلاحون وأولاد البلد وتجار المخدرات وصبيانهم".
فوزي هو مدبّر القتل على نحو يجعله يتخطى أن يكون قاتلًا عاديًا .. ذلك لأن القتل الذي خطط له لا يتخذ نسقًا محددًا بل يتوزع إلى مسارات مختلفة، تضمر في حقيقتها نوعًا من التماثل، أو يمكن اعتبار أنها تمتلك تطابقها الخاص: نسق استكشافي؛ أي رغبة فوزي في التوصّل إلى قتل معيّن تم بالفعل ولديه ارتباط بالأماكن التي تمزج بينها خطواته، وبالمدينة ككل .. نسق استشرافي؛ أي التنبؤ بهذا القتل، والحدس بأطرافه وملابساته من خلال الشخصيات الثابتة التي تحاصر فوزي، وكذلك البشر المجهولين بالنسبة له .. نسق تحريضي؛ أي أن يقود فوزي بصورة مبهمة شخصًا أو جماعة بشرية لتنفيذ هذا القتل بحيث تجسّد عناصره التداخل الملتبس بين ذاكرة فوزي، وكراهيته الحاضرة، وبدائية العالم التي خلقت المدينة، وما زالت محتجبة وراء وأسفل جدرانها.
"استمر أبو جبل:
ـ الشارع كان زمان أحسن شارع في البلد .. أمال .. التفاح اللي على أصوله .. الفواكه اللي عمرها ما تنزل البر تلاقيها موجودة هنا .. دكاكين وورد .. أنوار .. شارع سهران طول الليل .. شارع ما ينامش وأولاد الحظ كتير.
ـ لكن سموه ليه شارع الخلا؟
ـ معاك حق .. لأن الشارع كان حدود المنصورة .. طوّل بالك عليّه...
وأشار بيده إلى جامع الكناني:
 ـ كل دا كان فضا .. كله كان خلا .. والعمار بدأ هنا .. كله كان جنب الشارع يعتبر خلا .. أي شارع جنب شارعنا لازم يكون خلا".
ما الذي يدل أيضًا على واقعة القتل؟ .. الرصد التشريحي للأيدي:
"وكنت في جلستي هذه أستطيع أن أخمن مهنة الرجل، وأحيانًا جنسيته إن كان فلاحًا أو بندريًا، من مجرد مطالعة يده، أو حتى رؤية أصابعه، فأيدي صبية العمال القادمين من سوق الحدادين، ملطخة بسواد ثقيل، جعل فوق ظهورها طبقات من الوسخ، اكتسبت صفة الأصالة، ولا يؤثر فيها الاغتسال. أيدي الفسخانية والسماكين، تعلق بها قشور الأسماك. والفرق بين هذه وتلك أن أيدي السمًاك مبتلة ورطبة، وكأنها مبطرخة في حين إن الأخرى جافة حتى ولو كانت مبلولة، كالصدأ، وأنا أعرف هذه الأيدي من رائحتها الزفرة دون النظر إليها. أما أيدي المدرسات وأصحاب المهن التعليمية فعليها بقع الحبر الأحمر والأزرق بخلاف كتبة المحاكم وموظفي الحكومة، على أيديهم بقع الكوبيا. أما أيدي الفلاحين فهي غليظة خشنة يكفي إصبع منها لتفصيل ثلاثة من أصابع أي ممرضة، تنفذ إلى أنفك من أياديهن رائحة الكحول وصبغة اليود، وكأن هذه المطهرات تبري أصابعهن فتبدو رفيعة دائمًا. وكنت أستطيع أحيانًا أن أعرف هواية صاحب اليد، فالرسامون والخطاطون أصابعهم طويلة نحيلة فضلًا عن أصباغها الخاصة. أما يد المقامر فهي متشنجة عصبية تلح في طلب الماركة بسرعة ولا صبر لها. أما أيدي الأفيونجية والحشاشين فهي نحيلة محروّقة، مقوسة كأذرع (أبو جلمبو) أحيانًا تلح لإجابة طلبها بسرعة وأحيانًا تصبر وتفضّل غيرها عليها".
إنه أقرب لتفحص البصمات المختلفة، التي ستكسب واقعة القتل هويات بشرية ومكانية عديدة، ومتواطئة فيما بينها.
"عرجت على شارع جامع القهوجي المؤدي إلى شارع الخلا. وشارع جامع القهوجي يتفرع من منتصفه إلى شارعين، يستمر أحدهما حاملًا نفس الاسم، يتوجه إلى جامع الكناني عند التقائه بشارع العباسي، والفرع الآخر يسمى شارع سيدي عبد القادر يتقاطع أيضًا مع شارع العباسي، وامتداده يسمى شارع سيدي ياسين والمعروف عند الناس بشارع الخلا".
من هو المقتول؟ .. هو كائن لا يعرفه فوزي، ولكنه يشعر به كشبح، أو متناثرًا في أشباح لانهائية مختفية داخل المدينة .. كائن واقعي، ولكنه لازمني في الوقت نفسه، يدمج بين كل ما هو أزلي وأبدي في تناغم لا يمكن إدراكه .. يستعمل الموجودات كرموز وطلاسم مخادعة، تثبّت حضوره، وتؤكد أيضًا التمنّع الدائم لهذا الحضور ومراوغته .. لهذا فهو لا يعيش داخل أماكن مألوفة فحسب، بل يمر كذلك عبر الأجساد المتعاقبة داخل هذه الأماكن .. كائن يفرض عماءًا كليًا وراسخًا في عيني فوزي .. هذا العماء هو الدافع لتدبير القتل .. القتل الذي يجعل القاتل مقتولًا بالضرورة، ولذلك فالقتل حين يحدث، لا يتم بشكل حقيقي.
"إنه يغادرنا في العاشرة مساء بعد أن يمكث معنا ساعة أو بعض ساعة إلى مجلسه، أو يحضر أصدقاؤه لاصطحابه، واعدين إياه بجلسة من الأنس لم يسبق أن رأى مثلها. ثم لا يراه أحد بعد ذلك إلا عند التشطيب وأحيانًا لا يحضر بالمرة وتأبى أريحيته إلا أن يرسل في طلبنا لإكمال السهرة معه خاصة إذا كان هناك فرح. فيسر العمال لذلك ويشاركونه الأنفاس، وأقنع أنا بمراقبتهم. وإن كان تسلل الدخان إلى أنفي يخدر أعصابي وبسعادة أن أنهل من رقص غازيات الفرح، ومحاولة تعريتهن في خيالي".
ما الذي يدل أيضًا على واقعة القتل؟ .. الحلم بالشر أو بماهية الاعتصار:
"رأيت فيما يرى النائم أني أعصر على العصارة، اعتراني سرور لبعدي عن البنك المواجه للمارة. بينما أعصر تحولت يداي إلى عيدان من القصب، دخلت بين اسطوانتي العصارة. تدفق الدم غزيرًا لطخ العصارة كلها. نظرت في الخارج فإذا السماء تمطر عصير قصب وتمر هندي. حولت بصري إلى العصارة فوجدت عجبًا. وجدت عمودي العصارة قد تحوّل أحدهما إلى رأس ثور خطير، والآخر إلى حمار بليد. الثور ينظر إليّ في شراهة، يريد أن يلتهمني، وقد فغر فاه يلوك أشياء غريبة .. قطع حديد صدئة، عقلة قصب، نقود فضية، وورق سجائر مفضفض، وأشياء أخرى لم أستطع تذكرها عندما أفقت من النوم. أما الحمار فكان ينظر إليّ في غباء وهو يمضغ الزعازيع. فجأة وجدت كلا منهما يهم بافتراسي. حاولت الجري فلم أستطع. اكتشفت بعد أن تملكني الذعر أن أصابع قدمي مثبتة في قاعدة العصارة بمسامير قلاووظ. اقترب الرأسان مني، في كل ثانية يتغير رسمهما إلى حيوانات غريبة شاذة لم أرها من قبل، أبرز صفاتها الوحشية والبشاعة، أنيابها طويلة، يسيل من أفواهها لعاب مقزز، أعينها مغلفة بالقذارة، لها قدرة فذة على الفتك والالتهام".
إنها مشاهدة الحياة نفسها، والجسد كخليط ممسوخ، متغيّر الملامح، من المهانة الخاضعة والشبق العاصف، يمزق الباطن، وينبغي توجيه انتقامه نحو الهدف الصحيح.
"وتذكرت بسرعة غرامنا أنا وزملائي الطلبة بفتاة الكيس في أجزاخانة ميدان المحطة. كنا نمر أمامها يوميًا، نحاول مغازلتها بشتى الطرق . هذا مفضلًا عينيها الخضراوين .. وهذا مطريًا جمال صدرها النافر .. وكل منا يظن أنها تنظر له دون سواه. وبعضنا كان يفضل فتاة الكيس في محل بنزايون، معتبرًا إياها أكثر رشاقة. وكنت كلما قابلت صديقًا لي، وجاءت سيرة الفتيات، تطرق الحديث إلى فتيات الكيس، وكيف أن كثيرين منا يحاولون الوصال. وكان دائمًا يدور همس عن علاقات غريبة بينهن وبين شخصيات مجهولة .. فتيات الكيس كن باستمرار حديث شباب المدينة".
ما هي أداة القتل؟ .. إنها القصة التي تتنفس وراء ضجيج وصمت الشوارع والدكاكين والبيوت .. التي تذيب القشور التضليلية عن الذوات المعطّلة .. التي تبوح بالعلامات المنقذة في صدوع المدينة التي تركها موت الأسلاف .. القصة التي تُخمد الألم في ذاكرة فوزي، وتمنحه توحدًا خارقًا بالغرباء، وتحوّل الغضب المتحسّر إلى ضوء كوني مهيمن على الزمن.
"أين ذهب هؤلاء الناس؟ .. نائمون .. مضاجعون لزوجاتهم ... صائدون للنساء ... ومدبرون لمكائد .. ولاح لعيني نور مصباح وردي خافت، يشع من شباك بعيد".
ما هي كيفية القتل؟ .. إنها تمرير ضمني بوجود القصة حقًا .. إيحاء بهذا الوجود للآخرين .. مطالبتهم على نحو مستتر بالإفصاح عن خطاباتهم المتوارية حولها .. إما أن يعثر فوزي على القصة بواسطة شخص أنجز الأمر بالفعل، أي نجح في التسلل إلى مركز المتاهة التي تنتشر دهاليزها وأقبيتها أسفل العِمارة المعلنة .. أو يتمكن من توقع القادر على إيجاد القصة كروح مفقودة لا تخص فوزي فقط، بل تنتمي أيضًا إلى ذلك الذي تمكن من استخراجها بعد دفن طويل .. أو يدفع الذين ربما بوسعهم هذا لتجميع أشلاء القصة من ذاكرته، والمقت المتصاعد، وفكرة الحياة والموت كخام للجحيم.
يجدر بالقصة أن تقتل الشبح، أو ربما قتلته بالفعل في ماضِ ما لم يحس به أحد، أو تنتظر فقط العوامل الملائمة لذلك .. القتل الذي لا يميت الشبح، وإنما يعيد بعثه على نحو مغاير .. إحياء مختلف لواقعيته .. تحصين كاشف لطبيعته اللازمنية .. القتل الذي يجعله ضامنًا لحصول الموجودات على الانسجام بين ما هو أزلي وأبدي، بنقاء تام من الألم .. الذي يحوّل رموزه وطلاسمه إلى أداءات عفوية لا تختل لاسترداد الموتى .. الذي تصبح الأجساد والأماكن على إثره أحلامًا لصيرورة من المرح المتوالد، المجرّد كليًا من العمى.
تحدث واقعة القتل كل لحظة داخل لاشعور فوزي .. تتكرر بشغف غير مستوعب .. الكل يؤدي المهمة داخل ذاته، لذا ثمة انتحار يتم ـ منطقيًا ـ كل لحظة دون أن يترك جثة ملموسة .. القتل الخيالي الذي جعل من "شارع الخلا" ستارًا أو شفرة من الأوراق الصفراء الخشنة والسطور الباهتة، المختفية أحيانًا، والسطور المكتوبة بخط اليد، والكلمات المطبوعة، متفاوتة الوضوح، والرائحة الوعرة، الثقيلة، لزمن قديم يتوارى سر حي داخلها .. القتل الخيالي الذي جعل الرواية مخطوطة أثرية، أي وثيقة عتيقة عن بداية العالم، وليس عن جذور الشقاء الاجتماعي لفوزي فحسب.
المشهد السردي في الدقهلية ودمياط واختلاف المكان
مؤتمر النقابة الفرعية لاتحاد الكتاب فرع الدقهلية ودمياط .