السبت، 18 يناير 2020

مهمة روتينية

يجلس الشاب هادئًا، مبتسمًا بثقة اعتيادية، لا يتحدث كثيرًا، بل يكتفي طوال الوقت بإيماءات حاسمة، وعبارات مقتضبة، تهيمن دون جهد على المساحة الصغيرة التي يشغلها مع الفتاة الجالسة بجواره .. ملامح الفتاة بالنسبة لي أقرب إلى الجمال الشهواني منه إلى الرومانسي؛ أي ذلك الذي يمنح المتعة مع إيقاعات المضاجعة أكثر مما يفعل مع نغمات الموسيقى الناعمة .. يدخل المقهى بخطوات سريعة رجل يبدو على نحو غامض أكبر عمرًا مما يحدده وجهه، يمسك في يده كتابًا لم أتمكن من تبيّن عنوانه ثم يجلس على طاولة مقابلة للشاب والفتاة .. كأن وسامة الشاب هي مصدر الاطمئنان العفوي الذي يتحكم به في لقاء تكرر حتمًا بينه وهذه الفتاة داخل أماكن أخرى .. تتكلم الفتاة كثيرًا، وتضحك بصوت مرتفع على وتيرة متقاربة،، وبالطبع لا تتوقف يدها عن الإمساك بكف الشاب وجذبها لتنشيط انتباهه، أو وضعها فوق ذراعه لتأكيد كلماتها في وعيه، كأنما تُكمل الحكايات المتعاقبة، أو المزاح المتغيّر، أو الجدل المُداعب بهذه الملامسات التلقائية، التي هي أقصى ما يُسمح للشبق أن يجسّده الآن .. الرجل يفتح الكتاب، ويبدأ في القراءة، لكن حركة عينيه اللتين لم تنظرا في وجه أحد منذ دخوله المقهى تكشف عن أنه لا يحب القراءة، أو أنها على الأقل لا تحتل مكانة متقدمة في قائمة هواياته .. الشاب والفتاة يُظهران إيمانًا مشتركًا بأن هذه اللحظة ليست مؤطرة بالعناصر التقليدية للحياة بل تخلق امتدادًا استثنائيًا لها في زمن وشيك .. يقلّب الرجل صفحات الكتاب كأنما لا يعنيه أكثر من الشعور بنفسه كقارئ، وأن يدرك الآخرون هذه الحقيقة عنه، لكن هذا لا يعني عدم الاكتراث بالحصول على معرفة يجهلها، وإنما يمرر الأسلوب الذي يتصفح به الكتاب يقينًا بأن مضمونه لن يمثل إضافة لما يعلمه بالفعل، وهذا ما يجعله يغادر المقهى بعد وقت قصير، كأنه أنجز مهمة روتينية، بينما لا يزال الشاب مبتسمًا بثقة، والفتاة تضحك بصوت مرتفع.
اللوحة لـ Kenne Grégoire