الجمعة، 30 أبريل 2021

هامش الرجل الذي ربما يكون طبيباً نفسياً، أو طفلاً في إعلان لافاش كيري

ينام على الكنبة .. بعد قليل سأنام بجواره، وأبكي مثل (عبد المنعم مدبولي)، و(فؤاد المهندس) في (مطاردة غرامية) .. يقرأ أمامي فقرة قصيرة عن العلاقة بين روما القديمة، والقوط الغربيين في إسبانيا .. أستمع إليه، متأكداً من أن الـ (هو) لديه قد بلغ أقصى درجات الرغبة في قتل (الأنا)، و(الأنا العليا)، وتحنيطهما، وتعليقهما أمام عينيه، ثم البكاء عليهما.

أعرف أنه بارع في رد اللعبة إليّ؛ فأجد نفسي مستسلماً للتداعي الحر، متيقظاً في نفس الوقت لقدرته على رصد التكرارات اللفظية التي أستخدمها في سرد الذكريات .. لكنني أيضاً بارع في إفساد اللعبة كلها .. أتعمّد إبراز سلوك معين، أو ألم مختزن بالكيفية التي تدفعه لتركيز انتقائي، يُربك (الانتباه العائم المتساوي)، حيث يعثر في ذلك السلوك، أو الألم على ما له علاقة بسلطة تخصه حتماً .. النتيجة دائماً تكون مضحكة بالطبع؛ فنماذج الصراعات التي ينبغي تحليلها معاً يجب أن تُعطي قبل أن نصدّق استقرارها أسباباً مُرضية لتبرير جدارتها كموضوع للنقاش، والحسم دون غيرها .. الجملة الوحيدة التي تمكّنت من قولها في هذا اليوم له: (الوسواس القهري مريض بك).

(لو كنت أعيش في العصور الوسطى؛ لفشلت أيضاً في النوم مع المرأة التي تجمع الزهور بجوار بحيرة ما، كنت ستعرف ذلك من اللوحات) هكذا رد عليّ.

لماذا لم يجعلني العالم أتكلم كثيراً، وأتحرك كثيراً، وأفاجيء من حولي بانفعالات لحظية غير متوقعة أبدو من خلالها ذكياً، ومجنوناً، ومتفلسفاً، وساخراً، وعصبياً، وطفولياً، ومهموماً، وقيادياً، وحسّاساً بغرابة متناهية كـ (نور الشريف)، أو (يوسف شاهين) في (حدوتة مصرية) .. لكن ربما ما نفع (يوسف شاهين) فقط أنه كان مخرجاً، ولاشك أن ذلك حرمه من أن يكون مثلي .. أنا مقتنع للغاية بأنني مثلما خسرت بسبب عدم وجودي في الحياة كشخصٍ ما؛ فإن ذلك الشخص ـ مهما كان ـ قد خسر بالضرورة أن يتخذ وجودي .. لهذا أنا أرفض، وبشدة مصطلح (الفن المسيحي) في القرون الوسطى .. فيه من التضليل ما يفوق الإهمال الذي لاقاه تحليل (هيجل) عن الديالكتيك في القبلة: (اختلاط الأفكار، والرغبات المتناقضة في التقاء شفاه الرجل بشفاه المرأة، حيث لديهما فرصة التحوّل إلى شيء أفضل) .. يتذكر؛ فيقاطعني (لا أحب "هيجل" لكنني لا أنسى: " احتفل بهذا المزيج بقبلة، وسوف تكون قد طبّقت الديالكتيك بطريقة تجعل "ماركس"، و"انجلز" يغاران منك").

ينتقل من الكنبة إلى الكرسي .. يضع رِجلاً على رِجل كأنه جالس على مقهى .. أنظر إليه، وأتخيله ميتاً في هذه الوضعية، مستعيداً إفّيه (أمين الهنيدي) في (عبود عبده عبود): (أظن ده يوم القيامة يصقف، ويقول " الحساب ").

يُعد التعالي على النوستالجيا من أهم سمات صاحب الشخصية القوية، ومن أنجح أدوات اكتساب الهيبة .. لكن ذلك التعالي ليس بالفعل السهل كما يتخيل البعض، بل إنه يستلزم في الواقع التضحية بثلاث ميزات: استيعاب إمكانية قدرة أي حالة حنين على الكشف عما لم يكن ظاهراً فيها بوضوح بناءاً على ما تقترحه من خلخلة للذاكرة .. فهم أن النوستالجيا ارتكابات لتكاثر الدال، وليست صلاة تأليهية لمدلول مهما بدا أن الخدعة ـ العاطفية ـ التي تدعي العكس متفوقة في عملها .. الاعتراف بأن التعالي في صورته الأعنف ربما يكون تعبيراً عن الانحياز للحنين الشخصي، كراهية، وإنكار الضعف تجاهه، وذلك بواسطة الاعتداء على حنين الآخرين، والانتقام منه .. ربما يكون تعبيراً عن الغيرة الناجمة عن النسيان، والعجز عن التذكر .. لكن في النهاية لا عليك من هذه الميزات، حتى لو كانت التضحية بها تجعلك مستحقاً لأن توضَع على حمار بالعكس حتى يزفّك الأطفال .. كن متعالياً فحسب.

يأخذ سيجارة من علبتي التي على المكتب .. بعد أن يشعلها، يخبرني أنه توصّل إلى حل رائع لإنهاء مشكلة الشك في الذين يقولون، أو يكتبون عنه كلاماً جميلاً .. (على الأقل لم تصل بشاعتي للدرجة التي لا يقدرون معها على الكذب) .. يمكن لهذه القاعدة أن تنجح أيضاً مع من يعذبه التفكير في ممارسة الجنس مقابل المال (على الأقل لم تصل بشاعتك للدرجة التي ترفض معها امرأة فتح فخذيها من أجلك ، ولو بمقابل) .. هذا ما تضطر إليه مع فقدان قوارب النجاة، وكلما خطوت داخل إعصار كالذي صادفت فيه (جوزيف كونراد) ذات مرة.

من رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” ـ دار الحضارة 2014

 

الثلاثاء، 27 أبريل 2021

اللعب بخرافة الإثم

أي غرض كان يستهدفه الأداء الراقص لسعاد حسني في أغنية "بانوا بانوا" من فيلم "شفيقة ومتولي"؟ .. أتحدث عن الرقص في حد ذاته على ألحان كمال الطويل معزولًا عن كلمات صلاح جاهين وإن كان مستعملًا لموضوعها .. لم تكن تلك الرقصة دعمًا للعقاب الهازئ الذي تمارسه شفيقة تجاه "الوجوه الغادرة" بواسطة الغناء، أو رثاءً حركيًا للذات استغلالًا لذلك العقاب المنغّم، أو محاكمة توسلية ضمنية للقدر باستعراض الجسد المنتهك في صورة ما أصبح وظيفة روتينية له .. كانت الرقصة احتفالًا سريًا لسعاد حسني بجسدها خارج مثاله الأبوي .. بما يتجاوز هذا الجسد ويجعله الجسد الأنثوي في ذاته .. المثال الذي لا يتراجع عن موضعة جسدها وتعيين حدوده .. بالضرورة لم يكن تجهم ملامحها أثناء الرقص تعبيرًا عن الألم التراجيدي المتعلّق بالفيلم نفسه، وإنما بالغضب الوجودي من مطاردة خرافة الإثم لجسدها .. كانت سعاد حسني تلعب في رقصتها بتلك الخرافة كطقس يخص عمق علاقتها بهذا الجسد .. طقس تؤكده عيناها الشاردتين في تأمل مستقل لتفاصيلها الحسية المجرّدة من الوصايا حيث يغيب الجسد اللاعب عن الفضاء المتعيّن من حوله، ولكنه لا يتوقف برقصاته عن الإشارة إليه.

في مقالي "الحياة كوباء عند عبد الهادي الجزار وسرن كيركجور" تناولت اللعب الجدلي مع القدر، الإثم، الخلاص، أو ذلك الاندماج السحري في لوحات عبد الهادي الجزار الذي يعادل ما كان لدى كيركيجور بين الأوهام المتنافرة للطمأنينة والخلود .. يمكن لنا الآن أن نقارن رقصة سعاد حسني في "بانوا بانوا" بالرقصات المضمرة للنساء في لوحات عبد الهادي الجزار كـ "الكورس الشعبي" مثلًا، لكن جسد سعاد حسني في تلك الرقصة كان ينثر أيضًا غبار العقاب والتطهر عن ذاكرته .. يثبّت نوعًا من اللامبالاة الشبقبة التي تنبئ بعدم انشغاله بالمحظور سواء كان تماديًا مقصودًا في انتهاكه أو كفاحًا مُعطلًا للخضوع إليه .. كانت رقصة غير معنيّة بالشر المطلق حيث جسد سعاد حسني لا يحدّق إلا في نفسه.

إن الأمر لا يتعلق بمساءلة الإبهام المرتبط بالخطيئة بقدر استعمال الرقص للعودة إلى ما يسبق سلطة الاعتراف .. ما يسبق مطالبة الجسد ـ كموضوع للذنب ـ بالتناغم مع شروط المقدس .. ليس سعيًا نحو استرداد بدائية غيبية وإنما كتقويض لما يحتجز البراءة الشهوانية للجسد في صياغاته الانتهازية .. لذا كان من المنطقي ألا تكون نهاية المسار الراقص لخطوات سعاد حسني في تلك الأغنية هي اللحظات الأخيرة من فيلم "شفيقة ومتولي"، وإنما جثتها الممددة فوق أرض الشارع أسفل شرفة عالية.

أراجيك ـ 27 إبريل 2021

الجمعة، 23 أبريل 2021

الجالس أمام النهر ... (مسرحية قصيرة في فصل واحد)

المكان: طريق فارغ بمحاذاة نهر .. رجل في منتصف العمر يجلس صامتًا على أريكة تقابل النهر معطيًا ظهره طوال الوقت للمتفرجين بحيث لا يُكشف وجهه أبدًا.

الوقت مساءً

يدخل إلى المسرح رجل في عُمر مماثل لذلك الجالس على الأريكة .. يقترب منه ويحدّثه متحرّكًا من حوله دون أن يجلس بجواره على الإطلاق.   

"مساء الخير .. كنت أعرف أنني سأجدك هنا .. جالسًا على تلك الأريكة .. أمام النهر .. وحيدًا .. تحدّق بنظرة ثابتة نحو الضفة الأخرى، كأنك لا ترى أي شيء، أو لا تبصر سوى درجات مموهة من الظلال .. أمر مؤسف حقًا ألا يكون لديك ابنة صغيرة تشاركها اللعب الآن، أو تصطحبها للتنزه في حديقة ما، أو تقرأ لها حكاية مشوّقة بينما تنعمان بالدفء الحميمي لغرفة المعيشة .. صدقني، ربما لحظات كتلك هي الأمر الوحيد الذي يستحق أن تتزوج من أجله يا صديقي .. اللحظات التي حرمت نفسك منها .. حسنًا .. مازلت تعتقد أن البقاء هنا، أمام النهر، هو الحياة التي لا يعادلها منزل تسكنه مع زوجة وأبناء .. أنظر .. إنها آخر صورة التقطها لابنتي الصغيرة .. هل ترى ذلك السحر المُسكر الذي ينبعث من عينيها الودودتين، وابتسامتها الرائقة .. أرجو ألا تظن أنني أفعل ذلك كي أسبب لك شعورًا بالحسرة .. أنا لست عدوك كما تعرف .. ولو أني لن أستغرب أبدًا لو اعتبرتني كذلك .. لطالما اعتقدت أنني لم أفعل شيئًا في حياتي غير خيانتك .. لكنك تعلم أيضًا أن ذلك كان رغمًا عني .. هل مازلت تتصوّر حقًا أنني لم أتوقف أبدًا عن محاولة قتلك؟ .. أنا لم أقصد ذلك على الإطلاق .. أدرك جيدًا أنه لا شيء يستطيع أن يمحو ذلك اليقين من روحك .. أنظر لهذا الوجه .. أنظر إليه جيدًا .. هل تعرف لماذا كانت ابنتي الصغيرة تبتسم في تلك اللحظة؟ .. لقد كنت أحدثها عنك .. نعم .. كنت مجبرًا أن أحدثها عنك، وكان ذلك يمنحها السعادة .. كنت أتعذب بينما ظلت هي تبتسم كدمية مصنوعة من تلك الغفلة الناعمة التي ترتسم على وجهها الآن .. الغفلة الخبيثة القاتلة .. كنت أحكي لها عن حياتك، وذلك ما كان يجعلها ممتنة لي .. معك حق .. ليس هناك ما هو أكثر جدارة بالضحك من تلك المهزلة الوحشية .. لكنها على الأقل ابنتي .. نعم .. عندي ابنة صغيرة ليس لديك مثلها .. سخريتك مني لن تغيّر شيئًا في تلك الحقيقة .. لكن لا بأس لو كانت ابنتك أيضًا من حين لآخر .. أنت تعرف أنك مُرحب بك في منزلنا طوال الوقت .. سنظل أصدقاءً دائمًا كما تعلم .. حتى لو كنت سر آلامي كلها .. كان يمكن لحياتي أن تكون أقل شقاءً لو أنني نجحت في التخلّص منك .. رغم كل ما يدعيه وجودك من أنك الجانب الأفضل من ذلك العمر الذي لا أصدق حقًا أنني عشته .. كيف تحوّلت من كاتم أسراري إلى الشبح الذي يطاردني في كل وقت ومكان .. ما الذي جعل صداقتي بك هي الإرغام الأشد قساوة على نفسي .. ذلك لأنك تمتلك من الحرية والأمان ما لا يمكنني حتى تخيّله .. تستطيع أن تتسلل فجأة من خلالي وتتودد إلى زوجتي وطفلتي أو إلى أي شخص آخر أعرفه دون تهديد .. دون خوف من العقاب .. حتى أنك تضمن المكافأة التي يمنحوك إياها مقابل حضورك المباغت والمؤقت .. حضورك الذي يبهج قلوبهم، ويحطم قلبي .. لأنك مخادع .. لأن خداعك هو الأكثر روعة وسط كل زيف العالم .. لم أتمكن من قتلك، فأصبحت قاتلي المتنقل عبر الوجوه التي تحاصرني دائمًا .. قاتلي الذي لا أقدر على فراقه حتى لا تتبدد تلك الوجوه من حولي .. حتى لا يتبدد وجهي .. تفعل كل هذا في صمت محكم .. صمت يساوي غيابك .. من يصدّق؟ .. شيء يتظاهر بالتجسّد مثلك يمكنه أن يرتكب أفظع الشرور .. إنك لا تكتفي بذلك فحسب بل وتدفعني دائمًا للاعتراف أمامك كما لو كنت أنا المذنب .. تجعلني أتوسل إليك في كل لحظة حتى لا تتخلى عني .. أحكي قصصك لمن حولي، وأريهم صورك، وأطلعهم على أشيائك التي مازلت أحتفظ بها .. كأنها قصصي وصوري وأشيائي .. كأنك لست الشيطان الذي يسكن جسدي ويلتهمه ببطء سادي منذ أربع وأربعين سنة .. كل هذه السنوات قضيتها في تجربة تعاويذ فاشلة للتحرر منك، بينما لم تكن تحتاج أكثر من الجلوس صامتًا على هذه الأريكة أمام النهر دون أن يعنيك أي شيء .. لا تكترث لأي تعاسة سببتها لي وللآخرين كقدر لا مهرب منه أو كلعنة أبدية أنت وحدك متوّج على عرشها .. تجلس على هذه الأريكة كملاك موت يستطيع أن يقبض أرواح المحتضرين في كل مكان وزمان دونما احتياج حتى لتحريك رأسه ..  لكن لأذكرك مجددًا .. كل ما فعلته بي جعلني أحتفظ بما لا تمتلكه أنت .. جعلني أحتفظ بطفلتي .. أما أنت ـ رغم كل شيء ـ ليس لديك سوى التحديق إلى الضفة الأخرى بتلك النظرة الثابتة .. النظرة التي لا تستطيع أن تمنحك طفلة صغيرة كابنتي .. لمرة أخيرة: هل ستظل صامتًا هكذا؟ .. حسنًا .. إن الصمت هو ما يلاءم كائنًا وحيدًا مثلك .. أما أنا فسأعود إلى ابنتي الصغيرة التي جعلتها أنت تحبني أكثر مما لو لم يكن لك وجود في العالم".

(ظلام)

اللوحة: Joan Miró. The Birth of the World

الاثنين، 19 أبريل 2021

مارادونا وأوليفر تويست: المراوغة المضادة

كان العالم هو الكرة التي أعطتها إليه السماء في طفولته، ولكي يحميها من كل قطاع الطرق الذين أرادوا أخذها منه؛ كان يجب عليه ألا يهرب أو يختبئ بل أن يجري نحوهم ويراقصهم ثم يتخطاهم، غير مكتف بالحفاظ على كرته فحسب وإنما بأن ينتزع منهم أيضًا ما لا يقدرون على رؤيته أو فهمه؛ فما كان بحوذتهم ليس إلا أرواحًا متناثرة لتلك الكرة التي بين قدميه، وهو بذلك الاختطاف لم يكن يعيد إلى قطاع الطرق ما كانوا يفقدونه دون أن يشعروا بأنه كان لديهم فقط، بل كان يسخر من السماء كذلك؛ فالعالم كان كرته من قبل أن تمنحها له، ولم يكن يحرز الهدف إلا بالطريقة التي تجعله حقًا نجاة مؤقتة من هلاكه المستقر داخلها.

* * *

كان كأس العالم 1982 بإسبانيا هو أول مونديال أشاهده في تليفزيون الطفولة .. لكن تلك المشاهدة اقتصرت على لقطات عابرة في أيام منفصلة لمبارايات كان المنتخب البرازيلي طرفًا في جميعها .. أشعر دائمًا بأن تلك الصدف كانت إثباتًا بطريقة ما للمقولة الشهيرة عن ذلك الجيل من السيليساو بأنه كان البطل غير المتوّج لتلك البطولة .. قبل كأس العالم 1986 في المكسيك كنت قد قرأت نسخة مبسطة من رواية "أوليفر تويست" لتشارلز ديكنز .. أحببت وقتئذ انسجامها مع يقينيات طفولتي: ولد صغير يعيش منذ لحظته الأولى سلسلة من المآسي العنيدة تنتهي بحصوله على حياة جديدة تحمل وعدًا بالسعادة .. كانت تشبه في جوهرها القصص المصورة التي تمثل المكوّن الأساسي لقراءاتي الطفولية، وإن كانت بأشخاص وأحداث وتفاصيل أكثر، وبحبكة أقل بساطة .. كان يمكنني اعتمادًا على اللقطات العابرة قبل أربع سنوات أن أشجع البرازيل، لكن شيئًا ما في داخلي جعلني أنتظر .. شيئًا ما كان يقول لي: فلتشاهد الجميع أولًا .. سألت أخي الأكبر عن منتخبه المفضل كتوصية لن أطلبها إلا منه فأخبرني بتلقائية: ألمانيا .. مرت أيام البطولة أو لياليها بمعنى أصح، وحينما جاء موعد المباراة النهائية كنت أجلس أمام التليفزيون بجوار أخي أشجع ألمانيا من أجله والأرجنتين من أجل مارادونا .. صدفة أخرى ولكن دلالتها كانت أكثر أهمية هذه المرة .. نعم؛ ذلك القصير الممتلئ صاحب القدم اليسرى لم يكن يشبه أي لاعب اخر .. لم يكن حتى مجرد لاعب أسطوري .. بالنسبة لي كان اكتشافًا لمفترق طرق ليست كرة القدم إلا علامة له، وحينما تجد نفسك أمامه فجأة سيصبح لزامًا عليك أن تعيد التفكير في كل شيء.

* * *

يمكن لليُتم أن يكون شيئًا آخر .. أن يُطلب منك المذاكرة .. ألا يُسمح لك بالخروج للعب .. ألا تجد الكرة حين تبحث عنها .. يمكن للملجأ أن يكون ظلام شارع لا تركض داخله .. ولكن حينما تكون الكرة بين قدميك فأنت تعرف جيدًا ما عليك فعله .. ستراوغ الجميع وتمرر الكرة من بين أقدامهم ومن فوق رؤوسهم وتسجل أهدافًا لا يحرزها غيرك .. ستفعل هذا نيابة عن رفاق اليُتم كلهم .. عن الأطفال في سجن رئيس عصابة النشالين، أو في سجن ديكتاتور البلاد .. نيابة عن الأطفال المطرودين من الحفلات الراقصة .. كأنه وعد أبدي لن يمنعك شيء من تنفيذه ولو بيدٍ محنطة كالمومياء، مزينة بالغرز .. ولو أحرزت أهدافًا بتلك اليد؛ فأنت الوحيد الذي تمكنت من إثبات أنها "يد الرب" فعلًا .. ليس الرب الذي يصرخون شكرًا له على وجودك، ولكنه ذلك الذي يعبدونه في الكنيسة التي تحمل اسمك، ويحسبون زمنه وفقًا ليوم ميلادك، ويعرفون أن بإمكانه التجسّد ولو في ملعب طيني مرتديًا الرقم 10 كي ينقذ حياة شخص ما .. إنه حق القلوب عليك بألا تتوقف عن العبث بقساوتها .. رغم البكاء .. البكاء أحد شروط اللعبة كما تعلم .. هو جوهرها الحميم إن شئت القول .. القرين الشاحب والمنهك، الذي يحتضن رأسك داخل صدره عند اللحظات الفارقة، وبينما تنصت لدقات قلبه المرتعدة سيتلفت حوله بشعره الأشيب وتجاعيده الثقيلة وعينيه الغائمتين مستكشفًا المتاهة الجائعة التي تحاصركما .. لكنها ليست اللعبة التي لابد أن تهرب خلالها من اللصوص وإنما أن تطاردهم .. أن تندفع صوبهم ثم تبتسم في وجوههم الذاهلة بكامل طفوليتك وأنت تسرقهم .. ما رأته بصيرتك من قبل أن تراه أبصارهم .. ما كان ماضيًا بالنسبة لك، وأصبح مستقبلًا بالنسبة لهم .. تسترد ما كان لك أصلًا .. تعطيهم في الوقت نفسه خلاصًا خياليًا ما كانوا يدركون أنهم قادرون على بلوغه .. المقايضة الحتمية: يلاحقونك بمجازر الضرب والشتائم، وتعلمهم في المقابل كيف يحلمون بأنفسهم داخل قبعة سوداء .. هذا ليس ركضًا أو مراقصة أو تسجيل هدف في الخارج كما يبدو .. إن الأمر يحدث كليًا في داخلك .. حول السر الغامض في نفسك .. السر الذي يُمتعك ويبكيك .. السر الذي يمتد عبر أجساد الآخرين ويعود إليك كشبح مفتون، توقن أن في مخاتلته يكمن مصيرك.

* * *

سألتني طفلتي من هو "مارادونا" الذي أطلقت اسمه على القط الصغير الذي أصبح عضوًا جديدًا في عائلتنا .. جعلتها تشاهد فيلمًا وثائقيًا قصيرًا يتضمن مسيرته منذ البداية وحتى الاعتزال .. كان هذا فقط من أجل الإجابة على سؤالها المتعلق بالقط الصغير، ولكن إذا أردت أن تعرف مارادونا حقًا فلا تكتفي بمقاطع الأهداف والمراوغات والتمريرات الحاسمة .. شاهد مباراياته كاملة منذ لحظة دخوله الملعب وحتى مغادرته .. تمريناته الإحمائية .. نظراته لعدسات المصورين .. الرسائل التي يمررها بحركات شفتيه أثناء عزف السلام الوطني .. طريقته في تحفيز زملائه .. إشاراته للجماهير .. أفعاله تجاه المنافسين .. سعادته الراقصة وهو يركض نحو الراية الركنية قبل أن يقفز ملوّحًا بقبضته كلما سجل هدفًا .. بكاءه .. راقب جيدًا كيف كان شبحًا يطوي الزمن داخل الملعب: يتسلم الكرة في بقعة ما ثم يمررها لزميله وبعد لحظات خاطفة تجده يتسلمها مجددًا في بقعة بعيدة تمامًا عن الأولى .. كأنه ليس لاعبًا واحدًا وإنما كل لاعبي فريقه، وللدرجة التي تجعلك تتخيّل أنك لو التفت فجأة ستجده بجوارك أمام التليفزيون يتفرج على نفسه .. كانت خطوط الملعب بالنسبة له أشبه بخيوط حرير لا يتوقف عن تمزيقها من جميع الاتجاهات كفراشة بدينة لها زمنها الخاص .. أتذكر جيدًا المشهد الكوميدي بينه ومساعد الحكم في مباراة انجلترا الشهيرة حينما سقطت الراية وهو على وشك تنفيذ ضربة ركنية فأمره المساعد بأن يلتقطها من على الأرض ويعيد تثبيتها، وحينما فعل مارادونا ذلك متعجلًا ليتمكن من لعب الكرة؛ عاد مساعد الحكم من جديد وأمره أن يثبّت الراية بإحكام فابتسم مارادونا فاردًا ذراعيه بنفاذ صبر طفولي، وبدا كأنه يقول للمساعد مستغربًا: "هل أنا عامل صيانة أيضًا؟" .. إذا أردت أن تعرف مارادونا داخل الملعب حقًا فعليك أن تشاهده خارج الملعب .. داخل مصحة التهذيب الهائلة التي حوّلها إلى حديقة كارتونية .. ظل مارادونا منذ اللحظة الأولى التي شاهدته فيها عام 1986 يواصل تجسيد أوليفر تويست في خيالي ولكن بشكل مناقض .. منذ أدركت ذلك الشغف المستحيل المتجذّر في روحه بما ليس بإمكان الكرة التي بين قدميه أن تصل إليه .. بما ليس في متناوله حين يركض ويراوغ ويسجل هدفًا .. أي شيء ذلك الذي ليس في متناوله؟ .. إنه خام الوجود الذي لا ينجو منه حتى الأنبياء والرسل والقديسون .. كينونة العالم .. زهرة الزهرة الكونية من قبل أن تتحوّل إلى دخان متناثر داخل الحياة والموت.

* * *

كلما حصلت على عائلة جديدة يجذبك الجموح خارجها .. عائلة من الهتافات اللامعة والتمجيدات المحمومة .. لا أحد يفعل هذا مثلك .. لست ابنًا لحقيقة إلا مزاجيتك .. أن يعتني بك فحسب ذلك الخليط الجنوني من الغضب والعاطفة .. أن تعيش كل المتنافرات إلى أقصاها .. أن تصل بأي مقامرة إلى حدها الأخير .. لكن الموت ليس حدها الأخير بل الثمالة .. التذكير الأبدي الهازئ بالحكمة المضادة التي لا تُدفن في قبر .. ليس هناك حياة جديدة سعيدة .. هناك طيش ذاتي فقط يناقض كل خرافة .. انفلات شره خارج الأحلام المثالية لعقيدة جعلك الآخرون سيدها .. إنه السلام الذي حصلت عليه روحك قبل رقادها .. التي لم تكن روح إله أو مخلّص أو بطل خارق أو مثال نمطي لسلطة الكاريزما .. إنما كانت روح ذلك الطفل الذي يطارد قطّاع الطرق بنقاء قلب شيطاني حيث تكمن البراعة القاتلة.

* * *

بدأت كتابة رواية "الفشل في النوم مع السيدة نون" في منتصف عام 2013 .. كان أخي الأكبر قد مات فجأة منذ شهور قليلة، واكتسب غضبي الغريزي الذي أتنفسه منذ ولادتي مزيدًا من المضاعفات المستعرة .. كنت أريد أن أصعد إلى السماء وأحرقها فعليًا .. أن أضع شيطاني المنتعظ في ممر الخراء الكوني .. كنت ألهث حرفيًا أثناء الكتابة .. أركض صباحًا ومساءً فوق الصفحات البيضاء كقط مرتعش، مراوغًا القيم والمحاذير .. أتخطى حواجز المقدس بعفوية لا تلتفت وراءها، كأنني لا أبصرها، أو لم يكن لها وجود من الأساس .. كانت اندفاعاتي المحمومة تتأرجح في ذاكرة الأجساد والأزمنة والكلمات والأماكن والأشياء والأفكار والشهوات .. في أسرار وهواجس ومكائد كل مشهد ولحظة وحلم .. في خيال كل ذاكرة .. كان انتقامًا من الطمأنينة وقفت في نهايته غير مصدق: ما الذي فعلته بأسرتي؟ .. كنت منتشيًا بغرابة، كأنها لحظات ما بعد أورجازم لغوي أطلقت خلاله العفاريت ـ كما كتبت في الرواية ـ داخل ميدان مزدحم كي أعذبها للحظات قبل أن ترتد إلى داخلي ثانية .. لكن الذنب التقليدي كان يغرز شوكته المسمومة في روحي .. كيف ترتكب كل هذه الآثام في حق أمك وأبيك وإخوتك وجدتك دون يردّك شيء؟ .. لكنني لست آثمًا .. أردت فقط الاحتفاظ بكرتي .. إما أن أفعل ذلك وإلا سأموت .. أردت أن أعيد إليهم أرواحهم ولكن داخل الحياة التي لم يفطنوا إليها .. أن أسترد بكائي الطفولي لا أن أبكي نهايتي .. إذا كانت كل الرهانات خاسرة فليكن احتفالًا بالسخرية من فكرة الرهان نفسها .. سأضع صورتي طفلًا مع أمي على غلاف الرواية إمعانًا في الإثم، وليتذكر قاطع الطرق الأعظم أنني لم أكن عبدًا له.

أراجيك ـ 19 إبريل 2021

 

الخميس، 15 أبريل 2021

هاملت

بوجهه الحليق الذي لا ينطق بالتشرد، وملابسه المهندمة التي لا تشير إلى خبل، وباتزان خطواته الذي لا يدل على ثمالة؛ يسير في الشوارع منذ زمن طويل مناديًا على أسماء عديدة .. لا أحد يعرف إلى أي أشخاص تنتمي تلك الأسماء: إخوته .. أبناؤه .. أصدقاؤه .. لا أحد يعرف السبب الذي يدفعه للنداء عليهم بهذه الطريقة .. زمن طويل وهو يسير في الشوارع مناديًا على أسماء مفردة، لا تتغير، دون ألقاب أو تفسير، وبصوت يبدو كأنما صرخات قديمة قد تحجرت في حلقه .. بدا كأنه يعيد رسم ملامح المدينة بواسطة تلك النداءات على أسماء لا أحد يعرف أين اختفت أجساد حامليها، أو كأنه يستخدم غيابهم في محو تلك الملامح دون تعويض.

لم يُسبب ذلك ضررًا لأحد؛ فخطواته اليومية السريعة لا يتخللها لحظات توقف تسمح بتحوّل نداءاته إلى مصدر للإزعاج .. يعبر فحسب كأنما يدرك أن أصحاب تلك الأسماء يتواجدون في كل مكان يمر به، وأن الاستجابة لندائه لا تتطلب أن ينتظر بين حين وآخر، أو كأنما يدرك أن استجابتهم له لا تشترط وجودهم في المكان الذي يمر به .. لكن لا أحد يستجيب له، حتى ولو بسوء الفهم، كأن الأسماء التي يناديها لم تُمنح إلا لأصحابها بالرغم من عاديتها وتداولها .. لم يسبب مروره الدائم سوى التعوّد المتأرجح بين السخرية أحيانًا، والشفقة أحيانًا أخرى.

شخص ما سمعه ذات يوم .. كانت المرة الأولى التي يسمعه فيها أو ربما وصل إليه صوته من قبل، ولكن شيئًا ما جعل هذه المرة تكون الأولى حقًا .. حينما وصل صوته إلى ذلك الشخص خرج إلى شرفته ونظر إليه .. أشياء بديهية منعته من أن ينزل إلى الشارع ويلحق به كي يحقق أكثر ما كان يتمناه في تلك اللحظة .. أن يقتل صاحب النداء .. لم تكن بينهما أي معرفة سابقة، ولم يكن حتى وجه أحدهما مألوفًا بصورة ما لدى الآخر، ولكن الواقف في الشرفة كان يعرف أصحاب تلك الأسماء التي ينادي عليها ذلك الرجل جيدًا.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 14 إبريل 2021

السبت، 10 أبريل 2021

يدكِ التي ما زالت صغيرة

أحب يدكِ حين ترفعينها للإشارة إلى شيء ما

يدكِ التي ما زالت صغيرة

كقبضة طفل

ترسم نعومتها في الهواء

ما يشبه سهمًا ضئيلًا ...

يدكِ العمياء

التي كانت تشير دائمًا

إلى ذلك القارب الذي ينتظرنا خارج الزمن.

أحب يدكِ حين ترفعينها أمامي الآن

لأنها تذكّرني بروحي العمياء

التي لم تتوقف لحظة واحدة

عن رؤية ذلك القارب الذي كنتِ تشيرين إليه ...

يدكِ التي ما زالت صغيرة

كقبضة طفل

تنحت نعومتها المرتعشة في الهواء

شاهد قبرٍ أكبر بكثير من حجمها

يحوم حوله صمت السنوات الطويلة

الذي لم ينجح في اجتياز الزمن

العابر بين روحينا

كأن الزمن نفسه

لم يكن إلا حطام القارب

الذي لم يتكوّن أبدًا.

اللوحة : Ludvig Munthe

الثلاثاء، 6 أبريل 2021

دراما الأيقونة الأبوية: الرجل ملعونًا بذكوريته

في عام 1983 جلس رياض عبد ربه على الأرض متحسرًا بجوار كومة من كتب الفلاسفة الذين لم تتمكن أفكارهم من حمايته من فقدان الكرامة أمام سطوة المنفعة .. في عام 1986، أي بعد مرور ثلاث سنوات سيجلس أبو العلا البشري على الأرض بالحسرة نفسها، وبجوار كومة من كتب الفلاسفة أيضًا، مستنكرًا أن يكونوا على خطأ بعدما اتخذ أفكارهم كذخيرة معرفية لرحلته الأخلاقية المهزومة.

هذا التطابق بين المشهدين لا يقدم دليلًا ـ ضمن قرائن أخرى ـ على الاستفادة الكبيرة التي قدمها مسلسل "نهاية العالم ليست غدًا"، تأليف يسري الجندي، وإخراج علوية زكي إلى أسامة أنور عكاشة لإنجاز عمله الدرامي "رحلة السيد أبو العلا البشري" الذي أخرجه محمد فاضل فحسب؛ وإنما سيوطد أيضًا الكيفية التي تكشف بها الأيقونة الأبوية عن جوهرها كلعنة، للأسباب ذاتها التي تُرسخها كفضيلة.

مساء اليوم التالي لعيد ميلادي العاشر أي ما يوافق الرابع من يناير عام 1987 .. نستكمل ما تبقى من فيلم اُستخدمت معظم لقطاته في الحفل قبل إرساله إلى معمل التحميض .. تخصص تلك اللقطات للأشخاص الذين لم يشاركوني التصوير في اليوم السابق: أمي وأبي وأختي .. الشقيقان الآخران لا علاقة لهما بهذا الطقس، ولكل منهما دافعه المختلف عن الآخر .. يرتدي أبي ملابس الخروج، وأرتدي أنا نفس الملابس التي احتفلت بها بعيد ميلادي .. نجلس متجاورين على كنبة الصالون كظلين يتجهزان للتمثّل في ألوان أبدية ثم ننظر إلى أختي التي تستعد لتصويرنا .. لكنها تطلب من أبي أولًا ـ وكان في حاجة لذلك ـ أن يحتضنني بذراعه، وأن يبتسم .. ينفذ أبي ما طلبته أختي مثلما يستجيب المرء رغمًا عنه إلى توجيهات متكلفة لإتقان أمر لا يعتبره هامًا .. يحتضنني بذراعه الأيسر، وبيدِ شبه متراخية، بينما يُبقي يده اليمنى التي اعتادت غلاظتها أن تصفعني لعدم أداء الصلاة ولأسباب تأديبية أخرى فوق فخذه الأيمن فيما يقارب وضعية الاستعداد .. يُكتم بكائي كما يصمت تهديده المروّع .. تنسحب نظرتي المرتجفة كما تتراجع نظرته المحتقنة بالتوعّد .. تلتقط أختي الصورة ثم تخرج من حجرة الصالون بينما أظل أنا وأبي جالسين مبتسمين فوق الكنبة حتى الآن .. كلانا يحدق في عينيّ اللتين تتأملان وجهينا بعد مرور أربع وثلاثين سنة .. الابن والأب يدركان في الصورة أنني صرت أعمى بما يكفي لرؤيتهما جيدًا، مثلما أدرك في هذه اللحظة أن وجهيهما غائبين بما يكفي للتيقن من أن ملامحي التي عشت بها طوال حياتي لم تكن إلا قناعًا.

رياض عبد ربه مدرس فلسفة، يرى أن أزمة العالم قيمية في الأساس، مرجعها طغيان أحكام السوق والتحالف بين جشع التجار والمؤامرات الاستعمارية للغرب .. أبو العلا البشري مهندس ري، يرى أن مشكلة الإنسان في زمنه تتعلق بشكل رئيسي بالأخلاق الغائبة، حيث التخلي عن المبادئ الأصيلة أمام الطمع المادي والنجاحات الفاسدة .. يحاول رياض عبد ربه مواجهة سيادة منطق الاستهلاك وتخريب العقول في البيت، المدرسة، الحارة، القرية من خلال صدامات متعددة مع المحيطين به إلى جانب كتابة المقالات والترجمة .. يسعى أبو العلا البشري لاستغلال الثروة التي امتلكها فجأة في إخضاع أقاربه إلى المُثل العليا التي انحرفوا عن طريقها .. ينتهي الأمر برياض عبد ربه وحيدًا داخل حجرة فوق سطح منزله بعدما فشل في تغيير الواقع .. يعود أبو العلا البشري وحيدًا إلى بلده بعدما ضاعت ثروته في قضية احتيال، وتورط أقاربه في أزمات عديدة.

يمثل كل من رياض عبد ربه وأبو العلا البشري تكريسًا لنموذج الأب في صورته الكلاسيكية المطلقة، حيث لا يعتبر نفسه فردًا بل وصيًا، أي جديرًا بالهيمنة، ليس على أسرته فحسب بل على الآخرين أيضًا .. يعد نفسه أبًا للحياة والموت .. وبالطبع ليس هناك ما يضمن له هذه السلطة أكثر من تلك الكلمات السحرية المراوغة (القيم)، (الأخلاق)، (المبادئ) .. المفردات المائعة الرخوة التي لا تمانع في إعطاء رجل مسلم، مُصلٍ، يمتلك خصالًا ذكورية كاملة، متقدم في العمر، يمتهن وظيفة حكومية؛ لا تمانع في إعطائه أحد خنادقها الخبيثة لكي يختبئ داخلها، بوعي غافل ومغلق أمام نسبيتها وخداعها وتساؤلاتها، وبشهوانية جارفة وعمياء لاستعمال الآخرين في تعويض النقص الذاتي من خلالها .. إنها الوضعية الأفضل لأي قاتل سكران بألوهيته: شيخ ذو سمعة طيبة، وسط جماعة لا يُبصر أفرادها الأوهام الانتهازية في كل معنى محتمل لما يُسمى بـ "المُثل العليا" .. ومن أجل توفير المزيد من التعاطف اللازم لارتكاب جرائمه، ولحمايته استباقيًا من الاتهام بالجهل؛ سيُمنح ذلك الشيخ (الثقافة) أو غلاف الهيبة المجسّد في كتب الفلاسفة.

نبرتان مختلفتان للغفلة يترجم صمتهما الأسئلة ذاتها: هل هذه اللحظة حقيقية بالفعل؟ .. هل كل شيء يظهر في الكادر كما يجب؟ .. هل كل شيء يظهر أصلًا؟ .. لا يتعلق الاستفهام بما يبدو عليه الابن والأب، بل بما يعجزان عن رؤيته في تجاورهما وقد تكشفه الصورة .. بما يمكن أن يكون مرئيًا لبصر غيبي حيث تكمن النجاة الغامضة .. يتعلق الأمر باللقطة الأصلية .. الحكاية العارية التي خلقت الغفلة .. أرى الطفل داخل الكادر يكتسب ما صرت إليه لحظة التمعن: الشيب .. التجاعيد .. الهيكل الجسدي الخائر والمتصدّع، المغلق على أنقاض مذعورة، بالغة الثقل والحدة .. أرى الأب يتحوّل إلى ذلك الطفل المستقر وراء ملامحي الآن .. عيناه ذاهلتان كأنما أفاق للتو من غيبوبة العدم، محاولًا التظاهر بأنها ليست المرة الأولى التي يتطلع فيها إلى الدنيا .. الابتسامة هي السر .. ابتسامة كل منا في الصورة .. ابتسامتي لوجه يفكر في الامتلاك كاحتمال، كوعد برهانه تلك اللقطة في مساء الثمانينيات .. ابتسامة أبي لوجه يفكر في الامتلاك كمخاتلة، كغدر مبهم لا يستطيع إثباته كما يجب .. أقترب من أبي فيحتضنني بذراعه وننظر إلى الكاميرا .. يُظهر الكادر أن ما تم التقاطه أشبه بمحاولة فاشلة لتصوير رجل مع حيوانه الأليف .. ذراع الرجل يمتلك من الماضي ما لا يجعله يثق في أن من يحتضنه حيوانه الأليف حقًا .. الولد يشعر في استكانته بذلك الإيهام الراسخ بين رغبته في عدم خسارة اللحظة وحيازة امتداداتها، وبين الفقدان المُقبض في روح الرجل الذي يحاوطه بذراعه .. كانت صورة أخرى لرياض عبد ربه، وأبو العلا البشري وفي يدي كل منهما كتب الفلاسفة.

يتشابه رياض عبد ربه وأبو العلا البشري في العديد من السمات التي تكاد تكون متطابقة: استهداف الجانب الأضعف والأكثر أمانًا أي الأشخاص العاديين من أجل محاولة فرض قناعاته الخاصة ـ التي لم تساعده كتب الفلسفة، على معالجتها من الرجعية والتحجر ـ حيث يسهل مواجهتهم والسعي لإرغامهم على الامتثال إلى أحكامه والحصول على تأثيرات ملموسة لكفاحه في حيواتهم مقارنة بالمجابهة المباشرة للسلطة السياسية مثلًا باعتبارها مصدرًا أساسيًا ومؤكدًا للشرور التي يتصوّر (البطل) أن أزمة العالم والإنسان تتمثل فيها، أو مساءلة اليقينيات الدينية ـ على الأقل ـ  والتفكير في هل تقدم تفسيرات حقيقية وحاسمة، أم خزعبلات غير منطقية، لا يمكن للعقل سوى أن يعتبرها تلفيقات ساذجة لتشريع الجحيم الأرضي؛ إذ تنعدم بالنسبة له فرص الاستحواذ، وتغيب احتمالات الإشباع لجروحه الشبقية بالتزامن مع الاتساع المضمون لمساحة التهديد والعقاب .. السلوك العنيف الموزّع بين الجهامة الترويعية، ارتفاع النبرة الحادة للصوت، التوبيخ، تحريك اليدين بعصبية واستعمالهما في ملامسات عدائية تجاه الآخر، التهديد، إصدار الأوامر والنواهي، توجيه الاستهزاء والتسخيف والمحاكمة للأقوال والأفعال التي لا ترضخ لإرادته .. الإلحاح على معاناته الشخصية لتبرير ما يرتكبه، وصد الانتقاد والمحاسبة عن سلوكياته .. تحريم حق الآخرين في امتلاك حرية عدم الإذعان له .. استخدام شخصيات نمطية وصيغ خطابية جاهزة وممارسات مستهلكة تؤيده، وتساند تصرفاته، وتصمت بالضرورة عما يمكن أن يهدم القواعد التزييفية التي يرتكز إليها .. إبراز أخطاء وهفوات انتقائية له مصحوبة بالندم وعتاب النفس باعتبارها مساوئًا حتمية لا يتحمّل مسؤليتها، لا بوصفها آثامًا ترتبط بشكل وثيق بالأسس التي يقوم عليها موقفه وتحدد خطواته في الحياة، وبذلك فهي ليست أخطاءً بقدر ما هي أدوات واجبة لإحكام رونقه "الإلهي" كفارس نبيل أراد بالعالم خيرًا فاغتالت طهارته قوى الفساد والظلم .. تمرير انتقادات سطحية وتافهة محسوبة ضده على ألسنة شخصيات أخرى، حتى يسهل له الرد عليها وتبريرها، وبالتالي يكتسب وجوده الموضوعية المطلوبة، ويظل على صواب مهما فعل .. التركيز على رفضه للمكسب المادي "غير النزيه"، وتضحيته بالارتقاء الاجتماعي الشخصي في سبيل الدفاع عن الأخلاق وما يترتب على ذلك من مكابدة وشقاء، وذلك لمنحه الحرية الكاملة في اقتحام حيوات الآخرين دون رادع ومحاولة السيطرة عليها ومعاقبتهم في حال عدم الاستجابة لرغباته، وكأن الأنانية التي يساهم بها الفرد في تخريب حياة من حوله تتعلق بالانتهازية المادية فحسب، وليست مرتبطة ـ وعلى نحو أقوى ـ باستغلالهم قهرًا في إرضاء احتياجاته الذهنية والنفسية المتسلّطة .. استدعاء قسري مختلق لرمز خارق، كرسالة كونية مجانية تؤكد صحة ما يفعله (الكائنات الفضائية في "نهاية العالم ليست غدًا"، ومدرس التاريخ في "رحلة السيد أبو العلا البشري") .. تثبيت رقة نفسه، وصفاء روحه كخلفية يستمد من دهائها دافعًا متجددًا وشرعية حاضرة لاعتداءاته على حرية الآخرين في حربه الكونية ضد (الشر)، والتي لم يخسرها بحسب الانحياز الدرامي نتيجة عجزه عن تفكيك الخرافات التي تستولي عليه، وإنما بسبب الأرواح الضالة التي تهيمن على واقع تحوّل إلى موطن للشياطين، لا يُسمح لكائن "استثنائي" مثله أن يعيش داخله.

لماذا هذا التشابه المحكم بين رياض عبد ربه وأبو العلا البشري، أو الإصرار على تلك الصورة الأبوية للشخص الذي يؤدي هذا الدور؟ .. لأنه إذا ما تم إعطاء أي منهما تكوينًا مغايرًا فلن يتحقق ما يُسمى بـ "النضال الأخلاقي" .. لنتخيل رياض عبد ربه أو أبو العلا البشري رجًلا يؤمن بـ (القيم والمبادئ)، ولكنه يؤمن أيضًا بأنه ليس له الحق في التطفل على حيوات الآخرين أو محاكمتهم أو محاولة تجريدهم من حقهم في (الخطأ) دون وصاية .. لنتخيله رجلًا يؤمن بأنه طالما لا يستطيع أن يحمي من حوله من شرور الغيب الذي خلق وجودهم، والتاريخ الذي أنتج أوضاعهم الاجتماعية، والنظام السياسي الذي يقبض على أقدارهم ومصائرهم؛ فإن سعيه لإرشادهم نحو تصوّره الخاص عن (الأخلاق) وإجبارهم على اتباعه لن يكون إلا نوعًا من الحقارة .. لنتخيل رياض عبد ربه أو أبو العلا البشري رجًلا يؤمن بأنه إذا أعطى لنفسه حق (تغيير الناس) فإن من حق هؤلاء الناس أن يحاولوا تغييره بالتصدي لعنفه تجاه أفكارهم وأفعالهم وأجسادهم باعتبار ذلك سلوكًا متبجحًا يتنافى مع المُثل العليا، ويستوجب تصحيحه مهما كان عمره أو مكانته الاجتماعية أو مستواه الوظيفي .. أن يحاولوا بشتى السبل إفهامه بأن ما يُنظر لها دائمًا كبديهيات أخلاقية، يمكن مقاربتها بمعايير أخرى تتخطى (الخير والشر)، وبالتالي لا يمكن القياس عليها كل ما يعتبره مبررا لإكراه الآخرين على الرضوخ لما يغايرها .. أن يحاولوا تنبيهه طوال الوقت بأن السعي لفرض المعتقدات الشخصية بشكل متعسف على الآخرين هو بمثابة محاولة استنطاق لاواعية لما تضمره تلك المعتقدات، ويعطّل خلاص المختبئين داخل طوباويتها .. لو كان أي منهما كذلك فإنه لن يكون بوسعه القيام بهذا الدور كما في المسلسلين .. لن يكون لقضيب الطبقة الوسطى أن ينتصب كما ينبغي .. لكي تناضل من أجل فرض مفهومك للأخلاق على الآخرين فلابد أن تكون لا أخلاقيًا بمقاييس أخرى.

أنا وأبي كل منا يتلصص على الآخر داخل الكادر .. كل منا يتلصص على ذاته المرجأة عبر الآخر المتعيّن في ورطة القرب الجسدي .. في الأطياف المعتمة حول ما سيصير مركز اللقطة .. أبي يحتضن وهمه، وأنا أتخيل خلودًا محصنًا وشيكًا يحتضنني .. حاضران في الصورة كنطفتين للفناء .. قبران بحجمين متفاوتين في لوحة عائلية مألوفة لرينيه ماجريت .. كعينين مقتلعتين من الخيال .. نبتسم للموت الكامن في كل عينين لا يمكننا النظر إليها، أي في كل موت مختلف يرانا ولا نراه، ومن ثمّ ربما يقدر وحده على تجسيدنا في الموضع الصحيح من السماء .. أبوّة وبنوة تتفحصان مدى الذكورة الغائم .. الحائط، البراويز، الستارة، الطاولة الرخامية، الفازة، الزهور الصناعية، المفارش الصغيرة؛ كل التفاصيل الجامدة حولنا أشبه برموز لاهوت ثمانينية، طردت المؤمنين بها من رحمتها .. أنا وأبي ينظر كلانا إلى أبيه وأمه .. الأبوة والبنوّة تتمليان في نفسيهما من خلالنا .. تلعبان بمبادلة جسدينا في مراوحة تدميرية متلاحقة، تخترق الصورة وتدور حولها وتتعاظم في دوامات هائجة عبر الزمن بينما تبتلع ضبابيتها أشلاءنا.

هل تعني الأبوة أن يحاول الرجل بواسطة ابنه (حيث جميع البشر أبناء له) أن يسترد أباه البدائي (المتقدم على الأوديبي) بمحبته المثالية لكي يحقق له الاستحواذ النرجسي الموعود على الحياة والموت؟ .. أن يستخدم ابنه لبلوغ "الأبوة في ذاتها" المهيمنة على ما وراء العالم؟ .. هل تعني الأبوة أن يحاول الرجل بواسطة ابنه أن يضمن الحماية (الأخلاقية) الغيبية التامة، وأن يسعى للانتقام منه كلما فشل في ذلك حيث لا يسمح الابن بالتماهي بين الرجل كأب (لغوي) والنموذج الأبوي الكامل المحصّن والغائب خارج الوجود البشري؟

أن تقاوم الأب رغم الذكريات .. رغم كل ما هو مقدس .. أن ترصد تلك المقاومة حتى في ما لا تنتبه إليه من كلمات وأفعال .. أن تراقب تماثلك معه فيما تقاومه .. أن تفكر دومًا في ما يطالب الرجل أن يكون كذلك .. في ما يجبره أن يكون كذلك .. أن تفكر دومًا في المثال الكوني الخفي الذي يكافح أن يكونه .. المثال الذي يتمادى في قتله كلما حاول إرضاءه .. الذي يحوّله إلى لعنة على نفسه والآخرين .. حينما تفعل ذلك فأنت لا تنقذ صورته من نفسه أو أفكاره، وإنما من الألوهة التي تلزمه أن يكونها .. تطاردها بقيامة غاضبة مضادة ومن ثمّ ترسلها إلى جحيمها التقويضي المستحق.

أراجيك ـ 6 إبريل 2021

السبت، 3 أبريل 2021

من محاضرة (الأصل الواقعي لرواية "القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد")


 

رقصة واحدة

لم أكن أتخيل أنني حينما أكون هنا سأجد نفسي وحيدة .. من دون ذلك الذي تمنيت أن يشاركني رقصة مختلسة .. رقصة واحدة فقط معه داخل قاعة رقص كهذه .. نعم، أردت أبوابها مغلقة كتلك الابواب .. أردتها أن تكون خالية مثلما هي عليه الآن .. لكنني أردته أيضا أن يكون معي .. كيف جئت إلى هنا؟ .. هل قادتني تخيلاتي بصورة غير مدركة إلى هذه القاعة؟ .. ما فائدة أن أكون وراء تلك الأبواب وحدي؟ .. بدون ذلك الذي كان يجب أن يشاركني الرقص على النغمات والايقاعات التي أسمعها الآن بوضوح تام، كأنها تنبعث من داخلي .. لماذا لا يكتمل المشهد الذي لم يفارق أحلامي مطلقًا؟ .. ربما أنا التي تعمدت ذلك .. ربما أنا التي قصدت أن آتي إلى هنا بدونه .. حتى لا يتكرر الأمر ثانية .. حتى لا يكون معي في لحظة ما ثم أفقده في اللحظة التالية مثل أولئك الذين كنت أعيش بينهم .. ربما أردت أن أسبق الحرمان المتوقع بخطوة .. أن أرقص وحدي، بدون حبيب يكابدني رحيله المحتوم .. نعم .. يمكنني الآن أن أرقص وحدي، ولو رقصة واحدة فقط .. دون خوف من الحسرة.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 31 مارس 2021