الاثنين، 19 أبريل 2021

مارادونا وأوليفر تويست: المراوغة المضادة

كان العالم هو الكرة التي أعطتها إليه السماء في طفولته، ولكي يحميها من كل قطاع الطرق الذين أرادوا أخذها منه؛ كان يجب عليه ألا يهرب أو يختبئ بل أن يجري نحوهم ويراقصهم ثم يتخطاهم، غير مكتف بالحفاظ على كرته فحسب وإنما بأن ينتزع منهم أيضًا ما لا يقدرون على رؤيته أو فهمه؛ فما كان بحوذتهم ليس إلا أرواحًا متناثرة لتلك الكرة التي بين قدميه، وهو بذلك الاختطاف لم يكن يعيد إلى قطاع الطرق ما كانوا يفقدونه دون أن يشعروا بأنه كان لديهم فقط، بل كان يسخر من السماء كذلك؛ فالعالم كان كرته من قبل أن تمنحها له، ولم يكن يحرز الهدف إلا بالطريقة التي تجعله حقًا نجاة مؤقتة من هلاكه المستقر داخلها.

* * *

كان كأس العالم 1982 بإسبانيا هو أول مونديال أشاهده في تليفزيون الطفولة .. لكن تلك المشاهدة اقتصرت على لقطات عابرة في أيام منفصلة لمبارايات كان المنتخب البرازيلي طرفًا في جميعها .. أشعر دائمًا بأن تلك الصدف كانت إثباتًا بطريقة ما للمقولة الشهيرة عن ذلك الجيل من السيليساو بأنه كان البطل غير المتوّج لتلك البطولة .. قبل كأس العالم 1986 في المكسيك كنت قد قرأت نسخة مبسطة من رواية "أوليفر تويست" لتشارلز ديكنز .. أحببت وقتئذ انسجامها مع يقينيات طفولتي: ولد صغير يعيش منذ لحظته الأولى سلسلة من المآسي العنيدة تنتهي بحصوله على حياة جديدة تحمل وعدًا بالسعادة .. كانت تشبه في جوهرها القصص المصورة التي تمثل المكوّن الأساسي لقراءاتي الطفولية، وإن كانت بأشخاص وأحداث وتفاصيل أكثر، وبحبكة أقل بساطة .. كان يمكنني اعتمادًا على اللقطات العابرة قبل أربع سنوات أن أشجع البرازيل، لكن شيئًا ما في داخلي جعلني أنتظر .. شيئًا ما كان يقول لي: فلتشاهد الجميع أولًا .. سألت أخي الأكبر عن منتخبه المفضل كتوصية لن أطلبها إلا منه فأخبرني بتلقائية: ألمانيا .. مرت أيام البطولة أو لياليها بمعنى أصح، وحينما جاء موعد المباراة النهائية كنت أجلس أمام التليفزيون بجوار أخي أشجع ألمانيا من أجله والأرجنتين من أجل مارادونا .. صدفة أخرى ولكن دلالتها كانت أكثر أهمية هذه المرة .. نعم؛ ذلك القصير الممتلئ صاحب القدم اليسرى لم يكن يشبه أي لاعب اخر .. لم يكن حتى مجرد لاعب أسطوري .. بالنسبة لي كان اكتشافًا لمفترق طرق ليست كرة القدم إلا علامة له، وحينما تجد نفسك أمامه فجأة سيصبح لزامًا عليك أن تعيد التفكير في كل شيء.

* * *

يمكن لليُتم أن يكون شيئًا آخر .. أن يُطلب منك المذاكرة .. ألا يُسمح لك بالخروج للعب .. ألا تجد الكرة حين تبحث عنها .. يمكن للملجأ أن يكون ظلام شارع لا تركض داخله .. ولكن حينما تكون الكرة بين قدميك فأنت تعرف جيدًا ما عليك فعله .. ستراوغ الجميع وتمرر الكرة من بين أقدامهم ومن فوق رؤوسهم وتسجل أهدافًا لا يحرزها غيرك .. ستفعل هذا نيابة عن رفاق اليُتم كلهم .. عن الأطفال في سجن رئيس عصابة النشالين، أو في سجن ديكتاتور البلاد .. نيابة عن الأطفال المطرودين من الحفلات الراقصة .. كأنه وعد أبدي لن يمنعك شيء من تنفيذه ولو بيدٍ محنطة كالمومياء، مزينة بالغرز .. ولو أحرزت أهدافًا بتلك اليد؛ فأنت الوحيد الذي تمكنت من إثبات أنها "يد الرب" فعلًا .. ليس الرب الذي يصرخون شكرًا له على وجودك، ولكنه ذلك الذي يعبدونه في الكنيسة التي تحمل اسمك، ويحسبون زمنه وفقًا ليوم ميلادك، ويعرفون أن بإمكانه التجسّد ولو في ملعب طيني مرتديًا الرقم 10 كي ينقذ حياة شخص ما .. إنه حق القلوب عليك بألا تتوقف عن العبث بقساوتها .. رغم البكاء .. البكاء أحد شروط اللعبة كما تعلم .. هو جوهرها الحميم إن شئت القول .. القرين الشاحب والمنهك، الذي يحتضن رأسك داخل صدره عند اللحظات الفارقة، وبينما تنصت لدقات قلبه المرتعدة سيتلفت حوله بشعره الأشيب وتجاعيده الثقيلة وعينيه الغائمتين مستكشفًا المتاهة الجائعة التي تحاصركما .. لكنها ليست اللعبة التي لابد أن تهرب خلالها من اللصوص وإنما أن تطاردهم .. أن تندفع صوبهم ثم تبتسم في وجوههم الذاهلة بكامل طفوليتك وأنت تسرقهم .. ما رأته بصيرتك من قبل أن تراه أبصارهم .. ما كان ماضيًا بالنسبة لك، وأصبح مستقبلًا بالنسبة لهم .. تسترد ما كان لك أصلًا .. تعطيهم في الوقت نفسه خلاصًا خياليًا ما كانوا يدركون أنهم قادرون على بلوغه .. المقايضة الحتمية: يلاحقونك بمجازر الضرب والشتائم، وتعلمهم في المقابل كيف يحلمون بأنفسهم داخل قبعة سوداء .. هذا ليس ركضًا أو مراقصة أو تسجيل هدف في الخارج كما يبدو .. إن الأمر يحدث كليًا في داخلك .. حول السر الغامض في نفسك .. السر الذي يُمتعك ويبكيك .. السر الذي يمتد عبر أجساد الآخرين ويعود إليك كشبح مفتون، توقن أن في مخاتلته يكمن مصيرك.

* * *

سألتني طفلتي من هو "مارادونا" الذي أطلقت اسمه على القط الصغير الذي أصبح عضوًا جديدًا في عائلتنا .. جعلتها تشاهد فيلمًا وثائقيًا قصيرًا يتضمن مسيرته منذ البداية وحتى الاعتزال .. كان هذا فقط من أجل الإجابة على سؤالها المتعلق بالقط الصغير، ولكن إذا أردت أن تعرف مارادونا حقًا فلا تكتفي بمقاطع الأهداف والمراوغات والتمريرات الحاسمة .. شاهد مباراياته كاملة منذ لحظة دخوله الملعب وحتى مغادرته .. تمريناته الإحمائية .. نظراته لعدسات المصورين .. الرسائل التي يمررها بحركات شفتيه أثناء عزف السلام الوطني .. طريقته في تحفيز زملائه .. إشاراته للجماهير .. أفعاله تجاه المنافسين .. سعادته الراقصة وهو يركض نحو الراية الركنية قبل أن يقفز ملوّحًا بقبضته كلما سجل هدفًا .. بكاءه .. راقب جيدًا كيف كان شبحًا يطوي الزمن داخل الملعب: يتسلم الكرة في بقعة ما ثم يمررها لزميله وبعد لحظات خاطفة تجده يتسلمها مجددًا في بقعة بعيدة تمامًا عن الأولى .. كأنه ليس لاعبًا واحدًا وإنما كل لاعبي فريقه، وللدرجة التي تجعلك تتخيّل أنك لو التفت فجأة ستجده بجوارك أمام التليفزيون يتفرج على نفسه .. كانت خطوط الملعب بالنسبة له أشبه بخيوط حرير لا يتوقف عن تمزيقها من جميع الاتجاهات كفراشة بدينة لها زمنها الخاص .. أتذكر جيدًا المشهد الكوميدي بينه ومساعد الحكم في مباراة انجلترا الشهيرة حينما سقطت الراية وهو على وشك تنفيذ ضربة ركنية فأمره المساعد بأن يلتقطها من على الأرض ويعيد تثبيتها، وحينما فعل مارادونا ذلك متعجلًا ليتمكن من لعب الكرة؛ عاد مساعد الحكم من جديد وأمره أن يثبّت الراية بإحكام فابتسم مارادونا فاردًا ذراعيه بنفاذ صبر طفولي، وبدا كأنه يقول للمساعد مستغربًا: "هل أنا عامل صيانة أيضًا؟" .. إذا أردت أن تعرف مارادونا داخل الملعب حقًا فعليك أن تشاهده خارج الملعب .. داخل مصحة التهذيب الهائلة التي حوّلها إلى حديقة كارتونية .. ظل مارادونا منذ اللحظة الأولى التي شاهدته فيها عام 1986 يواصل تجسيد أوليفر تويست في خيالي ولكن بشكل مناقض .. منذ أدركت ذلك الشغف المستحيل المتجذّر في روحه بما ليس بإمكان الكرة التي بين قدميه أن تصل إليه .. بما ليس في متناوله حين يركض ويراوغ ويسجل هدفًا .. أي شيء ذلك الذي ليس في متناوله؟ .. إنه خام الوجود الذي لا ينجو منه حتى الأنبياء والرسل والقديسون .. كينونة العالم .. زهرة الزهرة الكونية من قبل أن تتحوّل إلى دخان متناثر داخل الحياة والموت.

* * *

كلما حصلت على عائلة جديدة يجذبك الجموح خارجها .. عائلة من الهتافات اللامعة والتمجيدات المحمومة .. لا أحد يفعل هذا مثلك .. لست ابنًا لحقيقة إلا مزاجيتك .. أن يعتني بك فحسب ذلك الخليط الجنوني من الغضب والعاطفة .. أن تعيش كل المتنافرات إلى أقصاها .. أن تصل بأي مقامرة إلى حدها الأخير .. لكن الموت ليس حدها الأخير بل الثمالة .. التذكير الأبدي الهازئ بالحكمة المضادة التي لا تُدفن في قبر .. ليس هناك حياة جديدة سعيدة .. هناك طيش ذاتي فقط يناقض كل خرافة .. انفلات شره خارج الأحلام المثالية لعقيدة جعلك الآخرون سيدها .. إنه السلام الذي حصلت عليه روحك قبل رقادها .. التي لم تكن روح إله أو مخلّص أو بطل خارق أو مثال نمطي لسلطة الكاريزما .. إنما كانت روح ذلك الطفل الذي يطارد قطّاع الطرق بنقاء قلب شيطاني حيث تكمن البراعة القاتلة.

* * *

بدأت كتابة رواية "الفشل في النوم مع السيدة نون" في منتصف عام 2013 .. كان أخي الأكبر قد مات فجأة منذ شهور قليلة، واكتسب غضبي الغريزي الذي أتنفسه منذ ولادتي مزيدًا من المضاعفات المستعرة .. كنت أريد أن أصعد إلى السماء وأحرقها فعليًا .. أن أضع شيطاني المنتعظ في ممر الخراء الكوني .. كنت ألهث حرفيًا أثناء الكتابة .. أركض صباحًا ومساءً فوق الصفحات البيضاء كقط مرتعش، مراوغًا القيم والمحاذير .. أتخطى حواجز المقدس بعفوية لا تلتفت وراءها، كأنني لا أبصرها، أو لم يكن لها وجود من الأساس .. كانت اندفاعاتي المحمومة تتأرجح في ذاكرة الأجساد والأزمنة والكلمات والأماكن والأشياء والأفكار والشهوات .. في أسرار وهواجس ومكائد كل مشهد ولحظة وحلم .. في خيال كل ذاكرة .. كان انتقامًا من الطمأنينة وقفت في نهايته غير مصدق: ما الذي فعلته بأسرتي؟ .. كنت منتشيًا بغرابة، كأنها لحظات ما بعد أورجازم لغوي أطلقت خلاله العفاريت ـ كما كتبت في الرواية ـ داخل ميدان مزدحم كي أعذبها للحظات قبل أن ترتد إلى داخلي ثانية .. لكن الذنب التقليدي كان يغرز شوكته المسمومة في روحي .. كيف ترتكب كل هذه الآثام في حق أمك وأبيك وإخوتك وجدتك دون يردّك شيء؟ .. لكنني لست آثمًا .. أردت فقط الاحتفاظ بكرتي .. إما أن أفعل ذلك وإلا سأموت .. أردت أن أعيد إليهم أرواحهم ولكن داخل الحياة التي لم يفطنوا إليها .. أن أسترد بكائي الطفولي لا أن أبكي نهايتي .. إذا كانت كل الرهانات خاسرة فليكن احتفالًا بالسخرية من فكرة الرهان نفسها .. سأضع صورتي طفلًا مع أمي على غلاف الرواية إمعانًا في الإثم، وليتذكر قاطع الطرق الأعظم أنني لم أكن عبدًا له.

أراجيك ـ 19 إبريل 2021