الجمعة، 30 أبريل 2021

هامش الرجل الذي ربما يكون طبيباً نفسياً، أو طفلاً في إعلان لافاش كيري

ينام على الكنبة .. بعد قليل سأنام بجواره، وأبكي مثل (عبد المنعم مدبولي)، و(فؤاد المهندس) في (مطاردة غرامية) .. يقرأ أمامي فقرة قصيرة عن العلاقة بين روما القديمة، والقوط الغربيين في إسبانيا .. أستمع إليه، متأكداً من أن الـ (هو) لديه قد بلغ أقصى درجات الرغبة في قتل (الأنا)، و(الأنا العليا)، وتحنيطهما، وتعليقهما أمام عينيه، ثم البكاء عليهما.

أعرف أنه بارع في رد اللعبة إليّ؛ فأجد نفسي مستسلماً للتداعي الحر، متيقظاً في نفس الوقت لقدرته على رصد التكرارات اللفظية التي أستخدمها في سرد الذكريات .. لكنني أيضاً بارع في إفساد اللعبة كلها .. أتعمّد إبراز سلوك معين، أو ألم مختزن بالكيفية التي تدفعه لتركيز انتقائي، يُربك (الانتباه العائم المتساوي)، حيث يعثر في ذلك السلوك، أو الألم على ما له علاقة بسلطة تخصه حتماً .. النتيجة دائماً تكون مضحكة بالطبع؛ فنماذج الصراعات التي ينبغي تحليلها معاً يجب أن تُعطي قبل أن نصدّق استقرارها أسباباً مُرضية لتبرير جدارتها كموضوع للنقاش، والحسم دون غيرها .. الجملة الوحيدة التي تمكّنت من قولها في هذا اليوم له: (الوسواس القهري مريض بك).

(لو كنت أعيش في العصور الوسطى؛ لفشلت أيضاً في النوم مع المرأة التي تجمع الزهور بجوار بحيرة ما، كنت ستعرف ذلك من اللوحات) هكذا رد عليّ.

لماذا لم يجعلني العالم أتكلم كثيراً، وأتحرك كثيراً، وأفاجيء من حولي بانفعالات لحظية غير متوقعة أبدو من خلالها ذكياً، ومجنوناً، ومتفلسفاً، وساخراً، وعصبياً، وطفولياً، ومهموماً، وقيادياً، وحسّاساً بغرابة متناهية كـ (نور الشريف)، أو (يوسف شاهين) في (حدوتة مصرية) .. لكن ربما ما نفع (يوسف شاهين) فقط أنه كان مخرجاً، ولاشك أن ذلك حرمه من أن يكون مثلي .. أنا مقتنع للغاية بأنني مثلما خسرت بسبب عدم وجودي في الحياة كشخصٍ ما؛ فإن ذلك الشخص ـ مهما كان ـ قد خسر بالضرورة أن يتخذ وجودي .. لهذا أنا أرفض، وبشدة مصطلح (الفن المسيحي) في القرون الوسطى .. فيه من التضليل ما يفوق الإهمال الذي لاقاه تحليل (هيجل) عن الديالكتيك في القبلة: (اختلاط الأفكار، والرغبات المتناقضة في التقاء شفاه الرجل بشفاه المرأة، حيث لديهما فرصة التحوّل إلى شيء أفضل) .. يتذكر؛ فيقاطعني (لا أحب "هيجل" لكنني لا أنسى: " احتفل بهذا المزيج بقبلة، وسوف تكون قد طبّقت الديالكتيك بطريقة تجعل "ماركس"، و"انجلز" يغاران منك").

ينتقل من الكنبة إلى الكرسي .. يضع رِجلاً على رِجل كأنه جالس على مقهى .. أنظر إليه، وأتخيله ميتاً في هذه الوضعية، مستعيداً إفّيه (أمين الهنيدي) في (عبود عبده عبود): (أظن ده يوم القيامة يصقف، ويقول " الحساب ").

يُعد التعالي على النوستالجيا من أهم سمات صاحب الشخصية القوية، ومن أنجح أدوات اكتساب الهيبة .. لكن ذلك التعالي ليس بالفعل السهل كما يتخيل البعض، بل إنه يستلزم في الواقع التضحية بثلاث ميزات: استيعاب إمكانية قدرة أي حالة حنين على الكشف عما لم يكن ظاهراً فيها بوضوح بناءاً على ما تقترحه من خلخلة للذاكرة .. فهم أن النوستالجيا ارتكابات لتكاثر الدال، وليست صلاة تأليهية لمدلول مهما بدا أن الخدعة ـ العاطفية ـ التي تدعي العكس متفوقة في عملها .. الاعتراف بأن التعالي في صورته الأعنف ربما يكون تعبيراً عن الانحياز للحنين الشخصي، كراهية، وإنكار الضعف تجاهه، وذلك بواسطة الاعتداء على حنين الآخرين، والانتقام منه .. ربما يكون تعبيراً عن الغيرة الناجمة عن النسيان، والعجز عن التذكر .. لكن في النهاية لا عليك من هذه الميزات، حتى لو كانت التضحية بها تجعلك مستحقاً لأن توضَع على حمار بالعكس حتى يزفّك الأطفال .. كن متعالياً فحسب.

يأخذ سيجارة من علبتي التي على المكتب .. بعد أن يشعلها، يخبرني أنه توصّل إلى حل رائع لإنهاء مشكلة الشك في الذين يقولون، أو يكتبون عنه كلاماً جميلاً .. (على الأقل لم تصل بشاعتي للدرجة التي لا يقدرون معها على الكذب) .. يمكن لهذه القاعدة أن تنجح أيضاً مع من يعذبه التفكير في ممارسة الجنس مقابل المال (على الأقل لم تصل بشاعتك للدرجة التي ترفض معها امرأة فتح فخذيها من أجلك ، ولو بمقابل) .. هذا ما تضطر إليه مع فقدان قوارب النجاة، وكلما خطوت داخل إعصار كالذي صادفت فيه (جوزيف كونراد) ذات مرة.

من رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” ـ دار الحضارة 2014