الأحد، 30 سبتمبر 2018

«أخبار الأيام» لبوب ديلان: أغنية الذاكرة

في مذكراته "أخبار الأيام" التي صدر الجزء الأول من ترجمتها العربية حديثاً بتوقيع عبد الوهاب أبو زيد عن عن مجموعة "كلمات"؛ يسرد بوب ديلان الماضي كأنما يطمح لتحويله إلى أغنية ممتدة، تمزج بين عفويتها اللحنية، وانضباطها البنائي الخاص. تصبح صور التفكير وممارسة الحياة وتأمل البشر والوعي بالتفاصيل والأحداث أشبه بالنوتات الموسيقية التي تمثّل في تشكّلها وامتزاجها احتمالات لا نهائية لصوت بوب ديلان.
"غير أن جون كان رجلاً استثنائياً. لم يكن ينتج تسجيلات غير ناضجة أو يسجّل لفنانين أغرار. كانت لديه رؤية وبصيرة، شاهدني واستمع إليّ، أحس بموهبتي وآمن بما سآتي به في المستقبل. قال لي إنه يراني كشخص أنتمي إلى خط طويل لتقليد ما، تقليد البلوز، والجاز، والفن الشعبي".
ثمة شغف طفولي يمكن إدراكه في استدعاء وتشريح الحائز على جائزة نوبل 2016 للشخصيات التي رسمت علاقاته بها مشاهد عالمه الإنساني والفني؛ إذ يبدو كأنه يسترجع أو يُعيد التوحد بتلك النظرة المفتونة أو ذات الحساسية الاستكشافية، التي كان يراقب بها هذه الشخصيات، ويتعرّف إلى تواريخها المتباينة، ويختزن ملامحها ومظهرها وطباعها، وبالضرورة طرق عزفها وغنائها. كانت تأثيرات هؤلاء البشر، والأطر التي تكوّنت لقاءاته بهم من خلالها أقرب إلى ذخيرة جمالية ستتحوّل إلى أغنية دائمة التشكّل للذاكرة، في مواجهة الزمن، أراد بوب ديلان أن يعطيها في مذاكراته نظاماً سردياً يتيح لها إعادة إنتاج نفسها، أي أن تعثر على أحلامها داخل نطاقات معرفية وشعورية تتخطى طبيعتها الأصلية، فضلاً عن حضورها الرمزي في قصائده وأغنياته. يعتمد هذا النظام السردي على توظيف الإيقاعات المختلفة للعبارات القصيرة والطويلة، والتي تتخللها اتكاءات استطرادية منوعة من المجاز، تُعادل الهارموني الموسيقي بين النغمات الرئيسية والثانوية، وهو ما يشيّد طبقات من الصور الملوّنة بعواطف مختلفة، وإن كانت النبرة الهادئة في المذكرات يمكن الإنصات إليها كحاكم مهيمن بطريقة ما، الأمر الذي ينسجم مع الطابع التقريري لعنوان المذكرات.
"ما كان يميزني حقاً في تلك الأيام هو ذخيرتي من الأغنيات. كنت أكثر ثراءً من بقية عازفي المقاهي، وكان القالب الذي أقدمه هو الأغنيات الشعبية الجامحة hard-core المدعومة دون توقف بالعزف على الأوتار بصوت عالٍ. كنت إما أن أنفر الناس مني أو يقتربوا أكثر ليتبينوا حقيقة ما أفعله. لم تكن هناك حالة بين الحالتين. كان هناك مغنون أفضل مني وموسيقيون أفضل حول تلك الأماكن، لكن لم يكن هناك أحد قريب من طبيعة ما كنت أفعله".
هل أراد بوب ديلان أن يحقق في مذكراته ـ كأغنية حكائية تسعى لتجاوز واقعها السابق ـ ما فعله "جاك كيرواك" في "على الطريق" على مستوى التأريخ للأسماء والوقائع الأدبية والفنية وأماكنها من خلال منظوره الموسيقي للسرد؟ .. يحضر "كيرواك" في "أخبار الأيام" لا ليقدم دليلاً على هذه الرغبة عند بوب ديلان فحسب، بل ليؤكد أيضاً على القوة التبادلية للأثر الفكري عند المنتمين إلى جيل "البيت" الأمريكي الشهير: جاك كيرواك، ألن غينسبرغ، ويليام بوروز، لورنس فرلينغيتي، غريغوري كورسو، أدريان ميتشيل، ديان دي بريما، وغيرهم.
"أردت أن أشعل النار في هؤلاء الناس، هؤلاء المقتحمين الأبواب، الأشباح، المتعدّين، الديماغوجيين، لقد كانوا جميعاً يتسببون بالقلق لحياتي المنزلية. وما زاد الطين بلة هي حقيقة أنني لن أستطيع التعرّض لهم، وإلا فسيرفعون عليّ القضايا في المحاكم. كل نهار وكل ليلة كانا مليئين بالمشاكل. كل شيء كان خاطئاً، العالم كان سخيفاً. كان يدفع بي في زاوية. وحتى الأشخاص القريبين والمقربين لم يعرضوا عليّ أي مساعدة".
ثمة صراع يبدو كمحرّك أساسي للعالم في هذه المذكرات: أن تمتلك ما تعتبره قوتك الذاتية، وأن توفر لها الحماية من التهديد الذي يطاردها لأن تكون شيئًا آخر. يحلم بوب ديلان بحياة طبيعية، ومنزل في حي مزين بالأشجار مع سور خشبي أبيض، وورد زهري اللون في الفناء الخلفي .. الحلم الأعمق المتآلف مع بصيرته الموسيقية، أي القوة الذاتية التي لا تطرح نفسها كسلطة .. لكنه في الوقت نفسه محاصرًا بالنظر إليه كرمز، يسوق المشهد الموسيقي برمته، خاسراً خصوصيته التي لا يستطيع شراءها مجدداً .. مع ذلك يفكر بوب ديلان في قوته الذاتية أيضاً من خلال رجاءها الكلي، أي في الاستحواذ الشامل على فكرة القوة .. يكاد يكون الاحتفاظ للأبد بذلك الشعور الذي كان لديه حين لعب دور جندي روماني صامت فوق المسرح: "شعرت أنني جزء من كل شيء، في مركز الكوكب، لا أُقهر".
ربما يظهر هذا بوضوح عند تفكيره في حكمة "مكيافيللي": "لكن بضعة أشياء بدت لي نافرة ـ مثلاً، حين قدم الحكمة التي تقول إنه من الأفضل أن تكون مهاباً على أن تكون محبوباً، وهو ما يجعلك تتساءل إن كان مكيافيللي يفكر تفكيراً عميقاً حقاً. أعرف ما كان يعنيه، لكن أحياناً في الحياة، قد يوحي شخص ما محبوب بخوفٍ لم يحلم به مكيافيللي على الإطلاق".
هذا ما قد يخلق الاستفهام: هل كان بوب ديلان يدافع عن نفسه كـ "شخص محبوب" يفكر فيما يشعر أنه ينقصه ـ سنلاحظ الإعجاب المتكرر في المذكرات لشخصيات تجمع بين الحب والهيبة ـ أم أنه أراد أن يثبّت ما يعتبرها حقيقة لم تترسّخ بالقدر الكافي عن وجوده، وهو ما قد يجعلنا نفكر في ذلك الذي ربما يكون هوسًا جذريًا بأقنعته الاعترافية الممكنة عند بوب ديلان .. ربما هو الهوس الذي صنع الأيام التي يمكن قراءة أخبارها كأحاسيس ضمنية في أغنياته.
جريدة "الحياة" اللندنية ـ السبت 29 سبتمبر 2018

الأربعاء، 26 سبتمبر 2018

لحظات الطيران المؤقتة


الكيس البلاستيكي الصغير وهو يرتفع
لا يظن نفسه طائرًا
يعرف أنه لا يزال كيسًا بلاستيكيًا صغيرًا
وأن الهواء الذي صعد به فوق كل شيء
عدا السماء
لم يمنحه جناحين
أو صوتًا ينادي به على أحد.
يعرف أنه لا يزال مهترئًا ومتسخًا
وأنه سيهوي ثانية دون شك
مع هذا يشعر بالسعادة
حتى يبدو كأنما يضحك بأسلوبه الخاص
ذلك لأن لحظات الطيران المؤقتة
ليست إلا تذكرًا مفاجئًا لحكاية
كان يظن في الماضي البعيد
أنه يفهمها جيدًا
وأنها ستبقى معه للأبد
قبل أن تتساقط منه بالتدريج
كأحلام لا يمكن تفسيرها
بينما يواصل إدراك حقيقته
ككيس بلاستيكي صغير.
صحيفة "المثقف" العراقية ـ 24 سبتمبر 2018
photo by: Helen Levitt

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2018

يوميات: الثلاثاء 25 سبتمبر 2018


حلمت أمس بالشخصية الواقعية التي كتبتها في قصتي القصيرة "تقتلني بنعومة"، واستيقظت سعيدًا وأكثر يأسًا .. بالضبط كأني عشت حكاية فعلية بدأت من نهايتها المرجوّة ثم عادت إلى بداية مررت بها آلاف المرات ومازالت صادمة .. هكذا فقط.
انتهيت من مقالي لأخبار الأدب، وينبغي أن أبدأ غدًا في مقال آخر لمجلة عالم الكتاب؛ لكن عاصفة من القلق التقليدي تنشط في رأسي مجتاحةً أفكار الكتابة .. غدًا تبدأ "ملك" عامها الدراسي الجديد، ورغم الذكريات الاحتفالية التي عاشتها في السنتين الماضيتين؛ ستعود الوساوس الصباحية لمطاردتي وهي بعيدة عن عينيّ داخل ما أعتبره مصيدة كبيرة للأذى: كسر الخاطر .. التعب المفاجئ .. التعرّض لإصابة جسدية غير مضمونة المدى .. كالعادة ستكون هذه الوساوس التي لا أستطيع كبح تأثيرها عندما أدخل بابنتي إلى المدرسة في الصباح الباكر، وقبل خروجي منها عائدًا بها إلى المنزل في الظهيرة؛ كالعادة ستكون سببًا في احتدام الجدال الروتيني بيني وبين أمها التي تنظر إلى مخاوفي كمبالغات غير مبررة، بينما يستحيل إقناعي بشيء آخر سوى أننا في مصر، وأن هذه مدرسة مصرية، وأن هؤلاء طلاب ومعلمون وموظفون مصريون، وأن القتل بتنويعاته الطائشة، والأكثر حقارة هو الأصل الحتمي الذي نتنفسه.
قبل النوم نشاهد يوميًا حلقة جديدة من "رحلة السيد أبو العلا البشري" .. حقيقةً أنا الذي أشاهدها وحدي؛ حيث "ملك" تتبادل التطلع إلى الشاشة مع اللعب بعرائسها أحيانًا، وعلى التابلت أحيانًا، ودغدغتي أحيانًا أخرى .. زوجتي تتحدث مع أمها أو إحدى شقيقتيها على الهاتف، أو تخيّط قماشًا ما، أو تجهّز شيئًا لطعام الغد .. أشاهد المسلسل وحدي بعينين متمايزتين: عين النوستالجيا، وعين التأكيد على ضرورة إنجاز دعابة كتابية ما عن فحول الطبقة الوسطى، أو نماذج القضبان الأبوية في دراما أواخر السبعينيات والثمانينيات: "أبو العلا" في "رحلة السيد أبو العلا البشري"، "بابا عبده" في "أبنائي الأعزاء شكرًا"، "رياض" في "نهاية العالم ليست غدًا".
لماذا لا يُنظر إلى الرسائل الشخصية المقصود تمريرها عبر الأعمال الأدبية بوصفها أفكارًا غير منفصلة عما يتم اعتباره ملامح جمالية أو رؤى وجودية لها استقلال ما عن الواقع الخاص بالكاتب؛ تجاربه، صراعاته، الشخصيات التي تُحاصره ويختبر الحياة والموت من خلالها. على هذا النحو يمكن تأويل هذا المقطع من قصتي القصيرة "بطوط" التي سبق نشرها في موقع "الكتابة"، وعلى هذا النحو أيضًا يمكن الحدس بالمبرر الذي يجعلني أرغب في ضم هذا المقطع إلى يومياتي:
"لاشك أن التأثير الناجح لهذا الانقطاع عن الآخرين كان سببًا جوهريًا لهذه السعادة؛ فقد تزايد الاهتمام والاحتفاء بكتاباتي، وانتشرت الاقتباسات من نصوصي في كل مكان، كما كثرت الكتابة عن أعمالي، وإعادة نشرها، فضلا عن التدفق الذي لا ينقطع لمخطوطات وإصدارات الآخرين إلى بريدي، والآملين في مراجعتي لها وتقديم النصائح، والكتابة عنها، وكذلك الدعوات المتواصلة لمناقشة الأعمال الأدبية في ندوات ومؤتمرات، ولتدوين وإلقاء الشهادات عن الكتابة، وللمساهمة في ملفات بالصحف والمجلات والمواقع، أو لكتابة مقالات ثابتة في مطبوعات ثقافية، أو للحوارات الصحفية والمقابلات الإذاعية والتليفزيونية، إلى جانب ترجمة كتاباتي، وتحويل قصصي إلى أفلام قصيرة، وحصولي على جوائز، مع العروض التي تقدمها دور النشر لإصدار كتبي .. أما حالة الهوس العام التي بدأت منذ سنوات طويلة على الإنترنت بهذا المقطع من قصيدة "عنكبوت مسكين يقيس زاوية الحائط":
"لا تخف
ليس معنى الوقوف في النافذة
أنك ستسقط
ليس معنى السعال
أنك مصاب بالسرطان
ليس معنى ضيق التنفس
أن قلبك به شريان مسدود
الحياة فقط هي التي معناها
أنك ستموت".
هذا الهوس العام مازال في تصاعد مستمر على مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات والمنتديات والمواقع الأخرى، والذي جعل هذه الكلمات من أكثر الاقتباسات تداولاً على الإنترنت، إن لم تكن الأكثر شهرة. جموع بشرية هائلة تتزايد عبر الزمن في كل مكان بأعمار وجنسيات مختلفة يواصلون نشر هذا المقطع، ويضيفون إليه الصور واللوحات، ويستخدمونه كتوقيع يُعبّر عن وجودهم في العالم".

الاثنين، 24 سبتمبر 2018

عن "الجرائم الحقيقية"، والناقد الذي يحارب سلطة النقاد

أريد أن أبدأ عودتي لكتابة سلسلة مقالات "نقد استجابة القارئ العربي" بإعادة نشر قصتي القصيرة "الجرائم الحقيقية"، والتي نُشرت في أنطولوجيا السرد العربي منذ فترة قصيرة .. إعادة النشر هذه لا ترجع فقط إلى ارتباط القصة بالمشروع الذي بدأته على موقع "الكتابة" الثقافي في شكل باب أسبوعي بداية هذا العام، وإنما إلى علاقتها أيضًا بـ "نكتة" لم أتحدث عنها في وقتها، وهي أن فيسبوك قد قام بحذف "الجرائم الحقيقية" من صفحتي في اليوم التالي لنشرها، بناءً على بلاغات وردت إلى إدارته بحسب الرسالة التي تلقيتها، قبل أن أنجح في إعادة القصة إلى صفحتي ثانية .. من الذي يرغب في حذف هذه القصة، ويعمل على تحقيق ذلك بالفعل مع آخرين لديهم رغبة مماثلة عن طريق تقديم "بلاغات"؟ .. "الجرائم الحقيقية" لا تعطي فقط إجابة لهذا الاستفهام، وإنما تبيّن كذلك كيف يمكن لهذه البلاغات أن تؤكّد ما تضمنته هذه القصة.
أتذكر أنه منذ عام تقريبًا وفي إحدى الندوات؛ بدأ أحد الحاضرين مداخلته تعقيبًا على المحاضرة التي ألقيتها بوصفي "الناقد الذي يحارب سلطة النقاد" .. حسنًا .. هذا يشعرني بالسعادة، ولكنني سأضيف شيئًا أساسيًا؛ هناك العديد من النقاد الذين يدركون جيدًا تقديري لهم، حيث يعيشون بالفعل خارج الحفل الذي أقيمه على كل المنتفخين بسلطة النقد كفقاعات تعيسة، وتمنحني استجاباتهم الخفية والمعلنة عبر فيسبوك ـ مثلًا ـ تجاه ما أكتبه ضد أوهامهم الاستعلائية سعادة مضاعفة.
الجرائم الحقيقية
تواصل معي على فيسبوك محرر صحفي يعمل في مطبوعة ثقافية عربية راغبًا في إجراء حوار عن مشروع "نقد استجابة القارئ العربي" الذي أنشر مقالاته في باب أسبوعي على موقع "الكتابة" الثقافي. كعادتي طلبت منه قائمة بجميع الأسئلة حتى أرسل له إجاباتها دفعة واحدة في الموعد المحدد، على أن أقوم بالرد على أي استفهام أو استفسار جديد يطرأ في ذهن المحرر بناءً على تلك الإجابات. بعد أسبوعين تقريبًا تم نشر الحوار، وكان كالتالي:
الناقد ممدوح رزق: القارئ ليس إلهاً، وجودريدز قوّاد كتب.
في مطلع العام الحالي بدأ الناقد ممدوح رزق في كتابة سلسلة مقالات أسبوعية لموقع الكتابة الثقافي تحت عنوان (نقد استجابة القارئ العربي). حول هذا المشروع كان لنا معه هذا الحوار:
ـ لا تخلو مقالات (نقد استجابة القارئ العربي) من السخرية، إلى من توجهها تحديداً؟
هي سخرية من إيمان القارئ بأن فكرته الشخصية عن العمل الأدبي، وعن الكتابة بشكل عام بمثابة حقيقة مطلقة، وما قد يتبع هذا الإيمان من ممارسات عقابية تجاه الكاتب، ومحاولات فرض الوصاية على القرّاء الذين لديهم أفكار مختلفة، وكذلك من السلطة المعرفية التي تستثمر هذه الألوهة المزعومة للقارئ.
ـ ما هى ممارسات عقاب الكاتب التي تقصدها؟
في سلسلة المقالات تناولتها بشكل تفصيلي، ويندرج في إطارها الريفيوهات العدائية التي تتعمّد إهانة العمل الأدبي وكاتبه تحت دوافع أخلاقية أو دينية مثلًا، والتحذير من قراءة هذا العمل، والهجوم على المقاربات النقدية التي تحتفي به، وحتى التعقّب "القانوني"، وبالطبع تتفاوت مستويات اللغة أو حدة "البلاغة" المستخدمة في هذا العقاب.
ـ خصصت جزءاً كبيراً من (نقد استجابة القارئ العربي) لموقع جودريدز، كيف تعرض رؤيتك له الآن؟
موقع جودريدز ـ وما يشبهه ـ بالنسبة لي مجرد قوّاد كتب، يقوم على آليات انتهازية سخيفة، تستغل رغبة القارئ في تجاوز فرديته أو فضائه الخاص إلى المساهمة الأبوية في تحديد يقين عام عن الكتاب حتى لو لم يسبق له الاطلاع عليه أصلا، أو بحسب كم الحسابات المغشوشة التي يمتلكها على الموقع؛ ولهذا فمن العادي جدًا أن يعطي أحدهم لكتابك نجمة واحدة لأنك قمت بحظره على فيسبوك مثلًا، أو لأنك لم تكتب مقالًا عن الرواية التي أرسلها إليك، أو لأنك تهكمت عليه في أحد نصوصك، أو لمجرد الغيرة؛ لذا فتقييم الأعمال الأدبية بالنجوم مسألة تزييفية سمجة، وجديرة بالازدراء. الكاتب لا يقدم وجبات طعام، أو خدمة فندقية، ولا يكتب إرضاءً للجميع أو لأحد بعينه كي يكون للآخرين الحق في التعامل مع كتاباته بمنطق النجاح والفشل.
ـ ما هي علاقتك ككاتب بموقع جودريدز، وهل مازلت تستخدمه؟
تحدثت في أحد مقالات "نقد استجابة القارئ العربي" عن علاقتي بجودريدز، وذكرت أنني أضفت كتبي إلى الموقع عام 2009 ، وكنت أنشر أحيانًا قرءاتي النقدية به، ولم يكن الغرض كذلك ـ كما سبق وكتبت ـ هو قراءة التدوينات حول الكتب فحسب بل تأويل هذه التدوينات أيضًا، مراقبة سلوكها اللغوي، النطاقات التي تتحرك في حدودها، والمقارنة بينها. كان الغرض هو اقتفاء أثر ما تتبناه، وما تهمله، وتفسير الدوافع وراء ذلك. منذ فترة طويلة لم أعد أتصفح هذا الموقع إلا نادرًا، ولا يزال القراء يضيفون كتبي إليه، وأحيانًا لا أعرف بذلك إلا بعد مدة كبيرة.
ـ هل تهتم بمراجعات القراء عن أعمالك؟
لا أهتم سوى بالآراء والمقاربات التي تحاول اكتشاف وتشريح نصوصي، وتعيد خلقها لا أن تحاكمها؛ فمن السذاجة والعبث أن تنظر بجدية لمن يحاسبك على تجارب لا يعرف عنها شيئًا، أو على مخالفتك لما يظنه بتعنّت طفولي قواعد مقدسة للكتابة، أو على ما يعتبره ـ بمنتهى النطاعة العمياء ـ تعاملًا خاطئًا من جانبك مع آلامك الشخصية. "نقد استجابة القارئ العربي" يفكك هذه الأساطير المرتبطة بالتلقي، ويكشف مدى هزليتها وبؤسها، وهو في ذلك يطمح لكتابة تاريخ آخر للجماليات الأدبية والنقدية يجرّدها من الأوهام التحريمية المعتادة.
ـ ماذا تطلق إذن على سبب عدم تجاوب القارئ مع كتاب معين؟
أطلق عليه تباينًا في طبيعة الرؤى .. اختلاف الموقف الوجودي والجمالي من العالم .. عدم التوافق في الإدراك أو التفسير أو الاعتقاد .. الانفصال عن تاريخ مغاير لا يتحمّل أحد مسؤوليته .. غياب التفاهم أو الانسجام بين وعي بالحياة والموت ووعي آخر لا ذنب لأحد فيه .. لهذا فإنني لا أحترم القارئ أو الناقد المتزمت الذي ينصّب نفسه قاضيًا على نص لا يمتلك أدنى فكرة عن الماضي الذي أنتجه، وبدلًا من أن يُرجع عدم التوافق بينه وبين النص إلى انتفاء المساحات المشتركة أو الجسور التحريضية، فإنه يردّه بالسهولة العفوية السطحية والمتعالية إلى ما يُسميه "أخطاء الكاتب"، كأن هذا القارئ أو الناقد يمثل الصواب الأدبي في ذاته، وعلى جميع الكتّاب أن يعملوا لإرضاء ذائقته هو تحديدًا ومن يشابهه.
ـ ماذا عن كتابتك النقدية؟ هل لديك معيار مختلف لقراءة النصوص؟
في عملي النقدي لا أعيّن نفسي حاكمًا على كاتب أو مقيّما لجهده أو مصححًا لنصوصه أو أيًا من تلك الاعتداءات الوضيعة التي يحتاجها الكثيرون لإخفاء عجزهم، وإشباع نقصهم. إما أن يكون في العمل الأدبي ما يحفزني على تحليله، ويغريني باللعب التخييلي مع رموزه وعلاقاته، واقتياده إلى مناطق جدلية أبعد مما قد تقترحه التأويلات المباشرة، أو لا تنشأ هذه الصلة النفسية، أو يومض هذا الاستفزاز الذهني، وحينئذ لا أكتب عنه فحسب، وربما مؤقتًا وليس نهائيًا .. هكذا يتم الأمر بالنسبة لي ببساطة وفي صمت، دون استغلال لما يُطلق عليه "نقاط الضعف في العمل" كي أصدح بحكمتي الأدبية التي يجب أن يراعيها الجميع.
ـ تحدثت أيضاً في (نقد استجابة القارئ العربي) عن تدوينات القراءة. كيف أثبتت هذه التدوينات عدم وجود فرق بين القراء الذين يكتبون المراجعات والنقاد الأكاديميين حتى الذين لديهم مكانة معروفة في الحياة الثقافية العربية؟ 
لا يقتصر الأمر على الأكاديميين تحديدًا .. نعم هم نقاد لا فرق بينهم وبين القراء الذين لا يقدمون أنفسهم كنقاد .. أجيال متعاقبة عاشت بمعنى الكلمة عالة على النقد الأدبي بفضل هذه السلطة: "فشل الكاتب في كذا"، "أخفق الكاتب في كذا"، "لم ينجح الكاتب في كذا"، "هذا عمل مبتذل"، "هذه كتابة رديئة"، "هذا كاتب يسعى للشهرة"، "نحن في فوضى أدبية تسمح لكل من هب ودب بالكتابة" ... إلخ، وعلى جانب آخر ـ وهذا منطقي ـ تجدهم بارعين تمامًا في كتابة ملخصات للأعمال الأدبية، وفي إخضاع النصوص للدلالات المستهلكة، وتدوير المعاني التقليدية المغلفة أحيانًا بالتحذيرات الرقابية .. الناقد بالنسبة لي هو الذي يكشف العمل الأدبي، أو الفيلم السينمائي لكاتبه أو مخرجه مثلما يكشفه للقارئ أو المتفرج تمامًا،. يضيء احتمالات ملهمة، ولا يتوقف أمام التأويل السهل والمتداول للرموز بل يفكك السياقات الجاهزة، ويضع علاماتها الواضحة في نطاقات استفهامية، خالقًا فيما بينها علاقات مبتكرة ضمن "كتابة موازية" تشتبك حقًا مع النص.
ـ ما سبب توقفك عن كتابة الباب، وهل ستعود إليه قريباً؟
توقفت عن كتابته بسبب انشغالي بنوفيلا "جرثومة بو" التي كان يستدعي إنهاؤها قدرًا كبيرًا من التفرغ بالإضافة لبعض الأعمال الأخرى، وسأعود لكتابة الباب خلال الشهر القادم.
* * *
بعد نشر الحوار بساعات قليلة نشر أحد النقاد الأكاديميين المعروفين منشورًا هجوميًا يصفني فيه ـ دون ذكر اسمي، ولكن بإشارة ضمنية إلى الحوار ـ بالغرور والتعالي وعدم احترام الآخرين .. كان هذا الناقد ـ فضلًا عن رجعيته النقدية ـ معروفًا أيضًا بهوسه بتصحيح الأخطاء اللغوية في النصوص التي ينشرها الكتّاب والشعراء في صفحته على فيسبوك، إلى جانب كتابة البوستات العدائية ضد "العابثين بقواعد الكتابة الأدبية" كما اعتاد أن يطلق عليهم دائمًا .. بالصدفة، وصلني أثناء قراءة المنشور إشعارًا من إحدى الصفحات الإخبارية عن العثور على جثة طفلة:
"تم العثور على جثة الطفلة حبيبة أحمد عبد الحليم - المختفية من قرية ديرب بقطارس مقتولة في شوال ملقى في الأراضي الزراعية بالتحديد بترعه مجاورة لأحد الأراضي الزراعيه، حيث تبين من بداية التحقيق بأن القاتل زوج أخت القتيله المدعوا/ ابراهيم وشقيقه المدعوا / الدسوقي بعد خطفها وتم اغتصابها والتخلص منها بعد ذلك بأحد الترع المتواجدة بالاراضي الزراعيه".
تحت الخبر المقترن بصورة الطفلة المبتسمة في فستانها الأبيض، والذي تتعاقب على وحشيته الوجوه التعبيرية للحزن والذهول والغضب، وعبارات الدعاء المصدومة، المطالبة بالقصاص العاجل؛ قمت بعمل "منشن" لهذا الناقد، دون كتابة أي شيء آخر .. بعد دقائق كتب تعليقًا يترحّم فيه على الطفلة مختومًا بسؤال مقتضب لي، تثقله الحدة البديهية عن السبب الذي جعلني أقوم بعمل "منشن" له تحت هذا الخبر المؤلم .. كتبت ردًا له بأنني كنت أنتظر منه أن يقوم كالعادة بتصحيح الأخطاء اللغوية والأسلوبية في هذا الخبر مثلما يفعل مع نصوص الآخرين .. علّق قائلًا بأنه من السخافة البالغة أن أطالبه بتصحيح اللغة في ظرفٍ كهذا، ثم أنهى الرد بما يشبه الصراخ: هذا ليس مجرد نص .. هذه جريمة حقيقية بشعة.
كانت العبارتان الأخيرتان المتوقعتان هما ما أردت الحصول عليه .. تركت فقط إيموشن الابتسامة العريضة كتعليق أخير لي ثم أغلقت الصفحة عائدًا لمقال جديد أكتب فيه عن رواية لا تقف وراءها جرائم حقيقية!.
موقع "الكتابة" ـ 23 سبتمبر 2018
اللوحة لـ jean rustin

الأحد، 23 سبتمبر 2018

يوميات: الأحد 23 سبتمبر 2018


أخرج من بيت العائلة بعد انتهاء زيارتي الأسبوعية لشقيقتي الكبرى .. كالعادة أسير في الطريق نحو بيتي مثقلًا بالأسى منقطع الرجاء تجاه كل ما يخصها: حياتها .. وحدتها .. عمرها الكبير الذي صارت إليه بوفرة جسيمة من القهر النفسي والجسدي .. أردد في داخلي ـ كالعادة أيضًا ـ وأنا أخرج من ميت حدر نحو الكوبري السفلي باتجاه الجوازات بأنني فاشل في تعويضها عن كل ما كان سببًا في تحطيمها، ولم أستطع حمايتها من شرّه .. الفشل الذي يعادل المسئولية الكاملة عن هذا الحطام .. أنا حتى لا أستطيع أن أقول لها كلمات شكر حقيقية تجاه كل ما تفعله من أجلي .. لا أستطيع أن أجعلها على الأقل تكتب عن كل ما عانت منه مثلما رسمت فريدا كاهلو آلامها في لوحات مثل "طفلة مع قناع الموت" أو "بدون أمل" أو "العامود المكسور" .. نجلس ونتحدث ونسترجع ذكرياتنا حيث يدور كل شيء عن الموت: الماضي حينما يكون فردوسًا مفقودًا أو جحيمًا غامضًا .. الأحبة الذين اختفوا تباعًا فجأة داخل قبورهم تاركين امرأة تقترب من الستين، وأخاها الأربعيني كأشلاء متناثرة تتظاهر بأنها جسدان متماسكان .. الأرق المختبئ في روح كلٍ منا بالعذاب المنتظر لمن سيبقى لديه وقت أطول حينما يختفي الآخر للأبد.
انتهيت صباح اليوم من قصيدة "لحظات الطيران المؤقتة"، والتي نجمت عن مشهد ظل يصاحبني منذ الأسبوع الماضي حين كنت أجلس وحدي في صالة "مارشال المحطة" عصرًا .. رأيت عبر النافذة الزجاجية الكبيرة بجواري كيسًا بلاستيكيًا صغيرًا يطير بهدوء حتى أصبح عاليًا جدًا فوق ميدان المحطة .. ظللت أراقبه، بيقين أنه يشعر بالسعادة تحديدًا الآن، ربما وبصورة استثنائية مبهمة لا تتشابه مع مشهد مماثل سبق أن رأيته من قبل؛ حتى إنني شعرت بضحكات الكيس الصغير غير المسموعة وهو يواصل الابتعاد عن عينيّ وراء أسطح البيوت.
أثناء تصفّح برنامج العمل الخاص بي مررت على الإشارة المتعلقة بالبحث على الإنترنت عن مسابقات أدبية جديدة .. تجاهلتها مثلما تعوّدت أن أفعل منذ فترة طويلة .. أتذكر أن شريف صالح أثناء وجوده في المنصورة الشهر الماضي سألني إذا ما كنت قد أرسلت روايتي "إثر حادث أليم" إلى جائزة ساويرس؛ فأجبته بالنفي، وحينما سألني عن السبب أخبرته بالإجابة التي يعلمها كل كاتب في مصر فضحك وقال لي أنه لا مانع من المحاولة، فأعدت عليه الإجابة مرة أخرى مستخدمًا المزيد من كلماتي الأثيرة.

الجمعة، 21 سبتمبر 2018

يوميات: الجمعة 21 سبتمبر 2018


"ملك" تواصل العمل على لوحاتها الثلاث الخاصة بكتابنا القصصي المشترك، والذي أنوي نشره إلكترونيًا قريبًا .. ربما سأتحدث فيما بعد عن تجاربي مع "النشر الإلكتروني" خاصة بعد النقاشات التي دارت حين قررت إصدار نوفيلا "جرثومة بو" إلكترونيًا قبل أن أؤجّل نشرها مع ظهور احتمال لإصدارها ورقيًا في العراق بفضل صديقي الكاتب العزيز د. لؤي حمزة عباس .. ألمس بوضوح استفادة "ملك" من كورس الرسم الذي حصلت عليه في مركز "أركادا" منذ فترة قصيرة، كما تحاول أمها ـ التي ستساهم بالفوتوغرافيا في الكتاب ـ مساعدتها على تنفيذ ما طلبته في اللوحات: التوازن بين العفوية الطفولية والانضباط التقني .. أفكر في "ملك" وهي بعيدة عني أكثر مما أفعل في وجودها .. حينما نكون معًا أحاول تضليل ذلك التفكير الذي كان مهيمنًا في غيابها كي لا أفسد لحظاتنا التي تظل قصيرة دائمًا .. لكنها بمجرد أن تغمض عينيها آخر كل ليل بجانبي، وبينما ألعب دور شطرنج أخير على الهاتف قبل النوم؛ يطغى الشعور بالإثم خالصًا وحادًا في قلبي .. الشعور الذي لا يختفي، وإنما يتظاهر أحيانًا كمزحة من الجحيم بأنني نجحت في تضليله، كي يضاعف نفسه لحظة بعد أخرى .. ذات يوم سألتني "ملك": إنت عمرك ما عيّط يا بابا؟ .. كنت مضطرًا لقطع الطريق على استفهاماتها اللاحقة فكذبت عليها: وأنا صغيّر بس.
كان لدي وقت اليوم للخروج والذهاب إلى فندق "مارشال المحطة" ولكنني لم أرغب في مقابلة أحد .. لم أرغب في التحدث والتدخين والاستماع إلى الشخصيات التي تعرّفت عليها هذا العام، وأصبحت كلما غادرتهم ـ وبصورة متوقعة تمامًا ـ أكثر تأكدًا من ذلك اليقين الذي كان يرافقني منذ شهور وأنا أدور وحدي في ميدان المحطة والسكة الجديدة وشارع بنك مصر وسيدي عبد القادر وميت حدر قبل بداية علاقتي بهم .. اليقين بأن ثمة خسارة سيزيفية أخرى في انتظاري لو استطعت أن أكون صديقًا لهؤلاء .. بالترتيب المختصر؛ تم الأمر على هذا النحو الذي يبقى مفاجئًا رغم تكراره: قطع الصلة العبثية المهلكة بمن كانوا يصنّفون كأصدقاء مقربين لي بعد صدور "الفشل في النوم مع السيدة نون" عام 2014، والمقترن بحظرهم جميعًا على فيسبوك .. الدوران في شوارع الذاكرة بمفردي يومًا بعد آخر كقط ضال، يتحرك ويتوقف ويتلفت حوله بخوف، مراقبًا الوجوه والأجساد المتلاطمة، ومتطلعًا إلى البيوت القديمة الأشبه بكتل شاهقة من الرماد المتجمّد ذي الفجوات المتناثرة ثم العودة إلى مخبأه المظلم بحصيلة إضافية لاهثة من الحسرة واليأس والخذلان المكتوم .. البحث عن شخصيات جديدة تمنحني دون عداءٍ أو نقصان تاريخ المتعة والغرابة في المدينة حيث تكمن جذوري البعيدة والغامضة، أي تقدم لي بوفاء مثالي الذخيرة التي أحتاجها للانتقام من المكان الذي يحتجزني منذ 42 عامًا .. التسلل عبر نفق من المصادفات المتعمّدة نحو ما كانت تبدو كجماعة منتقاة من خزنة المرح .. تحريك الصخرة من قاع كل جثة إلى قمتها قبل أن تتدحرج ثانية لأسفل .. لكن لطالما كان بوسع سيزيف القول بأن تخيلاته الهازئة داخل الظلام المغلق للعزلة أكثر متعة وغرابة من العوالم التي تؤلفها ذرات الحجر، والنثرات المعدنية للجبل، والتي اعتبرها ألبير كامو دافعًا للسعادة النضالية عند سيزيف.
أضفت هذا المساء فكرة جديدة إلى قائمة المشاريع المؤجلة التي تتوهم حربًا غير متكافئة ضد الزمن .. فكرة ساخرة تستخدم شكل المعادلة الصادمة التي سبق أن لعب بها الكوميديان الأمريكي الفادح لوي سي كي في عرضه الرائع "بالطبع .. لكن ربما" .. أما معادلتي ـ التي تركّز بشكل أساسي على الوسط الأدبي في عاهرة الدنيا ـ فتفترض هذا التوازن: "لن تستطيع أن تمنع ... لكن يمكنك أن ...".

الأحد، 16 سبتمبر 2018

جزء من نوفيلا «جرثومة بو»

غادر السائق التاكسى، ووقف وحده فى الناحية المقابلة بالقرب منه ثم أشعل سيجارة، أما أنا، وخلال نصف ساعة أو أزيد قليلًا فقد طلبت من زينهم ثلاث مرات أن يرفع سعر النسخة.. فعلت هذا وبداخلى لذة غامرة لم أعهدها من قبل.. لذة الرأسمالى الجشع الذى يستغل احتياج الناس إلى سلعة ضرورية ليحصل على أقصى ربح ممكن.. نجحت لبرهة فى تناسى المعاناة التى عشتها أنا وأحمد قبل هذه اللحظة: إيجاد مكتب كمبيوتر يقبل التغاضى عن موضوعات العدد أو بالأحرى لا يمانع فى المجازفة من أجل تجهيزه للنشر خاصة بعد التدخل الأمنى الذى قام بإزالة ما سبق وتم إنجازه من كتابة وتنسيق على جهاز أحد المكاتب ذات مساء، ما اضطر صاحبه للاعتذار لنا فى النهاية عن إتمام التعاون.. موافقة مكتب الكمبيوتر فضلًا عن المخاطرة على تأجيل سداد الدفعة الأخيرة من المستحقات إلى ما بعد توزيع العدد.. تدبير المبلغ الذى يغطى بالكاد هذه التكاليف، وهو ما تم بشكل عسير بنقودنا القليلة، مع مساعدة كريمة من والد أحمد، واحتياجنا إلى عائد من البيع لتعويضها مع سداد الدين، ويساعدنا فى نفس الوقت مع الإعلانات المنتظرة على تمويل العدد القادم، وهو ما لم يتحقق حتى الآن رغم الإيرادات الجيدة.. كنت أريد أن أستمتع فحسب بهذا الاكتشاف المفاجئ لذكائى التجارى الذى أقود به العملية.
بدأ المشترون فى التناقص تدريجيًا، وحينما توقف البيع تمامًا كان لدينا إحساس بأن الجريدة موجودة فى بيوت المنشأة كافة.. انتظرنا قليلًا ثم قررت أن نأخذ جولة فى شوارع القرية قبل مغادرتها كى نعطى فرصة أخيرة لكل من لم يحصل عليها.. بدأنا نتحرك، وواصل زينهم النداء على مانشيت قضية منصور، بينما أحمد بجواره يداعب سكسوكته، ويفكر مبتسمًا فى بيتزا «سى فود» التى يمكن أن نتعشى بها اليوم احتفالًا بالنجاح الساحق الذى حققناه فى هذا النهار الحار، والذى تفوّق مكسبه على حصيلة اليوم الأول من التوزيع.. عبر شباك التاكسى على يمينى رأيت أشخاصًا يهرولون من بعيد فى اتجاهنا داخل أرض زراعية، ويشيرون إلينا بالانتظار.. بمنتهى الاعتزاز والثقة طلبت من السائق التوقف استجابة لهؤلاء القراء الأعزاء الذين يخطون سريعًا بهذا الشكل للحاق بالجريدة.. لكنهم حينما اقتربوا ورأيت ملامحهم، وتبينت ما يحملونه فى أيديهم فتحت فمى لكن كلمة «دوووس» لم تجد الفرصة كى تخرج منه؛ إذ أصبح أربعة رجال فجأة أمام السيارة، بينما امتدت يد أحدهم فى لمح البصر عبر شباك السائق، وانتزعت مفتاح التشغيل من التابلوه.. كانوا ثلاثة شباب بأعمار متفاوتة، تتشابه وجوههم فى السمرة الباهتة، والقسمات الخشنة، ومعهم رجل يبدو فى منتصف الخمسينيات، نحيف، ذو قامة طويلة، ملامحه المنطفئة والمرهقة على نحو ما أقل سمرة من الشبان الثلاثة، وجميعهم يرتدون الجلاليب القروية الفضفاضة ذات الألوان المتقاربة فى انتمائها إلى تدرجات البيج، بينما تطفح عيونهم بشرٍ عظيم.. أسرعنا بالخروج من السيارة، بينما السباب لأهلنا ينهمر من أفواههم باللهجة الريفية المألوفة، وهم يشكلون دائرة غير كاملة حول التاكسى.. ظهر بعض الأطفال ووقفوا موزعين أجسادهم الصغيرة بين الرجال الأربعة ليغلقوا هذه الدائرة من حولنا، والمشاركة فى السباب، وبينما كنت أحاول تجاوز الصدمة، وتقدير الموقف بسرعة لاتخاذ التصرف السليم؛ لمحت شومة ترتفع فى الناحية الأخرى من التاكسى وتضرب رأس السائق فيما بدا أنه رد على محاولته لاسترداد المفتاح من الشاب فأمسك رأسه متوجعًا بانحناءة على وشك أن تكتمل كسقوط.. لم تكن الضربة بالقوة التى تقتله أو تصيبه بالإغماء أو بنزيف دموى، لكنها لم تكن أيضًا بالضعف الذى يمنعها من أن تنشىء ورمًا مؤلمًا.. زعقت فى زعيمهم الذى كان يقترب نحوى: «فى إيه؟.. عايزين إيه؟».
رد الرجل بزعيق مماثل: «أنا عمدة البلد، وعم منصور.. إنتو اللى مين؟.. مين الكبير بتاعكم؟».
تطوّع زينهم بإخلاص فورى، وأشار إلىّ قائلًا له: «الأستاذ».
رأيت عينى العمدة تتفحصان شعرى المقصوص «كابوريا»، والنظارة الشمسية، والسلسلة الذهبية التى أهدتها لى حبيبتى، والظاهرة من قميصى المفتوح فبدا كمشهد يعيبه غياب قطعة اللبان التى كان ينبغى أن توجد فى فمى الآن.. سألنى باشمئزاز: «بقى إنت كبيرهم؟».
أردت أن أضع يدى فى جانبى كنوع من التحدى وإثبات الشجاعة، لكننى انتبهت إلى الدلالة الخطرة لهذا الفعل مع الفكرة السلبية، التى أخذها الرجل من مظهرى فتراجعت عنه، واكتفيت بإشهار سبابتى اليمنى فى وجهه محذرًا وأنا أصيح بنبرة حادة: «أيوه، واطلع بينا على القسم.. اطلع بينا على القسم حالًا».
لو سألنى أحدهم عن أكثر الأفعال التى قمت بها فى حياتى حكمة وهى نادرة جدًا بالتأكيد فإننى سأختار دون تردد هذا التصرف.. لا أعرف، أو بمعنى أدق لا أصدق كيف جاءتنى هذه الفكرة اللحظية بالذهاب إلى قسم الشرطة، رغم عنف المفاجأة، وحصارنا غير المتوقع فى بلد مجهول على يد غرباء عدائيين، لا نعرف حدود نواياهم تجاهنا، الأمر الذى كرّس لمصيرنا غموضًا شرسًا.. لا أصدق كيف جاءتنى هذه الفكرة رغم عدم معرفتى بوجود قسم شرطة بالمنشأة أصلًا.. رأيت كأن هذا الأمر الذى وجّهته للعمدة قد وضع مع لهجة الوعيد حائطًا بيننا وبينهم.. ظهر عليه شعور بالارتباك مع خفوت الانطباع العدائى فى ملامحه كأنما أدرك المأزق المفاجئ الذى أصبح عالقًا فيه مع مجموعته بعد قطعهم الطريق وهجومهم علينا بهذا الشكل.. اكتشفت أنه كان على استعداد لهذا الارتباك، لأنه مع كل ما حدث لم يكن يعلم من نكون حقيقة، وأى جهة أو أشخاص يمكن أن يكونوا وراءنا، وقد ساعد تصميمى الغاضب على التوجّه إلى قسم الشرطة فى دعم إحساسه بالندم على هذا التسرّع، وبضرورة عدم التمادى، ومحاولة استدراك الأمر.. سار معنا كجبان عجوز هو وأفراد عصابته نحو قسم الشرطة الذى لم يكن بعيدًا عن المكان الذى تركنا فيه التاكسى بعد أن حصل السائق على مفاتيحه ثم أغلق أبوابه ونوافذه، وهو يتوجع من ألم رأسه الذى قام بربطه بمنديله الأبيض الكبير.
كان لقسم الشرطة فناء صغير ببلاط أبيض، دون سقف، مطوّق بسور أسمنتى قصير، ويفصله عن الشارع ثلاثة سلالم، رأيت أحد المخبرين بزيه التقليدى يجلس على كنبة خشبية وراء عتبته حينما وصل موكبنا المحاط بالأطفال.. رغم ما اعتبرته حلًا مؤقتًا للمشكلة إلا أنه بعد لحظات تحوّل إلى سبب لمضاعفة التوتر.. فكرت فى أن ما قمت به لم يكن خلاصًا من الأزمة، وإنما فى حقيقته انتقال بالمعركة من مواجهة غير متكافئة مع أعداء مدنيين إلى أسر «ميرى» لا يمكن الخلاص منه.
جريدة "الدستور" ـ 16 سبتمبر 2018

الخميس، 13 سبتمبر 2018

تفسير العتمة


ظل طوال حياته ينتظر هذه اللحظة .. لكن أية حياة؟ .. إنه لم يعرف شيئًا عن وجوده في العالم سوى بيع "غزل البنات" .. لا يتذكر ما الذي سبق بداية تجواله اليومي في الشوارع منذ الصباح الباكر وحتى منتصف الليل .. لا يدرك هوية البشر الذين يعيش بينهم، أو طبيعة الذين يخطو بين أجسادهم طوال الوقت حاملًا العصا الخشبية الطويلة المستندة على كتفه، التي تلتف حولها الأكياس الصغيرة، والمزمار الذي يردد به النغمة الندائية المميزة، ولا التفاصيل والأشياء التي تتراكم وتتغير في عينيه، أو الأحداث التي تتكرر وتتبدل من حوله .. كان بائعًا لـ "غزل البنات" فحسب؛ ولهذا لم تكن مجرد مهنة بل كينونة مغلقة، ليس للحياة امتداد خارجها .. أما اللحظة التي كان ينتظرها فهي لم تكن رجاءً واضحًا، محفورًا في ذهنه؛ بل كانت هديرًا .. مجرد صوت ثابت، لا ينقطع على الإطلاق، لا تعلو نبرته ولا تخفت، أشبه بمزيج متجانس مما يصدره الموج ومحرّك قارب صغير .. اللحظة إذن لم تكن مستوعبة بالنسبة له، ولكنه كان دائمًا يشعر بغموضها في عقله، وربما كانت هي السر المبهم الذي جعله لم يتكلم أبدًا .. هكذا، وبفضل هذا التواطؤ المحكم بين الصمت والغفلة؛ لم يكن غريبًا أن يُعرّف بالجنون، أو بتسامح أزيد؛ بغرابة الأطوار.
كان يمكن أن يكون انتشال مجموعة من الناس لجثة طفل في الخامسة من النهر حدثًا عاديًا لولا أن بائع "غزل البنات" كان يقترب من المشهد .. اقترب حتى أصبح بجوار الجثة الراقدة على الأرض تمامًا .. تأمل ملامح الطفل الساكنة، جسده الصغير المنتفخ، ملابسه وحذاءه، ثم نظر إلى الوجوه التي تتزاحم .. أنصت قليلًا إلى ضجيجهم .. راقب حركاتهم وانفعالاتهم قبل أن يرفع العصا الخشبية التي تحمل أكياس "غزل البنات" من فوق كتفه، ويغرز طرفها المعدني الحاد في صدر الطفل .. كانت هذه هي اللحظة التي ينتظرها طوال حياته .. عرف ذلك وهو يغرز ما تحوّل إلى نصل مباغت في صدر الطفل .. تأكد من ذلك وهو ينفجر في الضحك بعدها .. الضحك القوي، المتلاحق، الذي لم يهمد رغم كل ما أصابه من الآخرين نتيجة ما حدث .. كأن هذه الضحكات هي البديل المختزن لجميع الكلمات التي لم ينطق بها مطلقًا.
في مقابل الاختفاء التام الملغز والأبدي لبائع "غزل البنات" بعد هذا اليوم؛ عاش الطفل الذي اُنتشلت جثته الغارقة، وأُضيف إليها ثقب صغير في الصدر .. بدأ حياة أخرى منفصلة كليًا عن ذاكرة هذه الجثة المثقوبة التي تم دفنها .. أصبحت له عائلة وجيران وزملاء دراسة وأصدقاء وحبيبة وزوجة وابنة صغيرة .. والآن؛ يفترض به أن يُكمل عامه الثاني والأربعين بعد ثلاثة شهور، دون أن يعرف شيئًا عن الطفل التي أُلقي قديمًا في الماء؛ ما الذي كانت عليه حياته قبل أن يغرق، ولماذا حدث له ذلك .. دون أن يعرف شيئًا عن بائع "غزل البنات"، ولا عصاته الخشبية التي غرز طرفها المعدني الحاد في صدر الطفل الميت، ولا ضحكاته القوية التي كانت علامة اختفائه .. كل ما يدركه أن صوت المزمار الذي يُطلقه باعة "غزل البنات" في الشوارع هو الوحيد الذي لا يؤلم أعصابه المحطمة من بين الأصوات العالية كافة التي تحاصره في جميع الأماكن، ويتمنى لو بوسعه أن ينشيء جحيمًا خاصًا لكل من يصدرها .. يدرك أيضًا أنه كلما تمدد فوق أريكة بجوار شباك حجرته المفتوح كي يدخن سيجارته، وينظر إلى السماء ثم يضحك بعد مرور الوقت حين يتذكر أنه سيموت يومًا ما كأنه لم يفكر أبدًا في أي شيء؛ أن هذه الضحكات لا تخصه بالكامل .. كأن ثمة مجهولًا يشاركه هذا الضحك، فضلًا عن شعوره الدائم بأن هذه الضحكات لا تنبعث إلا من نقطة ضئيلة، غامضة تمامًا داخل صدره.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 12 سبتمبر 2018

الأحد، 2 سبتمبر 2018

معارك الصحراء: الحروب الشكلية للعالم

بدت رواية "معارك الصحراء" للكاتب المكسيكي خوسيه إميليو باتشيكو، ترجمة سمر عزت، ومراجعة د. علي المنوفي، الصادرة عن سلسلة الجوائز بالهيئة العامة للكتاب، بدت بالنسبة لي أقرب إلى القصة القصيرة، ولا يرجع هذا إلى عدد صفحاتها التي لم تتجاوز 58 صفحة، وإنما إلى الحدث الصغير، الذي يمثل ما يشبه مفترقًا للطرق في السرد، وأقصد به الذهاب المختلس للراوي أو الطفل كارلوس إلى ماريانا أم زميله في المدرسة جيم إلى بيتها، ومصارحتها بحبه لها، ورد فعلها الأمومي الحنون والحزين تجاهه، وحديثها له عن تفهمها لمشاعره، وعن كونه طفلًا صغيرًا مثل ابنها، واستحالة أن يكون هناك شيء بينهما، ومطالبتها أن يعتبر الأمر مجرد مزحة، مصدرًا لسعادته، شيئًا عندما يكبر يتذكره بابتسامة وليس باستياء قبل أن تقبّله قبلة سريعة، ليس في شفتيه تمامًا، ولكن قريبًا منهما، مثل التي تقبّلها لابنها جيم قبل أن يذهب إلى المدرسة .. الحدث الذي ترتب على اكتشافه غضبًا عائليًا وسخرية مدرسية، ومحاولات تقويم نفسية ودينية للطفل قبل أن ينتقل إلى مدرسة أخرى، ثم يخبره أحد زملائه السابقين حين التقاه مصادفة أن ماريانا قد انتحرت بعد مشاجرة مع "السينيور" عندما واجهته هو وشركاءه في إحدى حفلاتهم بأنهم لصوص؛ فصفعها ونعتها بالعاهرة.
"هكذا يقولون في فترات الراحة .. إن والدة جيم ما هي إلا عشيقة هذا الرجل، وزوجته امرأة عجوز مروعة يُكتب عنها كثيرًا في الصحف. سوف ترى صورها عندما يذكرون شيئًا عن الأطفال الفقراء (ها .. ها .. يقول أبي إنهم يجعلونهم فقراء أولًا ثم يتصدقون عليهم). إنها امرأة مخيفة وبدينة جدًا. تشبه الببغاء أو الماموث؛ في حين أن أم جيم شابة صغيرة، في غاية الجمال، لدرجة أن البعض يعتقد أنها أخته. يقول أيالا: إنه ليس ابنًا لهذا التيس النشال الذي ينهب المكسيك، وإنما هو ابن لصحفي أمريكي أخذ الأم إلى سان فرانسيسكو ولم يتزوج بها قط. أما هذا السينيور، صديق الرئيس، فهو يسيء معاملة جيم المسكين".
كانت ماريانا تمثل للطفل كارلوس الحياة بكل غموضها الفاتن، المتمنّع والمحتجب وراء الابتذالات السائدة، والعنف المهيمن؛ لذا بدت قصة انتحارها كأنما تحمل نوعًا من الاستشراف لهذا الطفل بأنه لن يستطيع أن يمتلك الحياة فحسب، أي أن يخلّصها من الظلام الذي يطمس جمالها المجهول والمُهان، بل لن تكون لديه القدرة على التيقن من حقيقة وجودها أصلًا .. لذا سيظل العالم بالنسبة له "معارك صحراء" أي حروبًا ضبابية كالتي كانت تدور فوق التراب الأحمر لفناء مدرسته بين الأطفال .. مشاهد لا تقدم الحقيقة بقدر ما تحاول تمثيلها، أو بالأحرى تعيد إنتاج ادعاءاتها الشكلية المراوغة.
"طرقت كل الأبواب بمظهري المضحك وأنا في ثيابي البيضاء ممسكًا بالمضرب ويبيري ماسون، أسأل، أطل من الأبواب وعيناي مغرورقتان بالدموع. تفوح رائحة شوربة الأرز والفلفل الحار المحشي. استمع إليّ أصحاب الشقق بشيء من الخوف. يا لها من ثياب غير لائقة. إنه كان بيت الموت وليس ملعبًا للتنس. لا، إنني أعيش في هذا المنزل منذ العام 1939 وعلى حد علمي، لم تسكن هنا أية سيدة اسمها ماريانا. جيم؟ لا، لا نعرفه. في الطابق الثامن يسكن طفل في نفس سنك تقريبًا لكن اسمه إبيراردو. في شقة رقم أربعة؟ لا، كان يسكنها زوج من العجائز ولم ينجبوا أطفالًا. لكنني جئت هنا ملايين المرات إلى بيت جيم والسيدة ماريانا. إنها تهيؤات يا صغيري".
لم تكن ماريانا مجرد امرأة جميلة، وأم وحيدة، وعاشقة مقهورة، ولم تكن حكايتها القصيرة مع الطفل كارلوس مجرد موقف عابر، أو ذكرى هامشية مقارنة بمتن الاستدعاءات التي حشدها باتشيكو من خلال الراوي الصغير، والتي امتزجت فيها القصص المصورة القديمة والأغنيات ومسلسلات الراديو ومصارعات الثيران ومبارايات كرة القدم والبيسبول .. لم تكن ماريانا واحدة من ضمن التفاصيل الأقل أهمية من توثيق باتشيكو للفساد السياسي والبؤس الاجتماعي بل كانت صنيعة كل هذا .. كانت ماريانا مكوّنة من هذا القهر؛ لذا فلم تكن جزءًا مما يتم تذكره عن المكسيك القديمة في الرواية بل كانت أساسه .. كأن كل ما يتم استرجاعه من الماضي في وعي الطفل يساهم في خلقها .. كانت ماريانا هي الذكريات كافة التي حاول كارلوس أن ينقذها بكل ما تتضمنه من شخصيات وأحداث وأماكن وأزمنة .. أن يسحبها خارج ما يُفترض أنه واقعها، أي أن يقودها بعيدًا عن الظواهر العدائية نحو جوهرها غير المرئي، الذي لابد أنه ـ كما يتصوّر الطفل ـ يكمن كأصل في مكان ما .. كان الراوي الصغير يحاول إنقاذ نفسه من خلال ماريانا، ثم استمر في محاولته هذه بواسطة استدعاء ما فشل في القيام به وكتابته .. لهذا تحوّلت ماريانا في نهاية الرواية إلى ما يعادل الطيف .. نوع من أحلام اليقظة .. تخيّل يمتلك بداهته الخاصة.
"عدت إلى بيتي ولا يمكنني أن أتذكر ماذا فعلت بعد ذلك. من الواضح أنني ظللت أبكي أيامًا متواصلة. سافرنا بعدها إلى نيويورك. التحقت بمدرسة في فيرجينيا. أتذكر .. لا، لا أتذكر حتى أي سنة كانت. فقط لفحة من الذكرى أو ومضة من الصور تجعلني أستعيد كل ما كان وبعض الكلمات بعينها. هذه الأغنية فقط هي التي أسمعها مجددًا (مهما كان بُعد السماء، وعمق البحر، سوف يجتاز حبي لكِ كل عوائق العالم من أجلِك)".
تدعم الطريقة التي تعامل بها باتشيكو مع القضايا والصراعات والمتناقضات التي انعكست صورها وتأثيراتها على المساحة الأكبر من بنية السرد ما سبق واعتبرته قربًا لـ "معارك الصحراء" من القصة القصيرة .. الأزمات التي يمكن تلخيصها في هذا المقطع:
"إنه العالم القديم. يشكو الكبار من التضخم والتغيرات والازدحام وانعدام الأخلاق والضجيج والجرائم والتكدس السكاني والتسول والأجانب وانتشار الفساد والغنى الفاحش لدى القليلين والفقر المزري للأغلبية".
لم يتوغّل باتشيكو في تشريح عالم الطفل كارلوس وشخصياته وعلاقاته ـ كما فعل خوان مياس في رواية "العالم" مثلًا ـ بل كان يُخضع البشر والتفاصيل إلى الاقتضاب المنضبط، الأشبه بالتدوين السريع، أو التسجيل المتلاحق لأشياء العالم في نطاق محدد يربطها بالخراب السياسي والاجتماعي، والذي تتخلله التعليقات الموجزة الكاشفة عما يدور في وعي الطفل تجاه ما يعيشه ويختبره .. هذا الأداء الذي يقدم أقل المعطيات كي يحفّز مساحات تأويلية أكثر اتساعًا لم يمنح العمل طابع القصة القصيرة فقط، بل كان بمثابة المحرّض الأساسي على إعطاء اللقاء بين كارلوس وماريانا طبيعة الاحتمال، المؤكد، والمجسّد في الواقع حقًا بقدر الشك أو توهم حدوثه.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 2 سبتمبر 2018