حلمت أمس بالشخصية الواقعية التي كتبتها في قصتي القصيرة "تقتلني
بنعومة"، واستيقظت سعيدًا وأكثر يأسًا .. بالضبط كأني عشت حكاية فعلية بدأت
من نهايتها المرجوّة ثم عادت إلى بداية مررت بها آلاف المرات ومازالت صادمة ..
هكذا فقط.
انتهيت من مقالي لأخبار الأدب، وينبغي أن أبدأ غدًا في مقال آخر لمجلة
عالم الكتاب؛ لكن عاصفة من القلق التقليدي تنشط في رأسي مجتاحةً أفكار الكتابة ..
غدًا تبدأ "ملك" عامها الدراسي الجديد، ورغم الذكريات الاحتفالية التي
عاشتها في السنتين الماضيتين؛ ستعود الوساوس الصباحية لمطاردتي وهي بعيدة عن عينيّ
داخل ما أعتبره مصيدة كبيرة للأذى: كسر الخاطر .. التعب المفاجئ .. التعرّض لإصابة
جسدية غير مضمونة المدى .. كالعادة ستكون هذه الوساوس التي لا أستطيع كبح تأثيرها
عندما أدخل بابنتي إلى المدرسة في الصباح الباكر، وقبل خروجي منها عائدًا بها إلى
المنزل في الظهيرة؛ كالعادة ستكون سببًا في احتدام الجدال الروتيني بيني وبين أمها
التي تنظر إلى مخاوفي كمبالغات غير مبررة، بينما يستحيل إقناعي بشيء آخر سوى أننا
في مصر، وأن هذه مدرسة مصرية، وأن هؤلاء طلاب ومعلمون وموظفون مصريون، وأن القتل
بتنويعاته الطائشة، والأكثر حقارة هو الأصل الحتمي الذي نتنفسه.
قبل النوم نشاهد يوميًا حلقة جديدة من "رحلة السيد أبو العلا
البشري" .. حقيقةً أنا الذي أشاهدها وحدي؛ حيث "ملك" تتبادل التطلع
إلى الشاشة مع اللعب بعرائسها أحيانًا، وعلى التابلت أحيانًا، ودغدغتي أحيانًا
أخرى .. زوجتي تتحدث مع أمها أو إحدى شقيقتيها على الهاتف، أو تخيّط قماشًا ما، أو
تجهّز شيئًا لطعام الغد .. أشاهد المسلسل وحدي بعينين متمايزتين: عين النوستالجيا،
وعين التأكيد على ضرورة إنجاز دعابة كتابية ما عن فحول الطبقة الوسطى، أو نماذج
القضبان الأبوية في دراما أواخر السبعينيات والثمانينيات: "أبو العلا"
في "رحلة السيد أبو العلا البشري"، "بابا عبده" في
"أبنائي الأعزاء شكرًا"، "رياض" في "نهاية العالم ليست
غدًا".
لماذا لا يُنظر إلى الرسائل الشخصية المقصود تمريرها عبر الأعمال
الأدبية بوصفها أفكارًا غير منفصلة عما يتم اعتباره ملامح جمالية أو رؤى وجودية لها
استقلال ما عن الواقع الخاص بالكاتب؛ تجاربه، صراعاته، الشخصيات التي تُحاصره
ويختبر الحياة والموت من خلالها. على هذا النحو يمكن تأويل هذا المقطع من قصتي
القصيرة "بطوط" التي سبق نشرها في موقع "الكتابة"، وعلى هذا
النحو أيضًا يمكن الحدس بالمبرر الذي يجعلني أرغب في ضم هذا المقطع إلى يومياتي:
"لاشك أن التأثير الناجح لهذا الانقطاع عن الآخرين كان سببًا
جوهريًا لهذه السعادة؛ فقد تزايد الاهتمام والاحتفاء بكتاباتي، وانتشرت الاقتباسات
من نصوصي في كل مكان، كما كثرت الكتابة عن أعمالي، وإعادة نشرها، فضلا عن التدفق
الذي لا ينقطع لمخطوطات وإصدارات الآخرين إلى بريدي، والآملين في مراجعتي لها
وتقديم النصائح، والكتابة عنها، وكذلك الدعوات المتواصلة لمناقشة الأعمال الأدبية
في ندوات ومؤتمرات، ولتدوين وإلقاء الشهادات عن الكتابة، وللمساهمة في ملفات
بالصحف والمجلات والمواقع، أو لكتابة مقالات ثابتة في مطبوعات ثقافية، أو للحوارات
الصحفية والمقابلات الإذاعية والتليفزيونية، إلى جانب ترجمة كتاباتي، وتحويل قصصي
إلى أفلام قصيرة، وحصولي على جوائز، مع العروض التي تقدمها دور النشر لإصدار كتبي
.. أما حالة الهوس العام التي بدأت منذ سنوات طويلة على الإنترنت بهذا المقطع من
قصيدة "عنكبوت مسكين يقيس زاوية الحائط":
"لا تخف
ليس معنى الوقوف في النافذة
أنك ستسقط
ليس معنى السعال
أنك مصاب بالسرطان
ليس معنى ضيق التنفس
أن قلبك به شريان مسدود
الحياة فقط هي التي معناها
أنك ستموت".
هذا الهوس العام مازال في تصاعد مستمر على مواقع التواصل الاجتماعي
والمدونات والمنتديات والمواقع الأخرى، والذي جعل هذه الكلمات من أكثر الاقتباسات
تداولاً على الإنترنت، إن لم تكن الأكثر شهرة. جموع بشرية هائلة تتزايد عبر الزمن
في كل مكان بأعمار وجنسيات مختلفة يواصلون نشر هذا المقطع، ويضيفون إليه الصور
واللوحات، ويستخدمونه كتوقيع يُعبّر عن وجودهم في العالم".