ظل طوال حياته ينتظر هذه اللحظة .. لكن أية حياة؟ .. إنه لم يعرف
شيئًا عن وجوده في العالم سوى بيع "غزل البنات" .. لا يتذكر ما الذي سبق
بداية تجواله اليومي في الشوارع منذ الصباح الباكر وحتى منتصف الليل .. لا يدرك هوية
البشر الذين يعيش بينهم، أو طبيعة الذين يخطو بين أجسادهم طوال الوقت حاملًا العصا
الخشبية الطويلة المستندة على كتفه، التي تلتف حولها الأكياس الصغيرة، والمزمار
الذي يردد به النغمة الندائية المميزة، ولا التفاصيل والأشياء التي تتراكم وتتغير
في عينيه، أو الأحداث التي تتكرر وتتبدل من حوله .. كان بائعًا لـ "غزل
البنات" فحسب؛ ولهذا لم تكن مجرد مهنة بل كينونة مغلقة، ليس للحياة امتداد
خارجها .. أما اللحظة التي كان ينتظرها فهي لم تكن رجاءً واضحًا، محفورًا في ذهنه؛
بل كانت هديرًا .. مجرد صوت ثابت، لا ينقطع على الإطلاق، لا تعلو نبرته ولا تخفت،
أشبه بمزيج متجانس مما يصدره الموج ومحرّك قارب صغير .. اللحظة إذن لم تكن مستوعبة
بالنسبة له، ولكنه كان دائمًا يشعر بغموضها في عقله، وربما كانت هي السر المبهم
الذي جعله لم يتكلم أبدًا .. هكذا، وبفضل هذا التواطؤ المحكم بين الصمت والغفلة؛
لم يكن غريبًا أن يُعرّف بالجنون، أو بتسامح أزيد؛ بغرابة الأطوار.
كان يمكن أن يكون انتشال مجموعة من الناس لجثة طفل في الخامسة من
النهر حدثًا عاديًا لولا أن بائع "غزل البنات" كان يقترب من المشهد .. اقترب
حتى أصبح بجوار الجثة الراقدة على الأرض تمامًا .. تأمل ملامح الطفل الساكنة، جسده
الصغير المنتفخ، ملابسه وحذاءه، ثم نظر إلى الوجوه التي تتزاحم .. أنصت قليلًا إلى
ضجيجهم .. راقب حركاتهم وانفعالاتهم قبل أن يرفع العصا الخشبية التي تحمل أكياس
"غزل البنات" من فوق كتفه، ويغرز طرفها المعدني الحاد في صدر الطفل ..
كانت هذه هي اللحظة التي ينتظرها طوال حياته .. عرف ذلك وهو يغرز ما تحوّل إلى نصل
مباغت في صدر الطفل .. تأكد من ذلك وهو ينفجر في الضحك بعدها .. الضحك القوي،
المتلاحق، الذي لم يهمد رغم كل ما أصابه من الآخرين نتيجة ما حدث .. كأن هذه
الضحكات هي البديل المختزن لجميع الكلمات التي لم ينطق بها مطلقًا.
في مقابل الاختفاء التام الملغز والأبدي لبائع "غزل البنات"
بعد هذا اليوم؛ عاش الطفل الذي اُنتشلت جثته الغارقة، وأُضيف إليها ثقب صغير في
الصدر .. بدأ حياة أخرى منفصلة كليًا عن ذاكرة هذه الجثة المثقوبة التي تم دفنها
.. أصبحت له عائلة وجيران وزملاء دراسة وأصدقاء وحبيبة وزوجة وابنة صغيرة ..
والآن؛ يفترض به أن يُكمل عامه الثاني والأربعين بعد ثلاثة شهور، دون أن يعرف
شيئًا عن الطفل التي أُلقي قديمًا في الماء؛ ما الذي كانت عليه حياته قبل أن يغرق،
ولماذا حدث له ذلك .. دون أن يعرف شيئًا عن بائع "غزل البنات"، ولا
عصاته الخشبية التي غرز طرفها المعدني الحاد في صدر الطفل الميت، ولا ضحكاته
القوية التي كانت علامة اختفائه .. كل ما يدركه أن صوت المزمار الذي يُطلقه باعة "غزل
البنات" في الشوارع هو الوحيد الذي لا يؤلم أعصابه المحطمة من بين الأصوات
العالية كافة التي تحاصره في جميع الأماكن، ويتمنى لو بوسعه أن ينشيء جحيمًا خاصًا
لكل من يصدرها .. يدرك أيضًا أنه كلما تمدد فوق أريكة بجوار شباك حجرته المفتوح كي
يدخن سيجارته، وينظر إلى السماء ثم يضحك بعد مرور الوقت حين يتذكر أنه سيموت يومًا
ما كأنه لم يفكر أبدًا في أي شيء؛ أن هذه الضحكات لا تخصه بالكامل .. كأن ثمة
مجهولًا يشاركه هذا الضحك، فضلًا عن شعوره الدائم بأن هذه الضحكات لا تنبعث إلا من
نقطة ضئيلة، غامضة تمامًا داخل صدره.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 12 سبتمبر 2018