بدت رواية "معارك الصحراء" للكاتب المكسيكي خوسيه إميليو
باتشيكو، ترجمة سمر عزت، ومراجعة د. علي المنوفي، الصادرة عن سلسلة الجوائز
بالهيئة العامة للكتاب، بدت بالنسبة لي أقرب إلى القصة القصيرة، ولا يرجع هذا إلى
عدد صفحاتها التي لم تتجاوز 58 صفحة، وإنما إلى
الحدث الصغير، الذي يمثل ما يشبه مفترقًا للطرق في السرد، وأقصد به الذهاب المختلس
للراوي أو الطفل كارلوس إلى ماريانا أم زميله في المدرسة جيم إلى بيتها، ومصارحتها
بحبه لها، ورد فعلها الأمومي الحنون والحزين تجاهه، وحديثها له عن تفهمها لمشاعره،
وعن كونه طفلًا صغيرًا مثل ابنها، واستحالة أن يكون هناك شيء بينهما، ومطالبتها أن
يعتبر الأمر مجرد مزحة، مصدرًا لسعادته، شيئًا عندما يكبر يتذكره بابتسامة وليس
باستياء قبل أن تقبّله قبلة سريعة، ليس في شفتيه تمامًا، ولكن قريبًا منهما، مثل
التي تقبّلها لابنها جيم قبل أن يذهب إلى المدرسة .. الحدث الذي ترتب على اكتشافه
غضبًا عائليًا وسخرية مدرسية، ومحاولات تقويم نفسية ودينية للطفل قبل أن ينتقل إلى
مدرسة أخرى، ثم يخبره أحد زملائه السابقين حين التقاه مصادفة أن ماريانا قد انتحرت
بعد مشاجرة مع "السينيور" عندما واجهته هو وشركاءه في إحدى حفلاتهم
بأنهم لصوص؛ فصفعها ونعتها بالعاهرة.
"هكذا يقولون في فترات الراحة .. إن والدة جيم ما هي إلا عشيقة
هذا الرجل، وزوجته امرأة عجوز مروعة يُكتب عنها كثيرًا في الصحف. سوف ترى صورها
عندما يذكرون شيئًا عن الأطفال الفقراء (ها .. ها .. يقول أبي إنهم يجعلونهم فقراء
أولًا ثم يتصدقون عليهم). إنها امرأة مخيفة وبدينة جدًا. تشبه الببغاء أو الماموث؛
في حين أن أم جيم شابة صغيرة، في غاية الجمال، لدرجة أن البعض يعتقد أنها أخته.
يقول أيالا: إنه ليس ابنًا لهذا التيس النشال الذي ينهب المكسيك، وإنما هو ابن
لصحفي أمريكي أخذ الأم إلى سان فرانسيسكو ولم يتزوج بها قط. أما هذا السينيور،
صديق الرئيس، فهو يسيء معاملة جيم المسكين".
كانت ماريانا تمثل للطفل كارلوس الحياة بكل غموضها الفاتن، المتمنّع
والمحتجب وراء الابتذالات السائدة، والعنف المهيمن؛ لذا بدت قصة انتحارها كأنما
تحمل نوعًا من الاستشراف لهذا الطفل بأنه لن يستطيع أن يمتلك الحياة فحسب، أي أن
يخلّصها من الظلام الذي يطمس جمالها المجهول والمُهان، بل لن تكون لديه القدرة على
التيقن من حقيقة وجودها أصلًا .. لذا سيظل العالم بالنسبة له "معارك
صحراء" أي حروبًا ضبابية كالتي كانت تدور فوق التراب الأحمر لفناء مدرسته بين
الأطفال .. مشاهد لا تقدم الحقيقة بقدر ما تحاول تمثيلها، أو بالأحرى تعيد إنتاج
ادعاءاتها الشكلية المراوغة.
"طرقت كل الأبواب بمظهري المضحك وأنا في ثيابي البيضاء ممسكًا
بالمضرب ويبيري ماسون، أسأل، أطل من الأبواب وعيناي مغرورقتان بالدموع. تفوح رائحة
شوربة الأرز والفلفل الحار المحشي. استمع إليّ أصحاب الشقق بشيء من الخوف. يا لها
من ثياب غير لائقة. إنه كان بيت الموت وليس ملعبًا للتنس. لا، إنني أعيش في هذا
المنزل منذ العام 1939 وعلى حد علمي، لم تسكن هنا أية سيدة اسمها
ماريانا. جيم؟ لا، لا نعرفه. في الطابق الثامن يسكن طفل في نفس سنك تقريبًا لكن
اسمه إبيراردو. في شقة رقم أربعة؟ لا، كان يسكنها زوج من العجائز ولم ينجبوا أطفالًا.
لكنني جئت هنا ملايين المرات إلى بيت جيم والسيدة ماريانا. إنها تهيؤات يا صغيري".
لم تكن ماريانا مجرد امرأة جميلة، وأم وحيدة، وعاشقة مقهورة، ولم تكن
حكايتها القصيرة مع الطفل كارلوس مجرد موقف عابر، أو ذكرى هامشية مقارنة بمتن
الاستدعاءات التي حشدها باتشيكو من خلال الراوي الصغير، والتي امتزجت فيها القصص
المصورة القديمة والأغنيات ومسلسلات الراديو ومصارعات الثيران ومبارايات كرة القدم
والبيسبول .. لم تكن ماريانا واحدة من ضمن التفاصيل الأقل أهمية من توثيق باتشيكو
للفساد السياسي والبؤس الاجتماعي بل كانت صنيعة كل هذا .. كانت ماريانا مكوّنة من
هذا القهر؛ لذا فلم تكن جزءًا مما يتم تذكره عن المكسيك القديمة في الرواية بل كانت
أساسه .. كأن كل ما يتم استرجاعه من الماضي في وعي الطفل يساهم في خلقها .. كانت
ماريانا هي الذكريات كافة التي حاول كارلوس أن ينقذها بكل ما تتضمنه من شخصيات
وأحداث وأماكن وأزمنة .. أن يسحبها خارج ما يُفترض أنه واقعها، أي أن يقودها
بعيدًا عن الظواهر العدائية نحو جوهرها غير المرئي، الذي لابد أنه ـ كما يتصوّر
الطفل ـ يكمن كأصل في مكان ما .. كان الراوي الصغير يحاول إنقاذ نفسه من خلال
ماريانا، ثم استمر في محاولته هذه بواسطة استدعاء ما فشل في القيام به وكتابته ..
لهذا تحوّلت ماريانا في نهاية الرواية إلى ما يعادل الطيف .. نوع من أحلام اليقظة
.. تخيّل يمتلك بداهته الخاصة.
"عدت إلى بيتي ولا يمكنني أن أتذكر ماذا فعلت بعد ذلك. من الواضح
أنني ظللت أبكي أيامًا متواصلة. سافرنا بعدها إلى نيويورك. التحقت بمدرسة في
فيرجينيا. أتذكر .. لا، لا أتذكر حتى أي سنة كانت. فقط لفحة من الذكرى أو ومضة من
الصور تجعلني أستعيد كل ما كان وبعض الكلمات بعينها. هذه الأغنية فقط هي التي
أسمعها مجددًا (مهما كان بُعد السماء، وعمق البحر، سوف يجتاز حبي لكِ كل عوائق
العالم من أجلِك)".
تدعم الطريقة التي تعامل بها باتشيكو مع القضايا والصراعات
والمتناقضات التي انعكست صورها وتأثيراتها على المساحة الأكبر من بنية السرد ما
سبق واعتبرته قربًا لـ "معارك الصحراء" من القصة القصيرة .. الأزمات
التي يمكن تلخيصها في هذا المقطع:
"إنه
العالم القديم. يشكو الكبار من التضخم والتغيرات والازدحام وانعدام الأخلاق
والضجيج والجرائم والتكدس السكاني والتسول والأجانب وانتشار الفساد والغنى الفاحش
لدى القليلين والفقر المزري للأغلبية".
لم يتوغّل باتشيكو في تشريح عالم الطفل كارلوس وشخصياته وعلاقاته ـ
كما فعل خوان مياس في رواية "العالم" مثلًا ـ بل كان يُخضع البشر
والتفاصيل إلى الاقتضاب المنضبط، الأشبه بالتدوين السريع، أو التسجيل المتلاحق لأشياء
العالم في نطاق محدد يربطها بالخراب السياسي والاجتماعي، والذي تتخلله التعليقات
الموجزة الكاشفة عما يدور في وعي الطفل تجاه ما يعيشه ويختبره .. هذا الأداء الذي
يقدم أقل المعطيات كي يحفّز مساحات تأويلية أكثر اتساعًا لم يمنح العمل طابع القصة
القصيرة فقط، بل كان بمثابة المحرّض الأساسي على إعطاء اللقاء بين كارلوس وماريانا
طبيعة الاحتمال، المؤكد، والمجسّد في الواقع حقًا بقدر الشك أو توهم حدوثه.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 2 سبتمبر 2018