غادر السائق التاكسى، ووقف وحده فى الناحية المقابلة بالقرب منه ثم
أشعل سيجارة، أما أنا، وخلال نصف ساعة أو أزيد قليلًا فقد طلبت من زينهم ثلاث مرات
أن يرفع سعر النسخة.. فعلت هذا وبداخلى لذة غامرة لم أعهدها من قبل.. لذة
الرأسمالى الجشع الذى يستغل احتياج الناس إلى سلعة ضرورية ليحصل على أقصى ربح
ممكن.. نجحت لبرهة فى تناسى المعاناة التى عشتها أنا وأحمد قبل هذه اللحظة: إيجاد
مكتب كمبيوتر يقبل التغاضى عن موضوعات العدد أو بالأحرى لا يمانع فى المجازفة من
أجل تجهيزه للنشر خاصة بعد التدخل الأمنى الذى قام بإزالة ما سبق وتم إنجازه من
كتابة وتنسيق على جهاز أحد المكاتب ذات مساء، ما اضطر صاحبه للاعتذار لنا فى
النهاية عن إتمام التعاون.. موافقة مكتب الكمبيوتر فضلًا عن المخاطرة على تأجيل
سداد الدفعة الأخيرة من المستحقات إلى ما بعد توزيع العدد.. تدبير المبلغ الذى
يغطى بالكاد هذه التكاليف، وهو ما تم بشكل عسير بنقودنا القليلة، مع مساعدة كريمة
من والد أحمد، واحتياجنا إلى عائد من البيع لتعويضها مع سداد الدين، ويساعدنا فى
نفس الوقت مع الإعلانات المنتظرة على تمويل العدد القادم، وهو ما لم يتحقق حتى
الآن رغم الإيرادات الجيدة.. كنت أريد أن أستمتع فحسب بهذا الاكتشاف المفاجئ
لذكائى التجارى الذى أقود به العملية.
بدأ المشترون فى التناقص تدريجيًا، وحينما توقف البيع تمامًا كان
لدينا إحساس بأن الجريدة موجودة فى بيوت المنشأة كافة.. انتظرنا قليلًا ثم قررت أن
نأخذ جولة فى شوارع القرية قبل مغادرتها كى نعطى فرصة أخيرة لكل من لم يحصل
عليها.. بدأنا نتحرك، وواصل زينهم النداء على مانشيت قضية منصور، بينما أحمد
بجواره يداعب سكسوكته، ويفكر مبتسمًا فى بيتزا «سى فود» التى يمكن أن نتعشى بها
اليوم احتفالًا بالنجاح الساحق الذى حققناه فى هذا النهار الحار، والذى تفوّق
مكسبه على حصيلة اليوم الأول من التوزيع.. عبر شباك التاكسى على يمينى رأيت
أشخاصًا يهرولون من بعيد فى اتجاهنا داخل أرض زراعية، ويشيرون إلينا بالانتظار..
بمنتهى الاعتزاز والثقة طلبت من السائق التوقف استجابة لهؤلاء القراء الأعزاء
الذين يخطون سريعًا بهذا الشكل للحاق بالجريدة.. لكنهم حينما اقتربوا ورأيت
ملامحهم، وتبينت ما يحملونه فى أيديهم فتحت فمى لكن كلمة «دوووس» لم تجد الفرصة كى
تخرج منه؛ إذ أصبح أربعة رجال فجأة أمام السيارة، بينما امتدت يد أحدهم فى لمح
البصر عبر شباك السائق، وانتزعت مفتاح التشغيل من التابلوه.. كانوا ثلاثة شباب
بأعمار متفاوتة، تتشابه وجوههم فى السمرة الباهتة، والقسمات الخشنة، ومعهم رجل
يبدو فى منتصف الخمسينيات، نحيف، ذو قامة طويلة، ملامحه المنطفئة والمرهقة على نحو
ما أقل سمرة من الشبان الثلاثة، وجميعهم يرتدون الجلاليب القروية الفضفاضة ذات
الألوان المتقاربة فى انتمائها إلى تدرجات البيج، بينما تطفح عيونهم بشرٍ عظيم..
أسرعنا بالخروج من السيارة، بينما السباب لأهلنا ينهمر من أفواههم باللهجة الريفية
المألوفة، وهم يشكلون دائرة غير كاملة حول التاكسى.. ظهر بعض الأطفال ووقفوا
موزعين أجسادهم الصغيرة بين الرجال الأربعة ليغلقوا هذه الدائرة من حولنا،
والمشاركة فى السباب، وبينما كنت أحاول تجاوز الصدمة، وتقدير الموقف بسرعة لاتخاذ
التصرف السليم؛ لمحت شومة ترتفع فى الناحية الأخرى من التاكسى وتضرب رأس السائق
فيما بدا أنه رد على محاولته لاسترداد المفتاح من الشاب فأمسك رأسه متوجعًا
بانحناءة على وشك أن تكتمل كسقوط.. لم تكن الضربة بالقوة التى تقتله أو تصيبه
بالإغماء أو بنزيف دموى، لكنها لم تكن أيضًا بالضعف الذى يمنعها من أن تنشىء ورمًا
مؤلمًا.. زعقت فى زعيمهم الذى كان يقترب نحوى: «فى إيه؟.. عايزين إيه؟».
رد الرجل بزعيق مماثل: «أنا عمدة البلد، وعم منصور.. إنتو اللى مين؟.. مين الكبير بتاعكم؟».
تطوّع زينهم بإخلاص فورى، وأشار إلىّ قائلًا له: «الأستاذ».
رأيت عينى العمدة تتفحصان شعرى المقصوص «كابوريا»، والنظارة الشمسية، والسلسلة الذهبية التى أهدتها لى حبيبتى، والظاهرة من قميصى المفتوح فبدا كمشهد يعيبه غياب قطعة اللبان التى كان ينبغى أن توجد فى فمى الآن.. سألنى باشمئزاز: «بقى إنت كبيرهم؟».
أردت أن أضع يدى فى جانبى كنوع من التحدى وإثبات الشجاعة، لكننى انتبهت إلى الدلالة الخطرة لهذا الفعل مع الفكرة السلبية، التى أخذها الرجل من مظهرى فتراجعت عنه، واكتفيت بإشهار سبابتى اليمنى فى وجهه محذرًا وأنا أصيح بنبرة حادة: «أيوه، واطلع بينا على القسم.. اطلع بينا على القسم حالًا».
لو سألنى أحدهم عن أكثر الأفعال التى قمت بها فى حياتى حكمة وهى نادرة جدًا بالتأكيد فإننى سأختار دون تردد هذا التصرف.. لا أعرف، أو بمعنى أدق لا أصدق كيف جاءتنى هذه الفكرة اللحظية بالذهاب إلى قسم الشرطة، رغم عنف المفاجأة، وحصارنا غير المتوقع فى بلد مجهول على يد غرباء عدائيين، لا نعرف حدود نواياهم تجاهنا، الأمر الذى كرّس لمصيرنا غموضًا شرسًا.. لا أصدق كيف جاءتنى هذه الفكرة رغم عدم معرفتى بوجود قسم شرطة بالمنشأة أصلًا.. رأيت كأن هذا الأمر الذى وجّهته للعمدة قد وضع مع لهجة الوعيد حائطًا بيننا وبينهم.. ظهر عليه شعور بالارتباك مع خفوت الانطباع العدائى فى ملامحه كأنما أدرك المأزق المفاجئ الذى أصبح عالقًا فيه مع مجموعته بعد قطعهم الطريق وهجومهم علينا بهذا الشكل.. اكتشفت أنه كان على استعداد لهذا الارتباك، لأنه مع كل ما حدث لم يكن يعلم من نكون حقيقة، وأى جهة أو أشخاص يمكن أن يكونوا وراءنا، وقد ساعد تصميمى الغاضب على التوجّه إلى قسم الشرطة فى دعم إحساسه بالندم على هذا التسرّع، وبضرورة عدم التمادى، ومحاولة استدراك الأمر.. سار معنا كجبان عجوز هو وأفراد عصابته نحو قسم الشرطة الذى لم يكن بعيدًا عن المكان الذى تركنا فيه التاكسى بعد أن حصل السائق على مفاتيحه ثم أغلق أبوابه ونوافذه، وهو يتوجع من ألم رأسه الذى قام بربطه بمنديله الأبيض الكبير.
كان لقسم الشرطة فناء صغير ببلاط أبيض، دون سقف، مطوّق بسور أسمنتى قصير، ويفصله عن الشارع ثلاثة سلالم، رأيت أحد المخبرين بزيه التقليدى يجلس على كنبة خشبية وراء عتبته حينما وصل موكبنا المحاط بالأطفال.. رغم ما اعتبرته حلًا مؤقتًا للمشكلة إلا أنه بعد لحظات تحوّل إلى سبب لمضاعفة التوتر.. فكرت فى أن ما قمت به لم يكن خلاصًا من الأزمة، وإنما فى حقيقته انتقال بالمعركة من مواجهة غير متكافئة مع أعداء مدنيين إلى أسر «ميرى» لا يمكن الخلاص منه.
رد الرجل بزعيق مماثل: «أنا عمدة البلد، وعم منصور.. إنتو اللى مين؟.. مين الكبير بتاعكم؟».
تطوّع زينهم بإخلاص فورى، وأشار إلىّ قائلًا له: «الأستاذ».
رأيت عينى العمدة تتفحصان شعرى المقصوص «كابوريا»، والنظارة الشمسية، والسلسلة الذهبية التى أهدتها لى حبيبتى، والظاهرة من قميصى المفتوح فبدا كمشهد يعيبه غياب قطعة اللبان التى كان ينبغى أن توجد فى فمى الآن.. سألنى باشمئزاز: «بقى إنت كبيرهم؟».
أردت أن أضع يدى فى جانبى كنوع من التحدى وإثبات الشجاعة، لكننى انتبهت إلى الدلالة الخطرة لهذا الفعل مع الفكرة السلبية، التى أخذها الرجل من مظهرى فتراجعت عنه، واكتفيت بإشهار سبابتى اليمنى فى وجهه محذرًا وأنا أصيح بنبرة حادة: «أيوه، واطلع بينا على القسم.. اطلع بينا على القسم حالًا».
لو سألنى أحدهم عن أكثر الأفعال التى قمت بها فى حياتى حكمة وهى نادرة جدًا بالتأكيد فإننى سأختار دون تردد هذا التصرف.. لا أعرف، أو بمعنى أدق لا أصدق كيف جاءتنى هذه الفكرة اللحظية بالذهاب إلى قسم الشرطة، رغم عنف المفاجأة، وحصارنا غير المتوقع فى بلد مجهول على يد غرباء عدائيين، لا نعرف حدود نواياهم تجاهنا، الأمر الذى كرّس لمصيرنا غموضًا شرسًا.. لا أصدق كيف جاءتنى هذه الفكرة رغم عدم معرفتى بوجود قسم شرطة بالمنشأة أصلًا.. رأيت كأن هذا الأمر الذى وجّهته للعمدة قد وضع مع لهجة الوعيد حائطًا بيننا وبينهم.. ظهر عليه شعور بالارتباك مع خفوت الانطباع العدائى فى ملامحه كأنما أدرك المأزق المفاجئ الذى أصبح عالقًا فيه مع مجموعته بعد قطعهم الطريق وهجومهم علينا بهذا الشكل.. اكتشفت أنه كان على استعداد لهذا الارتباك، لأنه مع كل ما حدث لم يكن يعلم من نكون حقيقة، وأى جهة أو أشخاص يمكن أن يكونوا وراءنا، وقد ساعد تصميمى الغاضب على التوجّه إلى قسم الشرطة فى دعم إحساسه بالندم على هذا التسرّع، وبضرورة عدم التمادى، ومحاولة استدراك الأمر.. سار معنا كجبان عجوز هو وأفراد عصابته نحو قسم الشرطة الذى لم يكن بعيدًا عن المكان الذى تركنا فيه التاكسى بعد أن حصل السائق على مفاتيحه ثم أغلق أبوابه ونوافذه، وهو يتوجع من ألم رأسه الذى قام بربطه بمنديله الأبيض الكبير.
كان لقسم الشرطة فناء صغير ببلاط أبيض، دون سقف، مطوّق بسور أسمنتى قصير، ويفصله عن الشارع ثلاثة سلالم، رأيت أحد المخبرين بزيه التقليدى يجلس على كنبة خشبية وراء عتبته حينما وصل موكبنا المحاط بالأطفال.. رغم ما اعتبرته حلًا مؤقتًا للمشكلة إلا أنه بعد لحظات تحوّل إلى سبب لمضاعفة التوتر.. فكرت فى أن ما قمت به لم يكن خلاصًا من الأزمة، وإنما فى حقيقته انتقال بالمعركة من مواجهة غير متكافئة مع أعداء مدنيين إلى أسر «ميرى» لا يمكن الخلاص منه.
جريدة "الدستور" ـ 16 سبتمبر 2018