السبت، 24 يوليو 2021

"قاتل" ... مسرحية قصيرة في فصل واحد

المكان: حجرة معيشة عادية.

الشخصيات: الزوج ـ الزوجة ـ الابنة ـ الأخت الكبرى للزوج.

الوقت مساءً.

يفتح الزوج باب الشقة من الخارج ويدخل ...

الابنة: لماذا تأخرت يا أبي؟

الزوج: ماذا حدث؟

الزوجة: كان لابد أن تأتي مبكرًا عن ذلك.

الزوج: حسنًا، أخبرتيني في الهاتف أن عليّ القدوم بسرعة لأن ثمة مفاجأة هائلة في انتظاري .. لذا جئت بأسرع ما يمكن خصوصًا حينما عرفت منكِ أن أختي ستسهر معنا الليلة .. ما هي المفاجأة؟

الأخت: لقد قبضنا على القاتل.

الزوج: أي قاتل؟

الابنة: السفّاح الذي يقتل الفتيات والنساء في المدينة.

الزوج: هل يوجد سفّاح يقتل الفتيات والنساء في المدينة؟

الزوجة: كيف لا تعرف ذلك؟ .. أم أنك تتظاهر بالجهل؟

الأخت: لقد قتل الكثير من البنات والسيدات بأعمار مختلفة وبأساليب غير متوقعة .. حتى أنه يجبر بعضهن على الانتحار بطرق مخزية.

الزوجة: هل تتذكرين البنت التي ابتلعت دماء دورتها الشهرية؟

الأخت: أو المرأة التي أدخلت سلك كهرباء عار في مهبلها...

الابنة: أو العجوز التي تمددت عارية فوق شريط القطار.

الزوج: أنا حقًا لم أسمع بكل هذا من قبل ... لم يخبرني أحد بتلك الحوادث المروعة.

الزوجة: هل بلغ انعزالك عن العالم ذلك الحد البائس؟

الأخت: هل وصلت لامبالاتك إلى درجة أن تحتاج لمن يخبرك بما يعرفه الموتى في قبورهم؟

الابنة: لقد كنا على وشك أن نكون ضحاياه الجدد.

الزوجة: لكننا تمكننا من ضبطه ومواجهته والتغلب عليه ثم أسره.

الزوج: هل أسرتم القاتل؟

الأخت: بالطبع.

الزوج: أين؟

الابنة (تشير إلى إحدى الحجرات): في هذه الحجرة.

الزوج: هل يوجد قاتل في حجرة مكتبي الآن؟

الزوجة: نعم، لكن اطمئن؛ لن يستطيع الهرب أو حتى النهوض من فوق الكرسي الذي يجلس عليه لأننا أحكمنا قيده تمامًا.

الأخت: ستنشيء فتيات ونساء المدينة تماثيل لنا.

الابنة: نعم، سيكتب التاريخ أسمائنا في أكثر صفحاته تبجيلًا.

الزوج: أنا لا أفهم؛ كيف وصل ذلك القاتل إلى هنا وكيف تمكنتم من هزيمته واحتجازه؟ .. ألم يكن مسلحًا؟

الزوجة: كلا، يبدو أن غروره قد أوهمه بأنه ليس في حاجة لسلاح حتى يقضي علينا.

الأخت: كان تائهًا وهشًا وخانعًا، كأنه لا يتذكر أي شيء، أو ربما أدرك مصيره المحتوم فأنهى رحلته بين أيدينا دون مقاومة.

الزوج: لكن كيف تسلل إلى هنا؟

الابنة: لم يتسلل.

الزوج: ماذا؟

الزوجة: أجل، لم يتسلل.

الزوج: كيف؟

الزوجة: لقد رن جرس الباب فنظرت من العين السحرية ورأيت وجهه وعرفت أنه القاتل.

الزوج: هل كنتِ على دراية بملامحه؟ .. أعني هل نشرت الشرطة أوصافًا له حتى يتمكن سكان المدينة من التعرّف عليه وإرشاد رجالها إلى مكانه؟

الزوجة: أبدًا، كل ما في الأمر أنني بعدما أدركت أنه القاتل طلبت من أختك أن تنظر عبر العين السحرية لتتأكد من شخصيته ثم طلبت من ابنتك أن تفعل نفس الشيء، واتفقنا جميعًا على أنه هو القاتل.

الأخت: وعلى ذلك فتحنا الباب وجذبناه بسرعة خاطفة إلى الداخل وطرحناه أرضًا ثم انقضضنا عليه ونجحنا في شل حركته كليًا.

الابنة: وأنا أسرعت بإحضار الحبل الطويل من الشرفة وقمنا بتقييده في بضع ثوان.

الزوجة: ثم سحبناه إلى حجرة مكتبك وأغلقنا الباب عليه كما ترى.

الزوج: لم تجب أي منكن على سؤالي .. كيف عرفتن أنه القاتل؟

الزوجة: ما الذي أصاب عقلك؟ .. قلت لك إننا اتفقنا جميعًا على ذلك حين رأيناه .. أي بنت أو سيدة في المدينة ستجزم بذلك على الفور بمجرد أن تنظر في وجهه.

الزوج: لماذا لم تستدعوا الشرطة إذن؟

الأخت: كنا على وشك أن نفعل لكنه طلب مقابلتك أولًا.

الزوج: مقابلتي أنا؟ .. هل يعرفني؟

الزوجة: لسنا متأكدين من ذلك .. لقد رأيناه يتطلع طويلًا إلى صورتك المعلقة داخل الحجرة بعد أن أحكمنا وثاقه في الكرسي ثم طلب أن يراك قبل تسليمه إلى الشرطة وحينما وجد منا بعض التردد توسل إلينا كي ننفذ رجاءه.

الأخت: لهذا اتصلنا بك وطلبنا منك أن تحضر سريعًا.

الزوج: حسنًا، سأدخل إليه.

الزوجة: لا تضيّع الكثير من الوقت في التحدث معه.

الأخت: علينا الاتصال بالشرطة.

الابنة: وتجهيز أنفسنا لحضور الصحفيين ومراسلي القنوات التليفزيونية.

يدخل الزوج وحده إلى حجرة المكتب ثم يعود بعد لحظات ...

الزوج (منفعلًا): أظن أنه حتى الدعابات السيئة لها حدود.

الزوجة: ماذا تقصد؟

الزوج: أخبريني أنتِ ما الذي حدث لكن؟ .. هل أصابتكن جميعًا لوثة عقلية مفاجئة جعلتكن تدبرن هذه المزحة السخيفة.

الأخت: أي مزحة؟

الزوج: لا أحد بالداخل يا أختي العزيزة.

الابنة: كيف؟

تسرع الزوجة والأخت والابنة إلى حجرة المكتب ثم يعدن بعد لحظات حاملين كرسيًا ملفوفًا بحبل طويل.

الزوجة: لقد هرب.

الأخت: ما كان يجب أن نتركه وحده كل هذه المدة.

الابنة: ضاع مجهودنا.

الزوج: هل جننتن؟ .. أنا حقًا لا أصدق ما تتفوهن به .. أخبروني بصراحة ماذا أكلتن أو شربتن قبل مجيئي؟

الزوجة: اصمت .. أنت لا تدري ما الذي خسرناه بهروب ذلك القاتل.

الزوج: ليس هناك قاتل .. أنتن غارقات في غيبوبة جماعية .. لقد ربطتن الكرسي بالحبل وحسب .. أنظرن (يشير إلى الكرسي) .. أنتن تتوهمن .. لا أدري ماذا أفعل الٱن؟

الأخت: أنت تهذي.

الزوج: أنا؟

الزوجة: نعم .. لقد أصبحت مخرفًا كما كان متوقعًا.

الزوج: ماذا تقولين؟

الابنة: أنت تدافع عن القاتل

الزوج: أي قاتل؟

الأخت: الذي كان في حجرتك وهرب.

الزوج: نعم .. القاتل الذي بعدما تمكن من فك قيده أعاد ربط الكرسي بالحبل ثم فتح النافذة وطار منها أو سار على واجهة البناية حتى وصل إلى الشارع, أليس كذلك؟

الزوجة: ربما أنت الذي ساعدته على الهرب.

الزوج: ماذا؟

الأخت: نعم، لقد استغرقت كثيرًا من الوقت معه في الداخل.

الزوج: أنا لم أستغرق أكثر من ثلاث ثوان.

الابنة: فترة كافية لتعاونه على الخروج من دون أن نشعر.

الزوج: كيف؟ .. نحن نسكن في الطابق السادس، ولا يوجد ما يمكن أن يستند عليه في نزوله.

الزوجة: ثم أعدت ربط الكرسي بالحبل لكي تحاول إقناعنا بأننا مخبولات.

الزوج: أنتن مخبولات بدون شك.

الأخت: حتمًا توجد صلة وطيدة بينك وبين القاتل.

الزوج: أجل، كان مدرب الزومبا الخاص بي.

الزوجة: هل يطرق القاتل أبواب ضحاياه إلا إذا كان بينه وصاحب البيت ماض مطمئِن؟

الأخت: لماذا سيطلب القاتل أن يراك قبل تسليمه إلى الشرطة إلا إذا كان متأكدًا تمامًا من أنك ستخلصه من الأسر؟

الزوجة: الحقيقة أنك كدت تخدعنا فعلًا بادعائك عدم معرفة أي شيء عن الفتيات والنساء اللاتي قتلن، أو بوجود قاتل هارب في المدينة.

الابنة: لقد كشقت نفسك بنفسك.

الزوج: وحده السحر الأسود هو الذي يستطيع أن يفعل بكن هذا.

الأخت: ماذا تنتظرن؟

(ينقض ثلاثتهن على الزوج ويجذبنه نحو الكرسي ثم يبدأن في تقييده)

الزوج (يصرخ): ماذا تفعلن؟

الزوجة: كما ترى .. سنقيدك مكانه.

الزوج: لماذا؟

الأخت: حتى نضمن عودته مرة أخرى.

الزوج: أرجوكن، أنا لم أساعد أحدًا على الهرب.

الابنة: لن يفيدك الكذب بعد الآن.

الزوج: صدقوني، أنا لا أعرف ما الذي تتحدثن عنه.

الزوجة: لو كنت مكانك لما أهدرت طاقتي بهذه السذاجة.

الزوج (وهو على وشك البكاء): لم يكن هناك أحد في الحجرة.

الأخت: الآن انصت إلينا جيدًا.

الزوجة: سوف نخبرك بما لابد أن تفعله.

الأخت: وليس عليك إلا تنفيذ أوامرنا بدقة وهدوء حتى تخلّص نفسك.

الزوج: ماذا تريدونني أن أفعل؟

الزوجة: ستتصل بالقاتل من هاتفك.

الأخت: وتطلب منه العودة ثانية إلى البيت لأمر في غاية الأهمية.

الابنة: لا تستسلم أبدًا لرفضه.

الزوجة: عليك أن تطمئنه تمامًا.

الأخت: أخبره بأنك أصبحت وحدك الٱن، وأنه ليس هناك أدنى خطورة في قدومه.

الابنة: ولا تنسى بالطبع أن تفتح السماعة الخارجية.

الزوج: لماذا لا تتصلن بالشرطة وتخبرونهم بما حدث وتتركن لهم مهمة القبض على ذلك القاتل .. أنا على استعداد للشهادة بل للاستجواب أو حتى السجن .. فقط اتركوني.

الزوجة: كلا يا خفيف الظل .. يجب أن نسلمه بأنفسنا.

الأخت: كنا على وشك أن نفعل لولا تدخلك ومساعدتك له على الهروب.

الابنة: لقد سرقت المجد من بين أيدينا وعليك أن تعيده إلينا.

الزوجة (تُخرج الهاتف من جيب بنطلونه وتعطيه له): هيا، اتصل به، وتذكر تعليماتنا جيدًا.

الزوج (يٌمسك بالهاتف في إعياء ويأس): كيف أتصل بشخص لا أعرفه؟

الأخت: لا تضيّع الوقت.

الزوج: أقسم لكن بأنني لا أعرف رقم ذلك الذي تتحدثن عنه.

الابنة: لا تحاول.

يضغط الزوج بأصابع يده المقيدة على أزرار الهاتف ثم يُسمع رنين الاتصال عبر السماعة الخارجية ...

صوت رجل: نعم

الزوج: أين أنت الآن؟

الصوت: أصبحت على بُعد ثلاثة شوارع من بيتك.

الزوج: حسنًا .. اسمعني جيدًا .. أريدك أن تعود إلى هنا.

الصوت: إلى أين؟ .. بيتك؟

الزوج: نعم.

الصوت: كيف؟ .. مستحيل.

الزوج: لا تقلق .. لم يعد هناك غيري في البيت.

الصوت: أين ذهبن؟

الزوج: عادت أختي إلى منزلها، واصطحبت زوجتي ابنتنا للمبيت عند أمها.

الصوت: ولماذا تريدني أن أرجع؟

الزوج: أريد التحدث معك في أمر لا يحتمل التأجيل.

الصوت: كيف تطلب مني المجيء ثانية إلى البيت بعد أن تمكنت من الهرب؟

الزوج: صدقني ليست هناك أي خطورة عليك، الوضع آمن تمامًا، ولن يستغرق وجودك وقتًا طويلًا.

الصوت: حسنًا، مادمت تضمن ذلك .. أنا قادم في الطريق.

ينتهي الاتصال وتسحب الزوجة الهاتف من يد الزوج ...

الزوجة: رائع .. علينا الاستعداد.

الأخت: نعم، سنباغته مثلما فعلنا في المرة الأولى.

الابنة: فقط علينا تجهيز كرسى وحبل آخرين.

الزوجة: هل سنسلمه للشرطة حقًا؟

الأخت: أعتقد ذلك.

الابنة: ربما علينا أن نفكر قليلًا.

الزوجة: ربما لسنا مضطرين لذلك.

الأخت: أتصوّر أن الأمر يتطلب منا قرارًا أفضل.

الابنة: نعم، قرار أكثر حكمة.

الزوجة: ماذا لو ساعدنا القاتل على طوي صفحة الماضي بكل ما فيها.

الأخت: كل شخص مهما فعل يستحق بداية جديدة على أي حال.

الابنة: لو كانت لديه حياة بديلة لما أصبح قاتلًا.

الزوجة: بالتأكيد.

الأخت: أعتقد أن بوسعنا توفير تلك الحياة التي لا يضطر فيها للقتل.

الابنة: ربما يحتاج إلى بيت جديد.

الزوجة: ومهنة جديدة.

الأخت: وأشخاص جدد.

الابنة: ربما يحتاج إلى من يعتني به.

الزوج: أشعر بأنني أحتضر ...

الزوجة: يمكننا أن نعالج مشكلاته مع الماضي، وأن نساعده على تغيير ملامحه .. يمكننا أن نرشده إلى طرق أخرى للنشوة، وأن نجعله ينصت إلى أصوات مغايرة في عقله .. يمكننا أن نقوده نحو إلهامات مختلفة غير مصبوغة بالدماء.

الأخت: نحن نستطيع أن نمنحه كل هذا.

الابنة: حسنًا، علينا إذن أن نحسن استقباله.

الزوجة: وأن نخبره بخطتنا التي بالتأكيد سيكون ممتنًا لها.

الأخت: هل تتخيلن كم سنكون راضين عن أنفسنا لو تحوّل إلى شخص ٱخر.

الابنة: إنه الخلود الحقيقي الذي ينتظر كل واحدة منا.

يرن جرس الباب ...

الزوجة: لقد حضر.

الأخت: تأكدي من العين السحرية.

الزوجة (وهي تنظر عبر العين السحرية): إنه هو.

الابنة: حسنًا، هيا نفتح له.

يفتحن الباب بابتسامات متشوّقة وقبل أن تنطق أي منهن بكلمة؛ تُطلق ثلاث رصاصات من الخارج فتصيب كل رصاصة واحدة منهن ليسقطن على الأرض بشكل متتابع جثثًا هامدة.

ينهض الزوج بالكرسي المقيّد به ويهرول نحو الباب المفتوح صارخًا:

من أنت؟ .. امسكوا القاتل .. أرجوكم .. القاتل يهرب .. من أنت؟ .. امسكوا القاتل .. امسكوا القاتل ...

ظلام

الاثنين، 12 يوليو 2021

سيرة الاختباء (27)

بين حين وآخر يظهر صوت هنا أو هناك يؤكد على أن الإنترنت قد قضى على المركزية الأدبية .. أغلب هذه الأصوات تنتمي إلى أشخاص يقيمون في العاصمة، أي يتاح لهم من السُبل التقليدية للتحقق الأدبي ما لا يتوفر في مدن اخرى .. بتلك الوقاحة الجاهلة تساهم تلك الأصوات في ترسيخ سلطة المركز من حيث أرادت إثبات اختفائها في حين أنها لو التزمت الصمت عن ترديد هذا الزيف ما تعرضت استفاداتها القاهرية لأي نقصان أو تهديد، وما كان من المنطقي أن يحمّلها أحد مسؤلية استئثار العاصمة بما حُرمت منه المدن الأخرى .. يبدو الأمر كتسديد دين عفوي للمركز أو تطهر شخصي غير مبرر من تبعات الانتساب إليه.

لاشك أن الإنترنت قد ساهم لمدى بعيد جدًا في حل المشكلة الأزلية للأدباء الذين يعيشون خارج القاهرة وهي النشر، ولكن هل كل ما أتاحه الإنترنت لهؤلاء الأدباء كان مقصورًا عليهم أم أنه كان متاحًا أيضًا لكتّاب المركز؟! .. في الوقت الذي قدّم فيه الإنترنت هذه الخدمة العظيمة للكتّاب خارج العاصمة؛ فإنه عمل في المقابل على منح الكتّاب القاهريين توطيدًا مضاعفًا ومزيدًا من الترسيخ لتحتفظ الفجوة بينهم وبين المقيمين خارج المركز بثباتها .. الدليل على ذلك أننا سنجد معظم المواقع والمنصات الثقافية المصرية الشهيرة يتم تحريرها من العاصمة، ويمكن لأي مطالعة بسيطة أن توضح المقارنة الكمّية بين كتّاب المركز والكتّاب خارجه ممن ينشرون فيها، ذلك لأن تلك النوافذ الإلكترونية تعتمد غالبيتها على الأسماء المتحققة على أرض الواقع القاهري سواء قبل وجود الإنترنت أو بعده، أي الكتّاب والنقاد النشطين داخل المؤسسات والجماعات المركزية، ويتم تقديرها والإلحاح عليها بصورة مستمرة من الصحافة الأدبية ودور النشر ولجان تحكيم الجوائز ... إلخ.

على أي من تلك الأصوات أن تتساءل بموضوعية من قبل أن تتحدث بطمأنينة غافلة وحسم ملفق: كم عدد الكتّاب من خارج القاهرة الذين ينشرون في دور النشر الكبرى، وأنتم تعرفون ما هي دور النشر الكبرى (حيث المزايا المعلنة والسرية التي لا تتوفر لسواها) مقارنة بكتّاب العاصمة؟! .. كم عدد الكتّاب من خارج القاهرة الذين يفوزون بالجوائز (المرموقة)، وأنتم تعرفون ماذا تعني كلمة (مرموقة) بالمقاييس الشائعة، أو يصلون إلى قوائمها الطويلة والقصيرة مقارنة بكتّاب العاصمة؟! .. كم عدد الكتّاب من خارج القاهرة الذين يتم الاحتفاء بأعمالهم في الملفات الصحفية والدراسات الأكاديمية والأبحاث النقدية باعتبارها تمثّل المشهد الأدبي المصري المعاصر فضلا عن الترجمات بالطبع مقارنة بكتّاب العاصمة؟! .. المطالعات البسيطة تجيب بسهولة على تلك الأسئلة التي لا تحتاج للطرح من الأساس إلا في اللحظات التهكمية كما أفعل الآن .. أنتم أنفسكم تجيبون عليها كلما زينتم احتفاءكم بكاتب من خارج المركز سواء كان حيًا أو ميتًا بتذكير اعتيادي متفاخر بأنكم تكرّمون أديبًا غير قاهري، كأنكم تعيدون الإقرار مجددًا وبصورة مجانية بأنكم تؤدون أمرًا غير عادي أو غير مألوف أو غير بديهي حيث لا أحد يتحدث عن قاهرية كاتب من العاصمة عند الاحتفاء به.

أعرف أن هناك من سينتفض ممسوسًا بانعدام الحيلة للإشارة إليّ باعتباري نموذجًا يناقض ذلك الواقع الذي لا يتحمّل الاعتراف به .. لكن في مقابل ذلك التصوّر بأنني كسبت ما يمكن أن يناله أي كاتب قاهري دون أن أغادر مدينتي (الإقليمية)؛ يسهل عليّ مجرد التذكير بما يتداول عني أيضًا ـ ومن أبناء المركز أنفسهم ـ بأن ما حصلت عليه أقل بكثير مما أنا جدير به، ويحظى به من يتميزون فقط بالاستقرار في المكان (المناسب)؛ فإذا كنت ـ كما تشيرون ـ قد أدركت هذا التحقق وأنا في "المنصورة"، فماذا لو كنت كاتبًا مقيمًا في العاصمة، وإذا كان هناك من لم يصل لهذا التحقق على الرغم من (قاهريته) فهذا لا يجرد المركز من الإمكانيات التي لا تتوفر خارجه .. الأمر يرجع لعلاقتك كابن للعاصمة بتلك الإمكانيات التي لا يمكن تغييبها في جميع الأحوال.


الخميس، 8 يوليو 2021

تحميل كتاب "استراقات الكتابة"

https://drive.google.com/file/d/1pg93G8H5tmc8TfVaQok7cfbG5XBqvLBz/view?usp=sharing

كلب الناشرة

كان لصاحبة دار النشر كلب مخلص .. يستقبل الكتّاب صباحًا ويتسلّم أعمالهم ويحرر عقودهم ويوزّع على بعضهم الجوائز وشهادات القوائم الطويلة والقصيرة، وفي المساء تطلقه مربيته داخل المقاهي والندوات وحفلات التوقيع قبل أن يعود إليها آخر الليل مزهوًا بحصيلة استراقات جديدة .. تحتضنه بين فخذيها لكي يبلغها بينما يلعق فرجها البركاني بأسماء الذين مضغوا تأثيرها في المجتمع الأدبي بسوء أو سخرية .. تظل تردد وراءه تلك الأسماء بصرخات لاهثة منتشية بينما لسانه المدرّب يتحرك في مساراته المعتادة حتى تغرق وجهه مع انتفاضة هائلة أخيرة لجسدها المرتعش يعقبها استكانة مشبعة .. حينئذ ينسحب كلب الناشرة من بين فخذيها ليتكوّم صامتًا بجانب سريرها إلى أن يثقل النوم عينيه حيث تستقر دموعه حسرة على عضوه المعطوب.

ذات يوم عرفت صاحبة دار النشر أنه ليس كلبًا فقط وإنما شاعر أيضًا، ولم يكن ذلك اكتشافًا قابلًا للتسامح .. بالنسبة لها كان كلبها يحلّق في مدارات أرقى من كل الكتّاب الذين تحمل إصداراتهم اسم دارها؛ إذ كانت تعتبرهم مجرد قفازات رخيصة ترتديها بينما تسرق المال والوجاهة من جيوب القراء ومن خزائن المؤسسات المانحة للجوائز ومن الوعي العام للـ"مثقفين" .. لم يكن من الممكن أن تتعايش مع الانحطاط الوجودي غير المتوقع لكلبها بعدما أدركت خيانته لصفته المقدسة كخادم وفي، لا يلوثه تعريف آخر .. ما كان بوسعها أن تتقبّل حقيقته المفاجئة بعدما ارتكب إثم الكتابة التي جعلته من ضمن الكائنات "المبدعة" الأدنى .. وبالرغم من أن اكتساب هوية الشاعر الذي ينشر القصائد ويصدر الدواوين كان طموحًا مؤجلًا مقابل اكتفائه بتكريس نفسه ككلب للناشرة؛ إلا أنه استجاب لها حينما طلبت منه أن يجمع كل قصائد النثر التي كتبها سرًا حتى تطبعها كمكافأة تتويجية لتاريخه معها .. بالفعل وبعد أيام قليلة كان بين يدي الخادم الوفي نسخة من كتاب بالغ الأناقة يضم أعماله الشعرية الكاملة .. قضى كلب الناشرة ليلته في نباح متلاحق امتنانًا لسيدته قبل أن يتكوّم في مكانه الثابت بجانب سريرها ليدركه النوم الذي لم يستيقظ منه أبدًا .. كان كتابه لا يزال بين يديه، وملامح السعادة على وجهه، وفي جوفه الوجبة الاحتفالية الشهية التي أعدتها من أجله.

أمام حشد من الصحفيين والكتّاب والنقاد الذين اعتادوا فتح الأبواب والنوافذ أمام لصوصيتها المهذبة؛ وقفت تلقي كلمات وداعية رثاءً لكلبها المخلص .. ظل فمها مطبقًا طوال الوقت ومع ذلك كان الجميع يشعر بصدق الألم الذي يسكن كلماتها ذات الأحرف المضغوطة، المبللة بدموع دبقة إلى حد ما والمنبعثة من أسفل بطنها بالتزامن مع ارتجافاتها المتقطعة بينما نباح جراء صغيرة تتزاحم في الخارج.

موقع "الكتابة" ـ 7 يوليو 2021

اللوحة: Rene Magritte