الاثنين، 12 يوليو 2021

سيرة الاختباء (27)

بين حين وآخر يظهر صوت هنا أو هناك يؤكد على أن الإنترنت قد قضى على المركزية الأدبية .. أغلب هذه الأصوات تنتمي إلى أشخاص يقيمون في العاصمة، أي يتاح لهم من السُبل التقليدية للتحقق الأدبي ما لا يتوفر في مدن اخرى .. بتلك الوقاحة الجاهلة تساهم تلك الأصوات في ترسيخ سلطة المركز من حيث أرادت إثبات اختفائها في حين أنها لو التزمت الصمت عن ترديد هذا الزيف ما تعرضت استفاداتها القاهرية لأي نقصان أو تهديد، وما كان من المنطقي أن يحمّلها أحد مسؤلية استئثار العاصمة بما حُرمت منه المدن الأخرى .. يبدو الأمر كتسديد دين عفوي للمركز أو تطهر شخصي غير مبرر من تبعات الانتساب إليه.

لاشك أن الإنترنت قد ساهم لمدى بعيد جدًا في حل المشكلة الأزلية للأدباء الذين يعيشون خارج القاهرة وهي النشر، ولكن هل كل ما أتاحه الإنترنت لهؤلاء الأدباء كان مقصورًا عليهم أم أنه كان متاحًا أيضًا لكتّاب المركز؟! .. في الوقت الذي قدّم فيه الإنترنت هذه الخدمة العظيمة للكتّاب خارج العاصمة؛ فإنه عمل في المقابل على منح الكتّاب القاهريين توطيدًا مضاعفًا ومزيدًا من الترسيخ لتحتفظ الفجوة بينهم وبين المقيمين خارج المركز بثباتها .. الدليل على ذلك أننا سنجد معظم المواقع والمنصات الثقافية المصرية الشهيرة يتم تحريرها من العاصمة، ويمكن لأي مطالعة بسيطة أن توضح المقارنة الكمّية بين كتّاب المركز والكتّاب خارجه ممن ينشرون فيها، ذلك لأن تلك النوافذ الإلكترونية تعتمد غالبيتها على الأسماء المتحققة على أرض الواقع القاهري سواء قبل وجود الإنترنت أو بعده، أي الكتّاب والنقاد النشطين داخل المؤسسات والجماعات المركزية، ويتم تقديرها والإلحاح عليها بصورة مستمرة من الصحافة الأدبية ودور النشر ولجان تحكيم الجوائز ... إلخ.

على أي من تلك الأصوات أن تتساءل بموضوعية من قبل أن تتحدث بطمأنينة غافلة وحسم ملفق: كم عدد الكتّاب من خارج القاهرة الذين ينشرون في دور النشر الكبرى، وأنتم تعرفون ما هي دور النشر الكبرى (حيث المزايا المعلنة والسرية التي لا تتوفر لسواها) مقارنة بكتّاب العاصمة؟! .. كم عدد الكتّاب من خارج القاهرة الذين يفوزون بالجوائز (المرموقة)، وأنتم تعرفون ماذا تعني كلمة (مرموقة) بالمقاييس الشائعة، أو يصلون إلى قوائمها الطويلة والقصيرة مقارنة بكتّاب العاصمة؟! .. كم عدد الكتّاب من خارج القاهرة الذين يتم الاحتفاء بأعمالهم في الملفات الصحفية والدراسات الأكاديمية والأبحاث النقدية باعتبارها تمثّل المشهد الأدبي المصري المعاصر فضلا عن الترجمات بالطبع مقارنة بكتّاب العاصمة؟! .. المطالعات البسيطة تجيب بسهولة على تلك الأسئلة التي لا تحتاج للطرح من الأساس إلا في اللحظات التهكمية كما أفعل الآن .. أنتم أنفسكم تجيبون عليها كلما زينتم احتفاءكم بكاتب من خارج المركز سواء كان حيًا أو ميتًا بتذكير اعتيادي متفاخر بأنكم تكرّمون أديبًا غير قاهري، كأنكم تعيدون الإقرار مجددًا وبصورة مجانية بأنكم تؤدون أمرًا غير عادي أو غير مألوف أو غير بديهي حيث لا أحد يتحدث عن قاهرية كاتب من العاصمة عند الاحتفاء به.

أعرف أن هناك من سينتفض ممسوسًا بانعدام الحيلة للإشارة إليّ باعتباري نموذجًا يناقض ذلك الواقع الذي لا يتحمّل الاعتراف به .. لكن في مقابل ذلك التصوّر بأنني كسبت ما يمكن أن يناله أي كاتب قاهري دون أن أغادر مدينتي (الإقليمية)؛ يسهل عليّ مجرد التذكير بما يتداول عني أيضًا ـ ومن أبناء المركز أنفسهم ـ بأن ما حصلت عليه أقل بكثير مما أنا جدير به، ويحظى به من يتميزون فقط بالاستقرار في المكان (المناسب)؛ فإذا كنت ـ كما تشيرون ـ قد أدركت هذا التحقق وأنا في "المنصورة"، فماذا لو كنت كاتبًا مقيمًا في العاصمة، وإذا كان هناك من لم يصل لهذا التحقق على الرغم من (قاهريته) فهذا لا يجرد المركز من الإمكانيات التي لا تتوفر خارجه .. الأمر يرجع لعلاقتك كابن للعاصمة بتلك الإمكانيات التي لا يمكن تغييبها في جميع الأحوال.