الأحد، 4 يوليو 2021

الصفات العقابية للكتابة

"برغم أنني شعرت في بعض الأحيان أن بين يدي نارًا وأنني أبسط صفحة تتوهج ـ لم أفقد قط الإحساس بثقل الخَرَق والجهل والعجز الموجع. الكتاب مثل الإنسان ـ بارع وبليد، شجاع وجبان، جميل وقبيح. ففي مقابل كل فكرة مزهرة سوف تكون ثمة صفحة مثل كلب أجرب مبلول، وفي مقابل كل طيران في مسار معقد، ثمة تربيتة على الجناح للتذكرة بأن الشمع لا يمكن أن يبقي الريش ثابتًا على مقربة من الشمس. حسن ـ ثم ينتهي الكتاب. ما من فضيلة له الآن. يريد الكاتب أن يصيح قائلًا "ردوه إلي! دعوني أكتبه من جديد!" أو يصيح خيرًا من ذلك قائلًا: "مكنوني منه فأحرقه. لا تخرجوه إلى ذلك البرد الكاره وهو في هذه الحالة".

جون شتاينبك

يكاد الندم على كلمات أو سطور أو ربما صفحات تحوّلت من تلصص على اللغة داخل مسودة سرية إلى يقين عارٍ في أوراق مطبوعة أمام عيون الآخرين؛ يكاد هذا الندم أن يكون تاريخًا جوهريًا للكتابة .. لكن عن أي ندم أتحدث؟ .. إنها لحظة الألم الخالدة التي لا تنفصل أبدًا عن حكمة تخديرها المؤقت في اللحظة التالية .. الجرح المزمن الناجم عن الشعور بارتكاب حماقة لا سبيل لمحوها، والذي كلما نزف مجددًا يعيد إليه إدراك بديهي التئامه: لم يكن الأمر كذلك وقت كتابته.

كل ما يبدو خاطئًا، قبيحًا، سيئًا يستند في حقيقة الأمر لأحكام لا تخصني، وإنما تنتمي إلى شخص عليه أن يمنح تلك الصفات العقابية للكتابة ـ أي كتابة ـ نتيجة عدم انسجامها مع ما يؤمن به، أو ما يعتقد لحظة القراءة أنها الأفكار الأكثر صوابًا عن العالم .. تخص معايير ما قبل الوجود الناشئة عن الزيف الأعظم (الخير والشر) والمتجذرة في أرواح كائناته .. في كل شخص يوجد هذا الإحساس بالتنافر .. الغريزة التي تحكم على هذا التنافر بأنه اعتداء على الذات .. تهديد للحياة والموت كما تستقر صورة كل منهما في الوعي .. هذه الأحكام تخص ذلك الشخص الكامن في داخلي والذي تتماثل عفويته (التقييمية) مع الآخرين بكيفية عابرة .. القارئ الذي يقرر بأن ما كان ضروريًا أو في أقرب احتمال لوجوبه وقت الكتابة ربما لم يعد ملائمًا في الحاضر .. الإنقاذ الاعتيادي من تلك الحسرة يرجع لتذكير بالغ البساطة والمشقة معًا بأن لكل لحظة كتابتها دون مقارنات تفاضلية مع لحظة أخرى تسبقها أو تخلفها .. كل لحظة مختلفة وغير منتهية حين تكون نصًا، أي تخلق مبرراتها أو دوافعها اللغوية المستقلة عن لحظات أخرى.

لم أتوقف منذ قصتي الأولى في عمر الثالثة عشر عن نشر كل نص أكتبه مهما كانت رؤيتي له حينئذ، والتي قد تتباين مع ما كنت أختبره مع ذلك النص في الماضي .. ذلك لأن النص بصمة غير خاضعة لتصنيف الجودة في سيرتي .. السيرة التي لا تقاس بذلك الذي يسمى (التطور) وإنما بما كانت تجسده كل خطوة منها عند حدوثها .. بالزمن الخاص الذي توثّقه والذي لن يكون هو نفسه حين تعاود كتابته مصححًا أو مستدركًا ما تظن ـ كقارئ ـ أنها عيوب تكشفت بعد فترة طويلة من الاستقرار عليه كحصيلة من الكلمات الجديرة بتمريرها خارج عزلتك كتاريخ شخصي  .. ما تفعله في النصوص اللاحقة ليس معالجة لقبح مستقر في نص سابق وإنما تأكيد على اتساق كل كتابة مع مراوغة اللغة في مفترق طرق ما .. الاتساق الذي يحرم التصحيحات والاستدراكات من أي نهاية حاسمة .. كل كتابة هي تجانس مع ما يبصره عماؤك من الملامح المتبدلة لليأس.